دراسة حول كتاب
القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى
من تأليف الإمام العلامة: محمد بن صالح العثيمين
إعداد:
أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة
تمهيد/ هذا كتابٌ عظيمٌ في بابه، أعني (القواعد المثلى)، جمع فيه مؤلفه سبع (7) قواعد في أسماء الله عز وجل، وسبع (7) قواعد في صفاته، ثم أربع (4) قواعد في أدلة الأسماء والصفات، وكلها تدور على الإيمان بهذه الأسماء والصفات على ظاهرها من غير تأويل، ولا تحريف، ولا تمثيل، وكان الهدف منه بيان طريقة السلف في الاعتقاد الصحيح، وأنهم أسلم الناس اعتقاداً، وأعلمهم بالله وأحكامه، وأقومهم منهجاً.
ثم أردف ذلك بعرض بعض الشُّبه والتي أوصلها إلى (14) أربعة عشرة شبهةً، والتي يُعارض بها المخالفوم منهج أهل السُّنة والجماعة، وجعل الردَّ عليها أصلاً يشمل ما عداها من الشُّبه، بحيث لا يبقى لمتدعٍ أو جهميٍّ شُبهةٌ في هذا الباب.
وضمَّن ذلك الحديث عن مسألة المعيَّة وفق مذهب أهل السُّنة، فهو كتابٌ مُهمٌّ، وحريٌّ بطالب العلم أن يُتقنه ويهتمَّ به، لأهميته، لأنه يستغني به المبتدي عن كثير من المطولات.
ولا ريب أن العلم بأسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله هو أجلُّ العلوم، وأفضلها، وقد كان أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسانٍ آخذين في هذا الباب كتاب الله، وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يجاوزونها. فظلت هذه العقيدة صافيةً رائقة، لا تشوبها شائبة إلى أن جاءت مقولة الجهم بن صفوات، وظهرت البدع الكلامية، فانبرى رجالٌ من أهل السُّة وأصحاب الحديث، أمثال: "مالك"، و"الأوزاعي"، و"أحمد"، و"الثوري"، يوضحون للناس عقيدة السلف، وألَّف آخرون في الرد على المبتدعة، وبيان ضلالهم، ودحض شُبههم.
فألف عثمان بن سعيد الدارمي "رده على بشر المريسي"، و"الرد على الجهمية"، وكتب البخاري رحمه الله كتابه "خلق أفعال العباد" رداً على المعتزلة والقدرية، وصنَّف عبد العزيز الكناني كتابه "الحيدة" في الرد على بشر المريسي، ثم تتابع التأليف والتصنيف في نُصرة مذهب السلف، وذم مذاهب أهل البدع.
حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فكان له الباع الطويل والجهد الوفير في مناقشة أهل البدع، والرد على شبههم، وكشف زيفهم وضلالهم، وتنوعت كتبه وردوده، ومناقشاته للمخالفين، فكتب في بيان عقيدة السلف، وأقوال أئمة الإسلام، كما ردَّ وناقش الفلاسفة والمعتزلة والقدرية والجهمية والمرجئة والخوارج والصوفية والرافضة والأشاعرة، وكان موقفه من هؤلاء ومنهجه في الرد عليهم نابعاً من المنهج السلفي الأصيل المعتمد على الكتاب والسنة، وأقول سلف الأمة.
وسار على منهجه واقتفى أثره تلميذه المُحبِّ له ابن قيِّم الجوزية، وجماعةٌ من طلابه، فصارت كتبه وكتب شيخة مرجعاً وملاذاً لكل من سلك طريق أهل السُّنة والجماعة.
وممن أسهم في هذا الجانب في عصرنا الحاضر الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى، فصار على نهج هذين الإمامين الجليلين، يوضح مذهب أهل السنة والجماعة، ويردُّ عل من خالفهم بأسلوبٍ سهلٍ مُيسَّر.
وقد لاقى هذا الكتاب النفيس (القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى) استحساناً كبيراً لدى العلماء، وطلبة العلم، فشرحه الكثيرون، وأثنى عليه الكثيرون، وقرَّظ له العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
وتميَّز هذا الكتب: بأسلوبه الخالي من التعقيد والحشو، وتميَّز أيضاً بتقسيماتٍ بديعة، ونماذج فريدة من الأمثلة التي توضح المقصود بأوجز عبارة مع حُسن البيان، وشموله لمعظم قواعد هذا الباب.
ولا شك أن ثمرة الإيمان بأسماء الله وصفاته على هذه الطريقة المستقيمة التي ذكرها الشيخ رحمه الله لها آثارها الطيبة على سلوك العبد وشعوره، حتى أنه يجد لذة الإيمان وحلاوته تخالط قلبه وفؤاده، ويورثه سعادةً وطمأنينةً لا تخطر على باب أولئك المبتدعة المحرفين من الأشاعرة والرافضة والمتصوفة وغيرهم.
