أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 23 مارس 2021

شرح أحاديث تفريج الكرب وحصول العافية -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


شرح أحاديث تفريج الكرب وحصول العافية

أ. د. سلمان بن نصر الداية

عميد كلية الشريعة والقانون- الجامعة الإسلامية


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الجزء يتضمن إشراقات نبوية عظيمة، يتجلى فيها الدُّعاء الخالص لله عز وجل، في كشف كربات المسلمين، والكربة هي كل ما يدهم الإنسان، ويأخذ بنفسه فيُحزنه، ويُغمَّه، وإذا قابل الإنسان بين ضيق الكرب وبين لذَّة الدعاء بهذه الكلمات، وما تضمنته من جليل الأوصاف لله عز وجل، وجدنا أن هذه الأدعية في غاية المناسبة لخروج كل كربٍ يهجم على القلب، حيثُ لم يبقَ للهمِّ طريقٌ ولا منفذ، فتخرج صاحبها من ضيق النفس وظلمة الفتن إلى سعة السرور والبهجة.

 وإن كان من كلمةٍ في هذه الأدعية؛ فهي كما يقول الإمام الصنعانيُّ رحمه الله في"التنوير": "وهذه الأدعية الشريفة التي أرشد إليها صلى الله عليه وسلم طبيب القلوب، ورسول علّام الغيوب، هي الأدوية النافعة، والمراهم القاطعة الناجعة، قد اشتملت على التوحيد، وإثبات الربوبية، والتحقُّق بالعبودية، واجتثاثٌ لشجرة الغفلة من أرض القلب".

فإن قيل: إن بعض هذه الأدعية هي ذكرٌ لا دعاء ؟، فالجواب أنه: 

  • إما أن تكون ذكراً يُستفتح بها الدعاء.

  • أو تكون كما ورد: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين)/حسن، رواه البيهقي/.

ولا شكَّ أن من يدعو بهذه الكلمات وقد تملكه التجرُّد من الحول والقوة، وأعلن لله مسكنته وضعفه أمام الله عز وجل، مع حضور قلبه وانكسار نفسه، إلا استجاب الله له دعاءه بها، وكشف عنه كربه في الدنيا، ورفع له الدرجات في العُقبى.

وأقول أيضاً (محمد): كلما قلبت صفحات هذا الكتاب المبارك، وجدتُ نفسي أمام كنزٍ ثمين، وغذاء سمين، وأنّ الكتاب يدور ما بين النفائس والدُّرر، قلما يحظى الطلبة بمثلها في غيره من الكتب، وأزعم أن فيه من فوائد العلماء وحكمة الفضلاء، ما يُزعج القلب إلى حفظ هذه المعاني، وشدَّةِ الاعتناء بها، وقد أبهجتني جداً هذه الفوائد، حتى تمنيتُ أن تُكتب بخيوط الذهب، وسُررتُ بها سروراً عظيماً، والحمد لله على تمام النعمة والمنة والفضل.

وهذا الكتاب يتضمن اثني عشر حديثاً في تفريج الكروب، وفي ذيل كل حديث شرحه على طريقة الفوائد، فيذكر ما فيه من المعاني الإيمانية الجليلة، ودرر العلماء عقب كل حديث، وهي على النحو التالي:

الحديث الأول،  وفيه عشر فوائد. 

انقر هنا

الحديث الثاني، وفيه ستُّ فوائد. 

انقر هنا

الحديث الثالث، وفيه أربع فوائد. 

الحديث الرابع، وفيه خمس فوائد. 

الحديث الخامس، وفيه ثلاث فوائد.

الحديث السادس، وفيه ثمانية فوائد.

 الحديث السابع، وفيه اثنتي عشر فائدة.

 الحديث الثامن، وفيه ثلاثة عشر فائدة.

 الحديث التاسع، وفيه ثمانيةَ عشر فائدةً..

الحديث العاشر، وفيه إحدى عشرة فائدة.

 الحديث الحادي عشر، وفيه ست فوائد.

الحديث الثاني عشر، وفيه ثلاث فوائد.





الأحد، 21 مارس 2021

تحفة الاعتقاد = متن مختصر في صحيح العقيدة وبيان ما يُخالفها -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تحفة الاعتقاد

متن مختصر في صحيح العقيدة وبيان ما يُخالفها

تأليف: إسلام محمود دربالة

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ إن الكلام في العقيدة الصحيحة ليس تضييعاً للوقت كما تدَّعي بعض التنظيمات الإسلامية، ولا خروجاً عن مألوف الطبيعة والفطرة، بل هو تجديدٌ لما وقر في النفوس من تعظيم الله عز وجل، ومحبة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن أجل ذلك فإن كل ما يُبذل في بيان هذه العقيدة ليس ضياعاً للوقت، ولا معركة في غير مكانها، ولا إهداراً للطاقة وتركاً لقضايا الأمة المصيرية، بل هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، والمعركة التي يجبأن يُبدأ بها، لأن معرفة الرب سبحانه، والإيمان به كما وصف نفسه، والاعتقاد بصفاته التي تليق بجلاله وعظمته كل ذلك من عوامل النصر والتمكين، وهو أوجب الواجبات في الدين، بل هو الدين كله.

ونحن نعيش في هذه الأيام -وفي بلدنا خاصَّة -فتنة كبيرة، ومتغيرات خطيرة تعصف بدين العامة، كعصف الريح العاتية، تمر على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والعالم والجاهل -كقطع الليل المظلم، ولا أحدٌ يُحرك ساكناً، وهذا إن دلَّ يدلُّ على التهاون والتساهل في أمور المعتقد والدين والذي سيفضي في النهاية بهؤلاء الزعماء والقادة بالضمور والانحراف والعياذ بالله.

