أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 3 يوليو 2023

لباس الرسول والصحابة والصحابيات مع نبذة من عيش النبيّ وصحابته الكرام محمد يونس عبد الستار بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

لباس الرسول والصحابة والصحابيات

مع نبذة من عيش النبيّ وصحابته الكرام

محمد يونس عبد الستار

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: من رحمة الله بنا أنه خلق لنا ما نستر به عوراتنا، وما يحمينا من برد الشتاء، وحر الصيف، وبأس الحرب، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَم قد أنزلنا عَلَيْكُم لِباسا يُوَارِي سَوءَاتِكُم وَريشاً}، ثم جعل خير ما يلبسه المرء في دنياه تقوى الله عز وجل، {وَلِبَاسُ التَّقوى ذلِكَ خَيرٌ ذلك من آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: ٢٦)؛ قال القرطبي رحمه الله: بيّن سبحانه أن التقوى خير لباس، ولباس التقوى (هو) الحياء، وقال ابن عباس: هو العمل الصالح، وقيل: لباس التقوي: لبس الصوف والخشن من الثياب، مما يتواضع به لله تعالى ويتعبد له، وهو خير من غيره.

وهو في ذلك يُحذرنا من التشبه بالمشركين في لباسهم، أو التشبه بالنساء وما في معناهم من الشواذ والمخنثين، وحذرنا كذلك من لباس الشهرة، واللباس الذي فيه خرم المروءة، وكما لا يخفى على أحد أنه انتشر في السنوات الأخيرة مظاهر خلل كبير في أمر اللباس، وبدأت الأسواق تلفظ ألواناً من الألبسة السيئة، والعباءات المتبرجة، وللأسف رأينا من أشباه الرجال من يلبس تنانير النساء، بل تزايد الأمر مع ظهور الشواذ، الذين يضعون المكياج النسائي، ويلبسون لباس النساء.

ثم تزايدت هذه المخالفات الشرعية وعرفها كثير من النساء بسبب الجهل، وأصبح نقص الوعي في أحكام اللباس سيمة عامة بين الرجال والنساء؛ حتى بين كثير من الملتزمين، وكل هذا يستدعي هذا النوع من الكتب التي تعالج مثل هذه الظواهر الكارثية والخطيرة.

وهذا الكتاب يحدثنا عن صفة لباس النبيّ صلى الله عليه وسلم، والذي هديه أفضل الهدي، ولباسه ولبسه أحسن اللباس، والذي كان زينةً للثياب، بل زينةً للدنيا كلها، صلوات ربي وسلامه عليه، حتى وصفه أصحابه بأنه أجمل من القمر ليلة البدر، لم يقتصر الكتاب على لبس القماش، بل إنه ذكر لبس الخواتم، والخفاف، والنعال، والخوذ، والدروع، وغير ذلك، وفي هذا حثٌّ على اقتفاء هديه، والتماس آثاره حتى في اللباس.

وأعق ذلكه ذكر لباس أصحابه من الرجال والنساء، الذين كانوا أشدَّ الناس اتباعاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأشدهم حرصاً على امتثال أمره، واجتناب نهيه، 

 وقسم المؤلف كتابه إلى بابين رئيسين: 

الباب الأول مشتمل على (٤) فصول: 

الفصل الأول: أهمية السنة المطهرة في ضوء الكتاب والسنة، وذلك للترغيب فيها واختيارها في جميع شئون الحياة. 

والفصل الثاني: صفة لباس الرسول والصحابة رضي الله عنهم وآداب لبسه.

 والفصل الثالث: فصل هام جداً: في لباس الصحابيات وهو خاص بلباس النساء وزينتهن، وفيه صفة لباس الصحابيات رضي الله عنهن، واجتنابهن التبرج، لكي يسهل على بنات الإسلام الإقتداء بهن، لأنهن: إما أمهات أصحاب الرسول أو بناته، أو أزواجه، وقد قال تعالى في شأنهم: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} (التوبة: ١٠٠). 

والفصل الرابع: صفة لباس أهل الجنة وحليهم ومناديلهم وفرشهم وسررهم ووسائدهم ونمارقهم وزرابيهم وآرائكهم وغير ذلك من حسن الجنة وجمال أهلها من الرجال والنساء.

والباب الثاني: نبذة من عيش النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم، بالإضافة إلى جملة من الفصول المهمة المتعلقة بالزينة والتبرج والاختلاط ونحو ذلك.

لباس النبيّ صلى الله عليه وسلم في سؤال وجواب (١٦) سؤالاً:

١) هل لبس النبيُّ صلى الله عليه وسلم العمامة، وما لونها؟

نعم، لبس النبيُّ صلى الله عليه وسلم العمامة، وكانت عند عمامة تُسمى "السحاب"، وألبسها علياً بن أبي طالب، وكان يلبس تحتها القلنسوة، وأحياناً يضع القلنسوة فوقها، وأحياناً لا يلبسها وحدها دون قلنسوة، وفي الخديث عن جابر، قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء)، وفي روايةٍ: (قد أرخى طرفيها بين كتفيه).

٢) ما هي الأشياء التي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يلبسها؟

لبس النبيُّ صلى الله عليه وسلم القميص: وهو اسم لما يلبس من مخيط الثياب، وله كمان وجيب، وكان من القطن، وكان قصير الطول، قصير الكمين إلى الرسغ، وهو أحب الثياب إليه؛ لحديث أم سلمة: (كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص).

ولبس الجبة (وهي رداء مفتوح الصدر إلى الذيل، وكان يُصنع من الصوف أو الكتان)، ومنها الجبة الشامية أو الرومية، وكانت ضيقة الكمين، لخبر المغيرة بن شعبة: (أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، توضأ وعليه جُبّة من صوف -شامية، وكان ذلك في غزوة تبوك).

