جمال الدين الحسيني الأفغاني
عبد القادر مصطفى أحمد المغربي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: تفتقد الأمة اليوم إلى الإمام الراسخ، والعالم الصادق، والفليسوف الناصح، الذي يضع يده على جروحها، ويكشف عن علتها، ويصف لها الدواء، بكل دقّةٍ وأمانة، بعيداً عن شيوخ الفتنة، ومرتزقة الحكومات، الذين يُصانعون الظلمة، ويُسارعون في أهوائهم، ويؤولون لهم مخازيهم باسم الدين والإسلام.
ولعل من أوائل الصيحات التي ارتقت بقوة في هذا الصرح، جهود المصلح العظيم: السيد جمال الدين الأفغاني، الذي كان من كبار المصلحين في القرن الماضي، وأحد المخلصين في دعوته للدين، الذين أيقظوا الشعوب، وأثاروا فيهم الوعي والحماسة، ليحرروا بلادهم من براثن الاستعمار وذل الاستعباد.
غير أن هناك من أساء الظن بالأفغاني؛ فرماه بالماسونية والمكر والخداع، ووصمه بالكفر والإلحاد والسعي في تقويض العروش وإسقاط الأنظمة، والكيد للإسلام والقضاء على الخلافة الإسلامية، وتوحيد الأديان، وهناك من جعله شيعي رافضي يتبع عقيدة الإيرانيين، وهناك من رماه بوحدة الوجود، وشأنه في ذلك شأن غيره ممن حظي بشهرة في جانب الحياة من أنصاره ومن يواليه وخصومه ومن يناوئه ويعاديه.
وقد حاول الدكتور محمد عمارة الدفاع عن الرجل في كتابه "جمال لدين الأفغاني المفترى عليه"، وليس هدفنا معرفة مكنون ما يخفيه الرجل، أو اتهامه بشيء مما يذكره الناس، وهذا لا يعني نقد أفكاره، أو محاولة تصويبها؛ وإنما الغاية من هذا العرض هو الاطلاع على شيء من سيرته المسجلة والمكتوبة في هذا الكتاب.
ولكي يكون الكلام علمياً ومنطقياً نورد أبرز التُّهم التي وُجّهت إلى الرجل، وهي: أن دعوته سياسية، تغريبية، باطنية، انحلالية، علمانية، قومية، اشتراكية، وطنية، وأنه دعا إلى توحيد الأديان الثلاثة، بالإضافة إلى السفور، وأنت ترى ما في هذه التُّهم من التناقض، وهي التي ذكرها مصطفى غزال في رسالته العلمية "دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام".
ترجمة الإمام جمال الدين الحسيني
اسمه ولقبه:
محمد بن صفدر الحسيني، الملقب بجمال الدين الأفغاني، هو أحد أعلام القرن الماضي، وأحد فلاسفة الإسلام في عصره، كما كان أحد الأفذاذ الذين قامت على سواعدهم نهضة الشرق الحاضرة.
نشأته:
ولد الشيخ جمال الدين في أفغانستان في قرية "أسعد آباد" سنة (1245 هـ)، ونشأ بكابل بعد انتقاله إليها مع أبيه وأعمامه بعد طردهم منها بعد استيلاء دوست محمد خان عليها.
دراسته وتعليمه:
بدأ تعليمه في الثامنة؛ حيث تلقى العلوم العقلية والنقلية، لا سيما في العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وكتابة وتاريخ عام وخاص، ومنها علوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وكلام وتصوف، وبرع في الرياضيات، وسافر إلى الهند، وحج (سنة 1273 هـ) وعاد إلى وطنه، فأقام بكابل.
