أرشيف المدونة الإلكترونية

الأحد، 21 فبراير 2021

تحفة الزوار إلى قبر النبيِّ المختار -أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي

تحفة الزوار إلى قبر النبيِّ المختار

للفقيه الشافعي:

أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ وردت السُّنة المطهرة بإباحة زيارة القبور عامة، وجعلت ذلك من المندوبات المستحسنة، وجاء الحث على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها تُذكر الآخرة)، ولكن ذلك مُقيَّدٌ بالزيارة الشرعية، التي ليس فيها مخالفةٌ لهدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو نقضاً لسُنته، ولا تتضمن قول محظورٍ ولا فعل محظور، من العكوف عندها، أو إيقاد السرج عليها، أو الصلاة إليها، أو جعلها عيداً بتقصد الدعاء عندها، أو شدِّ الرحال إليها، أو الاستغاثة بأصحابها، أو الطلب منهم، وكل ذلك صيانة لجناب التوحيد؛ ومنعاً للأسباب التي قد تؤدي إلى الشرك.

ولم يمنع أحدٌ من السلف من زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية، التي ليس فيها شدُّ الرحال إلى القبر بخصوصه من الأماكن البعيدة، وإنما استحبوا أن يكون القصد في السفر إلى المسجد النبوي للصلاة فيه، ثم يشرع له زيارة قبر النبيِّ الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وعليه؛ فزيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةٌ مستحبَّةٌ بإجماع المسلمين، ولكن ينبغي لمن أراد زيارته ألا يقصد مجرد السفر إلى القبر، وإنما يقصد زيارة مسجده وتأتي زيارة القبر تبعاً، أو يقصد زيارة المسجد والقبر، وحينئذٍ لا حرج في ذلك، وقد كره جماعةٌ من السلف قصد القبر بالزيارة وشد الرحال إليه، لأن ذلك من اتخاذه عيداً، كذلك لا يمسّ القبر بيده، ولا يلتزمه، بل يُحافظ على مسافة بينه وبينه كما كان الصحابة يفعلون في حياته.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى شاء وقدّر أن يكون القبر الشريف في المسجد، فما الضير أن يقصد المسلم في سفره: مسجد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإذا وصل المسجد وصل إلى القبر الشريف، ولكن:

من نوى وقصد بسفره المسجد فقد أصاب السنة،

ومن قصد القبر ونوى السفر إليه دون المسجد؛ فقد وقع فيما نهى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم،

بخلاف زيارة قبر الصالحين والأولياء، فإن شدَّ الرحال إليها للزيارة بدعةٌ منكرة، ومعصيةٌ ظاهرة،

وأما قبره صلى الله عليه وسلم فلا يوصل إليه لأنه محجور، ولن يصل المسلم إلا إلى المسجد حقيقةً.

كذلك فإن فضيلة المسجد النبوي الشريف ثابتة قبل دخول القبر الشريف، ولم تزد فضيلته بدخول القبر الشريف فيه، ولو لم يدخل القبر الشريف فيه ما نقص ذلك من قدر المسجد شيئاً، فإن الأحاديث التي ثبتت في فضله وتضعيف الصلاة فيه، وأنه أسس على التقوى، قالها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قبل أن يكون هناك قبرٌ أصلاً.

ومن ظن أن المسجد لم يكن فاضلاً إلا بدخول القبر فيه، فهو جاهلٌ يُعلم الحق والصواب، ولا يُحتج بقوله إلى قول دليل على سقوطه وترديه.

ويبدأ الزائر للقبر الشريف بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله المسجد، من أيِّ مكانٍ في المسجد، ويصلي ركعتين تحية المسجد، ومن ثم يأتي مكان القبر ويُسلم على النبي، ويُثني عليه بما هو أهله، وبعد ذلك يذهب إلى مكان في المسجد النبوي، ويشتغل بقراءة القرآن، أو بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ويسأل الله له بالوسيلة والفضيلة ورفعة المقام، ويسأل له المقام المحمود. 

ويحرم الإحداث وفعل البدع في مسجده، ويحرم الغلو في مدحه والثناء عليه عند قبره الشريف، فهو صلى الله عليه وسلم خير الخلق، وأعلاهم منزلةً ومقاماً، ولكن ليس له من أمر الربوبية شيء، ولا من أمر الخلق والتدبير شيء، فلا يُدعى، ولا يُستغاث به، ولا يُطلب منه تفريج الكربات، أو دفع الضر، أو شفاء المريض، ونحو ذلك التي هي من أذيته صلى الله عليه وسلم، وصرف حقٍّ من حقوق الله إليه.

وكذلك يحرم ما يفعله المبتدعة من دعائه والطلب منه؛ لأن هذا شركٌ من شرك أهل الجاهلية، ويُكره تقصُّد الدعاء عند القبر، لأنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين له خصوصية عن غيره، ولا جاء ذلك عن أحدٍ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحدٍ من أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في الدين؛ كمالك، والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عُبيدة، ولا مشايخهم الذين يُقتدى بهم؛ كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، وأمثالهم.

ومن يعتقد أن الدعاء عنده أفضل من الدعاء في أي موضع آخر فهو مبتدع، فإن هذا من التقوُّل على الله وعلى شرعه بغير دليل؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقفوا على قبره الشريف للدعاء عنده، وليس الظن بهم أن يتركوا شيئاً سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ذلك سُنة، ولا يدعوا شيئاً حظره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما لم يعرفوا هذا الأمر، ولا فعلوه ولا أمروا به، وهم أشدُّ الناس محبةً له، وحرصاً على اتباعه، دلَّ ذلك على أن هذا الأمر غير مشروع، بل إنهم تركوا ذلك تعظيماً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحرصاً على امتثال أمره ونهيه، ولذلك نجد أن منهم من أُصيب بالأمراض المختلفة والجراحات المتعددة والشدائد المتنوعة، ولم يثبت عن واحدٍ منهم أنه جاء القبر الشريف للدعاء عنده، وهذا هو الظنُّ اللائق بهم رضوان الله عليهم، أنهم لم يتركوا العمل بالسُّنة، ولا خالفوا لنبيهم أمراً، ولم يبتدعوا في دين الله شيئاً يُضاهي شريعته وسنته، وهذا هو الحق المُبين الذي لا معدل عن اعتقاده.