 وقد رأينا في بلدنا وبلاد المسلمين عامة أحوالاً تتبدل، ونفوساً تتغير، بين عشيّةٍ وضحاها، مع قلة الورع والدين، لا سيما من بعض من يلبسون العمائم ويضعون الطرابيش، فأصبح الدين مظاهر جوفاء على أشكالٍ خربة، ولقد أخبرنا نبينا صلى االله عليه وسلم عن وقوع الفتن وشدة خطرها؛ فقال صلى االله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً ويمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)، ولذلك لابد من الثبات في وجه هذه الفتن.

وهذا متنٌ مختصرٌ نفيس في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، منتزعة من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن فيه مؤلفه: العبادة تعريفها وأنواعها، والدين ومراتبه، والتوحيد وأقسامه، والشرك وأنواعه، والكفر وأنواعه، وأركان الإيمان، وأركان الإسلام، والنفاق وأنواعه.

ثم تحدث عن سيرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن نسبه، وبعثته، وهجرته، وتبليغ رسالة ربه، وتحدث عن عقيدتنا في الصحابة وفضلهم، وعن الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشرين بالجنة، وعن زوجات النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وأتبع ذلك بالحديث عن مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، وكرامات الأولياء، وعن السنة والبدعة، والنصيحة وبراءة أهل السنة من أهل البدع.

خاتمة ونصيحة:

أوصي نفسي وإخواني بالثبات على العقيدة الصحيحة، وهو أعظم أحوال الثبات لا سيما في مسائل التوحيد، والإيمان بالكتب، والرسل، والتصديق بالقدر والمشيئة، والبعث والنشور، وحسن الظن بالله، مهما كانت الشدائد والفتن، مهما تعددت أحوال الابتلاء.

كما أوصي بحفظ هذه المادة، وتدريسها في المساجد والأندية وحلقات العلم والدرس، وإعادة النظر فيها باستمرار.



التحميل: اكتمل تحميل 11151360 من 12224074 بايت.




الجمعة، 19 مارس 2021

الملكة الفقهية عند طالب العلم -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

الملكة الفقهية عند طالب العلم

د. سعد بن ناصر الشثري

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ لا بُد لكل من يخوض في غمار الفقه ويُسابق إلى حفظ متونه ودرس كتبه-من معرفة المبادئ الأساسية التي تقوم عليها دراسة الفقه، وأهمية التدرج في الطلب؛ فيبدأ الطالب بالمختصرات والمتون، ويُدرس كل بابٍ فقهيٍّ على حدة، ولا ينظر في الكتب المطولة إلا عند دراسة مسألةٍ بعينها؛ فيقتصر البحث فيها عليها.

ولا بُدَّ مع ذلك من التمرُّس بلغة أهل الفقه والتعرف إلى مصطلحاتهم، وأدلتهم في كل مسألة من المسائل، ولا بُدَّ من التثبت من أقوالهم، فيما يُعرف بمنهج (التوثيق)، وأسهل الطرق لذلك أن يقرأ الطالب متناً فقهياً مشروحاً، ويُحاول شرحه بلغته الخاصة مرةً ثانية، أو مذاكرة ذلك مع طالب علم أو استاذٍ فقهي، وهذا يُفيده في استحضار الذهن للمسألة، ويساعده على تصورها، ويمنحه القدرة على فهم عبارات الفقهاء، والتعبير عنها بمعنى قريب.

والأهم من ذلك: دراسة الفقه على أيدي النابغين المنتجبين في هذا الباب، مع العناية التامة بفقه السلف والآثار والفتاوى المروية عنهم، والكتب الحديثية لا سيما كتب السُّنن، والآثار، وأحاديث الأحكام.

  وهذه هي الطريقة الصحيحة في تكوين هذه الملكة: نظرياً، وتطبيقياً، ولا بُد له من فهم أدبيات الخلاف، وطرق الترجيح، والمسائل التي لها حظ من النظر والمسائل التي ينبغي تجاوزها، وإذا اجتمع في المسألة قولان أو أكثر ماذا يُرجح؟ كذلك فهم ضرورة التدقيق في مسائل الخلاف، وتصحيح مقولة "لا إنكار في مسائل الخلاف" إلى القول بأنه "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"؛ لأن من الخلاف ما يكون غير معتبرٍ، والمجتهد يخطئ ويُصيب، 

وهذا البحث عبارة عن نظرات عملية في المقومات العلمية، والخطوات المنهجية التي ينبغي اكتسابها والتمرس بها لتحصيل الملكة الفقهية. تلك الملكة التي تؤهل صاحبها؛ لأن يصبح فقيها في الشرع، وقادراً على الإجابة أو المساهمة في الإجابة عن الأسئلة التي ترد عليه في شؤون الناس الخاصة، أو قضاياهم العامة.

والملكة الفقهية: هي مجموع من المقومات المعرفية والمنهجية التي على طالب علم الشريعة أن يكتسبها لتحصيل علم الفقه.

والفرق بين المعرفة الفقهية والملكة الفقهية، أن الأولى يمكن الحصول عليها بالمطالعة، وحضور الدروس والمحاضرات المتعلقة بها، وأما الثانية فلا يمكن إدراكها إلا بالتدرب، والتمرس بمناهج الفقهاء في التأصيل، والتعليل والاستنباط، والتدليل، وأهم ما ينبغي على المؤسسات التي تُعنى بالدراسات الشرعية والفقهية الاعتناء بهذا الجانب والتركيز عليه، واختيار المقررات والموضوعات التي تخدم هذا الغرض.