مغادرته افغانستان:
انتظم الأفغاني في سلك رجال الحكومة في عهد الأمير (دوست محمد خان)، وشارك في الحروب الداخلية التي جرت بين أمراء الأفغان، حتى كان الظفر لمحمد أعظم خان، الذي انحاز الأفغان له، وكان الشيخ جمال الدين بمثابة وزير دولته، ثم تحالف خصمه شير علي مع الإنكليز، حتى كانت الغلبة له، ولم يتعرض حينها للشيخ الجمال بسوء لاعتبارات دينية، ولكنه أضمره له، ولم يسلم الأفغاني من المؤامرات التي حيكت ضده، فقرر مغادرة أفغانستان إلى الهند.
رحلته إلى الهند ومصر:
ثم رحل مارّاً بالهند ومصر، يقول محمد عبده: "ولما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومة الهند بحفاوة في إجلال، إلا أنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولم تأذن للعلماء في الاجتماع عليه إلا على عين من رجالها، فلم يقم أكثر من شهر، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها على نفقتها إلى السويس، فجاء إلى مصر وأقام بها نحو أربعين يوماً".
انتقاله إلى الأستانة
ثم سرعان ما تحول إلى الآستانة (سنة 1285 هـ) فجعل فيها من أعضاء مجلس المعارف، يقول الشيخ محمد عبده: "وتعجل بالسفر إلى الآستانة، فبعد أيام من وصولها أمكنه ملاقاة الصدر الأعظم عالي باشا، ونزل منه منزلة الكرامة، وعرف له الصدر فضله، وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله، وحومت عليه لفضله قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، وتناقلوا الثناء على علمه ودينه وأدبه، وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم، وبعد ستة أشهر سمي عضواً في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه".
نفيه من الأستانة إلى مصر:
ونفي منها (سنة 1288هـ)، فقصد مصر، يقول الشيخ محمد عبده: "وقام عليه شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي، لأنه كان يرى الشيخ يمس بشيء من رزقه، فأرصد له العنت، وأقام من الحق باطلاً ليصيب غرضه من الانتقام، فأشاع أن الشيخ جمال الدين زعم أن النبوة صنعة، واحتج لتثبيت الإشاعة بأنه ذكر النبوة في خطاب يتعلق بالصناعة، وهكذا تكون حجج طلاب العنت، ثم أوعز إلى الوعاظ في المساجد أن يذكروا ذلك محفوفاً بالتفنيد والتنديد، فاهتم السيد جمال الدين للمدافعة عن نفسه وإثبات براءته مما رمي به، وأكثرت الجرائد من القول في المسألة، فمنها نصراء للشيخ جمال الدين، ومنها أعوان لشيخ الإسلام، وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر".
النهضة الدينية في مصر:
ولما استقر بالديار المصرية نفخ فيها روح النهضة الإصلاحية، في الدين والسياسة، وتتلمذ له نابغة مصر الشيخ محمد عبده، وكثيرون. يقول الشيخ محمد عبده: "ولم يكن عازماً حلية الإقامة بها، حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة وظيفة ألف قرش مصري كل شهر نزلاً أكرمته به لا في مقابلة عمل، واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم". وكان يُدرس العلوم المختلفة من فلسفة وحكمة وغيرهما في داره،
حفاوة المصريين بالأفغاني وطرده منها:
وأصدر أديب إسحاق، وهو من مريديه، جريدة (مصر) فكان جمال الدين يكتب فيها بتوقيع (مظهر بن وضاح) أما منشوراته بعد ذلك فكان توقيعه على بعضها (السيد الحسيني) أو (السيد)، وكان الخديوية من أعظم المناصرين لمذهبه ومقالاته، حتى جاء توفيق باشا، يقول الشيخ محمد عبده: "وكان الخديوي توفيق من المؤيدين لمقاصد السيد، الناشرين لمحامده، إلا أن بعض المفسدين ومنهم مستر قيفيان قنصل إنكلترا الجنرال سعى فيه لدى الجناب الخديوي، ونقل المفسد عنه ما الله يعلم أنه بريء منه حتى غير قلب الخديوي عليه، فأصدر أمره بإخراجه من القطر المصري، ففارق مصر إلى البلاد الهندية".