ولبس الحلة -وهي البدلة -(وهي الثوب المجتمع من الإزار -وهو ما يوضع على أزر الإنسان أي وسطه وكشحه- وكان إزاره غليظاً من القطن، والرداء -وكان خشناً غليظاً أيضاً)، وسُمي حُلةً لأن أحدهما يحلُّ على الآخر، ودل على ذلك حديث البراء بن عازب، وأو رمثة التيمي (أنهما رأيا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ولبس المِرط (وهو العباءة من الشعر)، لحديث عائشة (أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخرج ذات غداة، وعليه مرط من شعر أسود).

ولبس البُرود (وهي الشملة منسوج في حاشيتها)، وتُسمى الشملة وهي ما يلتحف بها، وتُسمى العباءة، وكانت تُصنع ربما من القطن، أو الصوف، أو الكتان، 

ولبس الخميصة (وهي كساء من صوف مربعة الشكل، لها أعلام تشبه الزركشة في الثوب)، ولبس السراويل (وكان يشتريها ويلبسها)، والقباء (وهو ما له شقٌّ من خلفه، ويُسمى الفرجية؛ لأنه مُفرّج الظهر)،  ولبس المستقة (وهي الفراء طويلة الأكمام).

٣) ما هي الألوان التي لبسها النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟

كان أكثر لباس النبيُّ صلى الله عليه وسلم البياض، وكان يحث على لبسه؛ فقال: (البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم)، ولا شك أن الثياب البيض تدل على النقاء والطهارة، وتكسب المرء المحبة والهيبة، وفي رواية: (فإنها أطهر وأطيب)، وهي أبعد الألوان علن الخيلاء، ولبس كذلك حُلة حمراء أي عليها خطوط حُمر، وثبت ذلك في حديث البراء بن عازب، وأبي جحيفة، وعمامة سوداء، لحديث جابر، وبردان أخضران أي عليها خطوط خُضر، لحديث أبي رمثة، والثوب الأسود، لحديث عائشة، والخميصة المعلمة لخبر ابن عباس، والساذجة (ليس بها نقش).

٤) هل يجوز لبس الثياب التي عليها صورة؟

نعم يجوز؛ إذا كانت الصورة مما لا روح فيه؛لحديث عائشة: (أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه مرط مُرحّل-ثوب عليه صورة الرحل-من شعر أسود)، والرحل هو ما يوضع على البعير.

٥) ما حكم إسبال الثياب وما في معناها من الملبوسات؟

ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: (من جرّ ثوبه خُيلاء -وفي رواية (عُجباً وبطراً) -لم ينظر الله إليه يوم القيامة)؛ فقال أبو بكر: يا رسول الله: إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فقال: (إنك لست ممن يفعله خُيلاء).

فالوعيد في هذا الحديث يتناول من جر ثوبه خيلاء، أي: كبراً على الناس وإعجاباً بنفسه، ولا يقتصر الأمر على إسبال الإزار، بل يتعدى ذلك إلى القميص والعمامة وكل ما يلبسه الإنسان؛ لحديث ابن عمر أيضاً: (الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جرّ ثوبه خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة).

٦) من أراد أن يرفع إزاره إلى كم يرفعه؟

يرفعه إلى نصف الساق، وهو الأكمل، وإلى حذو الكعبين وهو القدر الجائز، وما فوق ذلك مكروه، لحديث جابر بن سُليم، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعهد إليّ! فكان مما أوصاه: (وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين).

٧) ما حكم إسبال الإزار في الصلاة؟

إسبال الإزار في الصلاة مكروه، لحديث أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، رأى رجلاً مُسبلاً إزاره؛ فأمره بالوضوء، فتوضأ، ثم جاء -وهو مُسبل -فقال له: اذهب فتوضأ، ولما سئل عن ذلك؛ قال: (إنه كان يُصلي وهو مُسبلٌ إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مُسبل)، قلت (محمد): ولعل إسباله كان سبباً في عدم إسباغه الوضوء.

٨) ما حكم إسبال الثوب للنساء؟

لما سمعت أم سلمة حديث (من جرّ ثوبه خُيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، قالت: فكيف يصنع النساء بذيولهنّ؟ قال: (يُرخينه شبراً)، قالت: إذن تنكشف أقدامُهنَّ، قال: (فيُرخينَه ذراعاً لا يزدن)، واستدل بهذا الحديث من يرى أن القدمين ليستا بعورة.

٩) هل يجوز للإنسان أن يتميز بلباسه دائماً عن الناس؟

لا يجوز، لحديث معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعا لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها).

١٠) هل أمر الإسلام بلبس الثوب البالي والمزري بالإنسان، حتى يكون ذلك أدعى لزهده وتقشفه؟

لا، بل أمر الإسلام بالتجمل في الملبس، من باب إظهار النعمة، لا تكبراً على الناس، وفي نفس الوقت أمر بلباس عامة ما يلبسه الناس، فلا يتميز عليهم. لخبر: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده

١١) ما حكم لبس الحرير والذهب؟

الحرير والذهب لبسه مباح للنساء، محرم على الرجال، لحديث  علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً، فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: (إن هذين حرام على ذكور أمتي)، ولخبر عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، وفي حديث حذيفة: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه).

١٢) هل يجوز لبس الحرير لمن به حكة من الرجال؟

نعم، فقد رخص النبيُّ صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف، بلببس الحرير، لحكةٍ كانت بهما، ويجوز أيضاً لابسه لمن لا يجد ثوباً يستر عورته، ويكون في حقه رخصة.

١٣) هل يجوز لبس جلد النمور، أو افتراشها، والصلاة عليها، أو الركوب عليها؟

لا يجوز، وذلك مكروه، لأن فيه نوع من الكبر، وفي الحديث: (لا تركبوا الخز ولا النمار)، وفي خبر آخر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع).