أولاً: الفقه من حيث مسائله:

أ- مسائل وقعت في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونزل بشأنها آيات، وبيَّن فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحكام هذه المسائل، وهي على قسمين:

  • مسائل واضحة منصوصٌ على حكمها.

  • مسائل قابلة لاختلاف المجتهدين من العلماء في فهم دلالة النصوص.

ب- مسائل وقعت بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي نوعان من المسائل:

  1. مسائل اجتهد فيها الصحابة رضوان الله عليهم.

  2. مسائل اجتهد فيها التابعين رحمهم الله تعالى.

وهذا المسائل التي اجتهد فيها العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم تنقسم إلى قسمين:

1.مسائل اجتهادية يعتبر فيها الخلاف: وهي المسائل التي لم يرد فيها نص (دليل) من الكتاب أو السنة، أو ورد فيها نصٌّ ولكن يُمكن فهمه على أكثر من وجه، والاجتهاد فيها سائغ، ووجوه التأويل فيها محتملة، وهي قسمان: (مسائل اتفق الصحابة على حكمها =الإجماع)، ومسائل اختلف الصحابة في حكمها، مثل: الجمع بين الصلاتين للمطر هل هو خاصٌ بصلاتي: الظهر والعصر، أم يشمل صلاتي المغرب والعشاء؟ وكذلك (الأقراء) هل هي الحيض أم الطهر؟، فهذه المسائل الخلافية بين الصحابة لم تكن خروجاً عن النص، وإنما كان ذلك خلافاً في فهم دلالة النص.

2.مسائل الخلاف فيها غير معتبر: وهي المسائل التي تعارض النصوص وتخالفها؛ فيجتهد برأيه في مقابل الدليل، مثل ما كان ابن عباس يُفتي به في مسألة الربا؛ فيقول: لا ربا إلا في النسيئة، وأن التفاضل في الربويات ليس من الربا (ربا الفضل)، وهذا اجتهاد في مقابل النص، ولا شك أنه غير معتبر. كذلك اجتهاد ابن عباس في إباحة نكاح المُتعة زمناً طويلاً من عمره، ولم يكن يعلم أنه منسوخ.

وحكم هذه المسائل أن الخلاف فيها ضعيفٌ، ولا يجوز الاحتجاج به، وذلك لأمورٍ، منها:  (أ) غياب النص أو الدليل عن المجتهد -من الصحابة.
(ب) أن يكون فهم المجتهد -الصحابي -مخالفٌ لفهم الأكثرين.

  • وأسباب وقوع المسائل المستجدة في عصر الصحابة كثيرة، منها:

  • اتساع رقعة البلاد الإسلامية.

  • مخالطة العرب لغيرهم من الناس والعجم.

  • اختلاف الثقافات والبيئات ما أدى إلى حدوث مسائل مستجدة.

ومن المعلوم أن البيئة الجغرافية والثقافية لأهل مكة والمدينة وأهل الجزيرة عموماً تختلف عن بيئة أهل مصر والشام والعراق وتختلف عن بيئة أهل فارس وخراسان، ومثال ذلك: ظهور بعض الألبسة الخاصة عند دخول الحمّام (بيت الاغتسال) في الشام.

ما هي طريقة الصحابة في الاجتهاد الفقهي؟

وللصحابة رضوان الله عليهم طريقة مميزة في الاجتهاد والاستنباط، حيث كانوا يفهمون دلالة النصوص بطرق مختلفة، منها:

  1.  إدخال مسألة طارئة في (حكم) عام.

  2. الاستدلال بدليل مطلق على مسألة مُقيدة.

  3. الاستدلال بقاعدة عامة دلَّ عليها دليل في هذه المسألة.

ومن القواعد التي استخدمها الصحابة كأسس للاجتهاد قاعدة (رفع الحرج)، و (المشقة تجلب التيسير)، و (الأمور بمقاصدها)، وغير ذلك من القواعد.

  • أسباب الاجتهاد عند التابعين:

وأسباب الاجتهاد عند التابعين كثيرة جداً، لا سيما كثرة الوقائع والأحداث في الأمة، وانتشار الفرق المنتسبة إلى الإسلام، وقد كثرت الفتوى في عصر التابعين بحسب ما استجد من الوقائع.

  • طرق الاجتهاد عند التابعين:

1.أول طرق اجتهاد التابعين هو الاستدلال بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة.

2. إذا اختلفت أقوال الصحابة في مسألة على قولين؛ فإن زيادة التابعي لقولٍ ثالثٍ يُعد ضعفاً، وخلافاً ضعيفاً عند أكثر أهل العلم، لأن القول الثالث يُعتبر فهماً جديداً زيادةً على فهم الصحابة للأدلة، وعليه فقد فات الصحابة فهم الدليل فهماً صائباً، وهذا ممتنع لأن الصحابة كلهم عدول، وهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقهم علماً فهماً.

  • عصر التدوين:

ثم جاء عصر التدوين -زمن أتباع التابعين -ووضعوا الكتب المتعلقة بالفقه والآثار واجتهاد الصحابة، وهي على قسمين: 

أ- كتب أثرية: وهي الكتب الحديثية المشتملة على الأبواب الفقهية، والفتاوى، مثل: (باب الطهارة، وباب الآنية، وباب الصلاة…)، وهي كثيرةٌ، منها: موطأ مالك، ومصنف عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وغيرهم، وكان لها مدرسة معتبرة تُسمى بمدرسة الحديث والأثر، وكان من أبرز روادها: الإمام مالك، والشافعي وأحمد.
ب-كتب الرأي والنظر، وهي التي تعتمد على الأقيسة العقلية، والمبادئ المنطقية، وكانت نشأة هذه المدرسة بالكوفة، وتُسمى مدرسة أهل الرأي والنظر، وكان أبرز روادها: حماد بن أبي سليمان، وإبراهيم النخعي، وأبو حنيفة، وفي المدينة: ربيعة الرأي شيخ مالك وغيرهم.

ولا شك أن مدرسة الرأي والنظر خطأت في جوانب معينة، منها:

أ. اعتبار الأقيسة العقلية أصحُّ من الأحاديث الغرائب والمراسيل.

ب. ردُّ أحاديث الآحاد إذا خالف عندهم قاعدة كلية معتبرة عندهم، باعتبار أن القاعدة قطعية الدلالة، وأحاديث الآحاد ظنية الدلالة.

طريقة أهل الحديث والأثر في النظر إلى المسائل الفقهية:

ينظرون في كتاب الله عز وجل، وأسباب النزول.

ثم ينظرون في كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأقواله، وأفعاله.

ثم في أقوال الصحابة، ويُقدم رأي الخلفاء الراشدين على غيرهم، ويُقدم قول أكثرهم علماً وروايةً وفهماً، ومن له صلة مباشرة بالحادثة على غيره.

ثم في أقوال التابعين.



الخميس، 18 مارس 2021

بدع الجنائز ومحدثاتها -إعداد: الأمين الحاج محمد

بدع الجنائز ومحدثاتها

إعداد: الأمين الحاج محمد


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ للبدعة آثارٌ سيئة كثيرة في الأمة؛ أبرزها: طمس السنن الصحاح ومحوها، وتقديم الاستحسانات العقلية على المحاسن الشرعية، بالإضافة إلى الضلال الذي هو أعظم آثارها، وسرعة انتشارها بين الناس، وقد تواترت عبارات الأئمة والحفاظ في التحذير من الابتداع في الدين؛ كالإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، وقال الفضيل بن عياض: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.

والبدعة في الشرع: هي كل أمرٍ ليس له أصلٌ في الكتاب، أو السنة، ولا أجمعت عليه الأمة، وهي بهذا المعنى مذمومةٌ كلها، بخلاف البدعة اللغوية، وهذه البدع منها هو كُفرٌ بالله عز وجل، ومنها ما هو مُحرَّم غليظ، ومنها ما هو مكروهٌ فعله.

وقد جاءت هذه الشريعة الغراء كاملةً تامةً لا تقبل زيادةً ولا نقصاً؛ فالزيادة في الدين مردودة كما أن النُّقصان ممنوع، وفي هذا الكتاب ذكرٌ لجملةٍ من البدع والمنكرات، التي لا أصل لها في الدين، ولا سند لها من الكتاب والسنة، ويجب على أهل العلم أن ينكررها وأن يبطلوا هذه العادات ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

وقد حذَّرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من البدعة والابتداع في الدين في أحاديث كثيرة، جمعها بعضهم؛ فبلغت بضعة عشر حديثاً، مرويَّةٌ عن أربعة عشر صحابياً، وهم العرباض بن سارية، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، جرير بن عبد الله البجلي، وأبي هريرة، وأبي جحيفة، وحذيفة بن اليمان، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، وبلال بن رباح، ورفاعة بن رافع الزرقي، وخُبيب بن عدي رضوان الله عليهم أجمعين.

ومن أشهر هذه الأحاديث، قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي روايةٍ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقوله: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة).

ومن البدع التي نُهي عنها في الجنائز: النعي المُحرَّم: 

وهو الإعلام بموت الميّت بقصد الشُّهرة والمفاخرة والمباهاة كما يفعله كثيرٌ من المبتدعة من النداء في المآذن وعند أبواب المساجد، وفي الإذاعات، وفي الأسواق، وفي الطرقات، وفي وسائل الإعلام (المسموعة، والمرئية، والمشاهدة)؛ ويُنادى في الناس: أن فلاناً مات.

وهذا بخلاف النعي الجائز وهو إعلام الأهل، والإخوان وأهل الفضل كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع النجاشي، حين صلَّى عليه صلاة الغائب.

  • لطم الخدود، وشقِّ الجيوب، ورفع الصوت بالبكاء والعويل: 

وفي هذا العمل إظهارٌ الجزع، والتسخط من قدر الله وقضاؤه، والسنة: أن يحمد الإنسان ربه، ويسترجع، ويذكر أنه لا مُصيبة تعدل فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا بأس بالبكاء بالدمع من غير نواحٍ ولا صياح كما في حديث وفاة إبراهيم، وأن الصبر الذي يُثاب عليه المرء عند الصدمة الأولى.

روى الشيخان، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تلطم الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية).

روى مسلمٌ، عن أبي مالك الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الاحساب، والطعن في الانساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب).

وروى مسلمٌ في "صحيحه" عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنايحة على الميت).

  • ومن البدع أيضاً:

والتعزية زيادةً على ثلاثة أيام، فالتعزية في أصلها سُنَّةٌ مُستحبة ثلاثة أيامٍ للحضر، ويُكره الزيادة عليه، وتحصل بأيِّ لفظٍ ليس فيه مخالفة شرعية، وأما الكافر فلا يُترحم عليه. 

ومن البدع، قول المُعزِّي: الفاتحة! سواءً قرأها أو لم يقرأها.