نفيه إلى الهند:
ونفته الحكومة المصرية (سنة 1296 هـ) فرحل إلى حيدر آباد، يقول محمد عبده: "وأقام بحيدر أباد الدكن، وفيها كتب رسالته التي ألفها في إبطال مذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدينة، والكفر فساد العمران. ولما كانت الفتنة الأخيرة دعي من حيدر أباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها، ولما انتهت الأزمة المصرية مع الإنكليز، أُبيح له الذهاب إلى أيّ بلدٍ شاء، فاختار باريس".
انتقاله إلى باريس:
ثم انتقل إلى باريس، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات، وأنشأ فيها مع الشيخ محمد عبده جريدة (العروة الوثقى)، يقول الشيخ محمد عبده: " وقد وافيناه في أثناء هذه المدة، ولما كلفته جميعة العروة الوثقى أن ينشئ جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عدداً، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبواب الهند عنها، واشتدت الحكومة الانكليزية في إعنات من تصل إليهم فيها".
ورحل رحلات طويلة، فأقام في العاصمة الروسية (بطرسبرج) كما كانت تسمى، أربع سنوات، ومكث قليلا في ميونيخ (بألمانيا) حيث التقى بشاه إيران (ناصر الدين) ودعاه هذا إلى بلاده، فسافر إلى إيران.
عودته إلى إيران، ثم أفغانستان:
وصل الشيخ الأفغاني إيران سنة (1303 هـ) ثم ضيق عليه فيها، فاعتكف في أحد المساجد سبعة أشهر، كان في خلالها يكتب إلى الصحف مبيناً مساوئ الشاه، محرضاً على خلعه.
عودته إلى الأستانة:
وخرج إلى أوروبا، ونزل بلندن، فدعاه (السلطان عبد الحميد) إلى الآستانة، فذهب وقابله، وطلب منه السلطان أن يكف عن التعرض للشاه، فأطاع، وأراد السلطان عبد الحميد أن يتأكد من ذلك، ويشتري صمته فمنحه رتبة قاض عسكري وهي وظيفة يسيل لها لعاب كثير من أصحاب المناصب والشهوات لها، لما تقتضيه من رواتب وحلل زاهية ومركز مرموق، ولكن جمال الدين الأفغاني لم يكن من هذا النوع فعندما جاء رجال السلطان يتسابقون إليه بهذه البشرى قال لهم: قولوا لمولاكم السلطان: إن جمال الدين الأفغاني يرى رتبة العلم هي أعلى رتبة ثم قولوا له: إنني لا أستطيع أن أكون مثل البغل المزركش.
وعلم السلطان بعد ذلك أنه قابل (عباس حلمي) الخديوي، فعاتبه قائلا: أتريد أن تجعلها عباسية؟ ومرض بعد هذا بالسرطان، في فكه، ويقال: دس له السم.
وتوفي بالآستانة سنة (1315 هـ). ونقل رفاته إلى بلاد الأفغان سنة 1363 هـ.
معرفته باللغات، واطلاعه الكبير:
وكان عارفا باللغات العربية والأفغانية والفارسية والسنسكريتية والتركية، وتعلم الفرنسية والإنجليزية والروسية، وإذا تكلم بالعربية فلغته الفصحى، واسع الاطلاع على العلوم القديمة والحديثة، كريم الأخلاق كبير العقل، لم يكثر من التصنيف اعتمادا على ما كان يبثه في نفوس العاملين وانصرافا إلى الدعوة بالسر والعلن.
تأسيسه جريدة العروة الوثقى:
وهو صاحب الفضل في تأسيس جريدة "العروة الوثقى"، والتي أنشأها لنصرة الضعفاء، والرد على استبداد الغرب بدول الشرق، وتفريط الحكام في مصالح شعوبهم، وقد أبرز المؤلف أهمية هذه الجريدة، في استحداث المعاني، وتعريب الكلمات، وكونها المقدمة التي وضعت بين يدي ناشئة العرب مناهج الكتابة وأساليب الإنشاء، التي لم يكونوا يعهدونها من قبل، بما تضمنته من الكلمات الفصيحة، والتعابير الرشيقة.
وتعد هذه الجريدة هي بادرة الوعي العربي لما يجري بين الناس، بما تضمنته من الموضوعات الاجتماعية، والأخلاقية، والسياسية، والإصلاح الديني، ومن أبرز العناوين التي تضمنتها التشنيع على الإنكليز في أطماعهم في البلاد العربية، وتهييج النفوس عليهم، وتأريث نيران الفتن من حولهم.
وممن تأثّر بالشيخ الأفغاني:
أحمد لطفي بن السيد أبي علي (ت 1382 هـ)، المعروف بأستاذ الجيل، وكان رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وقد تأثر به أثناء وجوده في استنبول.
سعد (باشا) بن إبراهيم زغلول (ت 1346 هـ)، ويُعد زعيم نهضة مصر السياسية، وأحد أبرز خطبائها، واتصل بالأفغاني، وتأثر به وبالشيخ محمد عبده.
عبد القادر بن مصطفى المغربي الطرابلسي (ت 1375 هـ)، نائب رئيس مجمع اللغة بدمشق، وله "مذكرات جمال الدين الأفغاني -ط".
فتح الله بن محمد جواد الأصفهاني (ت 1339 هـ) ويُلقب بشيخ الشريعة، وكان أحد فقهاء الإمامية، ومن أصدقاء الشيخ جمال الدين الأفغاني.
محمد بخيت بن حسين المطيعي الحنفي (ت 1354 هـ)، مفتي الديار المصرية، اتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، ثم كان من أشد المعارضين للشيخ محمد عبده.
الشيخ محمد عبده بن حسن خير الله (ت 1323 هـ)، مفتي الديار المصرية، وأحد قادة النهضة الإصلاحية، والمحرر الأول لجريدة العروة الوثقى، وأحد أصدقاء الشيخ جمال الدين الأفغاني، وقد ترجم له كما في "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر (ص 440)".
معارضي الشيخ جمال الدين الأفغاني:
1-وكان من أشد الناس معارضةً للشيخ الأفغاني هو الشيخ يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني (ت 1350 هـ)، وشنَّ حملةً شعواء على الأفغاني ورفيقه الشيخ محمد عبده، وله "الرائية الصغرى - ط" قصيدة طويلة فيها هجاء للسيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا، وقد ردَّ عليه الشيخ محمود شكري الآلوسي في ذلك.
2-الشيخ محمد بن يوسف بن محمد بن سعد الحيدري الخلوتي (ت 1380 هـ)، وكان من الناقمين على دعاة فتح باب الاجتهاد، ومن المنتقدين لآراء الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده لأنهما لا يقولان بما يقوله المتقدمون ويخالفون في بعض آرائهما الفقهاء والمفسرين، وله آراء أخرى كنفي كروية الأرض ودورانها، وفي زعمه أن ذلك عقيدة المسلمين وقول علمائها.
ومن مؤلفاته:
(تاريخ الأفغان - ط) و (رسالة الرد على الدهريين بالفارسية- ط) ترجمها إلى العربية تلميذه الشيخ محمد عبده بمساعدة عارف أفندي أبي تراب الأفغاني، وقد أثبت فيها أن الدين هو أساس المدنية، وأن الكفر هو فساد العمران. وجمع محمد باشا المخزومي كثيراً من آرائه في كتاب (خاطرات جمال الدين الأفغاني - ط). وله كثير من الرسائل المطبوعة، منها: (الإخاء -ط)، و(الرد على النيشريين)، ورسالة (البيان في تاريخ الإنكليز والأفغان)، و(العلة الحقيقية لسعادة الإنسان)، وكلها مطبوع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق