شرح القصيدة الشمقمقية
عبد الله كنون الحسني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذه القصيدة الفائقة، والجوهرة الناطقة في ألفاظها ومعانيها؛ لابن الونان، والتي تٌشبه الطلاسم في حُسن سبكها، والعزائم التي تجذب القلوب برونقها، وبهجتها، وقوة أسلوبها، يُذكر فيها رحيل الأحبة، واصفاً الإبل التي تحملوا عليها، والبيد التي تعرفوها، حتى أنه لام الحادي على جدّه السير ليلاً ونهاراً، حتّى أضرّ بالإبل ضرراً بليغاً، مما أثار شفقته عليها، وقد حثّه على ألا يتعجّل الذهاب والسّفر؛ لما في القلب من لواعج الشوق، وألم الحزن على الفراق.
وقد بيّن الناظم أن الحُب بينه وبين خليلته مُتبادل، لكنه لم يكن يتوقع هذا الفراق والبُعد بعد هذا الحُب العميق والهوى الذي يُحرق الأكباد، وهي مع جمالها وزهائها، تضمنت أخبار العرب، وأيامهم الشهيرة، وفرسانهم الكبار، ومعاركهم الخالدة، والمواقع التاريخية، والأمثال والحكم التي زينت كتب التراث، مع ما فيها من العبر والعظات.
وقد مدح الناظم شعره، وتفنّن في رسم ذلك، وأتى بصياغات بليغة تُعضّد فصاحته، وبلاغته في النظم، وذلك لتمكنه من فنون العربية والعلوم الأخرى، وقد أظهر هذا الفخر في أبياتٍ أولها:
وهل أنا إلا ابنُ ونّان الذي ... قرَّبه كُلُّ أميرٍ مُرتَقِ
ويقول أيضاً:
وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ شَاعِراً … فَحْلاً فَكُنْ مِثْلَ أَبِي الشّمَقْمَق
مَا خِلْتُ فِي الْعَصْرِ لَهُ مِنْ مَثَلِ … غيرَ أَبِي فِي مَغْرِبِ وَمَشْرِقِ
لِذَاكَ كَنَّاهُ بِهِ سَيِّدُنَا … السُّلْطَانُ عِزُّ الدِّينِ تَاجُ الْمَفْرِقِ
الشاعر الفحل: المفضل عموماً، والغالب بالهجاء من هاجاه وأبو الشمقمق شاعر كوفي أديب ظريف من موالى مروان ابن محمد آخر خلفاء بني أمية وكان هجاء كثير الهزل في شعره ومن ظریف شعره قوله يهجو سعيد بن سلم:
هيهات تضرب في حديد بارد … إن كنت تطمع في نوال سعيد
والله لو ملك البحور بأسرها … وأتاه سلم في زمان مدود
يبغيه منها غرفة لطهوره …. لأبى وقال تيممن بصعيد
قوله ما خلت؛ أي: ما ظننت والمثل الشبيه والنظير لغة في المثل وكناه به أي أطلق عليه كنيته، وعز الدين أي معزه وتاج المفرق أي هو كتاج المفرق: في الرفعة والجلال والمفرق: موضع افتراق شعر الرأس وهو محل التاج، وكان والد الناظم أديبا المعياً، صاحب نکات وملح، واتخذه السلطان سيدي محمد بن عبد الله بن إسماعيل نديما وقربه وأحبه، وكناه بأبي الشمقمق فاشتهر بها هو وولده.
يقول الشارح أول كلامه على القصيدة: "فهذا تفسير الألفاظ [الشمقمقية] دعاني إليه أني رأيت كثيراً من الطلبة يحفظونها ولا يفهمونها وآخرين يطلبونها فلا يجدونها، فأحببت أن أقرب ما بين أولئك وبينها، وأزفها إلى هؤلاء بعد أن أزينها، والله المسئول في القبول، وبلوغ السؤال، آمين".