وقد بيَّنت السُّنة النبوية صفة الزيارة الشرعية للقبور، وأنه يسلَّم على أصحاب القبور، ويدعو لهم، لا أن يقصدهم في قضاء الحاجات ولا إزالة الكربات من دون الله عز وجل؛ لأن هذا من الشرك المحرم، وفعل مثل هذه الأمور عندها أعظم من اتخاذها عيداً للزيارة، والتي يجتمع حولها الزوار، ويحتفل عندها المحتاجون، فيطلب كل منهم مسألته، وهذه مصادمة صريحة لشرعته وسُنته صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الكثيرة التي ثبتت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتي يقول فيها: (لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً).

وفي المقابل جاءت نصوص كثيرة في النهي عن شد الرحال إلى القبور أو المبالغة في تعظيم القبور؛ لأن ذلك يؤدي إلى الشرك، وحرم الإسلام وسائل ذلك من الصلاة عندها وإليها واتخاذها مسجداً، وإيقاد القناديل عليها، واتخاذ السرج لها، وجعلها أعياداً يجتمع حولها الناس كما يُجتمع للعيد، 

وقد تعرض الهيتمي -رحمه الله تعالى -في كتابه هذا-إلى مواضيع متعددة في باب الزيارة النبويّة، منها ما يُوافق عليه، ومنها ما لا يُوافق عليه؛ كسائر كتب أهل العلم في هذا الباب، والميزان الدقيق في ذلك هو كتاب الله عز جل، وسنة النبيِّ عليه الصلاة والسلام، والآثار الصحيحة الواردة عن الصحابة والتابعين، وما كان عليه أئمة السلف.

فأما المقبول من كلامه فهو ما وافق الشرع الحنيف مثل قرنه في (الباب الثاني) بين قصد زيارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع قصد زيارة مسجده، وفي ذلك يقول: (الباب الثاني في تأكد مشروعية زيارة وقربها من درجة الوجوب، وشد الرحال إليها وإلى المسجد النبويّ الذي حوى المطلوب).

وأما كلامه الذي يُخالف الشرع فإننا نردُّه عليه قولاً واحداً؛ لأنه من البدع الحادثة التي أنشأها المتأخرون، وتعاقبوا على تقريرها، وليس لهم فيها سلف، والأقوال الواهية التي تقدح في عقائد الإيمان الثابتة، كالقول "بحياة الأنبياء في قبورهم حياةً كاملة كالتي في الدُّنيا"، والصحيح أن حياتهم في قبورهم هي حياةٌ برزخية وهي أكمل من حياة الشهداء.

وحاول الهيثمي أن يتأول حديث: (إلا ردَّ الله عليَّ روحي) ليثبت أن إعادة الروح هنا للجسد لا يعني بعثاً جديداً، وإن كان محصل كلامه هو أن النبي يُبعث في قبره قبل يوم القيامة، وأورد هذه الوجوه السيوطي في كتابه "غتحاف الأذكياء بحياة الأنبياء".

ولا شك أن التمسُّك بالسُّنن والاقتصار على الزيارة الشرعية من أسباب النجاة والفوز والفلاح، ومن أسباب تحصيل رضا الله عز وجل، والبعد عن سخطه وعقابه، ولم يخل هذا الكتاب من الخلط واللبس والشُّبه، وفيه من الحق الشيء الكثير إن شاء الله تعالى.

 وكذلك تعرض لمسألة (نذر الزيارة للقبر الشريف)، ونقل عن ابن كج أنه يلزمه الوفاء به. وأما قبر غيره، ففيه وجهان. وبه قطع السُّبكي في "شفاء السُّقام"، 

كذلك دعواه (التوسل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم) حيَّاً وميّتاً، وغلوه المُفرط في ذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالتوجه إليه والاستغاثة به، مخالفاً هدي النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله). ونلاحظ تقصير المؤلف في توحيد الله عز وجل وإخلاص العبودية له في هذا الباب تحديداً، وذلك بدعواه التوجه والاستغاثة بغير الله، هذا مع أن الذي جاءت به الرسل من نوحٍ عليه السلام إلى خاتمهم وإمامهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو توحيد الله سبحانه في القصد والطلب، والدعاء والثناء. 

وتعرض لمسألة (شدِّ الرحال وإعمال المطيِّ بقصد زيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم) الذي أوصلها إلى درجة قريبةٍ من الوجوب تبعاً لبعض متأخري الحنفية، وكذلك تطرق إلى آداب المجاورة بالمدينة، والمساجد، والآثار التي ينبغي زيارتها.

وقد أسرف الهيتمي على نفسه حين تعدى قواعد أهل العلم في الحكم على أحاديث هذا الكتاب؛ فحسَّن أحاديث واهية وضعيفة، وردَّ الصحيح الثابت بالآثار المقطوعة والمنقطعة، كذلك الدعاوي العارية عن الصحة، كما أنه أنشأ كلاماً من عنده ونسبه لأهل العلم بطريق الحكاية مبهماً من قاله، وموهماً كذلك من سمعه. 

كذلك نقله لأشعار الغُلاة من القبوريين على سبيل الاستدلال الإشاري فيما ذهب إليه من البدع العملية، وعدم تفريقه بين التوسل والاستغاثة والتوجه والتشفع، وكل هذه الألفاظ لها دلالاتها وحقائقها الشرعية المتباينة، والتي يختلف الحكم فيها من واحدٍ لآخر؛ فماذا يقول الهيثمي عن الأنبياء الذين يزعم في أشعاره المنقولة استغاثتهم بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا من الباطل والكذب، والقصيدة التي أوردها في ذلك (95) من الباطل الكثير الذي حشا به كتابه، وهذا ديدن البدع التي فقدت نور الدليل، فقامت في لجج الظلمات المتراكمة يركب بعضها بعضاً، حتى إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً  فما له من نور.