١٤) ما هي النعال السبتية، وما سبب تسميتها بذلك؟

قيل، هي المدبوغة، أو التي نُزع عنها الشعر بالحلق ونحوه، وسُميت بذلك من السبت وهو القطع، وقيل لأنها تسبتت بالدباغ، أي: لانت، ولبس النبيُّ صلى الله عليه وسلم النعال المخصوفة، أي: المخيطة والمخروزة، وقيل: المرقعة.

١٥) ما الحكمة من الأمر بالانتعال في كلا القدمين، والنهي عن المشي في نعل واحدة؟

ذكر العلماء حكماً كثيرةً لذلك، أبرزها:

-أنه يحتاج لأن يتوقى للأخرى من الشوك والحصا، وما قد يلقاه في الطريق، وهذا يخرجه عن سجية مشيه، ولا يأمن مع ذلك من العثار.

-لأنه لم يعدل بين جوارحه، وربما نُسب فاعل ذلك إلى اختلال العقل، وضعف الرأي.

-لأنها مشية الشيطان، وقد أخرج بها عن حد الاعتدال.

-لأنها مشية الشهرة، لما تلفت الأنظار إليه، وقد نهى النبيُّ عن لباس الشهرة.

١٦) من لبس ثوباً جديداً، ماذا يقول؟

يقول الدعاء الذي علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: (اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)، أما إذ كان الثوب قديماً؛ فيُسمي الله تعالى، ستراً ما بينه وبين أعين الجن، ويندب له أن يقول: (بسم الله الذي لا إله إلا هو). 


























الأحد، 2 يوليو 2023

الحسين بن منصور الحلاج (شهيد الصوفية) طه عبد الباقي سرور بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الحسين بن منصور الحلاج (شهيد الصوفية)

طه عبد الباقي سرور

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: أن المأساة الحقيقية هي أن يأتي الكاتب بشخصية لا قيمة لها في التاريخ، وينسج حولها أساطير فاتنة، محاولاً تزييف الحقائق، والتهوين من أفكار رجلٍ، حاول الانقلاب على الخلافة السُّنية، مع ما يحمله ويبثه من الأفكار الإلحادية، وترك المئات بل الآلاف من مآسي المسلمين الفردية والجماعية، في بلاد المشرق والمغرب، وأسوأ من ذلك تصوير الخلافة العباسية برمتها -وهي في أوج مجدها- بمنظر المضطهد للحريات، وقامع الأفكار، وهذا الأمر غير صحيح غالباً.

ثم تصوير العباسيين ألعوبة في يد الحنابلة وحدهم، مع تغييب تام لأرباب المذاهب الأخرى، وكأن الأمر لا يتعلق بهم، فإذا كان الأمر كذلك فلم يفتى علماء ذلك العصر بكفر الحلاج وقتله، ليلقى مصيره الأسود، مقتولاً مصلوباً على جسر بغداد، سنة ٣٠٩ هـ.

ولا شك أن القارئ فهم السبب وراء تلفيق تهمة التكفير للحنابلة، ليكون صوغ المبررات أكثر ظاهرية وبعيداً عن التأويلات، مما يسهل الأمر أمام قفل الوجدان والضمير الذي يتمتع به هؤلاء المدسوسون، ولعلكم عرفتم وجه الربط بين الحنابلة والحقد على المتصوفة من وجهة نظر المؤلف الفصيح، وغيره ممن جاء بعده.

ولك أن تتصور اتفاق علماء بغداد على كفر الحلاج وزندقته، وأنهم أجمعوا على قتله وصلبه، وقال أبو بكر الصولي: قد رأيت الحلاج وخاطبته فرأيته جاهلاً يتعاقل، وغبياً يتبالغ، وخبيثاً مدعياً، وراغباً يتزهد، وفاجراً يتعبد.

يقول ابن تيمية رحمه الله: "ومن اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإنَّ المسلمين إنما قتلوه على الحلول والإتحاد ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله:"أنا الله" 

يقول ابن تيمية: "وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض : الله، الله! وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب؛ فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء-وقد شهد مقتله-وكما ذكر إسماعيل بن على الخطيب في تاريخ بغداد- وقد شهد قتله-وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو محمد بن حزم وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني، وأبو الفرج بن الجوزي، فيما جمعا من أخباره ".

لم يكن الحلاج نبئاً عظيماً كما يُصور الكاتب، ولا هو بطل الناموس الخارق لقوانين الطبيعة، ومهما وضع المغرورين من هالات التقديس والخطوط المضيئة حول هذه الشخصية الرديئة، والمفعمة بالتناقضات فلن يغيروا من الحقيقة شيئاً، أما الحسين بن منصور الحلاج؛ فقد أبان عن معتقده على الملأ، ليكون أول من يبتدع عقيدة الاتحاد والامتزاج بالله.

ولكن لماذا الحلاج وتراث الحلاج بالذات؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نجد أن الكاتب قد أتقن الربط بين الحلاج ومعاصريه من المتصوفة، ليتبين لنا ثلاثة أمور:

الأول: حالة النفاق المستشرية في قادة التصوف، والتقية التي مارسها كثيرٌ منهم، مما جعل بعضهم يكتم عقائده، فالحلاج كان زميلاً وصاحبًا لكبار رجال التَّصوف المشهورين في القرن الثالث كالجنيد البغدادي والشبلي؛ فالجنيد نفسه قد أرسل إليه عندما حكم عليه بالقتل والصلب يقول: "أنك أفشيت أسرار الربوبية فأذاقك طعم الحديد" ! وأما الشبلي فيقول: "كنت أنا والحسين بن منصور الحلاج شيئًا واحدًا غير أنه تكلم وسكت أنا " .

الثاني: أن منهج التصوف إبان نشأته وحتى القرن الخامس كان واحد، ومآله في السير إلى كان إلى الإلحاد والزندقة، حتى أنقذه الغزالي، وفي السابق لم يكن هناك اختلاف في المنهج بين ما تم اختراعه لاحقاً من تقسيم للتصوف إلى سني وفلسفي، وأن كلا الأمرين مرجعهما واحد، والأهم من ذلك كما يقول الكاتب: أن فرق التصوف إنما نشأت على وقع نغمات الحلاج ودعواته.