ترجمة المؤلف كما في المقدمة
فأول ما نذكر مما نعرفه عنه اسمه ونسبه: فهو أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن الونان الملوكي، الحميري النسب، التواتى الأصل، النماسي الدار، وهو يدلى إلى الحميرية بقومه بنى معقل من عرب الصحراء الذين تملكوا وطنه توات بعد زناتة، وبنو معقل هؤلاء رجح ابن خلدون أنهم من مرحج. ومذحج من كهلان ابن سبأ أخي حمير وبهذا يفسر افتخار المترجم بالأنصار فى الشمقيقية لأن نسب الأنصار في كهلان، لكن شهرة قومه بفاس إنما كانت بأولاد الونان. و ببني ملوك.
ثم تذكر أن والده كان من ندماء السلطان سيدي محمد بن عبد الله وكان أديباً ظريفاً خفيف الروح، لطيف الحس، صاحب نوادر وملح. قال أبو عبد الله الجربرى: وكان شديد الصمم، قد زال حس سمعه وانعدم، وكان مع ذلك يفهم بلطيف الإشارة، ما لا يفهمه غيره بصريح العبارة، حتى أنه يجيب عما يكتبه الكاتب على أعضائه في الظلام. وعما يرقمه الراقم فى الهواء نهاراً من الكلام، من غير أن يبطىء في الجواب ويخطىء عين الصواب فهو كما قال الشاعر:
تشير له بلحظك من بعيد … فيفهم طرفه عنك الإشاره
وهذا لا يستغرب ممن كان على شاكلته، فإن ما حجبه الله من سمعه قد أفاضه على سائر مشاعره، فقوى بذلك إدراكه، ولطف حسه، وقد يكون هذا مما قوى رغبة السلطان. فيه وزاد اغتباطه به.
ولقد كان من أثر إعجابه به أن كناه بأبي الشمقمق. تشبيها له بذلك الشاعر الكوفى الماجن الذي نقرأ أخباره الطريفة في الأغانى والعقد الفريد والكامل وغيرها من كتب الأدب، فلزمته هذه الكنية وصارت علما عليه فكان لا يدعى بعد ذلك إلا بها بل تخطته إلى ابنه بل تخطت ابنه إلى أرجوزته فلا تدعى إلا بالشمقمقية.
هذا كل ما تعرفه عن والد شاعرنا، بل كل ما نعرفه عن شاعرنا نفسه إلى حين اتصاله بالسلطان سيدي محمد ابن عبد الله إنما المفروض أن هذا الوالد الموهوب قد بذل غاية جهده في تربية ولده وتنشئته على أكمل الصفات، فبرع ونبغ، وما راعنا إلا أن رأيناه على بساط البلاط العلوي ينشد شمقمقيته فيستحسنها السلطان، ويجزل صلته ويرفع منزلته.
ولا نظن أن اتصاله بالسلطان سيدي محمد بن عبد الله كان في حياة والده ؛لأن الوسيلة التي اتخذها إليه تمنع أن يكون والده في معية السلطان ويتكبد هو المشاق للوصول إليه لانشاده شعراً يمدحه به، إلا أن يكون ذلك الوالد قد كبر جداً أو مرض حتى لم يعد في مقدوره حضور مجلس السلطان.
وهذا الوجه على ما فيه من التكلف غير مقبول تماماً؛ فلتمر القصة على سجيتها ما دام ليس هناك نص تاريخي يلزمنا الأخذ به ولنقل: إن والده قد مات وإنه بقى مدة يعلل نفسه بالحصول على مكانته من السلطان خصوصاً وليس ما يمنعه من ذلك مع أدبه الجم وشعره النفيس فعمل أرجوزته وقصده بها. لكن الحسود الكنود الذى يعرف من فضله ما لا يعرف غيره ويخشى من مزاحمته لدى السلطان، كان يقف حجر عثرة في سبيله ويمنعه من الوصول إليه: فلما أعياه الأمر تحين خروج السلطان في بعض المرار واعترضه فى موكبه وصعد نشزاً عالياً من الأرض ونادى بأعلى صوته: ياسيدى سبط النبي أبو الشمقمق أبي، فعرفه السلطان وأمر بأحضاره بعد بلوغه إلى منزله الحضر وأنشد الأرجوزة التي نالت رضى السلطان ورفعت مرتبة الشاعر عنده.
وههنا ينسدل حجاب الغموض تماماً على حياة شاعرنا فلا نعرف عنه بعد ذلك لا ما قل ولا ما جل حتى تاريخ وفاته الذى إنما اكتشف، أخيراً وكان الفضل في اكتشافه للأستاذ النميشى فهو الذي ذكر في مسامرته تاريخ الشعر والشعراء بفاس أنه توفي سنة ۱۱٨٧ هـ، وقد بقينا في حيرة مع ذلك التاريخ لانفراد الأستاذ به. ثم ألقى إلى إنه وقف عليه في كناش لبعض المتوفين بفاس قريباً، وفى إحدى قدماتي لهذه المدينة كان باستطاعتي أن أقف على ذلك الكناش لكني لم أفعل لضيق الوقت ولثقتي بأمانة الناقل.
وبعد فلننظر في آثار أديبنا على قلة ما وصل إلينا منها، وهو على ما نعتقد جزء من عشرة أجزاء إن لم يكن أقل من ذلك. لأن ابن الونان كان شاعراً مكثراً سيال الطبع كما يعلم من قول الجريري. وكان حسن النظم مكتاراً، لا يخاف جواد لسانه عشاراً.. وكما يعلم من دراسة هذا النزر اليسير الذي بأيدينا من شعره وخصوصاً أرجوزته، فإنه لم يكن على ما يظهر من الشعراء و الحوليين، كثيري العناية بشعرهم، الذين ينظمون القصيدة في ليلة وينقحونها في سنة.
بل كان يرسل نفسه على سجيتها ولا يعبأ باللفظ ينبو عن الموضع الذي وضعه فيه، ولا بالعبارة تكون قلقة بازاء أختها المطمئنة ومن كان كذلك فأحر به أن يخلف ديوانا من الشعر لأنه قد ينظم عدة قصائد في اليوم الواحد كما قال أبو نواس لأبي العتاهية، وقد سأله مرة كم تعمل في يومك من الشعر ؟ فقال له: البيت والبيتين، فقال أبو العتاهية: لكنى أعمل المائة والمائتين، فقال أبو نواس لأنك تعمل مثل قولك:
يا عتب مالي ولك … ياليتني لم أرك
ولو أردت مثل هذا الألف والألفين لقدرت عليه.
وآثار ابن الونان من غير الأرجوزة هي قطعة شعرية مدح بها سيدي محمد بن عبد الله، ورسالة مسجعة كتب بها إلى الشيخ سيدي المعطي ابن الصالح صاحب ذخيرة المحتاج ثم أتبعها بشعر في مدحه، وبيتان في مدح سيدي محمد بن عبدالله، وثلاثة أبيات قالها فى ترفعه عن أخذ الزكاة وهذه كلها تجدها في شرح العلامة الناصري للشمقمقية.
وليس منها أصلا البيتان اللذان نسبهما له العلامة الناصرى والأستاذ النميشي في الاعتذار عن بخل الكبراء على الشعراء، فقد ذكر هما العلامة الأفران في شرح التوشيح ونسبهما لابن حبيكنا البغدادي كما ذكرهما صاحب معاهد التنصيص، وكلا الأفراني وصاحب المعاهد ممن عاش قبل ابن الونان بكثير.
وله غير ما ذكر نظم رصين المسائل ابن خميس المعروفة، وهو أحسن الأنظام التي تضمنت تلك المسائل، وقد ذكرناه في مجموعتنا (أراجيز البلاغة).