ومن البدع، قول المُعزِّي للمُعزَّى: البقيَّة في حياتك! أي ما بقي من عمر هذا المتوفى يُضاف إلى حياتك وهذا شائعٌ في مصر. 

ومن البدع، التحدث في أمور الدنيا والضحك في أثناء التشييع، فهذه بدعةٌ مذمومة؛ فعلى المشيِّع للجنازة مراعاة تلك الحالة في العبرة والعظة، ورعاية شعور أهل الميت المحزونين.

ومن البدع، التأذين والإقامة عند إدخال الميت في حفرته.

ومن البدع، التأبين بعد الدفن بإلقاء الخطب الرنانة، والمبالغة في مدحه والثناء عليه، وقد يقع في ذلك مبالغات كثيرة وكبيرة.

ومن البدع، تكلُّف أهل الميت صُنع الطعام للمُعزّين.

ومن البدع، استئجار المقرئين والوعاظ أو تشغيل القرآن أثناء التعزية.

ومن البدع، اتباع النساء للجنائز، وذلك لاختلاط الرجال بالنساء.

ومن البدع، اتباع الجنازة بالتهليل والتكبير وضرب الطبول، أو إنشاد الأناشيد أو المدائح ونحو ذلك.

ومن البدع، تأخير الجنازة لغير عُذرٍ شرعي، ولا بُدَّ من تحقُّق الموت.

ومن البدع، نقل الميت من مكان لآخر من غير عُذرٍ شرعي؛ فلا يجوز نقلهم حتى ولو كان إلى بقعة مُشرفة كمكة والمدينة وبيت المقدس.

ومن البدع، اعتقاد أن القبر مُظلم حتى يُطعم عن الميت.

ومن البدع، تقديم الدُّخان للمُعزين.

ومن البدع، ختم العزاء بخطبة (رفع الفراش)!! والتي تتضمن تزكية الميت وإطرائه والمبالغة في مدحه، واتهام من لم يفعل ذلك بالتقصير، والسنة: هو الدعاء للميت بظهر الغيب.

ومن البدع، نشر صور المتوفى في الصُّحف والمجلات ومواقع التواصل، وشكر المُعزِّين، وإعادة نشر هذه الصور بصورة متكررة وهذه بدعة سيئة.

ومن البدع، إقامة حفل تأبين بعد وفاة الميت بأربعين يوماً أو بسنة، ويُقدم فيها المرثيات والخطب والثناء على الميت.

ومن البدع، حوليات شيوخ الصوفية، وهي من الوسائل التي يُمارس فيها الشرك الأكبر من الدعاء والنذر والذبح للميت، وتصرف فيها أموالٌ كثيرة.

ومن البدع، تكبير صورة الميت وتعليقها في البيت وعلى أبواب المحلات.

ومن البدع،  إحداد المرأة على غير زوجها أكثر من ثلاثة أيام.

ومن البدع، الوقوف لمدة دقيقة لأرواح الشهداء، وتنكيس الأعلام لذلك، وإعلان الحداد عليهم وعلى غيرهم من الزعماء.

ومن البدع، بناء النُّصب الأصنام للجنود المجهولين، وزيارة هذه النُّصب والأصنام، ووضع أكاليل الزُّهور عليها.

ومن البدع، بناء الأضرحة والعتباب وايقاد السُّرج عليه، واتخاذها عيداً يعتادها الناس من وقتٍ إلى آخر، والكتابة على القبور (انظر إحصائية القباب والأضرحة في العالم الإسلامي، ص 30). 

وقد روى البخاريُّ في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).








الثلاثاء، 16 مارس 2021

حول كتاب = أبو حامد الغزالي بين مادحيه وقادحيه -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

مقال حول كتاب = أبو حامد الغزالي بين مادحيه وقادحيه

(450 -505 هـ)

د. يوسف القرضاوي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

 

تمهيد/ يعتبر أبو حامد الغزالي إحدى الشخصيات القلقة في تاريخنا الغابر، وهو أحد من اجتمع فيه العقل والفهم والذكاء، فكان من أذكياء العالم، ولكنه في ذات الوقت كان يحمل نفساً قلقة، وعقلاً ثائراً، فكان فكره غير ثابت، ولم يستقر على حالةٍ واحدة؛ بل دخل في أمورٍ كان عليه ألا يخوض غمارها، واستحسن أموراً لم تكن حسنةً في ذات الأمر، بل كان دخوله فيها سبباً لانتقاده الكثير والكبير من قبل العلماء، فتعمق في الفلسفة حتى قيل فيه: "أمرضه الشفاء" أي شفاء ابن سينا، وخاض في معارف المتصوفة ووضع كتابه "الإحياء" في محاولة منه لأن يكبح جماح القوم ويردَّ غلواءهم، لكنه أُصيب برذاذ شطحهم، فلم يسلم له حاله من هذا المرض الفتاك "التصوف".

وقد عاش الغزالي تناقضاً مستمراً في داخله بين طريقي الفقه والتصوف؛ بحيث يصعب معالجة التصوف بأحواله المناقضة للشرع، والتي لا يمكن أن تتواءم مع مطالب الدين والحاجات الدنيوية، ولكنَّ شيئاً ما جبذه إلى التصوف؛ فخضع للطرف الأبعد، وأغرته بعض المعارف العقلية والحالات النفسية إلى أن يسلك طريق التصوف، وكان نتاج ذلك عثراته المتتالية والمتناثرة في كتبه المطبوعة، وأخطر ما يؤخذ عليه فيها هو قوله "بالكشف" الذي هو علمٌ مشتملٌ على السحر والكهانة والتعامل مع الجان، ولكنَّه صرح بأنه لا يجوز إيداع ذلك في الكتب، بحجة أنها أسرار!!.

وما نقله هو عن أسرار هذا الكشف، مُقرراً له بما يُنسب لـزين العابدين –ولا يصحُّ عنه:

يا رب جوهر علمٍ لو أبوحُ به ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

وهذا يُفيد ويُنبي بأن ثمَّة أسرار تناقض مفردات الشرع المعروفة، بحيث لو أفصح عنها، لحُكم عليه بالردة، واستبيح دمه.

ومع ذلك فإن الغزالي بتصوفه العقلي وفلسفته الوليدة هي تجربة واحدة لا يُمكن تعميمها، وحقها أن نعاملها كدراسة حالة، لأن آراءه في هذا الباب غير منضبطة وبالتالي لا يُمكن اعتمادها أو الركون إليها، بالإضافة إلى ما كان عليه من الأشعرية المتعصبة ومذهبه في تأويل الصفات، ونظرته الخاطئة الداعية إلى إهمال الحياة المادية من أجل الاستغراق في اللذات الروحية.

ولكنه بحكم شهرته وذيوع صيته، كان أيقونةً صعبة، لها تأثيرها العميق الممتد من القرن الخامس الهجري إلى وقتنا الحالي، ولن ينتهي الجدل الدائر حوله، ما دام أن هناك من يعتقد إمكان الاستفادة من تراث الغزالي بعد تنقيته تماماً من الشوائب الكثيرة والكبيرة العالقة فيه.

والغزالي كغيره من الشخصيات البارزة التي تعرضت للنقد في جوانب معينة من شخصيته وسلوكه وكتبه ورسائله وآرائه، وبالطبع تفاوتت آراء النُّقاد فيه، وتباينت مناهج النقد ما بين غالٍ ومتوسط ومتهاون، كل ذلك تبعاً لاختلاف الطرق والأذواق.

ولم تكن الأذواق وحدها هي المتحكمة في تقييم شخصية الغزالي، ولكن تناقضات الغزالي المستمرة في كتبه كانت سبباً رئيساً لتوجيه سهام النقد إلى عقلية الغزالي المتناقضة واعتقاداته المتضاربة، ومن ذلك قوله بإنكار البعث الجسماني واللذة الحسية في بعض كتبه مثل "ميزان العمل" والذي نسب فيه هذا القول إلى شيوخ الصوفية والإلهيين، وأن النعيم واللذة والألم هي للأرواح فقط، ويقول في "المنقذ" هذا هو اعتقاد الصوفي، بينما يقوم بتكفير من ينكر البعث الجسماني في كتبه الأخرى كـ "التهافت"، ولا شكَّ أن إنكار حقيقة البعث الجسماني كفرٌ وضلال؛ لأنه مُنافٍ لمبادئ القرآن الكريم.

ولنا أن نتساءل كما يقول الدكتور سليمان دينا في كتابه "الحقيقة في نظر الغزالي": كيف كان الغزالي يُكفر الفلاسفة في الظاهر ويتبعهم في الباطن؟

وقد أدى هذا التعارض البيِّن ببعض دارسي الغزالي إلى القول بأن له مذهبان:

المذهب الأول: (للعوام)، وقد أودعه في كتبه مثل "التهافت".

المذهب الثاني: (للخواص)، تبع فيه مذاهب الفلاسفة، كما في "معارج القدس"، وغيرها.

ولا شك أن الغزالي هاجم الجانب الإلهي من الفلسفة، والتي يُراد منها إخضاع الدين للعقل؛ وبالطبع لم تمت الفلسفة بنقد الغزالي لها، وإنما تقلصت مساحتها وسلطانها، وفقدت ما لها من كيان وموقع في قلوب كثيرٍ من أبناء عصره، والحقيقة أن كل ما يملكه الفلاسفة من العقل هو قياس الشاهد على الغائب، والمحدود على غير المحدود، وهو قياسٌ مرفوضٌ تماماً، فهي من هذا الوجه شيءٌ يُشبه الخرافة، ومجازفة غير مضمونة، وهذا لم يمنع من ظهور فلاسفة كبار أمثال ابن باجه، وابن رشد، وابن طفيل، وغيرهم من الفلاسفة.

وفي المقابل لم ينكر الغزالي الفلسفة في طريقة النقد والبناء العقلي، الذي لا يتعارض مع الدين، فقد أعاد للإنسان المسلم تفكيره الحر القائم على أسس إسلامية صحيحة نسبياً، بدلاً من أن يُفكر بمنطق أرسطو وأفلوطين.

ومعلومٌ أن الفلسفة وحدها لا تُنمي المجتمعات، ولا تنهض بالأمم، وإنما الحياة والنهوض والتقدم الحقيقي يكون بالإيمان، والأخلاق، والعلم، وطريق ذلك بالنسبة لنا هو الرجوع إلى النبع الصافي والمحجة البيضاء التي تركنا عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أبواب السلوك والاعتقاد والعبادة.

كذلك تقصير الغزالي في علم الحديث، أدى به إلى السقوط المدَوِّي في أحابيل الأحاديث الواهية والموضوعة والضعيفة جداً، والتي يذكرها أحياناً بصيغة الجزم، حتى وصفه ابن الجوزي بأنه "حاطب ليل"؛ لأن نشأته العلمية الأشعرية كان يغلب عليها الطابع العقلي الجدلي، بحيث لم تترك علوم المنطق والجدل مساغاً لعلم الحديث، وقد اعترف الغزالي نفسه في كتابه "قانون التأويل" بأن بضاعته مزجاةٌ في علم الحديث، ولا يُقال إن ما انتقده ابن الجوزي عليه هو نفسه منتقدٌ فيه، لأن موضع البحث هو الغزالي نفسه، ولو أن الغزالي اقتفى علم الحديث ودرسه بشكل أكبر؛ لتغير مسار تفكيره بالكلية.