بالإضافة إلى ذكره المنامات التي فيها غلو كثيرٌ وبدع، كما أن في كلامه كثيرٌ من الباطل، منه ما هو واضح البطلان في دين الله تعالى، فالإنسان مؤاخذٌ بما يصدر عنه من الآثام والمعاصي، حتى لو كان في أعلى درجات المحبة للأنبياء والصالحين.

وماذا ينفع المُحبُّ أن يسجد للقبر أو يطوف حوله أو يُقبل جداره، وليست المحبة مما يرفع التكليف الشرعي عن المخاطب إلا أن يكون مجنوناً ذهب عقله، ولم يعُد يُميز بين الكاف واللام، والخروج عن حدود الشريعة بحجة الاستغراق في المحبة والشوق كلامٌ فارغ، وفتحٌ لباب التحلُّل والانسلاخ من الدين، وما أكثر الأدعياء في عصرنا، وفيمن قبلنا.

وقد حاول الهيثمي رحمه الله أن يُدلل إلى ما ذهب إليه بكل ما قدر عليه من حجج وبراهين، ولكن جملتها هي أحاديث واهية وضعيفة غير منجبرة أو موضوعة، وكذلك جاء كتابه مدججاً بالحكايات والقصص والمنامات التي لا يثبت بها حكم، ولا تصلح دليلاً شرعياً (ص 118 -)، فيورد حكاية عن أحد الناس يشكو مرضه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيشفى، وآخر يشكو جوعه فيأتيه الطعام، وثالثٌ يشكو دينه فيأتيه ما يسدُّ به دينه، وآخر يشكو إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ظلماً وقع عليه من بعض الناس فيُعاقب الظالم فوراً، وآخر يتمنى ثريداً فيأتيه الثريد والسمن واللحم! والعجيب أن كل ذلك يحصل بعد منامٍ أو رؤيا، على أن الملاحظ في صانع تلك القصص من بلاد مصر.

وكل هذه الحكايات لا تمتُّ إلى دين الإسلام، ولا إلى هدي النبيِّ وطريقته بصلة، وشأن الهيتمي في إيراد مثل هذه القصص شأن كثيرٍ ممن تكلم في هذه المسألة، الذين أعيتهم الأدلة فلجأوا إلى مثل هذه الحكايات والخرافات حيث لم تسعفهم أدلة الكتاب والسُّنة الصحيحة.

وقد نقل المصنف كلام النووي وفيه الإجماع على عدم جواز لمس القبر الشريف، ولكن الهيتمي عارضه بقول من هو أقلُّ درجةً في العلم: السمهودي (ت 911 هـ)، والسُّبكي (ت 756 هـ)

نسبة هذا الكتاب إليه:

وهذا الكتاب تفرد بنسبته إليه إسماعيل باشا البغدادي (ت 1339 هـ)، صاحب "إيضاح المكنون"، و"هدية العارفين"، انظر: الإيضاح (1/ 249)، والهدية (1/ 249).

وقد رتبه الهيثمي على مقدمة، وأربعة أبواب، وخاتمة.

فالمقدمة: في ذكر آداب السفر والزيارة.

وأما الأبواب:

فالباب الأول: في ذكر الأحاديث الواردة في الزيارة.

والباب الثاني: في تأكد مشروعيتها وقربها من درجة الوجوب.

والباب الثالث: في توسل الزائر وتشفعه بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال إلى ربه سبحانه وتعالى، وذلك في أربع أحوال (أول الخلق، وفي الدنيا، وفي البرزخ، وفي القيامة)، وفيه من الأمور المنكرة والروايات الباطلة الشيء الكثير.

والباب الرابع: في آداب المجاورة بالمدينة والمقام بها، وبركة مدها وصاعها، وغيره كما وردت به الآثار التي يُتبرك بها، وزيارة المساجد المأثورة بها: كمسجد المدينة، ومسجد قباء، ومسجد الجمعة (بني النجار)، ومسجد الفضيخ، ومسجد بني قريظة، ومسجد بني الظفر، ومسجد سلمان الفارسي، ومسجد أبي بكر الصديق، ومسجد بني حرام، ومسجد القبلتين (بني سلمة)، ومسجد ذباب (الراية)، ومسجد أحد، ومسجد الرماة، ومسجد الوادي، ومسجد السافلة، ومسجد البقيع، ومسجد ومسجد السقيا، ومسجد بئر غرس، يذكر في كل ذلك "فضله، وبناءه، وحدوده" والآبار وهي عشرين بئراً مأثورة، والمعروف منها الآ سبهة، وما يُقال عند الخروج منها.

وقد نظم بعضهم هذه الآبار بقوله:

إذا أردت آبار النبيِّ بطيبة … فعدتها سبعٌ مقالاً ولا وهن

أريسٌ، وغرسٌ، رُومةٌ، وبِضاعةٌ … كذا بصّة قل بئر جامع العهن

وذكر ما جاء في تمر المدينة، ولم يثبت في هذا شيء.

وأما الخاتمة: فذكر فيها المنبر الشريف، وحدود المسجد النبوي، وما فيه من الآثار وحدود المسجد النبوي، وما زيد فيه من السواري الواردة فيها الأخبار، وأسمائها، وبنائها.

****

ذكر بعض آداب الزيارة

قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام) الحديث.

قال النووي: فينبغي المحافظة على الصلاة فيه فإن لفظ الإشارة تقتضي الحصر فيما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم. 

ومن آداب الزائر أن يتجنب لمس القبر الشريف، وتقبيله، والطواف به، والصلاة إليه. 

قال النووي رحمه الله تعالى: لا يجوز أن يطوف بقبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقال الحليمي: يكره إلصاق البطن والظهر بجداره، وكذا مسحه بيده وتقبيله، والسجود عليه، بل من الآداب أن يبعد عنه، كما كان يبعد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم -لو كان حياً.

هذا هو الصواب: وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ومن خطر بباله أن المسح ونوه أبلغ في البركة فهو من جهالته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع، وأقوال العلماء؛ لأن المس والتقبيل من فعل النصارى واليهود.

كما ورد النهيُ عنه. قال الزعفرانيُّ: إن وضع اليد على القبر ومسّه وتقبيله من البدع التي تُنكر شرعاً.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً وضع يده على قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فنهاه، وقال: "لا نعرف هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". 

وأنكره مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى أشدَّ الإنكار.

وقال ابن عساكر: ليس من السُّنة أن يمسَّ جدار القبر المطهر المقدس، ولا يُقبله ولا يطوف به كما يفعله الجهال، والوقوف من بُعد أقرب إلى الاحترام وإلى القبول والإكرام.

وروي عن نافع: أن ابن عمر كان يكره أن يكثر مسَّ قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال أبو بكر الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُلمس أو يُتمسّحُ به؟ قال: ما أعرف هذا، قلتُ: فالمنبر. قال: أما المنبر فنعم؛ فإنه جاء فيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مسح المنبر بيده.

وروي عن يحيى بن سعيد -شيخ الإمام مالك رحمهما الله -لما أردت الخروج إلى العراق، جاء إلى المنبر فمسحه، ودعا.

وقيل لأبي عبد الله: إن أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون القبر، ويقفون ناحيةً، ويٍُلمون؛ فقال: ونعمَّ هذا.

وهكذا كان ابن عمر يفعل ذلك، نقله ابن عبد الهادي عن ابن تيمية. وفي روايةٍ: عن عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما، قال: سألتُ أبي عن الرجل يمسُّ منبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويتبرك به ويُقبله، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله، قال: لا بأس به. (وهذا لا يثبت عن الإمام أحمد، كما ذكر ذلك الحافظ في "الفتح"، وابن تيمية في "المجموع").

قال الهيتمي: ومن آداب الزائر أن يتجنب الانحناء عند التسليم كما فعله الأعاجم؛ فإنه من البدع المستنكرة، ويظنُّ من لا علم له أنه من شعار التعظيم. 

وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر؛ فإنه من البدع المنكرة، ولم يفعله أحدٌ من السلف الصالحين، والخير كله في الاتباع.

ومن خطر بباله أن ذلك أبلغ في البركة؛ فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأفعال السلف وأقوالهم.

والعجب كل العجب ممن أفتى بتحسينه، واستشهد لذلك بالشعر، وخالف أقوال السلف وأفعالهم.

ومن آدابه أيضاً أن لا يمرَّ بقبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حتى يقف ويُسلم عليه سواءً كان مروره من داخل المسجد أم من خارجه، وأن يُكثر من قصده وزيارته مُدة إقامته.

ونقل إمام الحرمين عن شيخة: أنه أفتى بالمنع في شد الرحال لما سوى المساجد الثلاثة، وكان يقول: يُكره أو يحرم.

وقال الشيخ أبو علي: لا يحرم ولا يُكره، وإنما أبان النبي صلى الله عليه وسلم أن القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة وما عداها فليس بقربة.

وقال السُّبكي: إن قصد بذلك التعظيم، فالحق ما قاله الشيخ أبو محمد؛ لأنه تعظيم ما لم يُعظمه الشرع، وإن لم يقصد مع عينه أمراً آخر فهذا قريب من العبث؛ فيترجح ما قاله الشيخ أبو علي.

وذهب الداودي: إلى أن ما قرب إلى هذه المساجد الفاضلة فلا بأس بإتيانه ماشياً، وراكباً، استدلالاً بمسجد قباء؛ لأن شد الرحال لا يكون لما قرب غالباً.

وقال القاضي عياض:إنه إنما يمنع إعمال المطي للناذر، ومذهبنا ومذهب الجمهور إنه لا يصحُّ نذرُ ما سوى المساجد الثلاثة.







السبت، 20 فبراير 2021

مصباح الزجاجة في فوائد صلاة الحاجة -تأليف: عبد الله بن الصديق الغماري

مصباح الزجاجة في فوائد صلاة الحاجة

تأليف: عبد الله بن الصديق الغماري


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الجزء تكلم فيه الغماري على حديث توسل الضرير بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبيّن فيه صحته، ولا خلاف في ذلك، ولكنه بعد ذلك شرع في تقرير جواز التوسل البدعي بتقريرات واهية جداً، ووجوه في غاية الضعف، وذلك بعد أن ساق طرق حديث الضرير، وتصحيح جميع ألفاظه وجعل القصة الواردة فيه أصلاً ثابتاً، وهو بهذا العمل لم يأتِ بجديد عما سبقه إليه السُّبكي والهيتمي وغيرهما فقد سُبق إليه، إلا أن تقريرات من سبقوه أقوى من تقريراته، وقد ردَّ عليها العلماء الأثبات، فهو لم يأتِ بجديد.

ثم أعقب ذلك بالحديث عن "صلاة الحاجة"، وهي مشروعة عند فقهاء المذاهب الأربعة: وقد نص على مشروعيتها من الحنفية ابن نجيم في "البحر الرائق" وابن عابدين في "الحاشية" وآخرون. ومن المالكية الدسوقي في "حاشيته"، وذكرها النووي في "شرح المهذب" وكثير من الشافعية. وابن قدامة في "المغني"، والبهوتي في "كشاف القناع"، وابن قاسم في "حاشية الروض"، وغيرهم،

وإنما اختلف الفقهاء في صفتها، وعدد ركعاتها؛ فذهب المالكية والحنابلة، وهو المشهور عند الشافعية إلى أنها ركعتان، وذهب الحنفية إلى أنها أربع ركعات، وذلك لاختلاف الروايات الواردة في ذلك، كما تنوعت صيغ الدعاء لتعدد الروايات الواردة بذلك، وهي ضعيفةٌ في الجملة ولا يثبت منها شيء، وقد ذكرها الغماري مقرونةً بحكم الحفاظ كالسخاوي، وابن الجوزي، وغيرهما. وأمثلها ما جاء من حديث عبد الله بن أبي أوفى (رواه الترمذي، وابن ماجه والطبراني)، وهو ضعيف أيضاً، ولو صلَّى ركعيتن على الصفة المعروفة في صلاة النافلة ثم دعا الله بعدهما فلا حرج في ذلك.

يقول الغماري بعد أن ذكر خمسة عشر أثراً في دعاء قضاء الحوائج وصفة صلاة الحاجة (42): قلتُ هذه جملة من الأذكار والدعوات التي تُقال عند عروض حاجة للنفس، وهي كما ترى ضعيفةٌ جداً، بل منها ما أُدرج في الموضوعات، وما تركناه منها أشدُّ ضعفاً مما ذكرنا، خلاف حديث الضرير، فإنه صحيحٌ على شط الشيخين، [فيجوز] العمل به دون غيره مما ورد في هذا الباب، لثوته عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولعمل الناس به.

والناظر في هذا المؤلّف (أعنى كلام الغماري على حديث الضرير) يلمس بوضوح ضعف الغماري حديثياً وأصولياً، فليست لديه أدلة كافية تؤدي به إلى ما صار إليه من عموم حديث الضرير في كل من نزلت به حاجة أو فاقة، لا سيما وأن زيادة: (وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك -أو قال -فعل مثل ذلك) لم تثبت مرفوعةً وفي ثبوتها موقوفةً نظر، على أن التردد الحاصل في اللفظتين يترتب عليها اختلاف المعنى والحكم.

  ولو كان فعل ذلك جائزاً لما ترك الصحابة العمل به، هذا على فرض جوازه، وهو أحد وجوه الاحتمال التي اسقط الغماري الاستدلال بها (25) في نقض كلام من يُسميهم (الوهابية)، وعليه فهذا القول ساقط بناءً على قاعدته في الكتاب. 

وكما أن الترك لا يصلح دليلاً للحظر، فكذلك الترك لا يصلح دليلاً للفعل، هذا على فرض أن شواهد أدلة الفريقين متساوية ومتعارضة؛ لأن الحديث ورد خاصاً كما يُفهم من السياق وسبب الورود.

وأعدلُ ما يُقال في هذا المقام هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "التوسل والوسيلة" (1/ 199): "فهذا الدعاء ونحوه قد روي أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل في (منسك المروذي) التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، ونهى عنه آخرون. فإن كان مقصود المتوسلين التوسل بالإيمان به وبمحبته وبموالاته، وبطاعته، فلا نزاع بين الطائفتين، وإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول".

وقد أراحنا الغُماري من عناء الرد على كلامه؛ حيث يقول (25 -26): وكذلك نقول غاية ما في الأمر أن الصحابة تركوا التوسل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله، وذلك يكفي دليلاً على منع التوسل. وأن لو سلم أن الصحابة تركوا التوسل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فنهايته أن يكون إجماعاً سكوتياً -لأنه لم يصرح أحدٌ منهم بمنع التوسل جزماً -والإجماع السكوتي مختلفٌ في حقيقته، وفي تسميته، وفي حجيته، فكيف يكون والحالة هذه مخصصاً لدليلٍ شرعيّ] لا خلاف في حجيته بين أحدٍ من العلماء".

وفي هذا المقام نقول: وقول الغماري متجهٌ إذا قُلنا بعموم حديث عثمان بن حُنيف، وثبوت ذلك مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن الحديث ورد خاصاً، وأن تلك اللفظة إنما ثبتت موقوفةً على عثمان، فيكون ذلك اجتهاداً منه رضي الله عنه، على أننا لا نمنع من فعل هذا الأمر، والدعاء بهذا الدعاء على المعنى الذي ذكره ابن تيمية رحمه الله تعالى.

كما أن الغماري مع تطاوله وسوء كلامه، ليست لديه ملكة التعبير الصحيح عما هو بصدده من تقرير التوسل الممنوع: نجد ذلك في لجوئه إلى التعبيرات "اللولوية"، بالإضافة إلى أجوبته الضعيفة التي تشبه حركات الطفل الصغير عندما يحاول والداه كفَّه عن اللعب، لأننا لم نُنازع في ثبوت هذا الحديث أصلاً، ولكن ننازع في كون هذا الأمر خاصاً بالضرير أم لا، وحيث لم يثبت أن أحداً من الصحابة أو التابعين فعلوا مثل فعله، وكون هذا الأمر خاصاً بذلك الرجل، وفي حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يعد لكثرة الكلام أدنى فائدة.

كما أن دعوى الغماري من أنه يلزم من قال بخصوصية هذا الأمر أن ينقل خبراً  عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُفيد تخصيص هذا الأمر بالضرير إن كان خاصاً به: وهذه حُجةٌ متهافتة، لأن الخصوصية كما تُعرف بالنص، فإنها تُعرف بسبب الإيراد، وواقع الحال، وترك عمل الصحابة بها مع وجود المقتضي وانتفاء المانع.

والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة لم يأمر به أحداً آخر غير الضرير، والذي فيه أنه -يعني عثمان بن حُنيف -أمر به ليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أما رواية ابن أبي خيثمة: (فإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك)، وأنها دالةٌ على العموم، ولكن هذه الزيادة قد توافق قول عثمان بن حنيف، لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة الذي جاءت من طريقه، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى.

وقد يكون ذلك مدرجاً من كلام عثمان، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يقل: "وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك" بل قال: "وإن كانت حاجةٌ فعل مثل ذلك"؛ لأن هذا اللفظ هو الذي يستقيم به المعنى، وإن كان قاله فهو اجتهادٌ منه رضي الله عنه.

فغايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا أنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك نجد أن الغماري ذو خيال واسع جداً، حيث يتوهم في خاطره كلاماً لابن تيمية يصوغه بطريقة طالبٍ مبتدئ، ثم يُنصب نفسه للرد عليه، والعجيب كون ذلك كله في قضية لم تثبت أصلاً، ولا علاقة لها بالنصّ النبوي، ثُم هو ينتصر على ابن تيمية -كالعادة -بحجته القاطعة التي تدعو للشفقة والرثاء لحاله دون أن يأتي بجوابٍ مُقنع أو حجة شافية عما قاله ابن تيمية.

  • نصُّ الحديث:

عن عثمان بن حنيف، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل ضرير يشتكي إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول الله ليس لي قائد، وقد شق عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي عن بصري، اللهم فشفعه فيَّ، وشفعني في نفسي).

وقد أخرج حديث الضرير رواية الترمذي، وابن ماجه والنسائي في "سننهم"، وأحمد في "مسنده"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه"، والطبراني في "الكبير"، و"الصغير"، والحاكم في "المستدرك"، ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة" وترجم له (باب ما جاء في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه، حين لم يصبر، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة)، وكذلك في "الدعوات"، كلهم من طريق أبي جعفر الخطمي، عن أبي أمامة سهل بن حُنيف، عن عمه عثمان بن حُنيف.

وهذا الحديث صححه الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، والطبراني ووافقه الهيثمي في "مجمع الزوائد"، وصححه المنذري، وترجم له (الترغيب في صلاة الحاجة ودعائها)، وصححه أبو عبد الله المقدسي صاحب "المختارة"، والحافظ عبد الغني المقدسي في "النصيحة في الأدعية الصحيحة"، والنووي في "الأذكار"، وشيخ الإسلام ابن تيمية في غير موضعٍ من كتبه، والسيوطي في "الخصائص الكبرى"، وغيرهم. 

وزعم الغماري أن السلفيين (الوهابيين) يُضعفون هذا الحديث بلا علم ولا بيّنة، وأخذ ينفخ بما وقر في صدره من الغل والحقد عليهم: افتراءً عليهم، وذكر لذلك حديثاً منكراً ضعيفاً، وهو (منْ بلغهُ حديثٌ فكذَّبَ بهِ؛ فقد كذَّبَ ثلاثةً: اللهَ، ورسولَهُ، والذي حدَّثَ بهِ)، رواه الطبراني من حديث جابر. 

هذا مع أن السلفيين لم يُضعفوا هذا الحديث، بل صححوه ومنهم من حسَّنه، وإنما الذي اتفقوا على تضعيفه وردِّه هي القصة التي سيق الحديثُ لأجلها، وادعى الغماري أن تضعيفهم يتناول بعض ألفاظ النص النبوي، وهذا كلامٌ باهت لا دليل عليه، وشتان بين القصة التي سيقت عند إيراد الحديث وبين النص النبوي الثابت، فهذه الحكاية لم تقع في الزمان النبوي الشريف، وإنما وقعت في ومن الصحابة على فرض ثبوتها، ولم تثبت.

وكان من إفراط الغماري، وإهماله لقواعد الأدب في البحث والمناقشة، أن يُحرر المسائل بطريقة بعيدة عن الحق والإنصاف، ولذلك أمثلة كثيرة، منها:

قوله (16) أن القول أن الضرير توسل بدعاء النبيِّ باطل؛ لأن عثمان بن حنيف لم يذكر دعاء النبي في هذا الموطن؟!! وهذا مستغربٌ من الغماري حيث أن عثمان ذكر الدعاء الذي علمه النبيُّ للضرير، وهو: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيِّك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي، فيقضي لي حاجتي).

قوله (16) أن النبيَّ أراد بحديث الضرير تشريعاً جديداً من الصلاة والدعاء؟!! وهذا ينقضه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد الدعاء ولذلك قال: (إن شئت صبرتَ، وإن شئت دعوت الله لك)، ولذلك لجأ الغماري إلى القول بأن النبيِّ أرشد الضرير إلى الدعاء مجازاً، ليتفق قول الغماري… ثم أخذ بالقاعدة العامة عند المبتدعة وعي: أن الدعاء للضرير لا يمنعمن تعميم الحديث في غيره.

ومن الغريب العجيب أن ينقل الغماري (17) حديث استسقاء عمر بدعاء العباس، ثُم يُعقب علبه بقوله: وقد أكثر ابن تيمية من الاستدلال بأثر عمر هذا في مؤلفاته وكرره وأعاده المرة بعد المرة، وهو لا يُفيد بشيء!! لأن ما فعله عمر هو المطلوب في الاستسقاء.. ثم أجاب عن عدول عمر إلى التوسل بالعباس بأجوبة متهاوية وساقطة جداً، وذكرها من وجوهٍ ضعيفةٍ جداً، لا يكاد يقول بها عاقل، ومن له أدنى مسكة من علم. 

وليس مستغرباً أن يتتابع هؤلاء المبتدعة على نقل النصوص ذاتها في الاستدلال على مسألة قُضي فيها الأمر، واستتب للناس وجه الحق، سواءٌ من حديث الكوى، أو حديث الأعمى، ولذلك تجد أنه يمارس ويتحكم في واصطلاحاتهم، تجده يُغير على السلفيين مباشرةً، وينعى عليهم تضعيفهم لحديث الضرير؛ إذ لم يجدوا بزعمه مغمزاً فيه إلا قول الترمذي في أبي جعفر وهو غير الخطمي، فتشبثوا به وجمدوا عليه، ليصلوا إلى تضعيفه ورده، غير مُبالين بقول ابن أبي خيثمة والطبراني والحاكم والبيهقي. قلتُ (محمد): والحمد لله أن لمن ضعَّف هذا الحديث سلفاً في هذا الأمر، ولكن مقصود الغماري التشغيب والمناقرة. 

كما أن الغماري خلط هذه القضية بغيرها استطراداً، من مسائل المتواتر والآحاد، والمعجزات، والأحاديث التي ترك العلماء العمل بها، وتعدد الجمعة في القطر الواحد، 

ومن حسنات هذا الكتاب أن الغماري أقر بأن القصة المنقولة عن أحمد الرفاعي والتي فيها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كلمة ومدَّ إليه يده ليُقبلها، والتي نُسبت أيضاً إلى أبي شباك الرفاعي: هي محض خرافة، لذلك قال (ص 15 -16): "وسواءٌ وقعت لهذا أو لذاك؛ فهي مقطوعٌ بكذبها؛ لأن الحاديث العظيم تتوافر الدواعي على نقله تواتراً، وقد ذكر ناقل هذه القصة أنه شاهدها جمعٌ كبيرٌ حرزوا بخمسين ألفاً، وأن ممن شهدها العارف الكبير الشيخ عبد القادر الجيلاني، وهنأ الشيخ الرفاعي بهذه المنقبة العظيمة!! وهذا مما يؤيد القطع بكذب هذه القصة؛ إذ كيف يحضرها خمسون ألفاً أو أكثر أو أقل، ثم لا يرويها منهم إلا واحدٌ أو اثنان من أغمار الناس ومجاهيلهم؟! وكيف لا يُشير إليها الشيخ عبد القادر الجيلاني في شيءٍ من دروسه، ولا مؤلفاته يطريقٍ يُعتمد عليه؟! ولم يذكرها الشعراني في الطبقات، (16) مع أنه يذكر ما هو أقل شأناً منها بكثير، وقد رأيتُ رسالةً مطبوعةً في هذه الحكاية منسوبةً للافظ السيوطي ولا تصحُّ نسبتها إليه، وما أكثر ما نُسب للحافظ السيوطي من الكتب التي لم يؤلفها، ككتاب (الكنز المدفون والفلك المشحون) المنسوب إليه، وهو للشيخ يونس السيوطي المالكي تلميذ الحافظ الذهبي، وككتاب (الرحمة في الطب والحكمة) نُسب إليه في سائر النسخ المطبوعة، وهو للحكيم المقري مهدي الصبري، وغير ذلك كثير.

وخلاصة القول: أنه ليس الخلاف في كون الحديث صحيحاً أم لا كما يوهم كلام الغماري، وإنما الخلاف في الفهم الواعي والمنضبط لهذا الحديث وفق أصول الشرع ومبادئه الكلية، ومن العجيب أن يُورد الغماري كلام ابن تيمية ويعتمده وهو عمدة السلفيين في هذا العصر.

  • جملة ما في الكتاب:

1-في ذكر الحديث وطرقه.

2-بيان اتفاق الحفاظ على تصحيحه.

3-ذكر ما ورد على هذا الحديث من الاعتراضات والجواب عنها.

4- دلالة الحديث على جواز التوسل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.

5- خاتمة تشتمل على مسائل:

أ-خطأ ابن تيمية في النقل عن عز الدين بن عبد السلام: وزعم الغماري أن ابن تيمية حمل كلام ابن عبد السلام على التوسل وإنما كلامه على التوسل بالمخلوق، وقد أجاب ابن تيمية على ذلك، وانظر بحث (دعوى تجويز الأئمة الأربعة للتوسل البدعي).

ب- خطأ ابن تيمية في فتوى خاصة بالتوسل وتناقضه: حيث زعم الغماري تناقض ابن تيمية في نفيه التوسل بحديث الضرير عن السلف، ثم هو يُثبته في بعض ما رُوي عنهم.

ج- في ترجمة الصحابي "صاحب الحديث" عثمان بن حُنف.

د- إدخال الأنبياء والأولياء في هذا الباب: ولاشك أن هذا تجوُّزٌ وتوسيعٌ لدائرة الخلاف.

هـ- بيان الفواطم الأربع: فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت النبيّ، وفاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت شيبة العبشمية امرأة عقيل.

و-التوسل بالصحابة والأبدال: قلتُ: وهذا توسُّعٌ في هذه المسألة.

ز- دعوات يُدعى بها لقضاء الحاجات.الإجابــة

جاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على أن صلاة الحاجة مستحبة. 

واستدلوا بما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ فليحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: (لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا هماَ إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين).

رواه ابن ماجه، وزاد بعد قوله: يا أرحم الراحمين: ثم يسأل من أمر الدنيا والآخرة ما شاء فإنه يقدر. 

فإذا تبين هذا، فمذهب الجمهور هو أن صلاة الحاجة ركعتان على ما في حديث عبد الله بن أبي أوفى، وليس لهما قراءة مخصوصة، وعليه فتشرع صلاة هاتين الركعتين، ويقرأ فيهما المصلي بما شاء ثم يدعو بعدهما بما شاء من خير الدنيا والآخرة.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى عدم مشروعية صلاة الحاجة بناء على ضعف الأحاديث الواردة فيها، جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة": المشروع في حق المسلم أن يتعبد الله بما شرعه في كتابه، وبما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يقال إن هذه عبادة مشروعة إلا بدليل صحيح، وما يسمى بصلاة الحاجة قد ورد في أحاديث ضعيفة ومنكرة، فيما نعلم ـ لا تقوم بها حجة ولا تصلح لبناء العمل عليها.

 وذكر أيضاً صفات أخرى لها من حديث أنس بن مالك (رواه الطبراني، والأصبهاني في الترغيب، والديلمي في مسند الفردوس، وعبد الرزاق الطبيسي في كتاب الصلاة: وهو خبر واهٍ بمرة، وابن الجوزي في الموضوعات: وهو منكر)، وابن مسعود (رواه الحاكم والبيهقي =وهو ضعيف).وابن عمر موقوفاً (رواه أبو موسى المديني، وأبو عمر بن عبد البر)، وابن عباس (رواه الطبيسي، وقال السخاوي: سنده تالف)، وحديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده (رواه الديلمي في الفردوس، وقال السخاوي: إسناده ضعيفٌ جداً)، وذكر معه جملةً من الأدعية المقطوعة عن الحسن البصري (رواه الدينوري في المجالسة)، وغير ذلك، وأكثر هذا في الأحاديث الموضوعة والمنكرة، ولا يثبت منها شيء.







الجمعة، 19 فبراير 2021

سنية رفع اليدين في الدعاء بعد الصلوات المكتوبة لمن شاء -محمد بن عبد الله بن مقبول الأهدل الحسيني الشافعي

سنية رفع اليدين في الدعاء بعد الصلوات المكتوبة لمن شاء

تأليف العلامة

محمد بن عبد الله بن مقبول الأهدل الحسيني الشافعي

قدمها وعلق عليها

أبو الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري

 

تمهيد/ إن رفع اليدين في الدُّعاء هي سُنَّةٌ ثابتةٌ عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ويعدُّ العلماء هذه السُّنة ضمن المتواتر المعنوي، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث، في كل حديث منها: أنه -صلى الله عليه وسلم -رفع يديه في الدعاء، لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر بنفسها، ولكن القدر المشترك بينها -وهو الرفع عند الدعاء- تواتر باعتبار مجموع الطرق.

وهذه رسالة صغيرة الحجم، كبيرة القدر، حاول الغماري من نشرها وتقديمها: أن يُبرهن على استحباب رفع اليدين في الدُّعاء بعد الصلاة، وأن ذلك لا يُعد بدعةً،و لم يرد نهيٌ عن الدُّعاء عقب الصلاة أو رفع اليدين فيه، فبعد أن ينتهي المسلم من أذكار الصلاة يُستحبُّ له أن يدعو الله بما شاء من أمور الدين والدنيا، ويرفع يديه في ذلك.

وذكر العلامة الأهدل في رسالته ستة أحاديث تدلُّ بعمومها على مشروعية رفع اليدين في الدُّعاء، وأعقبها بدليلين خاصين، وهما وإن كانا ضعيفين، إلا أنه يُعمل بهما في فضائل الأعمال.




الخميس، 18 فبراير 2021

توضيح البيان لوصول ثواب القرآن للميت -تأليف عبد الله بن الصديق الغماري

توضيح البيان لوصول ثواب القرآن للميت

تأليف عبد الله بن الصديق الغماري


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 

تمهيد/ هذا بحث مفيد بين فيه الغماري وصول ثواب القرآن للميت إذا أهداه القارئ إليه بلفظه أو نيته، وقد استعرض فيه الأقوال المختلفة في هي هذه المسألة وأدلتها، وأجاب فيه عن أدلة المانعين للوصول.

ولا شك أن هذه المسألة من مسائل الفروع التي اختلف فيها الفقهاء، وعدها بعض العلماء من مسائل الأصول، وجعلوا المخالف فيها من المبتدعة، وهم يقصدون بذلك المعتزلة، الذين جعلوا إهداء ثواب العمل للميت لغواً، لأن كل إنسانٍ مسؤول عن عمله فقط، ولكن شاركهم في هذا القول بعض فقهاء أهل السنة وهذا -بالطبع -لا يخرجهم عن دائرة أهل السنة.

وإذا نظرنا إلى حقيقة هذه المسألة نجد أن السبب الأول في انتفاع الميت بما يُهدى إليه من أعمال هو إيمانه وتوحيده لله عز وجل في دار التكليف، فيكون هذا الثواب الذي يُهدى للميت تكرمة من الله عز وجل، لا أنه ثواب استماع الميت للقراءة، وعليه فلا يشترط أن تكون القراءة عند القبر، كما لا يُشترط التلفظ بنية الإهداء، وإنما يندب إلى التلفظ بالإهداء نفسه.

وقد أشبع الإمام ابن القيم الكلام على هذه المسألة في كتابه "الروح"، ورأى أن هذا الأمر جائز، وليس مندوباً إليه؛ لأن ذلك لم يكن من هديه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

1. أما القائلون بوصول ثواب القراءة؛ فهم أكثر المتقدمين من العلماء، وجمهور السلف، وهو مذهب المالكية، والحنابلة، وبوّب له الحنفية في كتبهم تحت عنوان: "باب يصل ثواب القرآن للميت" وإليه ذهب الإمام النووي في "المجموع"، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر في "الجواب الكافي"، وقول ابن رشد من المالكية، وأجاز ذلك ابن القيم على أن تكون القراءة بلا أجرة، وهو اختيار الشيخ محمد بن الصالح العثيمين.

2. وأما القائلون بعدم الوصول فهم جمهور الشافعية والمالكية، واختاره ابن باز، وكثيرٌ من علماء الدعوة النجدية.

على أن مذهب المتأخرين من الشافعية أن الذي يصل الميت هو نوع انتفاع ولكن لا يصله ثواب، واستدلوا بعموم قوله سبحانه: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، وخصَّ الشيخ الألباني في وصول ثواب القراءة من الولد إلى الوالدين فقط دون غيرهما؛ لحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، وذكر فيه: (أو ولد صالحٌ يدعو له).

وقد أجاب الغماري على المانعين لذلك من ثلاثة عشر وجهاً، ونقل كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في وصول ثواب القراءة من عشر وجوه، وذكر أدلة المجيزين والتي تجاوزت الخمس أدلة، وفي بعضها ضعف.