أما الأرجوزة أو الشمقمقية فهي أعظم آثار ابن الونان. وديوان أدبه، ونموذج شاعريته، ومثال نظمه، ولكثير من الأدباء إعجاب بها يجاوز حد ما تستحق، وهي على روى القاف وعدد أبياتها ٢٧٥ وتنقسم بحسب الأغراض الشعرية إلى ثمانية أقسام.
1) النسب بذكر رحيل الأحبة، ووصف الإبل التي تحملوا عليها والبيد التي تعسفوها، ولوم الحادي على جده السير ليل نهار حتى أضر بالابل ضرراً بليغاً، وتذكيره بمن يحملن على ظهورهن من النساء اللاتي لا طاقة لهن بذلك السير العنيف وإظهاره شديد العطف على هذه الإبل حتى تبرع -- وهو يسر حسوا في ارتغاء - بالريادة لها والقيام عليها أحسن قيام.
2) التغزل بصفات محبوبته، وما هي عليه من فنون المحاسن وضروب المفاتن؟
3) الحماسة والفخر.
4) مخاطبة الحسود.
5) الحكم والأمثال والوصايا.
6 ) مدح الشعر.
7) مدح السلطان.
8) مدح الأرجوزة، تحدى الشعراء أن يأتوا بمثلها.
أما قيمتها الأدبية فلا نطيل الكلام فيها بعد ما عرفنا مما تقدم الشيء الكثير عن أسلوب ابن الونان وطبقة شعره. وإنا لا نغلو فيها غلو تلك الطائفة التي تجاوز بها حد ما تستحقه من الإعجاب ولا نبخها حقها وكونها في بعض الأبيات تسمو إلى درجة المطبوعين من الشعراء حتى لا تعدو بها طبقة أبي نواس ومن على طريقته، إنما في بعض الأبيات الأخرى تسفل حتى لا يبقى فرق بينها وبين الألفيات، وغالب ذلك في هذا القسم الذي يصف فيه البيد والقفار، والنباتات والأشجار والحيوانات والأطيار، وفي قسم الحكم والأمثال والوصايا.
أما القسم الأول فلانه حشر فيه من الألفاظ الغريبة والكلمات الحوشية مما يتعلق بوصف تلك الأمور المشار إليها ما جعله كأنه من متون اللغة.
وأما القسم الثاني فإنه أراد أن يسلك في ضرب الأمثال طريقة ابن دريد في مقصورته من الاشارة إلى مواردها، والتزم ذلك التزاما كليا وأغمض فيه كل الأغماض، فعميت أنباؤه على القارىء وصار لا يدرك لها معنى إلا إذا كان بجانبه من يفسرها له. وبذلك خرج هذا القسم عديم الانسجام قليل الفائدة.
وعلى الجملة فهى أرجوزة ظريفة جامعة لكثير من فنون الأدب وأخبار العرب، وهى على عالمية صاحبها أدل منها على شاعريته، ولمكانتها التي أشرنا إليها عند الأدباء، فقد عارضها ابن عمرو الرباطى من أدباء القرن الثالث عشر.
واعتنى بشرحها جماعة منهم: العلامة أبو عبد الله الجريري السلوى والعلامة الناصري (صاحب الاستقصا) وشرحه شرح حافل، وغيث من الأدب هاطل،، والعلامة أبو حامد البطاوري، بارك الله في أنفاسه، وغيرهم.
وطبعت على حدتها، ضمن مجموعة من المتون العلمية، طبع عبد الله كنون الحسني.
أبيات مختارة من الشمقمقية:
( وَلَا تُنَقَصَ أَحَداً فَكُلْنَا … مِنْ رَجُلٍ وَأَصْلُنَا مِنْ عَلَقٍ )
هذا مفرع عما قبله فإنه إذا كان الإنسان لا يأمن من غلبة من هو دونه فلا ينبغى له أن يحتقر أحدا خصوصا والبشر كلهم أبناء رجل واحد، وهو سيدنا آدم عليه السلام وأصلهم جميعاً علق: أى دم غليظ ؛ وهو المتكون من النطفة . قال تعالى: {وخلق الإنسان من علق}.