الثالث: التلون العجيب لهذه الفرقة، بحسب مصلحة التخفي والظهور، وكان هذا في أول الأمر حيلة من حيل عصمة دماء هؤلاء، وقد حاول ا إفساد الإسلام، لكن الله قتلهم، قال أبو الفرج بن الجوزي : "كان الحلاَّج متلوناً تارة يلبس المسوح، وتارة يلبس الدراعة، وتارة يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم : إن كانوا أهل سنة، أو رافضة، أو معتزلة، أو صوفية، أو فساقاً، أو غيرهم".

أما الإجابة الواضحة عن العناية البالغة التي نالها هذا الرجل في الأعصار المتأخرة، وهذا التمجيد الكبير،فهي ارتباط أفكار هذا الرجل بأفكار الإلحاد والغنوصية، التي تدمج بين الثقافات الغير إسلامية -والوثنية بالأحرى -مع العقائد الإسلامية، وهذا الاهتمام يأتي ضمن تمجيد النصارى لعقيدة الصلب والفداء، والتي كان الحلاج صورة من صورها بحسب اعتقاد المستشرقين، الذين أظهروا صورة الرجل في صورة البطل الأسطوري، واتفاق ذلك مع ما كان يدعو إليه من الاتحاد، والذي ينطبق تماماً على قصة النصارى مع المسيح عليه السلام.

وقد ذكر إسماعيل بن علي الخطيب البغدادي في (تاريخه) الحلاج، وقال فيه: وظهر أمر رجل يقال له : الحلاج الحسين بن منصور، وذكر عنه ضروب من الزندقة ووضع الحيل على تضليل الناس، من جهات تشبه الشعوذة والسحر، وادعاء النبوة، وترقى به الأمر إلى أن ادعى الربوبية، وسعى بجماعة من أصحابه إلى الخليفة فقبض عليهم ووجد عند بعضهم كتب تدل على تصديق ما ذكر عنه، وأقر بعضهم بذلك بلسانه، وانتشر خبره وتكلم الناس في قتله . فأمر الخليفة بتسليمه إلى حامد بن العباس، وأمره أن يكشفه بحضرة القضاة والعلماء ويجمع بينه وبين أصحابه، فجرى في ذلك خطوب طوال، ثم استيقن السلطان أمره ووقف على ما ذكر عنه، وثبت ذلك على يد القضاة وأفتى به العلماء فأمر بقتله وإحراقه بالنار .

وإذا عُرف السبب بطل العجب، فاعتقد في الحلاج ما شئت من خير أو شر؛ فلن تُسأل عنه، ولكن لن يُعفيك الله من اعتقاد صحة كلام هذا الرجل في الكفر، ولن يُعفيك في تفضيله على كثير من الصالحين من عباد الله، سيما وأن الرجل في أقصى حدوده مختلف في إسلامه؛ أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ والذي ندين به في الأحكام الربانية والشرائع الإلهية، أن الحلاج كافر زنديق، وأن قتله كان جزاء ردته وشعبذاته، وأنه يستحق ذلك، ويحرم اعتقاد أنه ولي من أوليائه الله، أو تقديسه، أو تمجيده، بل هو خارج عن شريعة الله، والله المستعان.




الجمعة، 30 يونيو 2023

الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية فتحي يكن بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية 

فتحي يكن

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: إن نشد الحق والدلالة عليه من أهم المطالب، ونيله من أعظم المكاسب، وأحق ما ينشده المرء في دنياه، هي الجماعة المؤمنة، والفئة الصالحة، التي ننشد من خلالها المجتمع الفاضل، والأمة الحرة، ولا شك أن طموح مثل هذه الجماعة أكبر بكثير من قدرات الفرد وحده، فمثل هذه الجماعات تقي البلاد من فتن الشهوات والشبهات، وستكون الراعي الأول للمواهب والطاقات.

وهي الدرع الحصين أمام تيارات الإلحاد والمروق والدجل، والحامي الأمين للعقيدة والمقدسات، والضمان الوحيد لخلود القيم، وبقاء الحق وانتصاره، تلك هي دعوة الإخوان -المسلمين، التي حاول الكثير أن يبهتها، وينال من تاريخها، ولكنها بقيت على مر السنين، لم تتغير ولم تتبدل، بينما بقي غيرهم يتسكع في الطرقات، ويتخبط في الغايات، ويحاول القيام وهو كسير حسير.

هذه الدعوة التي جاءت لترث واقعاً مريراً، وتحاول أن تشحذ الهمم كي يصنعوا من الواقع فجراً منيراً، تضيء له عتمات الهزيمة والجمود، هذه الدعوة الشامخة، التي لا تؤثر فيها الأعاصير، والتي رفضت الهوان والذل والفقر والحرمان، ورنت بطول صبرها وجلدها إلى انتشال الأمة من نير الاستبداد والاستعباد إلى  فضاء الحرية والعدالة.

وهذا الكتاب كما يقول المؤلف هو محصلة معاناة طويلة، وثمرة تجارب قاسية ومريرة عايشتها في واقع العمل الإسلامي في أكثر من قطر وأكثر من موقع. وقد وضعه في فترة إقامة شبه جبرية في منطقة من مناطق بلده، خلال شهر رمضان المبارك من عام ١٤٠٢ هـ الموافق لشهري (حزيران) - تموز من عام ۱۹۸۲م،

بسم الله الرحمن الرحيم

ماذا نعني بالاستيعاب؟

هي قدرة الدعاة اجتذاب الناس، وربحهم على اختلاف عقولهم وأمزجتهم وطبقاتهم وثقافاتهم ... الخ

فالناس مختلفون اختلافاً نوعياً في كل شيء، في (نمط التفكير، ومستوى العيش، والمزاج، وعيار الذكاء) وهذا يعني الاختلاف في كافة القدرات النفسية والحركية.

والداعية الناجح هو القادر على التأثير  في الناس بدعوته وفكرته، فيؤثر في أكثر الناس على اختلاف عاداتهم وطبائعهم، ومشاربهم، ومستوياتهم.

والحقيقة ان القدرة على الاستيعاب يعتبر المؤهل الأهم والأول في شخصية الداعية - وبدونها لا يكون داعية ولا تكون دعوة.

تفاوت القدرة على الاستيعاب:

ومما لاشك فيه أن الداعية كبقية الناس، الذين يتفاوتون في قدراتهم على الاستيعاب ولکن لا بد أن يكون هنالك الحد الأدنى من القدرة على الاستيعاب، وبدونها لا يكون عاملاً ولا يكون داعية في إطار الدعوة.

فکم من أناس اعتبروا دعاةً أو عاملين في الحقل الإسلامي أضروا بها ولم ينفعوا، وهدموا ولم يبنوا، ونفروا ولم يبشروا، وكانواحجةً على الدعوة بين أبنائها وأعدائها

وهناك آخرون عاشوا في أجواء الدعوة، وعاشت بهم الدعوة، أولئك هم الدعاة حقاً، وهم رجالها الذين يحتاج الإسلام إلى أمثالهم، لرفع رايته، وبناء دولته، وإقامة دولته، وجعله حجة على العالمين.

وفي حديث أبي موسى الأشعري، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -"مثل ما بعثني الله من العلم والهدى كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس؛ فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة أخرى منها، إنما هي قيعان لا تمسك الماء، ولا تنبت الكلأ، ل فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ومن لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

الاستيعاب ونجاح الدعوة:

فالعلاقة بين الاستيعاب ونجاح الدعوة، علاقة جذرية إذ لا نجاح بدون قدرة على الاستيعاب.

الاستيعاب الداخلي والخارجي:

فالخارجي: هو الاستيعاب من خارج الدعوة والحركة (تكوين المواد الخام)

الداخلي وهو استيعاب الناس داخل الحركة أي استيعاب المنتظمين والملتحقين بالعمل الإسلامي والحركي ( التصنيع الذي يحفظ الخامات من التلف).

أبرز المتطلبات الله يحتاجها الدعاة إلى الله في عملية الاستتباب الخارجي:

١-الفقه من دين الله:

إن المسلم كي يكون داعية إلى الله بحث، مستقيماً على الصراط، راشداً مسترشداً، يحتاج أولاً إلى قدر مقبول من الفقه في دين الله (لاستبانة الحلال من الحرام، والخير من الشر- ومعرفة الفرائض والواجبات.. الخ)، يقول تعالى. {ويرى الدين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد}.

إن اجتذاب الناس إلى الإسلام، هو الأساس، وهو الطريق الصحيح؛ حيث يجعلهم مسلمين مرتبطين بالإسلام، متشبثين به، في حين أن اجتذابهم إلى الحركة سيجعل ولاءهم للتنظيم والحركة وليس لشرع الله، ولقد ابتلي الإسلام اليوم بدعاة يدّعون الناس إلى تنظيماتهم بدلاً من أن يدعوهم إلى الإسلام، ويبينون محاسن التنظيم بدلاً من أن يبينوا محاسن الاسلام ومزاياه.

وهذا ما جعل ارتباط الفرد بالدعوة ارتباطاً جزئياً وليس ارتباطاً عقائدياً، بل وجعله ارتباطاً شخصيا وليس مبدئياً، وبالتالي جعل ميدان الدعوة الإسلامية غصّة بالتنظيمات والأحزاب والفرق والحركات وإن معظم ذلك مرده إلى الجهل بحقيقة هذا الدين الذي يمثل الحياة لجميع المسلمين.

والداعية الذي لا يملك من المفاتيح ما يفتح به العقول والقلوب لن يتمكن من اجتذاب أصحابها واستيعابهم، وستبقى دعوته لهم صيحة في واد ونفخة في رماد.

ومن الفقه في دين الله تعالى التزود بالثقافات والمعارف المختلفة في زمن كثرت فيه الثقافات وتعددت الاتجاهات، بل يحول بينه وبينهم مئة سؤال والف شبهة، يقول تعالى {أو كظلمات في بحرٍ لُجّيّ}.

استنقاذ الناس من براثن الأفكار والتصورات المشوهة التي يحملونها أمر صعب يحتاج الى جهد في الحوار والإقناع.

في الحرب يواجه الإنسان عدواً واحداً، أما في عمل الدعوة إلى الله عز وجل فهو يواجه أعادءً كثر: (ماركسي، شيوعي، قومي، اشتراكي، عالم مغرور، جاهل صاحب هوى، صاحب النزعة الجاهلية الخ).

هذا هو حقل الدعوة بعد الاستعانة بالله والفقه في دين الله، الأمر الذي يحتاج الى عمل كي يكون قد أدى حق الله عليه  ورحم الناس.

٢- القدوة الحسنة:

الناس لا يتأثرون بلسان المقال بل بلسان الحال، وكيف يدعو إنسان إلى الصدق هو كاذب، أو إلى الكرم وهو بخيل .. الخ)؛ فلذلك فادعُ واستقم کما أُمرت..

٣-الصبر:

الداعية يحتاج إلى صبر على الناس؛ فالناس أصحاب أمزجة شتى، وعيوب شتى، وطبائع شتى، وحاجات شتى، ومصالح مشتى، والناس مشاكلهم وهمومهم كبيرة، يحتاجون إلى من يتسع لهم، وهذا يحتاج إلى صبر طويل. إن الداعية بحق هو الذي يعيش لغيره لا لنفسه، وتهمه سعادة الآخرين ولو على حساب سعادته.

٤-الحلم والرفق:

يجب أن يكون الداعية حليماً على الناس، رفيقاً بهم، فالناس يمقتون العلف وأصحابه، وينفرون من القسوة وأهلها، {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، ومن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم موقفه من الأعرابي الذي جذب رداءه وقال له: أعطني من مال الله الذي عندك؛ فالتفت النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وضحك ثم أمر له بعطاء.

٥-التيسير لا التعسير:

معالجة الأمور باليسر والتيسير لا بالعسر والتعسير، على قاعدة: (سيروا على سير أضعفكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى).

٦- التواضع وخفض الجناح:

فالكبر يشكل حاجزاً وجداراً بين الداعية والناس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد"

٧-طلاقة الوجه وطيب الكلام:

فالوجه هو عنوان الداعية، والمرآة التي تعكس نفسيته وأعماله، فإن كان مبتسماً أوحى بالبشر والخير، وإن كان مكشراً أوحى بالشر والجفاء، فكلام الداعية هو وسيلة الاتصال بالناس، ووسيلة للتعبير عن المعانى؛ فإن كان الداعية قادراً على انتقاء الكلام الطيب والتعبير الحسن، كان قادراً على كسب قلوب الناس والولوج إلى ذواتهم ونفوسهم.

٨-الكرم والإنفاق على الناس:

فالكرم والسخاء والعطاء، دليل أكيد على كرم وسخاء وعطاء نفسه الإنسان، والبخل والحرص والشح، دليل على بخل وشح النفس؛ فالإنفاق على أصحاب الحاجة من (الفقراء المساكين - والأيتام - الخ) لا يمكن أن يتحلى بها البخلاء.

٩-خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم:

إن الدعوة والداعية يجب أن ينتقلا نقلة نوعياً تجعلهما يعيشان هموم الناس، (من بات ولم يهتم بأمر المسلمين؛ فليس منهم)، والمشي في حاجات الناس أمور به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام بما يستطيع هو المطلوب.

الاستيعاب الداخلي:

هو القدرة والأهلية على الاستيعاب ضمن الدعوة وفي صفوفها سواء كان ذلك من قبل القيادة أو الأفراد. فإذا كان الاستيعاب الخارجي، يحقق استيعاب الناس إلى الإسلام، فإن الاستيعاب الداخلي يحقق حسن الاستفادة من هؤلاء في العمل للدعوة والإسلام، وكذلك فإن عملية تحويل خامة بشرية إلى طاقة موجهة وقدرة فاعلة، لا بد من أن يتم ذلك عبر مراحل الاستيعاب العقائدي والتربوي، ويكون عبر تنقيتهم من الشوائب والرواسب الماضية، وما علق بها من معطيات غير إسلامية، فنصحح عقيدتهم، ونقوم سلوكهم، ونحدد أهدافهم. ونوجه رغباتهم بما يحب الله ويرضيه.

وهذا بمثابة الأساس للبناء كله: صحيح أن الناس يتفاوتون في قدرات العمل والتحمل والالتزام، ولكن هذا لا يصح أن يدفع إلى التساهل في القواعد والأسس التي تقوم عليها الشخصية الإسلامية، ولذا فإن الاستيعاب التربوي يجب أن يكون قوياً متيناً، قائمٌ على إدراك سليم لأحكام الشريعة، ومعالم الحلال والحرام، ومن ثمَّ الالتزام بذلك كله، ولا یکون قائماً على المبتدئين، ومعطلاً عن المتقدمين، لأن المتقدمين أخطر في انحرافهم على الدعوة من المبتدئين. 

ولا بد أن يكون نمط الاستيعاب ملائماً لكل فئة، وأن يغطي المساحة التربوية كلها فكرياً وروحياً، ويجب أن يوزن بموازين الشرع، سوء كان في العزم أو الرخصة أو غيرهما.

* سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في تكوين المسلم:

لقد بينت السنة النبوية الشريفة نهجاً فريداً في تكوين الفرد، بما يتناسب مع کمال المنهج الإسلامي، والفطرة التي فطر الله الناس عليها، فسنة النبي صلى الله عليه وسلم تنظر للإنسان كإنسان، وتعامله كإنسان متکامل الميول والنوازع والحاجات؛ فهي لم تتعامل معه كملك لا يخطئ، ولم تتعامل معه كحيوان لا يميز.

قواعد أساسية من السنة:

١- تغليب الايجابية على السلبية:

 فقد كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم حرباً على السلبية والجمود والتقوقع والرهبانية من أول يوم؛ فدعوة الإسلام حيّة متصلة؛ ولذا نجد من المسلمين من فهم الاسلام فهماً ضيقاً دفعهم إلى تعطيل طاعة الفرد، بجحة العزوف عن الدنيا، ومنهم من اعتزل الناس، ومنهم من دفعه غلوه إلى الامتناع عن الصلاة في المساجد بحجج واهية، وهذا يصطدم مع طبيعة الاسلام الحركية، وإنما المطلوب أن تسير الدعوة على قاعدة (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم).

٢- تغليب الاعتدال على التطرف:

 وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغلو والتطرف؛ فقال: (هلك المتنطعون)، وقال: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق)، وقال: (خير دينكم أيسره)، وقال: (إن الدين يسر).

٣-قليل دائم خير من كثير منقطع:

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على المداومة والاستمرارية في أعمال الخير والبر، مهما كانت ضئيلة؛ لأنها بذلك تكون أصيلة ومتأصلة، وفي مقدور الإنسان أن يقوم بها من غير عناء، وفي كثير من الأحيان تكون الالتزامات القاسية عبارة عن ردة فعل لا تدوم. وقد تتلاشى، وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "أدومها وإن قل".

٤-السنة وتغليب الأولوية في التكوين:

وهذا يعني تقديم الأهم على المهم، يقول تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا}، وقال جل شأنه: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من اتقى}.

٥-التكوين من خلال القدوة:

ولا شك أن تكوين الشخصية الدعوية من خلال القدوة أمر معتبر؛ لأن الحال أوقع في القلب من لسان المقال، قال تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير قدوة وأسوة للعالمين.

٦- التكوين الكلي لا الجزئي:

ومن خصائص الأسلوب النبوي في تكوين الفرد (الكلية لا الجرئية)، وقد اهتمت السنة النبوية في تكوين الشخصية الإسلامية في جميع جوانبها: (العقل - الجسد -الروح..الخ)؛ ففي تكوين العقل، قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وفي تكوين النفسية الإسلامية أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن لا يميت الناس القلوب بكثرة الطعام والشراب، لأن القلب كالزرع، يموت إذا كثر عليه الماء، وقال صلى الله عليه وسلم: (روحوا عن القلوب ساعة فساعة)، وفي تكوين الجسد، قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).

٧-سلامة البيئة في التكوين:

وذلك من خلال ابيئنة البيتية أو العائلية، والتي تعتبر المحضن الأول، والتربية في هذه المرحلة من مسئولية الأبوين، ويمكن في هذه المرحلة غرس القيم من خلال التربية العملية والنظرية، وفي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة..).

بالإضافة إلى حسن اختيار الأصدقاء؛ لخبر: (المرء على دين خليله)

كذلك لا بد من تنظيم المجتمع، وتنقيته من عوامل الفساد، درءاً للمفاسد، وذلك يساعد الفرد على الاستقامة - وكما جاء في المثل: درهم وقاية خير من قنطار علاج".

٨-أثر الثواب والعقاب في التكوين:

قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}، فالعقاب يكون عند استيفاء كل أسباب الإصلاح، وعند الضرورة القصوى.

٩- الاستيعاب الحركي:

هو الاستفادة من طاقات الأفراد لتكون كثيرة الأثر؛ فينفع الله بها المجتمع والمسلمين.

أولاً: ما يتعلق باستبعاب الحركة لأفرادها:

وهو الشرط الأول والأساسي لنجاحها؛ لأنها تستفيد من جميع الطاقات والإمكانيات. 

فما هي الشروط التي تمكن الحركة من استيعاب أفرادها واستغلال جمیع طاقاتهم:

١- أن تكون قد نجحت في البداية في عملية التكوين ومرحلة التربية.

٢-ان تكون قد اكتملت لديها الطاقات والإمكانيات لعملية الاستيعاب كالقدرات التربوية والتخطيط والقدرات الفكرية - الخ 

٣-أن تعرف حقيقة أفرادها، وتعرفهم حق المعرفة، وتكتشف طاقاتهم وميولهم، ومواطن القوة والضعف منهم. 

٤-أن تقوم بتجنيد كافة أفرادها للعمل وليس جزءاً منهم. 

٥- أن توظف القدرات بشكل جماعي وليس فردي.

ثانياً: ما يتعلق باستيعابها، هي:

إن الدعوة قيادة وأفراد بحاجة إلى الاستيعاب الحركي والقيادة يجب أن تكون مُعنيّة قبل غيرها بذلك عن طريق ما يلي: 

١- الاستيعاب الصحيح للأهداف والوسائل، فكل لبس أو تشوه في التصور أو الأهداف ينشأ عنه خلاف، وتباين في الآراء. 

٢- الاستيعاب الكامل والصحيح للتنظيم وطبيعته؛ فعدم الوضوح يؤدي إلى عدم معرفة الحقوق والواجبات، وإذا حددت صلاحيات فرد أصبح من الخطأ تجاوزه.

ثالثاً: الاستيعاب الكامل لطبيعة الأصدقاء والأعداء؛ فمن الخطأ عدم معرفة ذلك. 

رابعاً: الاستيعاب الكامل لمختلف جوانب العمل وطبائعه واحتياجاته. 

خامساً: عدم الاستنكاف عن مخالطة الناس، وإلا تكون أمام خيارين: 

-أن تبقى الدعوة دعوة لأصحابها قاصرة عليهم، صالحین غیر مصلحين.

- أن تكون الدعوة للناس كل الناس؛ لتحمل شعار الهداية للجميع.

الداعية الناجح هو الذي يعرف كيف يبدأ، ومن أين يبدأ، مع ضمان الوصول للنتيجة التى ترضى الله ورسوله، قال تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}، أو أن نكون نحن أصحاب الرسالة الخالدة وهي رسالة الاسلام.

كتب فتحي يكن

۱ - الإستيعاب في حياة الدعوة والداعية. 

٢- أبجديات التصوّر الحركي للعمل الإسلامي. 

٣- الإسلام فكرة وحركة وانقلاب.

 ٤ - الإسلام والجنس. 

٥- حركات ومذاهب في ميزان الإسلام. 

٦- الشباب والتغيير.

۷ - العالم الإسلامي والمكائد الدولية. 

٨- قوارب النجاة في حياة الدعاة.

٩ ـ كيف ندعو إلى الإسلام. 

١٠ ـ ماذا يعني انتمائي للإسلام. 

۱۱ - مشكلات الدعوة والداعية .

۱۲ - نحو حركة إسلامية عالمية واحدة




السبت، 24 يونيو 2023

اللآلئ البهية شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية تأليف أحمد بن عبد الله المرداوي الحنبلي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

اللآلئ البهية شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية

تأليف أحمد بن عبد الله المرداوي الحنبلي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: هذا شرح أنيس لنظم نفيس، من بحر الكامل؛ وهي لامية ابن تيمية في بيان مجمل أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، شرحها العلامة أحمد بن عبد الله المرداوي الحنبلي، في كتابه الذي سماه (اللآلئ البهية)، وهو أول شروحها التي اطلعنا عليها، وانتهى منها ضحوة نهار الثلاثاء، من سنة ١٢٦٣ هـ، والمرداوي نسبة إلى قرية (مردا) قرب مدينة نابلس في فلسطين، وقد تُلفَظ (مرداء)، وهي قرية خرج منها علماء وفقهاء ومحدثون، وأكثرهم إن لم أقل كلهم حنابلة. وأكثرهم بالشام ويلقبون كذلك بالمقادسة.

وعلوم المؤلف وثقافته تشبه إلى حد ما ثقافة الحنابلة المتأخرين، خاصة في القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر للهجرة. فكان ينقل كثيراً عن متأخري الحنابلة، وكان له ميل للتفويض في الأسماء والصفات، يظهر ذلك في بعض الصفات الخبرية، وهذه مسلك سلكه بعض متأخري الحنابلة، وكذلك أكثر من استخدام الروايات الضعيفة والمنكرة، وهذا يدل على قلّة بضاعته في الحديث، وغير ذلك من الأمور التي تبين شخصية الشارح.

وهذا لا يعني أنه اتجه بكليته إلى مذهب التفويض؛ فقد أطال الحديث عن صفة الاستواء، وبين أن المراد بها العلو الذاتي لله تعالى،  

وبيّن -رحمه الله -أن مذهب السلف هو المذهب المنصور والحق الثابت المأثور، وأهله هم الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، التي هي بكل خير ،فائزة، من الشفاعة، والورود على الحوض، ورؤية الحق، وغير ذلك من سلامة الصدور، والإيمان بالمقدور، والتسليم لما جاءت به النصوص.

ومن المحال أن يكون الخالفين أعلم من السالفين كما يقول بعض مَنْ لا تحقيق لديه - ممن لا يقدر قدر السلف. ولا عرف الحق حق المعرفة: (أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم)، وهؤلاء إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بالصفات دون معرفة معانيها، والحق أنهم عرفوا معانيها، وتوقفوا في كيفياتها.

وقد اعتمد -رحمه الله -في شرحه على عدد من كتب أهل السنة، منها: (الإبانة في أصول الديانة) لأبي الحسن الأشعري، و(لوامع الأنوار) للسّفاريني، و(فضل علم السلف على الخلف) لابن رجب، و(زاد المسير) لابن الجوزي، و(العرش) للذهبي، و(الفصول في الأصول) لمحمد بن عبد الملك الكرجي، و(طرف الطرف في مسألة الصوت والحرف)؛ لأحمد بن عوض المرداوي الحنبلي، و(فتح الباري) لابن حجر، و(البرهان في حقيقة القرآن) لابن قدامة، و(أقاويل الثقات) لمرعي بن يوسف الحنبلي، و(الغنية) لعبد القادر الجيلاني.

 بالإضافة إلى عدد من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، مثل: (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)، و(الفتاوى المصرية)، و(قاعدة في القرآن)، و(الحموية)، و(التدمرية)، و(التسعينية)، كذلك بعض كتب ابن قيم الجوزية (كالنونية)، و(حادي الأرواح)، و(مفتاح دار السعادة).

كما استعان المؤلف بكتب أخرى نقلاً عنها مباشرةً أو بواسطة، مثل: (قواعد الاستقامة والاعتدال) للطوفي، و(عقيدة الشيباني الشافعي)؛ لابن قاضي عجلون الشافعي، و(البدور السافرة) للسيوطي، و(القول السديد في حرمة الاجتهاد ووجوب التقليد) لحسين الدوسري، و(السيف المشهور في عقيدة الأستاذ أبي منصور) للتاج السبكي في كتابه السيف، و(شرح مسلم) للنووي، فهذه هي الكتب التي ذكرها المؤلف وبعضها نقل منه مباشرة.

والسلف رحمهم الله أثبتوا الصفات ومعانيها

والأدلة على ذلك كثيرة منها:

١. يبين ابن تيمية مذهب السلف يظنون أن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها أنه لا يفهم أحد معانيها لا الرسول ولا غيره فيجعلون مضمون مذهب السلف أن الرسول بلغ قراناً لا يفهم معناه بل تكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها وأن جبريل كذلك وأن الصحابة والتابعين كذلك وهذا ضلال عظيم.

٢. إن الله تعالى قد أمر بتدبر كتابه؛ فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29) ولم يقل بعض آياته وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (النساء: 82)، وأمثال ذلك من النصوص التي تبين أن الله أمر الناس أن يدبروا القرآن كله ومحال أن يكون ذلك مما لا يعلم معناه. 

٣. عندما سئل الأمام مالك عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فأجاب: "بأن الاستواء غير مجهول، والكيفية غير معقولة، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

قال الإمام ابن تيمية - رحمه الله - : قوله: (الاستواء غير مجهول): موافق لقول القائلين أمروها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول فإن الإستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم. 

وأيضاً : فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات وأيضاً: إن من ينفي الصفات الخبرية أو - الصفات مطلقاً - لا يحتاج إلى أن يقول بلا كيف فمن قال إن الله على العرش لا يحتاج أن يقول بلا كيف فلو كان مذهب السلف نفي الصفات . في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف.

شرح لامية ابن تيمية عبد الكريم بن عبد الله خضير

ومن الشروحات المنتشرة للامية شرح الدكتور عبد الكريم الخضير، وأصل هذا الشرح دروس ألقيت على الطلاب، وتم تفريغها في هذا الكتاب، وتحدث فيها عن عدة قضايا، أهمها:

أولاً: ابتداء الناظم بالبسملة دون الحمدلة والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.

ثالثاً: أهل الذكر الذين يجب سؤالهم، والرد على المتصوفة في تنزيل الآية عليهم.

رابعاً: العمل مطلوب، وهو الذي يعين صاحبه على تحصيل العلم.

خامساً: بيان الطريقة الصحيحة للتفقه في الدين، سيما في الفروع.

سادساً: الحذر من الاستماع إلى أهل البدع.

سابعاً: تجنب الألفاظ المجملة في العقيدة.