وإذا أردنا أن نُجمل هذه القواعد، في نقاط؛ نقول:
أولاً: القواعد المتعلقة أسماء الله عز وجل:
القاعدة الأولى: أسماء الله تعالى كلها حسنى.
القاعدة الثانية: أسماء الله تعالى أعلام وأوصاف.
القاعدة الثالثة: أسماء الله تعالى إن دلت على وصف متعدٍّ تضمنت ثلاثة أمور:
أحدها: ثبوت ذلك الاسم لله عز وجل.
الثاني: ثبوت الصفة التي تضمنها لله عز وجل.
الثالث: ثبوت حكمها ومقتضاها.
القاعدة الرابعة: دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام.
القاعدة الخامسة: أسماء الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها
القاعدة السادسة: أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين.
القاعدة السابعة: الإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها
ثانياً: القواعد المتعلقة بصفات الله عز وجل:
القاعدة الأولى: صفات الله كلها صفات كمال لا نقص فيها.
القاعدة الثانية: باب الصفات أوسع من باب الأسماء.
القاعدة الثالثة: صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتية. وسلبية.
القاعدة الرابعة: الصفات الثبوتية صفات مدح وكمال.
القاعدة الخامسة: الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: ذاتية. وفعلية.
القاعدة السادسة: يلزم في إثبات الصفات التخلي عن محذورين عظيمين:
أحدهما: التمثيل.
والثاني: التكييف.
القاعدة السابعة: صفات الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها.
ثالثاً: قواعد متعلقة بأدلة الأسماء والصفات
القاعدة الأولى: الأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
القاعدة الثانية: الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف، لا سيما نصوص الصفات.
القاعدة الثالثة: ظواهر نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار ومجهولة لنا باعتبار آخر، فباعتبار المعنى هي معلومة. وباعتبار الكيفية التي هي عليها مجهولة.
القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام.
رابعاً: الشُّبهات التي أوردها المبتدعة والتي أجاب عنها المؤلف:
الأولى: صفة اليمين لليد في حديث (الحجر الأسود يمين الله في الأرض).
الثانية: صفة الأصابع في حديث ( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن).
الثالثة: حول النفس في حديث: (إني أجد نَفَسَ الرحمن مِنْ قِبَلِ اليمن).
الرابعة: حول صفة الاستواء في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}.
الخامسة، والسادسة: حول صفة المعية: في قوله تعالى في سورة الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم}، وقوله في سورة المجادلة: " وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}.
السابعة والثامنة: حول صفة القُرب في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 16)، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} (الواقعة: 85).
التاسعة والعاشرة: حول صفة العين في قوله تعالى عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: 14)، وقوله لموسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه: 39).
الحادي عشر: حول معنى الحديث القدسي: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
الثانية عشرة: حول جمع اليد، في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} (يس: 71).
الثالثة عشر: حول فوقية اليد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10).
الرابعة عشر: حول حديث: ( يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني…).
وظائف العقل المشروعة في باب أسماء الله وصفاته من خلال كتاب القواعد المثلى:
أولاً: فهم معانيها:
فإن الله عز وجل خاطب عباده بلسانٍ عربي مُبين، وجعل كتابه تبياناً لكل شيء، وشفاءً لما في الصدور، ولم يستثنِ نوعاً من الآيات يمتن فهمها، ومعرفة معناها، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (الشعراء: 193 - 195).
وقال أيضاً: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } (الأحقاف: 12)، وقال: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا…} (الشورى: 7)، ولا يُمكن أن تتحقق النذراة المذكورة، إلا بفهم معناه وتعقُّله، ولهذا قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)، وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (الزخرف: 3)، فالتلازم بين كونه عربياً وتعقّله واضحٌ؛ فالألفاظ إنما هي أوعية للمعاني، كما أن عربية القرآن سبب لحصول التقوى الناشئة من الفهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (طه: 113)، وعربية القرآن سبب لحصول العلم الذي هو ثمرة الفهم للمعنى، قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: 3)، وقد قطع الله حجة الذين قد يتعللون بعدم فهمه بجعله عربياً مفهوم المعنى لدى المخاطبين؛ فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فصلت: 44).
فالعقل مدعوٌّ لفهم خطاب الشارع دون استثناء، ومن ادَّعى استثناء نصٍّ مُعيّن، أو نوعٍ مُعيَّن من النصوص طُولب بالدليل، ولا دليل.
ومن أمثلة فهم معاني ما أخبر الله عن نفسه من الأسماء والصفات، قول الإمام الأصبهاني أبي القاسم إسماعيل بن حمد في "شرح أسماء الله الحسنى": (ومن أسماء الله تعالى: الحليم: حليم عمن عصاه؛ لأنه لو أراد أخذه في وقته أخذه، فهو يحلم عنه ويؤخره إلى أجله، وهذا الاسم وإن كان مشتركاً يوصف به المخلوق، فحلم المخلوقين حلم لم يكن في الصغر، ثم كان في الكبر، وقد يتغير بالمرض والغضب والأسباب الحادثة، ويفنى حلمه بفنائه، وحلم الله عز وجل لم يزل ولا يزول، والمخلوق يحلم عن شيء ولا يحلم عن غيره، ويحلم عمن لا يقدر عليه، والله تعالى حليم مع القدرة).
فهذا مثالٌ للمنهج الشرعي في فهم نصوص الصفات، تصمَّن إثبات المعنى المشترك للفظ الصفة المعهودة بالأذهان، ثم فرَّق بين ما ينبغي للخالق وما ينبغي للمخلوق، وأن لله تعالى المثل الأعلى، وهكذا صنع قوام السُّنة في بقيَّة الأسماء والصفات.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً: (إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إلّا واحِدًا، مَن أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ) (رواه البخاري)، قال أبو إسحاق الزجاج رحمه الله في ذكر معنى الإحصاء: (ويجوز أن يكون معناه من عقلها ، وتدبر معانيها، من الحصاة التي في القل)، وأنشد في هذا المعنى قول الشاعر:
وإن لسان المرء ما لم تكن له … حصاةٌ على عوراته لدليلُ
ثانياً: التفكر والتدبُّر:
وهذه وظيفةٌ زائدةٌ على مجرد العلم بالمعنى الأصلي، وقد أمر الله تعالى بتدبر كتابه مُطلقاً دون أن يستثني نوعاً من النصوص لا يشملها التدبُّر، فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29)، ونعى الله على المعرضين عن تدبره؛ فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)، وهذا شاملٌ لنصوص الصفات وغيرها.
ومن التدبُّر الذي يتعلق بصفات الباري تدبُّر آثار هذه الأوصاف الشرفة ومقتضياتها؛ كما قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم: 50)، وهذه الوظيفة ميدانٌ فسيح، ومجالٌ واسع، ترتاد عقول المؤمنين فلا تُحيط به، ولا تبلغ منتهاه، فكل المخلوقات والأعراض والأحداث شواهد حيَّة لآثار أسمائه وصفاته، ومظاهر ناطقة بعظمته ورحمته، وانطلاق القُوى العقلية في هذا المجال تنظر وتتفكر من أعظم أسباب زيادة الإيمان وامتلاء القلب بمحبة الله، وتعظيمه، وقد صنَّف العلماء المصنفات في التأمل العقلي في مخلوقات الله تعالى، والاستدلال بذلك على الإيمان به وعبادته.
انظر على سبيل المثال: "مفتاح دار السعادة"، و "شفاء العليل" لابن القيم، وانظر تفسير "في ظلال القرآن"، للآيات الكونية لسيد قطب، وانظر كتاب "التوحيد"، و"الإيمان" لعبد المجيد الزنداني.
ثالثاً: استعمال الأقيسة العقلية الصحيحة اللائقة بالله عز وجل:
ولمّا كان "العقل" أحد مصادر المعرفة بما أودع الله فيه من قوة الاستدلال والنظر والمقايسة، جرى استعماله في إثبات العقائد لتأييد دلالة الشرع، وقد تضمَّن الكتاب والسنة جملةً من "المقاييس العقلية" التي هي بمثابة مقدمات منطقية للوصول إلى النتائج التي جاء بها الشرع، ويعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأمثال المضروبة في القرآن "أقيسة عقلية"، وبذلك يجمع بين الحينيين باتفاق الدلالتين: دلالة العقل، ودلالة الشرع، قال رحمه الله في "درء التعارض": (وإذا كان الشيء موجوداً في الشرع، فذلك يحصل بأن يكون في القرآن الدلالة على الطريق العقلية والتنبيه عليها والبيان لها والإرشاد إليها. والقرآن ملآن من ذلك، فتكون شرعية: بمعنى أن الشرع هدى إليها، عقلية: بمعنى أنه يعرف صحتها بالعقل، فقد جمعت وصفي الكمال).
وقد قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: 17)، وقال جل في علاه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، وقد فسَّر السَّلف "الميزان" بالعدل، والعدل يقتضي التسوية بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات.
ومن المقاييس العقلية الصحيحة المتعلقة بباب الصفات ما يلي:
1. إثبات الكمال لله ونفي النقص عنه:
وهذه قضيةٌ يستقلُّ العقل بالحكم بها موافقاً بذلك دلالة الشرع والفطرة، وخلاصتها: أن كل "موجود" في خارج الذهن لا بُد أن يكون متصفاً بصفة، وهذه الصفة إما أن تكون صفة كمال أو صفة نقص، وصفة النقص ممتنعةٌ في حقِّ الإله المعبود، واللائق به الكمال، ومن جهة أخرى فإن المشاهدة والجس تدلُّ على ثبوت صفاتٍ كمالية للمخلوق، وأنه خالق المخلوق وصفاته، فواهب الكمال أولى بالكمال.
والمقدمات السابقة بالإضافة إلى هذه النتيجة هي محل اتفاق بين جميع العقلاء، وبين جميع أرباب الملل، وجمهور أهل الفلسفة والكلام، لكنهم يختلفون في تحقيق مناطها في أفراد الصفات مع الإجماع على أن الرب المعبود مستحقٌّ للكمال مُنزه عن النقصان.
ويُفصِّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الجملة العقلية في "مجموع الفتاوى"؛ بقوله: (فإذا قيل: الوجود إما "واجب" وإما "ممكن"، والممكن لا بد له من واجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين؛ فهو مثل أن يقال: الموجود إما "قديم" وإما "حادث"، والحادث لا بد له من قديم؛ فيلزم ثبوت القديم على التقديرين).
قال: (والموجود إما "غني" وإما "فقير"، والفقير لا بد له من الغنيّ؛ فيلزم وجود الغني على التقديرين. والموجود إما "قيوم بنفسه" وإما "غير قيوم"، وغير القيوم لا بد له من القيوم؛ فيلزم ثبوت القيوم على التقديرين. والموجود إما "مخلوق" وإما "غير مخلوق"، والمخلوق لا بد له من خالق غير مخلوق؛ فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين ونظائر ذلك متعددة).
فهذا المقياس العقلي يعرض على الصفات فيُثبت لله صفات الكمال ويُنفى عنه صفات النقص، وهو مدرك مقرر ببداهة العقول، ثم ينتقل شيخ الإسلام إلى بسط الوجه الثاني في استحقاق الله للكمال، وانتفاء النقص عنه؛ فيقول في "المجموع": (ثم يقال: هذا الواجب القديم الخالق: إما أن يكون ثبوت الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود ممكناً له وإما أن لا يكون.
والثاني ممتنع؛ لأن هذا ممكن للموجود المحدث الفقير الممكن؛ فلأن يمكن للواجب الغني القديم بطريق الأولى والأحرى؛ فإن كلاهما موجود. والكلام في الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه.
فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكناً للمفضول؛ فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى؛ لأن ما كان ممكناً لما هو في وجوده ناقص، فلأن يمكن لما هو في وجوده أكمل منه بطريق الأولى، لا سيما وذلك أفضل من كل وجه، فيمتنع اختصاص المفضول من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه، بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به؛ فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى).
قال رحمه الله: (ولأن ذلك الكمال إنما استفاده المخلوق من الخالق، والذي جعل غيره كاملاً هو أحق بالكمال منه؛ فالذي جعل غيره قادراً أولى بالقدرة، والذي علّم غيره أولى بالعلم، والذي أحيا غيره أولى بالحياة.
والفلاسفة توافق على هذا ويقولون: كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة والعلة أولى به).
وهذه حجةٌ عقليَّةٌ قرآنية، قال تعالى مُنبهاً على هذا المعنى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (النحل: 17)، وقال جل شأنه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (النحل: 75)، وقال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل: 76)، وقال جل في علاه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} (الفرقان: 3).
فهذه الآيات وأمثالها كثيرٌ في القرآن، ميزانٌ عقليٌّ أثبت الله به ألوهيته لاتصافه بالكمال وبطلان ألوهية ما سواه لاتصافها بصفات النقص والعيب والعجز، وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على طائفة من المتكلمية زعموا أن ثبوت الكمال لله وانتفاء النقص عنه لا يُعلم بالعقل، وإنما يُعلم بالسَّمع والإجماع، وبيَّن خطأهم ومخالفتهم لسائر الطوائف.
فهذا المقياس العقلي وظيفة يُمارسها العقل باستقلال للحكم على الصفات العقلية، فصفة "العلو" مثلاً تثبت بالعقل -كما تثبت بغيره -فالعقل يحكم أن العلو صفة كمال، كما أن نقيضه "السفل" صفة نقص، فيثبت الأولى ويُنفى الثانية.
2. قياس الأولى:
وهذا مقياس عقلي يلي المقياس السابق في الرتبة، فإذا دلَّ العقل على إثبات جنس الكمال لله تعالى وآحاده وأفراده؛ فإن قياس الأولى يقضي بأن ما ثبت من الكمالات ثبوتاً عاماً للخالق والمخلوق فإن لله تعالى أكمله، وأعظمه، ليس له فيه مكافئ ولا نظير، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (النحل: 60)، وقال أيضاً: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الروم: 27)، فلما كانت الألفاظ الدالة على الصفات تحمل معاني مشتركة باعتبار أصل المعنى، كان لا بُد من القياس، والقياس الصحيح هنا: هو قياس الأولى، وهو طريقة السلف التي وافقوا بها القرآن.
قال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية": (ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها… ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: {ولله المثل الأعلى} (النحل: 60).
مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه: فالواجب القديم أولى به. وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر: فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه.
وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات: فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى).
ويُبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مدى هذه الأولوية في قياس الأولى، ومقدار ذلك التفاضل المندرج تحت ذلك المعنى العام المشترك؛ فيقول في "مجموع الفتاوى": (وأما "قياس الأولى" الذي كان يسلكه السلف اتباعاً للقرآن: فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتاً لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق، بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا ينحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق، كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم من كل ما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره. فكأن "قياس الأولى" يفيده أمرا يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر)
3. نفي الصفة إثباتٌ لنقيضها:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "درء التعارض": (وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات، وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع, ولا يبصر, ولا يتكلم فقد عبد رباً ناقصاً, معيباً, مؤوفاً).
ومن أمثلة احتجاج السلف بهذه الطريقة العقلية، قول الإمام الدارمي في "رده على المريسي": (وكيف استجزت أن تسمي أهل السنة وأهل المعرفة بصفات الله قدسة: مشبهة، إذ وصفوا الله بما وصف به نفسه في كتابه بالأشياء التي أسماؤها موجودة في صفات بني آدم، بلا تكييف.
وأنت قد شبهت إلهك في يديه وسمعه وبصره بأعمى وأقطع، وتوهمت في معبودك ما توهمت في الأعمى والأقطع، فمعبودك -في دعواك- مجدع منقوص، أعمى: لا بصر له، وأبكم: لا كلام له، وأصم: لا سمع له، وأجذم: لا يدان له، ومقعد: لا حراك به، وليس هذه بصفة إله المصلين؟
فأنت أوحش مذهبا في تشبيهك إلهك بهؤلاء العميان والمقطوعين، أم هؤلاء الذين سميتهم مشبهة؛ أن وصفوه بما وصف به نفسه بلا تشبيه؟
فلولا أنها كلمة هي محنة الجهمية التي بها ينبزون المؤمنين، ما سمينا مشبها غيرك؛ لسماجة ما شبهت ومثلت).
وقد حاول نفاة الصفات التخلُّص من هذا الإلزام العقلي بالزعم بأن ذلك متحقق إذا كان المحل قابلاً للاتصاف بالصفتين المتقابلتين وما لا فلا.
وأجاب شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع متعددة من كتبه على هذه الشُّبهة، ومن ذلك قوله: (ومن قال: إنه ليس بحي ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا متكلم لزمه أن يكون ميتاً أصم أعمى أبكم.
وأيضاً -فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها. فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس: أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس). فقد فرَّ هؤلاء النُّفاة من تشبيهه بالحيوانات -بزعمهم -فوقعوا في تشبيهه بالجمادات.
شروحات هذا الكتاب:
شرح ابن عثيمين، من إصدار مؤسسة الشيخ، ودار الآثار، وغيرها.
شرح أسامة عبد العزيز شتية، دار التيسير- مصر.
التعليق الأسنى على القواعد المثلى، ياسين العدني، مكتبة ميراث الأنبياء.
فتح العلي الأعلى شرح القواعد المثلى، عُبيد بن عبد الله الجابري، دار الميراث النبوي.
التعاليق العُلى على القواعد المُثلى، كمال بن ثابت العدني.
شرح القواعد المثلى للشيخ زيد المدخلي
السَّبكُ المُعلَّى شرح القواعد المُعلى، سعود بن إبراهيم الشريم، دار ابن حزم.
التعليق على القواعد المُثلى، عبد الرحمن بن ناصر البرَّاك، دار التدمرية.
المجلى شرح القواعد المُثلى؛ كاملة الكواري، دار ابن حزم.
شرح أ. د. صالح بن عبد العزيز السندي في 30 محاضرة.