(وَلَا تَكُنْ كَوَاوِ عَمْرٍ زَائِدًا … فِي الْقَوْمِ أَوْ كَمِثْلِ نُونِ مُلْحَقِ)
أي: واربأ بنفسك أن تكون زائدا في القوم . أي طرفا فيهم كزيادة الواو في عمر و للفرق بينه وبين عمر . والنون في ضيفن مثلا لإلحاقه بوزن جعفر . فإن كلا منهما غريب عن بنية الكلمة: أتى به لغرض مخصوص لا علاقة لها به فضايقها واستثقلته حتى ضرب المثل بزيادته. وهذا نهى عن التطفل بمعناه العام. فيشمل التطفل على الطعام وإدعاء العلم مع الجهل. التام وغير ذلك مما تسوغه الوقاحة للئام.
(وَخُص عِلْمَ الْفِقْهِ بِالدَّرْسِ وَكُنْ … كاللَّيْتِ أَو كَأَشْهَب وَالْمُتَقِي )
الفقه: الفهم وقد فقه الرجل بالكسر، فقها وأفقهته الشيء هذا أصله، ثم خص بعلم الشريعة، والعالم به فقيه، وقد فقه ؛ صار فقيها، والليث هو ابن سعد أحد الأئمة المجتهدين وأشهب والعتقي، وهو ابن القاسم كلاهما من كبار أصحاب مالك.
(وَفِي الْحَدِيثِ النَّبَوِي إِنْ لَمْ تَكُنْ … مِثْلَ الْبُخَارِي فَكُن كَالْبَيْهَقِي)
الحديث هو علم السنة النبوية، ويقال للعالم به محدث، والبخاري أمام المحدثين غير منازع، وصاحب الجامع الصحيح الذي رجحه الناس على جميع كتب الحديث المشهورة ومراد الناظم في البيتين الحث على تعلم الفقه والحديث، فإنهما مورد الشريعة المعين، وكنزها الغالي الثمين
(فَالْعِلْمُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأَخرَى لَهُ … فَضْلُ فَبَشِّرْ حِزْبَهُ شَرًا وَقِي)
فضل العلم في الدنيا والآخرة مما لا ينكره أحد، وقد قال تعالى: و يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، وفي الحديث ؛ (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علما سهل الله له طريقاً إلى الجنة) وقوله فبشر حزبه: أى أهله وأصحابه، وحذف متعلق بشر لقصد التعميم، وجملة شراً وقى: خبر معناه الإنشاء إذا أريد به الدعاء، أو خبر حقيقي إذا أريد به الوصف.
أبياتٌ أخرى انتقيتها من الشّمقمقيّة:
وهذه الأبيات مثلٌ للظالم الذي يقسو على رعيّته، ولا يهتمُّ لأمرهم، حيثُ يُفترض بالقائد أو المسؤول أن يخفف العبء عن الآخرين ويمنحهم الراحة التي يحتاجونها دون الضغط عليهم، وقد نقلتها مع شرحٍ بسيط لها:
(وكمْ بِسوْطِ البغْيِ سُقْتَ سوقَهاَ***سَوْقَ الُعَنّيفِ الذي لمْ يتَّقِ)
في هذا البيت يوبِّخ الشاعر الحادي على قسوة قلبه وقلة خشيته من الله، إذ إنه رغم ما تبذله الإبل من جهدٍ شاق، لا يتوقف عن جلدها بسوط القسوة والحقد.