على أن كتاب "الإحياء" للغزالي لقي خدمةً علمية جليلة من الحافظ زين الدين العراقي، والذي قام بتخريج أحاديثه تخريجاً موجزاً طُبع معا حاشية الإحياء، والمسمى (المغني عن حمل الأسفار، بتخريج ما في الإحياء من الأحاديث والأخبار)، فمن الواجب مراجعة أحكام العراقي عند النظر في أحاديث الكتاب.

ومما انتُقد على الغزالي –على ذكائه المُفرط في الفلسفة: أنه كان يستلب أفكار غيره دون أن ينسبها إلى أصحابها، هذا مع أنه عاب هذا في كتابه "الإحياء"، وعدَّه من السرقة المُحرَّمة، لكنه مارس هذا الأمر بطريقة غير مُبررة، وقد نقل عن عدد من الكتب منها: (الذريعة) للراغب الأصبهاني، و(القوت) لأبي طالب المكي، و(الرعاية) للمحاسبي، وقد نقل جُلَّه، حتى قال الكوثري: إن الغزالي تبطَّنه في إحيائه، فكانت هذه الأفكار بالنسبة للغزالي ملكاً شائعاً، ولكن الأمانة العلمية تقتضي أن لو أشار إلى ذلك.

يُضاف إلى ذلك كله موقفه السلبي أمام الأحداث العظام والكوارث الضخمة التي مرت بهذه الأمة، حيث احتلال الصليبيين لبيت المقدس، وقتلهم ستين ألفاً من أهله في عشية واحدة، ومن العجيب حقاً أن الغزالي لم يُشر إلى هذه الأحداث بالمطلق، ولا أظهر اهتماماً بها، ولا شك أن هذا منه يُعد تقصيراً كبيراً في المصلحة العامة للمجتمع بل للأمة، وهو موقفٌ يحتار أمامه ذوي الألباب.

كذلك كان الغزاليُّ مسؤولاً بطريقةٍ ما عن التخلف الحضاري والعلمي في وقتٍ ما لهذه الأمة؛ إذ هو أول من دعا إلى التقليد والجمود على أقوال السابقين في الفروع الفقهية، وإغلاق باب الاجتهاد تماماً، وكان هذا من أسوأ المواقف العلمية التي تغلق منافذ التفكير، وتعارض الفقه في أهم مميزاته وخصائص وهي "المرونة"، وصلاحيته لكل زمان ومكان، وما كان أفول شمس الحضارة الإسلامية إلا بمثل هذه الدعوات التي نقلتها من المقدمة إلى المؤخرة، ومن الابداع والاجتهاد إلى الجمود والتخلف.

كذلك انتقد على الغزالي بعض الكتب التي نُسبت إليه، والتي فيها الترويج للباطل والمذاهب المنحرفة، وكان ذلك في مرحلة مبكرة من حياته، وقد كان بوسعه أن يتبرأ منها، ولكن لم يُنقل ذلك عنه، ومن هذه الكتب "المضنون به عن غير أهله"، وهو كتابٌ مليءٌ بالسحر والشعوذة، والقول بقدم العالم، ونفي علم الله بالجزئيات، وكل واحدة من هذه كافية للقول بكفر القائل به عند الغزالي وسائر أهل السنة، وأنكر ابن الصلاح أن يكون هذا الكتاب للغزالي؛ فقال: معاذ الله أن يكون له! ووافقه السُّبكي، وقال الإسنوي في "طبقاته": ويُنسب إليه مصنفان بل وُضعا عليه، وهما "السر المكتوم"، و"المضنون به عن غير أهله". وقال ابن رشد: لعله لم يؤلفه.

ومما يُذكر أيضاً أن الغزالي ترك التصوف والفلسفة، وقطع علاقته بهما دون أن يضمن ذلك في رسالة أو كتاب؛ بل كانت حاله تدلُّ على ذلك؛ فإن آخر ما اشتغل به هو كتاب الله عز وجل، والنظر في صحيح البخاري ومسلم، ومات وهو مُشتغلٌ بذلك، فكان يُوزع أوقاته على التلاوة والذكر والتدريس، ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر؛ لبدأ بطلب الحديث، واعتصم بصحيح السُّنة وهدي النبوة، فإن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا الكتاب يذكر القرضاوي بعض الذين تعرضوا للغزالي بالنقد، والوجوه التي انتقدوه فيها، وقام بتمحيص هذه الوجوه فأثبت ما كان منها صحيحاً، ونفى الوجوه الأخرى، ومن أبرز هذه الانتقادات:

(1) نقد الطرطوشي محمد بن محمد، أبو بكر (ت 520 هـ)، من كبار فقهاء المالكية، وانتقد عليه خوضه في آراء الفلاسفة ورموز الحلاج، وفي المقابل حاول التاج السُّبكي الجواب عليه في "طبقاته" وهو صاحب رأيٍ منحرف وكلام فجّ، مع تعصبه المقيت للأشعرية.

(2) نقد المازري أبو عبد الله (ت 536 هـ)، وقد أنكر على الغزالي اكثاره من الأحاديث الموضوعة والواهي ة في كتبه، ومعلومٌ أنه لم تكن للغزالي في الحديث يدٌ باسطة.

(3) نقد ابن الصلاح، تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن (ت 643 هـ)، وانتقد ادخال الغزالي علم المنطق في علم الأصول، واعترض عليه، بأن الصحابة وسلف الأمة لم يعرفوا المنطق الأرسطي.

(4) نقد ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي (ت 597 هـ)، وقد انتقد الغزالي في مواضع كثيرة من كتابه القيّم (تلبيس إبليس)، ويذكر في كتابه "المنتظم" أنه ألف كتاباً سماه (إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء)، وقد ذكر فيه كيف باع أبو حامد الفقه بالتصوف.

(5) نقد شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ)، والذي تميز عن الغزالي بتبحره في علم الحديث روايةً ودراية، وجمع من المعقول والمنقول أعظم مما جمعه الغزالي، وقد تعقب الغزالي في مواطن كثيرة من كتبه وآرائه التي تبع فيها آراء الفلاسفة، وأحكام القرامطة، وبيّن أن في "الإحياء" مواد فاسدة، والتي خلطها بمعارف الصوفية، فكان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين، فألبسه ثياب المسلمين.

وقد مرَّ الغزالي في حياته بثلاث مراحل، وهي:

المرحلة الأولى: وهي الفلسفة والمنطق، حيث تتلمذ على الإمام أبي المعالي الجويني (419 -478 هـ) الأشعري المذهب، وفي هذه المرحلة درس الفلسفة ووصل إلى الشك، وذلك في العام (458 -489 هـ).

المرحلة الثانية: وهي مرحلة التصوف والتعرف إلى الأذواق الصوفية وعلومهم؛ حيث أقام بمكة مدةً من العام (489 -499 هـ).

المرحلة الثالثة: وهي المرحلة السلفية، حيث انشغل بدراسة وتدريس القرآن والحديث في أخريات حياته من العام (499 -505 هـ)، وقد مات وصحيح البخاري على صدره -رحمه الله تعالى.

وقد وردت إشارات كثيرة إلى عقيدة وحدة الوجود عند الغزالي في كتابه "مشكاة الأنوار"، كانت بمثابة دفعة كبيرة لإحياء هذا المذهب الإلحادي عند المتصوفة وقد رأينا كثيراً من يهرعون إليه في واقعنا المعاصر وفي تاريخنا السابق.

وقد قسَّم الغزالي التوحيد إلى أربع مراتب:

1.   توحيد المنافقين: وهو من قال لا إله إلا الله بلسانه وقلبه غافل.

2.   توحيد العوام: وهو التصديق بلا إله إلا الله لفظاً ومعنى.

3.   توحيد الكشف: وهو مقام المقربين، وهو رؤية فعل الله في الكون.

4.   توحيد المشاهدة: وهو الاستغراق في توحيد الربوبية، ورؤية أنه ليس في الوجود سوى الله وصفاته وأفعاله (مفعولاته).

 

·       خلاصة هذا البحث:

1.   أن الذين انتقدوا الغزالي كانوا أئمةً كباراً في العلم والفقه وأئمةً في الزهد والورع والتقوى، ولم يكونوا أصحاب هوىً ولا غرض دينوي، ولا محاسدة ولا منافسة.

2.   أن الذين انتقدوا الغزالي لم يمتروه حقه فيما أحسن فيه، بل أشادوا له فيه.

3.   أن الأخطاء والكلام الباطل الوارد في كتاب الإحياء لا يسعنا إلا أن نردَّه ونُبين بطلانه، نصحاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم –وللمؤمنين.

4.   ينتقد على الغزالي انغماسه في طريق التصوف، وإذعانه الشديد لأعمالهم المبتدعة دون أن يحاكمها إلى منطق الفقه وأصوله، وهي بالطبع مخالفة لقوانين الشرع، ومنحرفةٌ تماماً عن هدي الكتاب والسنة الصحيحة.

5.   لا يُقبل اعتذار الغزالي عن انحرافات الصوفية، وتجاوزاتهم في حق الشريعة،

6.   للغزالي جهوده الجيدة في الرد على الفلاسفة والمتكلمين.

7.   أن كثيراً من أحاديث "الإحياء" ليست لمجرد الترغيب والترهيب والترقيق، بل كثيراً ما يذكر الغزالي أحاديث واهية وموضوعة تناقض الموقف الصحيح للإسلام، في مثل قضايا: الزهد، والنظر إلى المال، والغنى، والفقر، والتوكل، والأخذ بالأسباب، وأن للقرآن ظاهرٌ وباطن، وأن من العلم ما يجب إخفاؤه عن الناس حتى عن العلماء.

8.   أن بعض الأحاديث الضعيفة التي يذكرها في "الإحياء" يترتب على القول بها اختلال النسب بين الأعمال، وتعظيم ما حقه التصغير، وتصغير ما حقه التعظيم، أو تأخير ما حقه التقديم، وتقديم ما حقه التأخير.

9.   لا يمكن اعتبار التصوف الذي دعا إليه الغزالي تصوفاً معتدلاً بفهم الكتاب والسنة، ولكن يُمكن الإفادة من شخصه كإنسان لديه شحنة روحية عالية، مع الحذر من المبالغات والغلواء الواقعة في كتبه، والبعيدة تماماً عن نهج الوسطية.

10.                     شخصية الغزالي قلقة ومضطربة وآراؤه متعارضة فهو ينفي في كتاب ما يُثبته في الآخر، وقد عاب عليه ذلك كثيرٌ من القدماء: كابن طفيل في كتابه "حي بن يقظان"، وابن رشد، وشيخ الإسلام ابن تيمية.