(حتى غّدتْ خوُصاً عِجافاً ضُمَّرا ***اعْناقُها تَشْكو لغَيْرِ مُشْفِقِ)
وبسبب هذا التعذيب المتواصل والتضريب القاسي، غدت الإبل خوصًا غائرة الأعين، ذابلة النظرات، عجافًا هزيلة الأجساد، ضُمَرًا نحيلة تكاد تهلك من شدة الإرهاق. أعناقها، بما تبدو عليه من انكسارٍ واستسلام، تروي بصمتٍ حكاية الألم، وكأنها تشكو مرارة الطريق ووطأة السير المتسارع. وفي إسناد الشكوى إلى الأعناق مجازٌ بليغ، يعكس عمق المعاناة، كما أن في الجمع بين "أعناق" و"عنق" جناسا يُثري الإيقاع ويُضفي على المعنى قوةً وتأثيرًا.
(مَرْثُومَةَ الْأَيْدِي شَكَتْ فَرْطَ الْوَجا *** لكِنَّهَا تَشْكُو لِغَيْرِ مُشْفِقِ)
أي: وبسبب ذلك العذاب أيضًا، غدت الإبل مرثومة الأيدي، أي محطمة الأطراف، منهكة القوى، وأصابها الوَجى، وهو الألم الشديد الناتج عن الحفا ووجع الأرجل. فتئن تحت وطأة السير المضني، تشكو أوجاعها وتعبها، لكن شكواها تضيع هباءً، إذ لا تجد أذنًا رحيمة تُنصت إليها، بل تُلقى إلى قلبٍ لا يعرف الشفقة.
(قَدْ ذَهَبَتْ مِنْهَا الْمَحَاسِنُ بِإِدْ *** مَانِ السَّرَى وَقِلَّةِ التَرَفْق)
والإدمان يعني المداومة، والسرى هو المشي ليلًا. وهنا ينتقل الشاعر من التفصيل إلى الإجمال؛ فبعد أن ذكر بعض العيوب المحددة التي أصابت الإبل ولم تكن فيها من قبل، يعمم بقوله إن جميع محاسنها قد زالت عنها تمامًا. وذلك كله بسبب استمرارها في السير الليلي المُرهق، وقسوة الحادي الذي لم يُراعِ ضعفها ولم يرفق بها.
(مِنْ بَعْدِ مَا كَانَتْ هُنَيْدَةَ عَدَتْ *** أكْثَرَ مِنْ ذَوْدٍ وَدُونَ شَنَقٍ)
الهنيدة اسم يُطلق على مائة من الإبل، والذود لما كان بين ثلاثٍ إلى عشر، أما الشنق فيُستخدم لما بين العشر والعشرين. يريد الشاعر أن يُبرز فداحة ما حلّ بها من التلف، فلم يقتصر الضرر على أجسادها فحسب، بل امتد إلى نفوسها حتى كاد يُفنيها تمامًا، فلم يبقَ منها إلا القليل. فبعد أن كانت قطيعًا يضم مائة، تقلص عددها حتى صار أقل من عشرين
(وَإِن تَمَادَيْتَ عَلَى إِتْعَابِها *** وَلَمْ تَكُن مُنْتَهيا عَنْ رَهَق)
(فَسَوْفَ تَعْرُوكَ عَلَى إتلافها *** نَدَامَةُ الْكَسْعي وَالْفَرَزْدَقِ)
هذا إنذار للحادي بأن استمراره في إرهاق الإبل سيجر عليه ندامة عظيمة، كندامة الكسعي والفرزدق، وهما مثالان مشهوران في التراث. فالكسعي، وهو أعرابي خرج للصيد ليلًا، أصاب حُمرًا وحشية، لكن سهامه كانت تصطدم بصخرة فكانت توقد شررًا، فظن أنه أخطأ الرمي، فكسر قوسه وعضّ إبهامه حتى قطعها، ثم أدرك خطأه في الصباح وندم ندمًا شديدًا.
أما الفرزدق، فقد تزوج ابنة عمه النوار رغم كرهها له، ثم طلقها بناءً على رغبتها، لكنه ندم بعد ذلك حين لم يعد له سبيل إليها، وقال في ذلك:
ندمت ندامة الكسعى ... لما غدت منى مطلقة نوار
(لأنتَ أَظْلَمُ مِن ابْنِ ظالم *** إِنْ كُنْتَ مِنْ بَعْدُ بِهَا لَمْ تَرْفَق)
ابن ظالم هو فاتك مشهور بفظائعه، ومن أبرز أعماله أنه قتل خالد بن جعفر وهو في جوار الأسود بن المنذر، وعندما طلبه الملك، فاته. فقيل له: "لن تصيبه أشد من سبي جارات له من بلى"، فأرسل في طلبهن واستاقهن مع أموالهن. وعندما بلغه ذلك، رجع وسأل عن مرعى إبلهن، فالتطف حتى وصل إليه، ثم استنقذ جاراته وأموالهن. بعدها، أخذ شيئًا من جهاز سنان بن حارثة وأتى به إلى أخته سلمى بنت ظالم، زوجة سنان، وقال لها: "ضعي ابنك حتى آتيه به"، ثم قتله. ضرب مثلاً بفتكه في الظلم، ليُجسّد قوله "أظلم مع ابن ظالم".
(رِفْقاً بها قدْ بَلغَ السَّيْلُ الزُّبَى ***واتَّسَعَ الخَرْقُ علىَ المُرَتَّقِ)
عاد فطلب منه الرفق بعد ذلك التقريع، آملاً أن يكون قد تأثر مما سمع عن حال الإبل، التي تستحق الشفقة والرثاء، ليشعر بعطف ورحمة ترفع عنها سوط العذاب والنقمة.
وقوله "قد بلغ السيل الزبى"، يُقصد به أن السيل إذا وصل إلى الزبى، وهي الرابية التي لا يعلوها الماء، كان جارفا ومدمرًا، ويُضرب هذا المثل لما تجاوز الأمر الحد واشتد. كذلك قوله: "واتسع الخرق على المرتق"، يُقصد به أن الثقب في الثوب أو غيره (الخرق) قد اتسع بشكل يفوق قدرة الرتق (الإصلاح)، وهو مثل يُستخدم عند تزايد المشكلات وعدم القدرة على معالجتها.
(وَلْتَتَّخِذْنِي رَائِدًا فَإِنْني *** ذُو خِبْرَةٍ بِمُبْهَمَاتِ الطَّرُقِ)
الرائد هو من يُرسل في طلب الكلأ، أي ليكون رسولك ودليلك في البحث عن المراعي الخصبة، ويُرشدك إلى الطرق الأقصر. فهو على دراية تامة بخفايا الطرق التي قد تكون غير واضحة، وبالتالي يكون أكثر قدرة على إرشادك إلى المسارات السليمة والظاهرة.
(إِنْ غَرِبَتْ عَلَيْتُهَا وَلَوْ بِمَا *** جَمَعْتُهُ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقِ)
(أَوْ صَدِيَتْ أَوْرَدْتُهَا مِنْ أَدْمُعِي *** نَهْرَ الْأُبُلَّةِ وَنَهْرَ جِلْقٍ)
غرث يعني جاعت، والذهب معروف، والورق هو الدراهم الفضية. أما صدى فهو كالعطش، في الوزن والمعنى. وأوردتها تعني أحضرتها إلى المورد.
نهر الأبلة بالبصرة وجلق دمشق، ونهر بردى، هما من أروع الأماكن. وهذا يظهر غاية الرعاية من الناظم، حيث تكفل للحادي بأنه لا يقتصر على الريادة فقط، بل يتكفل أيضًا بعلف الإبل حتى لو كلفه إنفاق كل ما جمعه من مال. والسر في ذلك أن السكن هو الأهم، كما قال المجنون:
"وما حب الديار شغفن قلبى... ولكن حب من سكن الديارا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق