المنح المطلوبة في استحبَابِ رَفع اليدين في الدُّعَاءِ بعد الصلوات المكتوبة
العلامة المحدث الشيخ أحمد بن الصديق الغماري المغربي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: إن الدعاء سفينةٌ لا تَعطب، وحزبٌ لا يُغلب، وجُندٌ لا يهرب، فالاستعانة به مؤكد، والاعتقاد باستجابته واجبة، ومن تعلق بسواه من الأسباب المادية خسر وخاب، فإنه لم يدعُ عبدٌ ربه فأصابته معرَّة، ولا مسَّته من صدق اللجوء إليه مضرَّة، فيا لله كم للدعاء من فضل وفضيلة، كان ذلك بعد الصلاة أو قبلها، فريضةً كانت أم نافلة.
وهذا الكتاب لمؤلفه أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله، وضعه لأجل مناقشة حصلت بينه وبين بعض العلماء بفاس، في رفع اليدين في الدعاء عقب الصلاة، وادعى ذلك العالم أنه بدعة، فألف الغماري رسالته هذه التي يقرر فيها استحباب رفع اليدين في الدعاء بعد الصلوات المكتوبة وقد طبعت بفاس أيضاً.
وجعل الغماري كتابه هذا في مقدمة، وفصلين وخاتمة، وناقش فيها بعض المسائل المهمة، وذكر ما يقرب من السبعين حديثاً موضع الاستدلال، وقد علق عليها العلامة عبد الفتاح أبو غدة، وبين هفوات الشيخ في بعض كلامه، والكتاب في الجملة قد حقق مبتغاه وغايته، على أننا نخالف الشيخ في مسألة علو الله على خلقه، فنرى أنه علوٌ حقيقي، كما يليق بجلال الله تعالى.
أما المقدمة فناقش فيها أحاديث الرفع، ومعارضتها لحديث أنس المانع من رفع اليدين أصلاً إلا في الاستسقاء، وبين أن العلماء تعاملوا معه بطريقتين:
الطريقة الأولى: الترجيح:
فرجحوا أحاديث الرفع على حديث أنس؛ لأن الأحاديث الدالة على رفع النبي ﷺ يديه في الدعاء، فجاء ذلك من حديث على وابنه الحسين عليهما السلام، وأبى هريرة، وأبي حميد الساعدي، وأبي سعيد الخدري، وأبي بكرة، وأبي موسى، وأبى كبشة، والمطلب بن أبي وداعة، وابن عباس، وعائشة، وعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وسلمان الفارسي، وجابر بن عبد الله، والفضل بن عباس، وعمیر مولی آبی اللحم، وعبد الرحمن بن سمرة، وشداد بن أوس، وأبي الدرداء، وأبى مويهبة، ورجل من الصحابة، ومالك بن يسار، وأبي برزة الأسلمي، والبراء بن عازب، وخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن الزبير، وجرير بن عبد الله، ويزيد بن سعيد الكندي، وأبان المحاربي، ويزيد بن عامر، وأم عطية وسعيد بن المسيب مرسلا، وكذلك الحسن والزهرى وخالد بن السائب والوليد بن عبد الله بن أبي مغيث
الطريقة الثانية: التأويل:
فجعلوا حديث أنس مأوّل من وجهين:
(الوجه الأول): حمل كلامه على نفي العلم، بمعنى أن أنساً لم يرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء، فأخبر عما علمه، وأخبر غيره أنه كان يرفعها، ومن علم حجةٌ على من لم يعلم، وبحسب القاعدة الأصولية: إذا اجتمع مُثبتٌ ونافٍ قُدم المثبت؛ لأن عنده زيادة علم.
(الوجه الثاني): حمل كلامه على نفي الصفة الخاصة، بمعنى أن نفي أنس للرؤية لم يكن لرفع النبيّ يديه، وإنما كان لصفة خاصة في الرفع، وذلك أنه لم يكن يرفعها رفعاً بليغاً كما في الاستسقاء.
ثم جعل الفصل الأول: لبيان رفع اليدين في الدعاء وتقريره عموماً، والتي بلغت ثمانية وستين دليلاً، وبيّن أن هذه الأدلة بعمومها تشمل جميع أحوال الداعي، التي منها حالته بعد الصلاة.
وفي الفصل الثاني: ذكر الأدلة الواردة في رفع اليدين بعد المكتوبة بخصوصه، فذكر حديثين ضعيفين، وهي مع ضعفها تصلح كشواهد يقوي بعضها بعضاً، وإلا فقد تساهل العلماء في رواية الحديث الضعيف والعمل به، ونقل ذلك من كلامهم، ونقل عن جماعة من العلماء استحبابهم العمل بها، وقد ناقش الغماري العلامة ابن القيم ورد عليه في منعه العمل بذلك.
وفي الخاتمة: ناقش مسألةً يكثر الحديث عنها، وهي مشروعية الدعاء في جماعة، فقرره بأحاديث عامة في هذا الباب، وناقش كلام مالك وجماعة من مذهبه في كراهتهم لذلك، وقرر ما يعتقده في هذه المسألة من الجواز.
_______________________________
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه
حمداً لمن جعل الدعاءَ مُنَّ العبادةِ ، وأَمَرَ به ثم أثابَ، واسْتَجَابَ ولَبَّي عِبَادَه، وصلاة وسلاماً دائمين مُتلازمين على سيدنا محمد المُؤتَى فضائل الرُّسُلِ وزيادة، وعلى آله وأصحابه السَّادة، وعلماء شريعته القادة. أما بعد:
فقد سألني أخونا في الله الشريف الأصيل الفقيه الجليل السيد الصادق بن المهدي بن أحمد بن الشيخ، الشهير العارف الكبير الأستاذ أبي العباس أحمد بن عجيبة الحَسَني: عن رفع اليدين في الدعاء بعد الصلوات المكتوبات، هل وَرَد في السُّنَّة ما يَدُلُّ على مشروعيته واستحبابه؟
وهل لمن أنكره دليلٌ يُستند إليه، أو قول يُعتمدُ عليه؟
فأجبتُ بما يَسَّرَ الله الوقوف عليه من الأحاديث الواردة في ذلك، في هذه الأوراق، وسميتُها بـ «المِنَح المطلوبة في استحباب رفع اليدين في الدعاء بعد الصلوات المكتوبة».
فأقول، ومن المعين سبحانه أسأل التوفيق والإعانة:
مقدمة
قد يَتَمسَّكُ من أنكر رفع اليدين في الدعاء عامة، وبعد الصلوات خاصة، بما رويناه في «صحيحي البخاري ومسلم» من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَرْفَعُ يديه في شيءٍ من دعائِهِ، إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفَعُ يديه حتى يُرَى بَياضُ إِبْطَيه».
فيُلْقَمُ بأن هذا الخبرَ مُعارَضُ بالأحاديث الصحيحةِ المُتَفَقِ على صحتها بين أئمة الحديث، وهي كثيرةٌ، بَوَّب لها الحفاظ في مُصنَّفاتِهم أبواباً مخصوصة، منهم: الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب الدعوات من «صحيحه»، فقال: (باب رفع الأيدي في الدعاء)، وأورد فيه من الأحاديث الدالة على ذلك ما سيُتْلَى عليك بعد إن شاء الله تعالى، إلى غيره مما لا يُحْصَى كثرة. وأفــردهـا الحـافـظ زكـي الـديـن عبد العظيـم المنـذري فـي جـزء، وكذا خاتمةُ الحُفَّاظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في رسالة سَمَّاها «فَضُ الوِعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء» نصه.
بل نَصَّ الحافظ المذكور في شرحه على «تقريب النواوي» المسمى بـ «تدريب الراوي» على أن أحاديثَ رفع اليدين في الدعاء تَوَاتَرَتْ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تواتراً معنوياً، فقال في مبحث المتواتر ما شه : ومنه ما تَوَاتَرَ معناه كأحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلَّم نحو مئة حديث فيه رفع يديه في الدعاء. وقد جَمَعتُها في جزء، لكنها في قضايا مختلفة، فكلُّ قضيَّةٍ منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تَوَاتر باعتبار المجموع». اهـ.
(=عدد الأحاديث في «فَضُ الوِعاء» ٥٥ حديثاً فقط، وبعضها آثار موقوفة، فلعل الجزء الذي يُشير إليه هنا غير «فَضُ الوِعاء» المذكور).
وهي مُقدَّمة على حديث أنس، والعمل بها أولى عند جماهير أئمة الحديث وأرجح، إذ غاية ما في حديث أنس نفي رؤيته رفع رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يديه عند الدعاء في غير الاستسقاء فيما يَعلَمُ، وذلك لا يستلزم وهي نفي رؤيةٍ غيرِه، وأيضاً خبره ناف وهذه الأحاديث مثبتةٌ، وقد تقرر تقديمُ المُثبَتِ على النافي في الأصول، وهو الصحيحُ والمشهور، الذي مَشَى عليه الجمهور، لأن غفلة الإنسان كثيرة، ولأنه يُفيدُ زيادة علم وتأسيساً لما لم يكن مؤسساً، والنافي إنما يُقرر الأصلَ بمعنى تأكيد له، ولا يخفى بعده إذ فيه إيضاح الواضح.
وذهب قوم كما حكاه الحافظ في «الفتح» إلى التأويل جمعاً بين الأحاديث المُثبتة وحديث أنس النافي، فقالوا: يُحمَلُ النفي على جهةٍ مخصوصة:
إما على الرفع البليغ، ويدل عليه قوله فيه: (حتى يُرَى بياضُ إبطيه)، ويُؤَيَّده أن غالب الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الدعاء، إنما وَرَد فيها مَدُّ اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء زاد على ذلك، فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه، وحينئذٍ يُرَى بَياض إبطيه.
وإما على صفة رفع اليدين في ذلك، كما في رواية مسلم في الصحيح من حديث أنس الله عنه: «أن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم رضي استَسْقَى، فأشار بظهر كفّه إلى السماء». وفي رواية لأبي داود في السنن من حديثه أيضاً: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يستسقي هكذا ومَدَّ يديه، وجَعَلَ بطونهما مما يلي الأرض، حتى رأيتُ بياض إبطيه». انتهى كلام ابن حجر.
قال القاضي أبو عبد الله محمد بن علي الشوكاني في «نيل الأوطار بشرح منتقى الأخبار»: والظاهر أنه ينبغي البقاء على النفي المذكور عن أنس، فلا تُرفع اليد في شيء من الأدعية إلا في المواضع التي وَرَدَ فيها الرفع، ويُعمل فيما سواها بمقتضى النفي، وتكون الأحاديث الواردة في رفع في غير الاستسقاء أرجح من النفي المذكور في حديث أنس، إما لأنها خاصة فيُبنى العام على الخاص أو لأنها مُثْبِتَةٌ، وهو أولى من النفي، وغاية ما في حديث أنس، أنه نَفَى الرفعَ فيما يَعْلَمُ، ومن عَلِمَ حَجَّةٌ على من لم يعلم . اهـ
(= تحرير المقام أن يقال: دعاء سؤال الحاجات من الله تعالى يُستحب فيه رفع اليدين مطلقاً من غير استثناء، ولا تقييد بوقت دون وقت لحديث مالك بن يسار السَّكُوني الآتي برقم ١٣ ص ٧٥ وحديث أبي بكرة الثقفي الآتي تعليقاً على الحديث ١٣ ص ٧٥، وحديث سلمان الآتي برقم ۹ و ۱۰ و ۱۱ ص ٧٣ -٧٤، وغيرها.
وأما الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلَّم فيُستحب رفع اليدين فيها فيما ورد فيه رفع اليدين بخصوصه كدعاء القنوت في الصلاة، ودعاء الاستسقاء، والدعاء عند رؤية الكعبة، والدعاء على الصفا، والدعاء عند الجمرات، والدعاء في عرفة، وغير ذلك.
وأما الأدعية المأثورة في الأوقات المتكررة؛ كأدعية النبي صلى الله عليه وسلم صباحاً ومساءً، وعند طلوع الشمس، ووقت النوم والاستيقاظ منه، وقبل الأكل وبعد الفراغ منه، وما إلى ذلك، فلا يُحكم باستحباب رفع اليدين في خصوص تلك الأدعية، بل يبقى الأمرُ فيها على الإباحة المطلقة ما لم يمنع منه مانع أو يرد في عدم مشروعية الرفع فيها دليل خاص
وأما الأذكار فلا يُشرع فيها رفع وسواء في ذلك الأذكار المأثورة في الأوقات المتكررة أم غيرها).
وقال السيد محمد صديق حسن خان القِنَّوْجي في باب الآداب من «نزل الأبرار»: (وهل بَسَطَ اليدين ورفعهما في الدعاء ؟) بعد إيراد أحاديث ذلك ما نصه: والحاصل أن رفع اليدين في الدعاء أي دعاء كان في أي وقت كان بعد الصلوات الخمس وغيرها أدب من أحسن الآداب، دَلَّت عليه الأحاديث عموماً، ولا يَضُرُّ ثبوت هذا الأدب عدم رواية الرفع في الدعاء بعد الصلاة، لأنه كان معلوماً لجميعهم، فلم يَعْتَنُوا بذكره في هذا الحين.
وإنكار الحافظ ابن القيم رحمه الله رفع اليدين في الدعاء بعد الصلوات وَهَمٌ منه، قُدّس سِرُّه، وقد حَقَّقنا هذه المسألةَ في مؤلفاتنا تحقيقاً واضحاً لا سُتْرَة عليه.
قال القسطلاني في إرشاد الساري شرح صحيح البخاري: الصحيحُ استحباب الرفعِ في سائر الأدعية، رواه الشيخان وغيرهما. (=يريد أنه جاءَتْ في الصحيحين وغيرهما أحاديثُ كثيرة فيها ذكر رفع النبي صلَّى الله عليه وسلم يديه في الدعاء، في قضايا مختلفة، وهذا يدل على استحباب الرفع في الدعاء مطلقاً من غير تقييد بدعاء دون دعاء ووقت دون وقت)
وحديث أنس في «الصحيحين»: «لا يَرفَعُ إلا في يَرفَعُ إِلَّا في الاستسقاء» مؤوَّلٌ على أنه لا يرفعهما رفعاً بليغاً ووَرَد رفع يديه عليه الصلاة والسلام في مواضع. ذلك، ثم سَرَدَ جملةٌ من الأحاديث في ذلك.
ثم قال القنوجي أيضاً: والحاصل: استحباب الرفع في كل دعاء، إلا ما جاء مُقيَّداً بما يقتضي عدمه كدعاء الركوع والسجود ونحوهما. اهـ.
وقوله: ولا يَضُرُّ ثبوت الأدب، عدم رواية الرفع في الدعاء بعد الصلوات، إلى آخر التعليل كلام حسن، والظاهر أنه لم يقف على الأحاديث الخاصة بذلك، وهي واردةٌ كما سَتَقِفُ عليه بحول الله تعالى.
وقال الإمام النووي في شرح مسلم: هذا الحديث يُوهم ظاهره أنه لم يرفع صلَّى الله عليه وسلَّم إلا في الاستسقاء، وليس الأمر كذلك، بل قد ثَبَثَ رفع يديه صلَّى الله عليه وسلم في الدعاء في مواطن غيرِ وهي أكثر أن تُحْصى، وقد جَمَعتُ منها نحواً من ثلاثين حديثاً من «الصحيحين» أو أحدهما، وذكرتُها في أواخر أبواب صفة الصلاة من «شرح المهذب».
(=٣: ٤٤٨ -٤٥٠ تحت عنوان (فرع) في استحباب رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة، وبيان جملة من الأحاديث الواردة فيه، وذكر هناك نحو ۱۸ حديثاً، منها حديثان موقوفان وليس كل تلك الأحاديث من الصحيحين أو أحدهما، بل بعضها من لجزء رفع اليدين للبخاري وغيره).
ويتأوَّلُ هذا الحديثُ على أنه لم يَرفَع الرفع البليغ بحيث يُرَى بياضُ إبطيه، إلا في الاستسقاء، أو أن المراد لم أره رَفَعَ، وقد رَءَاهَ غيرُه رفع. فيُقدَّم المُثْبِتُون في مواضع كثيرة، وهم جماعات، على واحد لم يَحضُر ذلك. ولا بد من تأويله لما ذكرناه . اهـ
وفي إكمال إكمالِ الْمُعْلِم: قال الإمام الشافعي: المعنى: لا يَرْفَعُهما كلَّ الرفع حتى تُجاوزا رأسَه ويُرَى بياض إبطيه، لو لم يكن عليه ثوب، إلا في الاستسقاء، لأنه ثَبَتَ رفعُ الأيدي في كل أدعيته. اهـ.
وقال شيخ الإسلام الحافظ في «الفتح» على حديث ابن عمر: «رفع النَّبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنَعَ خالد»، وفي الحديث ردُّ على من قال لا يرفع اليدين في الدعاء غيرِ الاستسقاء أصلاً، وتمسَّكَ بحديث: «لم يكن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يرفع يديه في شيء من أدعيته إلا في الاستسقاء». لكن جمع بينه وبين أحاديث الباب وما في معناها بأن المنفي صفة خاصة، لا أصل الرفع.
وقد أشرتُ إلى ذلك في أبواب الاستسقاء، وحاصله: أن الرفع في الاستسقاء يُخالِفُ غيرَه، إما: بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين. ولا يُعكِّرُ على ذلك أنه ثَبَت في كل منهما : «حتى يُرَى بياضُ إبطيه»، بل يُجمَعُ بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره.
وإما أن الكفين في الاستسقاء يَليِان الأرضَ وفي الدعاء يليان السماء. قال المنذري: وبتقدير تعدُّر الجمع، فجانب الإثبات أرجح.
قلتُ: ولا سيما مع كثرة الأحاديث الواردة في ذلك، فإن فيه أحاديث كثيرة. ثم سَرَدَ الحافظ جملةً منها إلى أن قال: وأما ما أخرجه مسلم من حديث عُمَارَة بن رُؤيبة - براء مُوَحَّدة مُصغرة - أنه رأى بشر بن مروان يَرفَعُ يديه، فأنكر ذلك، وقال: لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وما يزيدُ على هذا بالسبابة، فقد حَكَى الطَّبَري عن بعض السلف أنه أَخَذَ بظاهره، وقال: السنة أن الداعي يشير بإصبع واحدةٍ، ورَدَّه بأنه إنما وَرَدَ في الخطيب حال الخطبة. وهو ظاهر في سياق الحديث، فلا معنى للتمسُّك به في منع رفع اليدين في مع ثبوت الأخبار بمشروعيتها.
ثم قال الحافظ: قال الطبري: وكَرِه رفع اليدين في الدعاء ابن عمر وجُبَيْر بن مطعم، ورَأَى شُرَيح رجلاً يرفع يديه داعياً، فقال: من تتناول بهما؟ لا أُمَّ لك! وساق الطبري ذلك بأسانيده عنهم.
وذكر ابنُ التّين: عن عبد الله بن عمر بن غانم، أنه نَقَلَ عن مالك أن رفع اليدين في الدعاء ليس من أمرِ الفقهاء.
قال: وقال في «المُدوَّنة»: ويَختَصُّ الرفع بالاستسقاء، ويَجعَلُ بطونهما إلى الأرضِ. وأما ما نقله الطبري عن ابن عمر فإنما أنكَرَ رفعهما إلى حذو المنكبين، وقال: ليجعلهما حذو صدره، كذلك أسنده الطبري عنه أيضاً. وعن ابن عباس: أن هذه صفة الدعاء.
وأخرج أبو داود والحاكم عنه من وجه آخر، قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، والاستغفارُ أن تُشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تَمُدَّ يديك جميعاً. وأخرج الطبري من وجه آخر عنه قال: يرفع يديه حتى يُجَاوِزَ بهما رأسه.
وقد صح عن ابن عمر خلافُ ما تقدَّم، أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» من طريق القاسم بن محمد رأيتُ ابنَ عُمَرَ يدعو عند القاص يَرفَعُ يديه حتى يُحَاذِي بهما منكبيه، بطونهما مما يليه وظاهرهما مما يلي الأرض. اهـ.
(=لم أجده في «الأدب المفرد»، وهو عند ابن سعد في «الطبقات الكبرى»٤: ١٦٢ عن خالد بن مخلد، قال حدثنا سليمان بن بلال قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: رأيتُ ابن عمر عند القاص رافعاً يديه يدعو، حتى تحاذيا منكبيه». رجاله ثقات سوى ابن مخلد ـ وهو القطواني ـ ففيه مقال لا يضر، وقد روى عنه البخاري في صحيحه من مفاريده. وروى عبد الرزاق في مصنفه ۲: ٢٥٢ في كتاب الصلاة (باب مسح الرجل وجهه بيده إذا دعا)، عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد «أن ابن عمر كان يَبْسُط يديه مع القاص». وتصحف (القاص) هناك إلى العاص !!).
وقال الزركشي في كتاب «الأزهية» ردّاً لما تقدَّم عن ابن عمر من كراهة رفع الأيدي في الدعاء، فقال: وأما ما ذكره السُّهَيلي في «الروض» عن ابن عمر أنه رأى قوماً يرفعون أيديهم في الدعاء، فقال: «أو قد رفعوها! قَطَعها الله، والله لو كانوا بأعلى شاهقٍ ما ازدادوا بذلك من الله قرباً»، فقال الحافظ شمس الدين الذهبي: الصحيحُ عن ابن عُمَر خلافُ هذا، قال يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم: رأيتُ ابن عُمَرَ رافعاً يديه إلى منكبيه، يدعو عند القاص. وإسناده كالشمس. اهـ.
والنقولُ عن أئمة الحديث في هذا أكثر من أن تُحصَى للمُتَتَبَّع. فإن قيل: إذا كان الحق سبحانه ليس في جهة، فما معنى رفع اليدين بالدعاء نحو السماء؟.
فالجواب كما نقله في (إتحاف السادة المتقين) عن الطُّرْطُوشي، من وجهين:
أحدهما: أنه محلُّ التعبُّد كاستقبال الكعبة في الصلاة، وإلصاق الجبهة بالأرضِ في السجود، مع تنزهه سبحانه عن محل البيت ومحل السجود، فكأنَّ السماء قبلة الدعاء.
وثانيهما: أنها لما كانَتْ مهبط الرزق والوحي وموضع الرحمة والبركة، على معنى أن المطرَ يَنزِلُ منها إلى الأرضِ فيُخرِجُ نباتاً، وهو مَسكَنُ الملأ الأعلى، فإذا قَضَى الله أمراً ألقاه إليهم، فيُلقونه إلى أهل الأرض، وكذلك الأعمال تُرفَع، وفيها غير واحد من الأنبياء، وفيها الجنة التي هي غاية الأماني، فلما كانت مَعْدِناً لهذه الأمور العِظام ومَصْرِفة القضاء والقدر، تَصرَّفَتْ الهِممُ إليها، وتوفَّرَتْ الدواعي عليها.
قال: ولقد أجاب القاضي ابن قُرَيعَة، لما صَلَّى ذات ليلة في دار الوزير المُهَلَّبي، وأبو إسحاق الصَّابِي يَنظُرُ إليه، فأحس القاضي، فلما سَلَّم، قال له ما لك تَرمُقُني يا أخا الصابية، أحَنَنْتَ إلى الشريعة الصافية؟ عليك شيئاً، قال: ما هو ؟ قال: بل أخذتُ، قال: رأيتك ترفع يديك نحو السماء، وتخفِضُ بجبهتك نحو الأرضِ، فمطلوبك أين هو ؟ فقال: إننا نرفعُ أيدينا إلى مطالع أرزاقنا، ونَحْفِضُ جِبَاهَنا إلى مَصارِع أجسادنا، نستدعي بالأول أرزاقنا، ونَستدفع بالثاني شرَّ مَصارِعنا. ألم تسمع قوله تعالى: {وفي السماء زرقكُم وما توعدون } وقال: {منها خلقناكم وفيها نُعيدكُم}. فقال المُهلَّبِي: ما أَظُنُّ أن الله خَلَقَ في عصرك مثَلك!
(= قلتُ: السؤال سؤالُ حاقد مُتَعنّت والجواب جواب مسكت متفلت، فلا تلتفت إليهما، فهما من باب الظرافة لا من باب الفقاهة )
سَافِحَة (= يعني أن المقالة التالية جارحة قاتلة)
زَعَمَ قومٌ أن الدعاء بعد الصلاة لم يُشرع ، وتَمَسَّكوا بما رَوَيناه في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن الحارث، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إذا سَلَّم لا يَثْبُتُ إِلَّا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام». وهذا باطل مردود، فقد وَرَدَتْ بمشروعيته وندبه الأخبار، وصحت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الآثارُ.
والنفي المذكور في حديث عائشة حمله العلماء على نفي استمراره جالساً على هيئته قبل السلام إلا مقدار ما يقول ما ذُكِرَ، ويُؤَيَّدُه ما ثَبَت أنه كان إذا صَلَّى أقبل على أصحابه، فيُحمَلُ ما وَرَدَ من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يُقبل بوجهه على أصحابه.
قال ابن القيم في الهَدْي النبوي: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مُستقبل القبلة، سواء الإمامُ والمنفرد والمأموم، فلم يكن ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلَّم أصلاً، ولا رُوِيَ بإسناد صحيح ولا حَسَنٍ عنه (=سيأتي ردُّه في كلام الحافظ قريباً في ص ۷۱۷۰، وسبق الرد عليه أيضاً في كلام السيد صديق حَسَن خان، في ص ٥٦). وخَصَّ بعضُهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي صلَّى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان راه من رآه. (=قال الإمام النووي في شرح المهذب» ٤٣١:٣ - ٤٣٢: قد ذكرنا استحباب الذكر والدعاء للإمام والمأموم والمنفرد، وهو مستحب عقب كل الصلوات بلا خلاف، وأما ما اعتاده الناسُ أو كثير منهم من تخصيص دعاء الإمام بصلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ، وإن كان قد أشار إليه صاحب «الحاوي»، فقال: إن كانت صلاة لا يتنفل بعدها كالصبح والعصر استدبَرَ القبلة، واستقبل الناس ودعا، وإن كانَتْ مما يتنفل بعدها كالظهر والمغرب والعشاء فيختار أن يتنقل في منزله . وهذا الذي أشار إليه من التخصيص لا أصل له بل الصواب استحبابه في كل الصلوات، ويُستَحبُّ أن يُقبل على الناس فيدعو والله أعلم)
قال -يعني ابن القيم: وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فَعَلَها فيها، وأَمَرَ بها فيها.
قال: وهذا اللائق بحال المصلَّي، فإنه مُقبل على ربه مناجيه، فإذا سَلَّم منها انقطعَتْ المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه، وهو مُقبل عليه، ثم يَسألُ إذا انصرَفَ عنه ؟ (=بل يسأله في داخل الصلاة وفي خارجها بعد السلام، لورودِ الأحاديث في الأمرين معاً.)
ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يُستَحَبُّ لمن أتى بها أن يُصَلِّي على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعد أن يَفْرُغَ منها، ويدعُو بما شاء، ويكون دعاؤُه عَقِب هذه العبادة الثانية وهي الذكر، لا لكونه دُبُرَ المكتوبة اهـ انتهى.
(=وبقية كلام ابن القيم: «فإنَّ كلَّ من ذَكَر اللَّهَ وحَمِده وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلَّم استُحِبَّ له الدعاء عقيب ذلك، كما في حديث فضالة بن عبيد: إذا صَلَّى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليُصَلِّ على النبي صلى الله عليه وسلَّم ، ثم ليَدْعُ بما شاء». قال الترمذي: حديث صحيح». انتهى. وهذا مما يُستغرَبُ عن ابن القيم رحمه الله تعالى، يُصرّح باستحباب الدعاء عقيب الذكر والثناء على الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، مع عدم ورود نص يُصرّح باستحباب ذلك على الخصوص فيما علمته ويُنكر استحباب الدعاء بعد الصلاة مع ورود أحاديث كثيرة في ذلك قولية وفعلية. وحديث فضالة عبيد الذي ذكره هنا وارد في تعليم أدب الدعاء في داخل الصلاة، وهذا نص الحديث بتمامه نقلاً عن جامع الترمذي ٥: ١٨٠ في كتاب الدعوات الباب ٦٦): عن فضالة بن عُبيد يقول : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، فلم يُصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجل هذا، ثم دَعَاه فقال له أو لغيره: إذا صَلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه، ثم ليُصَلِّ على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم ليدع بعد ما شاء». وفي حديث فضالة أيضاً، من طريق آخر عند الترمذي: «عَجِلتَ أيها المصلي، إذا صليت فقعدتَ فاحمد الله بما هو أهله ، وصَلِّ عليّ، ثم ادعُه» وقوله (فقعدت) أي في الجلسة الأخيرة، والمراد بالحمد هنا هو التشهد، كما لا يخفى. وبَوَّب النسائي ٤٤:٣ في كتاب السهو على الحديث المذكور (باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم في الصلاة). ولو حُمِل حديثُ فَضَالة هذا على الدعاء بعد الصلاة، فهذا دليل آخر لمشروعية الدعاء بعد الصلوات وأما بدء الدعاء بالحمد والثناء فهذا من آداب دعاء المسألة عامة، سواء أكان بعد الصلوات أو في أوقات أخرى، وعلى كلّ فليس في حديث فَضَالة ما يُؤيد ابن القيم لا في نفي استحباب الدعاء بعد الصلوات، ولا في إثبات استحباب الدعاء بعد الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلَّم، مطلقاً. فافهم ذلك، والله يرعاك).
قال الحافظ في «الفتح»: وما ادعاه من النفي مطلقاً مردود، فقد ثبت:
١ - عن معاذ بن جَبَل أن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم قال له: «يا معاذ إني والله لأحبُّك، فلا تَدَعْ دُبَرَ كلَّ صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك». أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه ابنُ حبان والحاكم.
۲ - وحديث أبي بكرة في قول: «اللهم إني أعوذُ بك من الكفر والفقر وعذاب النار: كان النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يدعو بهن دُبُرَ كلَّ صلاة». أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم.
٣-وحديثُ سعد الآتي في باب التعوذ من البخل قريباً، فإن في بعض طرقه المطلوب. قلتُ: والحديث أخرجه البخاري من طريق عبد الملك، عن مُصعَب قال: «كان سعد يأمر بخمس، ويذكرُهُن عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه كان يَأْمُرُ بهن: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذُ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذل العمر، وأعوذُ بك من فتنة الدنيا ـ يعني فتنة الدجال - وأعوذ بك من عذاب القبر»
والطريقُ التي أشار إليها الحافظ، رواها البخاري أيضاً، من حديث عمرو بن ميمون عن سعد. وفي سياقه: «أنه كان يقول ذلك دبر الصلاة».
ثم قال الحافظ:
٤- وحديثُ زيد بن أرقم: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يَدعُو في دبر كل صلاة: «اللهم ربَّنا وربَّ كل شيء». الحديث، أخرجه أبو داود والنسائي.
٥- وحديثُ صُهَيب رَفَعه: «كان يقول إذا انصرف من الصلاة: اللهم أصلح لي ديني» الحديث، أخرجه النسائي وصححه ابن حِبَّان - وغيره.
فإن قيل: دُبر كل صلاة قُربَ آخرها وهو التشهد. قلنا : قد وَرَدَ الأمر بالذكر دُبر كل صلاة، والمراد به بعد السلام إجماعاً. فكذا هذا حتى يَثبُت ما يُخالِفُ .
٦ -وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة: قيل يا رسول الله أيُّ الدعاء أسمع ؟ قال: «جوف الليل الأخير، ودُبر الصلوات المكتوبات». وقال : حسن.
وأخرج الطبري من رواية جعفر بن محمد الصادق، قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضلُ من الدعاء بعد النافلة كفضل المكتوبة على النافلة. قال الحافظ: وفَهم كثير ممن لقيناه من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقاً، وليس كذلك فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلّي القبلة وإيراده بعد السلام، وأما إذا انتقل بوجهه، أو قدَّم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ.
قلت: وما قاله الحافظ أن مراد ابن القيم ما ذكر، هو الظاهر من صدر مقالته، ويؤيده ما أورده في «الهدي النبوي» من الأحاديث الدالة على مشروعية الدعاء بعد الصلاة ولكن آخرها يأبى ذلك.
وقد قال في «الهدي» أيضاً: (دُبُرَ الصلاة) يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا – يعني ابن تيمية - يُرجح أن يكون قبل السلام، فراجعتُه ، فقال: دُبُرُ كلِّ شيءٍ. كدبر الحيوان.
وهذا الذي قاله ابن تيمية مردود بما تقدَّم عن الحافظ، وبالأحاديث الصريحة التي لا تَقَبلُ تأويلاً، ولا يَدخُلها احتمال، كحديث علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إذا سلَّم من الصلاة قال: «اللهم اغفِرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَرتُ وما أسررت وما أعلنتُ، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت». أخرجه أبو داود، وهو قطعة من حديث خرجه مسلم في «صحيحه» بطوله. إلى غير ذلك مما يطول عدُّه. والله الموفق.
۱-فصل
إذا تقرّر هذا، فرفع اليدين في الدعاء بعد الصلوات المكتوبات ورد في السُّنَّة ما يدلُّ على مشروعيَّتِه، ويُرغَبُ في فعله، ويُشير إلى استحبابه، وذلك بعموم وخصوص.
أما العموم:
٨- فأخرج الحاكم في «المستدرك» والبيهقي في «السنن» من حديث علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «رفع الأيدي من الاستكانة التي قال الله عزّ وجلَّ: {فما استكانُوا لربهم وما يتضرَّعون}.
ونقل في «الإتحاف» عن بعض المفسرين في قوله تعالى: {يَدعوننا رَعْباً ورَهَباً} أن الرَّهَب بسطُ الأيدي وظُهورها إلى السماء، والرَّغَبَ بسطها وظهورها إلى الأرض.
۹ - وأخرج أبو داود والترمذي - وهذا لفظه، وحَسَّنه ـ وابن ماجه وابنُ حِبَّان والحاكم في المستدرك - وقال: صحيح على شرط الشيخين وسَلَّمه الذهبي ـ من حديث سلمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «إن الله حَيِيٌّ كرِيمٌ يستحي إذا رَفَعَ الرجلُ إليه يديه أن يرُدَّهما صِفْراً خائبتين». قال الحافظ المنذري: (الصِّفْر) بكسر الصاد المهملة وإسكان الفاء هو: الفارغ.
۱۰ - قلتُ: وخرَّجه الحاكم -أيضاً -موقوفاً على سلمان بدون هذه اللفظة؛ فقال: أخبرنا أبو العباس محمدُ بنُ محبوب التاجر، حدثنا سعيد بن مسعود، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن سلمان رضي الله عنه، قال: «إن الله يستحي أن يَبسُط العبد إليه يديه فيردهما خائبتين». ثم قال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
۱۱ - قال: وقد وَصَله جعفر بن ميمون عن أبي عثمان النَّهْدي، أنبأنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا سعيد بن مسعود، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا جعفر بن ميمون، عن أبي عثمان، عن سلمان رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: «إن الله حَبِيٌّ كريم يستحي من عبده أن يَبسُط له يديه، ثم يَرُدَّهما خائبتين».
۱۲ – وأخرج الحاكم: أخبرنا عبد الله الصَّفَّارُ، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثنا بشر بن الوليد القاضي، حدثنا عامر بن يَسَاف، عن حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، قال حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «إن الله رحيم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه، ثم لا يضع فيهما خيراً». قال الحاكم: إسناده صحيح.
وتعقبه الذهبي في «التلخيص» فقال: عامر ذو مناكير، قلت لكن، قال ابن عدي ومع ضعفه يُكتب حديثه. وقال أبو داود: ليس به بأس، رجلٌ صالح. وقال العجلي: يُكتب حديثه، وفيه ضعف. وقال الدُّوري عن ابن معين: ثقة. وذكره ابن حِبَّان في «الثقات». فالحديثُ حسن إن لم يكن صحيحاً. وقد تقدَّم له شاهد وهو مُسلَّم الصحة.
۱۳ - وأخرج أحمد في «مسنده» وأبو داود في «سننه»: حدثنا سليمان بن عبد الحميد البهراني، قال: قرأتُه في أصل إسماعيل يعني ابن عيَّاش، حدثني ضَمْضَم عن شُرَيْح ، حدثنا أبو ظَبْيَة أن أبا بَحْرِيَّة السَّكُوني حدثه عن مالك بن يَسَار السَّكوني ثم العَوْفي، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها». سكت عليه أبو داود، فهو عنده صالح.
١٤- وأخرج أحمد وأبو داود، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق، عمَّن حدثه، عن محمد بن كعب القرظي، حدثني عبد الله بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: «لا تَسْتُروا الجُدُرَ، من نَظَر في كتابِ أخيه بغير إذنه، فإنما يَنظُر في النار، سَلُوا الله ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم». قال أبو داود: رُوي الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، كلُّها واهيةٌ ، وهذا الطريقُ أمثلها، وهو ضعيف أيضاً.
١٥ - قلتُ: وخَرَّج شطره الثاني أبو عبد الله الحـاكـم فـي «المستدرك»؛ فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي نصر المَرْوَزي، حدثنا أبو المُوَجّه، حدثنا سعيد بن هُبَيرة، حدثنا وُهَيب بن خالد، عن صالح بن حسان، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه ،بظهورها، وامسَحُوا بها وجوهكم»، ولم يتكلم عليه، وكذا سَكَت عليه الذهبي في «التلخيص»، وفي سنده كما ترى سعيد بن هبيرة، قال ابن حِبَّان يروي الموضوعات عن الثقاتِ، كأنه كان يَضعُها، أو تُوضَع له فيُجِيبُ فيها. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، رَوَى أحاديث أنكرها أهل العلم. وقال الخليلي في «الإرشاد»: له غرائب يُسأَلُ عنها. والله أعلم.
١٦- وأخرج الطبراني في «الكبير» من حديث سلمان الله رضي عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما رَفَعَ قومٌ أَكفَّهم إلى الله تعالى يسألونه شيئاً إلا كان حقاً على الله أن يَضعَ في أيديهم الذي سألوا».
١٧ - وأخرج الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى: «إني لأجدني أستحي من عبدي يَرفَعُ يدَيهِ إليَّ ثم أردهما، قالت الملائكةُ: إلهنا، ليس لذلك بأهل، قال الله تعالى: لكني أهل التقوى، وأهل المغفرة، أُشْهِدُكم أني قد غفرتُ له».
۱۸ -وأخرج ابن ماجه: حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا عائذ بن حبيب، عن صالح بن حَسَّان، عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إذا دعوت الله فادع بباطن كفَّيك، ولا تَدعُ بظهورهما، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك».
۱۹- وأخرج الطبراني في «الأوسط» من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «إذا استفتح أحدكم فليرفع يديه، وليستقبل بباطنهما القبلة، فإن الله تعالى أمامه»
٢٠ -وأخرج الترمذي: من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «ما من عبد يرفع يديه حتى يبدو إبطه، يسألُ الله تعالى مسألة، إلا أتاها إياه، ما لم يعجل، فيقول: سألتُ، فلم أُعط شيئاً».
قلت: ولم أقف عليه في الترمذي بهذا اللفظ، بل الموجود فيه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «يُستَجابُ لأحدِكم ما لم يَعجَل. يقول : دعوتُ فلم يُستجب لي».
(=بل هو فيه ٥: ٢٤١ في كتاب الدعوات في الباب ١٥ من أحاديث شتى من أبواب الدعوات، قبل أربعة أبواب من كتاب المناقب . وفي سنده يحيى بن عبيد الله بن عبد الله مَوْهَبْ، رواه عن أبيه ، جَرَحوه، وقال الساجي : يَجُوزُ في الزهد والرقائق وليس بحجة في الأحكام. كما في «تهذيب التهذيب» ١١: ٢٥٣ - ٢٥٤ . وأشار الترمذي إلى أن الحديث من رواية غيره ليس فيه ذكر رفع اليدين).
۲۱ - وأخرج الدارقطني في «الأفراد» مـن حـديـث عـلـي بـن أبي طالب صلوات الله عليه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ ربكم حيي كريم، يستحي أن يرفع العبد يديه، فيرُدَّهما صِفْراً لا خير فيهما، فليُعط اللَّهَ من نفسه الجهد، وإذا حَزَبَه أمرُ؛ فليقل: حسبي الله ونعم الوكيل».
٢٢ -وأخرج الطبراني في «الكبير»، من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ رَبَّكُم حيي كريم، يستحي أن يرفع العبد يديه، فيرُدَّهما صِفْراً لا خير فيهما، فإذا رَفَعَ أحدُكم يديه فليقل: یا حي لا إله إلا أنتَ - ثلاث مرات - ثم إذا ردَّ يديه فليفرغ ذلك الخير على وجهه».
٢٣ - وأخرج عبد الرزاق، وأبو داود في «سننه»: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيب -يعني ابن خالد -حدثني العباس بن عبد الله معبد بن العباس بن عبد المطلب، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، أو نحوهما، والاستغفار أن تُشير بإصبع واحدة، والابتهال أن تَمُدَّ يديك جميعاً».
٢٤ -وخَرَّج -يعني أبو داود -من طريق سفيان عن عباس بن عبد الله به، وقال فيه: «والابتهال هكذا، ورَفَعَ يديه، وجَعَلَ ظهورهما مما يلي وجهَه».
٢٥ -وخَرَّجه (أي: أبو داود) مرفوعاً من طريق محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس عن أخيه إبراهيم بن عبد الله، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذَكَرَ نحوه.
٢٦ وأخرج البخاري في «الأدب المفرد» حدثنا الصَّلْتُ، قال حدثنا أبو عوانة عن سماك ، عن عكرمة، عن عائشة رضي الله عنها أنه سمعه منها: «أنها رَأَتْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَدعُو رافعاً يديه، يقول: اللهم إنما أنا بشر فلا تُعَاقِبني أيُّما رجلٍ من المؤمنين اذيته أو شتمته فلا تعاقبني فيه». قال الحافظ في «الفتح»: إسناده صحيح.
۲۷- قلتُ: وخَرَّجه عبد الرزاق من حديثها أيضاً، بلفظ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يَرفَعُ يديه حتى إني لأسأمُ له مما يَرفَعُهما، اللهم إنما أنا بشر، فلا تُعذَّبني بشتم رجل شتمته أو آذيته».
۲۸ - وأخرج عبد الرزاق، عن طاوس قال: «دعا النبي صلى الله عليه وسلَّم على قوم، فَرَفَع يديه جداً في السماء، فجالَتْ الناقة، فأمسكها بإحدى يديه وأخرى قائمة في السماء» (=وإسناده صحيح).
٢٩ -وأخرج عبد الرزاق: عن عُروة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم مَرَّ بقوم من الأعراب، كانوا قد أسلموا، وكانَتْ الأحزاب قد خَرَّبَتْ بلادهم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يَدعُو لهم باسطاً يديه قبل وجهه، فقال له أعرابي: أدعُ اللهَ يا رسول الله فداك أبي وأمي. فمدَّ رسول الله يديه تلقاء وجهه ولم يرفعهما في السماء» (=وإسناده صحيح).
٣٠ -وأخرج عبد الرزاق من حديث ابن شهاب الزهري، قال: «كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَرفَعُ يديه عند صدره في الدعاء، ثم يَمسَحُ بهما وجهه».
قلتُ: وهذه الأحاديثُ وإن كانَتْ ،مراسيل، فالمرسَلُ حَجَّةٌ عند مالكِ وأحمد بن حنبل، في المشهور عنهما، وأبي حنيفة وجماعة، بل قال ابنُ جرير الطبري: أجمع التابعون بأسرهم على قبولِ المرسل، ولم يأتِ عنهم إنكاره، ولا عن أحدٍ من الأئمة بعدهم إلى رأس المئتين.
٣١-وأخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: «دعا النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم رَفَعَ يديه ورأيتُ بياض إبطيه».
٣٢ - وأخرج أيضاً من حديث ابن عُمَر رضي الله عنهما، قال: «رَفَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صَنَع خالد».
٣٣ - وأخرج البخاري في الأدب المفرد»: حدثنا علي، قال حدثنا سفيان، قال حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: «قدم الطفيل بن عمرو الدَّوْسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إِن دَوْساً قد عَصَتْ وأَبَتْ فادْعُ الله عليها، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلَّم القبلة ورفع يديه فظنَّ الناس أنه يدعُو عليهم، فقال: اللهم اهدِ دوساً، وائت بهم».
٣٤ -وأخرج البخاري فيه أيضاً: حدثنا عارم، قال حدثنا حماد بن زيد، قال حدثنا حجاج الصوّاف، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: «أن الطفيل بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك في حضن ومَنعِةٍ؟ حِصْنِ دَوْسِ؟ معه فهاجر الطُّفيلُ، وهَاجَرَ رجل من قومه، فمَرِضَ الرجلُ، فضحِرَ أو كلمة شبيهة بها - فحبًا إلى قَرْنٍ، فأخَذَ مِشْقَصاً، فَقَطَعَ وَدَجَيه، فمات، فرآه الطِّفيل في المنام، قال: ما فَعل الله بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى النَّبي صلى الله عليه وسلَّم. قال: ما شأن يديك؟ قال: قيل: إنا لا نُصلح منك ما أَفْسَدْتَ من يديك. قال: فقصَّها الطفيلُ على النبي صلى الله عليه وسلَّم، فقال: اللهم وليديه فاغفِرْ، ورفع يديه». قال: فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لِمَا ذَخَرَ اللَّهُ للأنصار. إسناده صحيح.
وهو أيضاً عند مسلم في «الصحيح» ببيان أتم من هذا، وفيه: «فأخذ مَشَاقِصَ له ، فقَطَعَ بَراحِمَه، فشَخَبَتْ يداه حتى مات» الحديث. وهي أوفَقُ بمعنى الحديث من سياق البخاري، كما هو ظاهر، لكن هذه الرواية ليس فيها ذكر رفع يديه صلى الله عليه وسلم، وإن كان الحافظ عزاه لهما في «الفتح» معاً بهذه الزيادة.
٣٥-وأخرج البخاري في «الأدب المفرد»: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال حدثنا محمد بن فُليح، قال أخبرني أبي، عن أبي نعيم، وهو وهب، قال: «رأيتُ ابن عُمرَ وابن الزبير يدعوان يُديران بالراحتين على الوجه»
٣٦ - وأخرج البخاري في «قُرَّة العينين في رفع اليدين في الصلاة» وهو اسم كتاب له ـ قال حدثنا يحيى بن موسى، حدثنا عبد الحميد، حدثنا إسماعيل بن عبد الملك، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي عنها قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم رافعاً يديه حتى بَدَا ضَبْعَاهُ، يدعو بردّ عثمان رضي الله عنه»
٣٧-وأخرج -يعني الببخاري -أيضاً: حدثنا قتيبة، عن عبد العزيز بن محمد، عن علقمة بن أبي علقمة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «خَرَجَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذاتَ ليلة، فأرسلتُ بَرِيرةً في أَثَرِه، لتنظر أين يذهَب، فسَلَك نحو بقيع الغَرْقَد، فوقف في أدنى البقيع، ثم رفع يديه، ثم انصرف فرجعت بريرةُ، فأخبرتني، فلما أصبحتُ سألته، فقلتُ: يا رسول الله أين خَرَجتَ الليلة؟ قال: بُعِثْتُ إلى أهل البقيع، لأصلي عليهم».
وخرَّجه مسلم في صحيحه، وفيه: «فرفع يديه، ثلاثَ مَرَّاتٍ».
٣٨-وأخرج مسلم من حديث عبد الرحمن بن سَمُرَة رضي الله عنه في قصة الكسوف: «فانتهيتُ إلى النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم وهو رافع يديه يدعو».
٣٩-وفي قصة الكسوف أيضاً من حديث عائشة عنده أيضاً : قالت: «ثُمَّ رفع يديه يدعو».
٤٠ -وأخرج البخاري في كتاب «رفع اليدين»: أخبرنا مسلم، أنبأنا عبد الله بن داود عن نُعيم بن حَكِيم، عن أبي مريم، عن علي رضي الله عنه قال: رأيت امرأة الوليد جاءَتْ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تَشْكُو إليه زوجها أنه يضرِبُها، فقال لها: اذهَبي، فتقول له: كيت وكيت، فذهبَتْ ثم رَجَعَتْ، فقالَتْ له عاد يضربني. فقال: اذهبي، فتقول له: إن النبي صلَّى الله عليه وسلم يقولُ لك، فذهَبَتْ ثم عادت، فقالت: إنه يضربني، فقال: اذهبي فتقول له كيت وكيت فقالت له: يَضْرِبُني . فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يديه، وقال: «اللهم عليك بالوليد».
٤١-وأخرج البخاري فيه أيضاً: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن جعفر، حدثني أبو عثمان قال: «كنا نحن وعُمَر يَؤُمُّ الناسَ ثم يقْنتُ بنا عند الركوع ، يَرفَعُ يديه حتى يَبْدُو كفَّاه، ويُخرِجَ ضَبْعَيه».
٤٢-وأخرج فيه أيضاً: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن أبي علي، هو جعفر بن ميمون بيَّاعُ الأنماط، قال: سمعت أبا عثمان قال: «كان عُمرَ يَرفَعُ يديه في القنوت».
٤٣-وأخرج فيه أيضاً: حدثنا عبد الرحيم المحاربي، حدثنا زائدة، عن ليث عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله: «أنه كان يقرأُ في آخر ركعة من الوتر، قل هو الله، ثم يرفع يديه، فيقنُتُ قبل الركعة».
قال البخاري: وهذه الأحاديثُ كلُّها صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا يُخالِفُ بعضُها بعضاً، وليس فيها متضاد، لأنها في مواطن مختلفة.
قال ثابت، عن أنس رضي الله عنه: «رأيتُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يرفع يديه في الدعاء، إلا في الاستسقاء». فأخبر أنس رضي الله تعالى عنه بما كان عنده، ما رأى من النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وليس هذا بمخالف لرفع الأيدي في أول التكبيرة. قال: وقوله «في الدعاء» سوى الصلاة، وسوى رفع الأيدي في القنوت اهـ .
٤٤-وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة الطويل في فتح مكة وفيه: «فَرَفَعَ يديه وجَعَلَ يدعو».
٤٥ - وأخرج البخاري ومسلم: من حديث أبي حُمَيْد رضي الله عنه في قصة ابن اللُّتْبيَّة، وفيه: «ثم رَفَعَ يديه حتى رأيتُ عُفْرَتي إِبْطَيه، يقول: اللهم هل بلغت».
٤٦- وأخرج البخاري ومسلم: من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: «أن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذَكَرَ قولَ إبراهيم وعيسى، فرفَعَ يديه، وقال: اللهم أمتي».
٤٧ ـ وأخرج الترمذي والنسائي والحاكم في «المستدرك» واللفظ له، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الصنعاني بمكة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عَبَّاد، حدثنا عبد الرزاق. وأنبأنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم قال : أملى عليّ يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن القارىء، قال: سمعتُ عُمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم الوحيُ نَسْمَعُ عند وجهه كدَوِيِّ النَّحْل، فأُنزِل عليه يوماً، فسكتنا ساعةً. فاستقبل القبلةَ ورَفَع يديه فقال: اللهم زِدْنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهِنَّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تُؤثر علينا، وارضَ عَنَّا وأرضنا، ثم قال : لقد أُنزِلَ عليَّ عشر آياتٍ من أقامهُنَّ دخل الجنةَ. ثم قرأ قد أفلح المؤمنون حتى خَتَمَ عشرَ آياتٍ». قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وسَلَّمه الذهبي في «التلخيص».
٤٨ - وأخرج النسائي: من حديث أسامة رضي الله عنه، قال: «كُنْتُ رِدْفَ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالتْ به ناقته، فسقَطَ خِطَامُها، فتناوله بيده وهو رافع اليد الأخرى». قال الحافظ في «الفتح»: إسناده جيد.
٤٩-وأخرج أبو داود بسند جوَّده الحافظ من حديث قيس بن قال فيه: «ثم رفَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: اللهم سعد صلواتك ورحمتك على آلِ سعد بن عبادة» الحديث.
٥٠ - وأخرج مسلم وأبو داود من حديث أبي هريرة في دخول مكة، وفيه: «ثم أتى الصفا، فوقف حيث يَنظُر إلى البيت، فرفع يديه، فدَعَا وحَمِدَ الله ودعا بما شاء أن يدعُو».
٥١-وأخرج أبو يعلى: من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا أصابته شدَّةٌ فدعا، رفع يديه حتى يُرَى بياض إبطيه».
٥٢-وأخرج أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لَهِيعَة، عن حفص بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن السائب بن يزيد، عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دَعَا فرفع يديه، مسَحَ وجهه بيديه» سكت عليه أبو داود وفيه عبد الله بن لَهِيعَة، وهو متكلّم فيه، لكنَّه حسن الحديث. وشيخه حفصُ بنُ ،هاشم، قيل: مجهول. فالله أعلم بسكوته.
(=أعدلُ الأقوال في ابن لهيعة هو قول ابن عدي عنه: «أحاديثه حِسَانٍ مع ما قد ضعفوه، وهو حَسَنُ الحديث يُكتب حديثه، وقد حدَّث عنه مالك، وشعبة، والليث». كما في سير أعلام النبلاء » ۸: ۲۲، والكامل لابن عدي ٤: ١٤٧٠. وقال عبد الغني بن سعيد الأزدي: إذا روى العبادلة عن ابن لهيعة فهو صحيح: عن ابنُ المبارك، وابن وهب والمقري، وذكر الساجي وغيرُه مثله كما في «تهذيب التهذيب» ٥: ٣٧٨. قلتُ: وفي «السير» ١٦:٨ عن أبي عبيد الآجري، عن أبي داود قال: سمعتُ قتيبة ــ بن سعيد راوي الحديث المذكور ـ : كنا لا نكتب حديث ابن لهيعة إلا من كُتب ابن أخيه، أو كُتُب ابن وهب، إلا ما كان من حديث الأعرج. وفي «السير» أيضاً ۱۷:۸ جعفر الفريابي: سمعت بعض أصحابنا يذكر أنه سمع قتيبة، يقول: قال لي أحمد بن حنبل أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح، فقلتُ: لأنا كنا نكتُب من كتاب ابن وهب ثم نسمعه من ابن لهيعة. وقد نص الحافظ أحمد بن صالح الطبري كما في «السير» أيضاً ۸ : ۱۸ - نقلاً . يعقوب الفسوي عنه ـ على أن ابن لهيعة صحيح الكتاب، ومن كتب من الرواة حديثه من نسخة صحيحة، فحديثه صحيح فتكون أحاديث قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة صحيحة أيضاً، فإنه لم يكتب أحاديثه عن كُتُب غير المتقنين ولا يسع المقام للبسط في هذا الموضوع بأكثر مما ألممتُ به. = ورجَّح الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ٢: ٤٢٠ - ٤٢١ أن شيخ ابن لهيعة في هذا الحديث هو حَبَّان بن واسع دون حفص بن هاشم الذي لا ذكر له في شيء من كتب التواريخ وحبَّان بن واسع ذكره ابنُ حبَّان في الثقات»، كما في التهذيب» ٢: ١٧١٠).
٥٣-وأخرج أيضاً: من طريق عُمر بن نَبهان، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو هكذا، بباطن كفّيه وظاهرهما». قلت: عُمر بن نَبهان فيه ضَعْفٌ، والحديثُ سَكَتَ عليه أبو داود.
٥٤-وأخرج الطبراني في «الكبير» من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان إِذا دَعَا جعَلَ باطنَ كفه إلى وجهه».
٥٥ - وأخرج الترمذي في «سننه»: حدثنا أبو موسى محمد بن المُثَنَّى، وإبراهيم بن يعقوب وغيرُ واحد، قالوا حدثنا حماد بن عيسى الجُهَني، عن حَنْظَلَة بن أبي سفيان الجُمحي، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذا رَفَعَ يديه في الدعاء لم يَحُطَّهُما حتى يمسح بهما وجهَه». قال أبو عيسى: هذا صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن عيسى، وقد تفرد به، وهو قليل الحديث. وقد حدَّث عنه الناسُ . وحنظلة بن أبي سفيان هو ثقة، وثقه يحيى بن سعيد القطَّان.
وقال النووي في «الأذكار»: إسناده ضعيف، وقولُ الحافظ عبد الحق: إن الترمذي قال: إنه حديث صحيح، فليس في النسخ المعتمدة من «الترمذي» أنه صحيح، بل قال: حديث غريب.
قلتُ: النُّسَخ التي بأيدينا من سنن الترمذي فيها كما قدمناه: صحيح غريب، كما قال الحافظ عبد الحق والحديث صححه بعضُ الحُفّاظ.
(= ويشهد لصحة هذا الحديث ما رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد ٢: ٦٨ باب رفع الأيدي في الدعاء قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح، قال: أخبرني أبي، عن أبي نعيم - وهو وَهْب ـ قال: «رأيتُ ابنَعمر وابن الزبير يدعوان يُديران بالراحتين على الوجه، وابن عمر هو راوي الحديث المذكور عن عمر، فيكون عمله هذا مبنياً على هذا الحديث. ومما يُصحح به الحديث عند العلماء: عمل الفقهاء عامةً به، فكيف بفقهاء الصحابة؟ فهذا الحديث صحيح. ورُواةُ الأثر كلُّهم محتج بهم عند البخاري في صحيحه أيضاً، واحتج البخاري في صحيحه» بأحاديث محمد بن فُليح عن أبيه فُليح بن سليمان، كما تتبيَّنه من «مقدمة فتح الباري ص ٤٣٥ وأما معناه فواضح أن المراد بإدارة الراحتين على الوجه هو مسح الوجه بالراحتين وإمرارهما عليه، ولما كان المسحُ إنما يكون بعد رفع اليدين أورده البخاري تحت (باب رفع الأيدي في الدعاء)، واستدل به على مشروعية رفع اليدين في الدعاء، وهذا لا يعني أن المراد بإدارة الراحتين هو رفع اليدين، هذا لا يقوله أحد له إلمام باللغة العربية. ومن شواهد حديث عُمر هذا مرسلُ الزهري الذي سبق برقم ٣٠ وإسناده صحيح، ومن شواهده أيضاً حديث السائب بن يزيد عن أبيه المذكور برقم ٥٢، وهو صالح. وقال الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب الوتر ص ٢٣٦: ورأيتُ إسحاق بن راهويه ـ يستحسن العمل بهذه الأحاديث». قاله بعد أن أورد حديث ابن عباس المذكور برقم ١٤، ۱٥ ، ۱۸ حول مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء، وهذا من الإمام إسحاق بن راهويه تصحيح لأحاديث هذا الباب من حيث المجموع. وروى الإمام عبد الرزاق الصنعاني في «المصنف ٢٥٢:٢ - ٢٥٣ في كتاب الصلاة (باب الرجل وجهه بيده إذا دعا) عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد «أن ابن عمر كان يَبسُط يديه مع القاص وتصحف في المطبوع إلى العاص، والقاص هو المترجم تعليقاً في ص ٦٠ برقم ٢، وذكروا أن مَن مَضَى كانوا يَدعُون ثم يَرُدُّون أيديهم على وجوههم ليَردُّوا الدعاء والبركة». قال عبد الرزاق بعد روايته: رأيت أنا مَعْمَراً يدعو بيديه عند صدره، ثم يردُّ يديه فيَمسَحُ وجهه. ويحيى بن سعيد المذكور هو الأنصاري قاضي المدينة يروي عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد رضي الله تعالى عنهما، وعن كبار التابعين من الفقهاء السبعة وغيرهم. فقوله (ذكروا) أي ذكر من أدركه ورَوَى عنه من كبار التابعين، وقوله (أن مَن مَضَى) أي من الصحابة الكرام ومن معهم من قدماء التابعين رضي الله تعالى عنهم. وهذا ظاهر في أن مسح الوجه باليدين بعد الرفع للدعاء كان معمولاً به في الصدر الأول. ومن هنا يتبين وجاهة قول العلامة القاضي يحيى بن محمد الأرياني في كتابه «هداية المُستبصرين بشرح عدة الحصن الحصين». ص ۱۱۹، فإنه بعد أن ذكر حديث السائب بن يزيد وغيرِه، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم خَلَفاً ذلك، علمتَ أنَّ ما أفتى به الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لا يفعل ذلك ـ أي مَسْحَ عن سَلَف، إذا عرفت الوجه باليدين -إلا جاهل: محمول على أنه لم يطلع على هذه الأحاديث»).
وأخرجه الحاكم في مستدركه على الصحيحين من طريق: أبي الحسن محمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية، حدثنا نصر بن علي ومحمد بن موسى الحَرَشي، قالا: حدثنا حماد بن عيسى، فذكر نحوه بالسند المتقدم، وسكت عليه هو والذهبي في «التلخيص».
وعلى أن الترمذي لم يَقُل فيه إلا (غريب)، كما اعتمده النووي فلا يستلزم ضعفه، لاحتمال إرادة أصل وضعه في الاصطلاح، وهو: الفرد المطلق أو النسبي، وذلك عام في أقسام الحديث الثلاثة، أعني الصحيح والحسن والضعيف، نعم حمَّادُ بن عيسى فيه ضَعْفٌ. والله أعلم.
٥٦ - وأخرج الطبراني في «الكبير» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا هَاجَتْ رِيحٌ استقبَلَها بوجهه، وجَثَا على ركبتيه، ومَدَّ يديه، وقال: «اللهم إني أسألت خير هذه الريح، وخير ما أُرْسِلَتْ به» الحديث.
٥٧- ولما بَعَثَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم جيشاً فيهم علي بن أبي طالب عليه السلام رَفَعَ يديه وقال: «اللهم لا تُمِثْني حتى تُرِيني علياً» خرجه الترمذي.
٥٨- ولما جَمَعَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أهل بيته وألقى عليهم الكساءَ، رَفَع يديه وقال: «اللهم هؤلاء أهلُ بيتي»، خرجه الحاكم في «المستدرك».
٥٩- وأخرج الفريابي في الذكر عن أبي الدرداء «ارفَعُوا هذه الأيدي بالدعاء قبل أن تُغلَّ بالأغلال».
٦٠-وأخرج أحمد في مسنده: حدثنا يحيى بن إسحاق، قال: أخبرنا ابن لَهِيعَة، عن حَبَّان بن واسع، عن خلاد بن السائب الأنصاري: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دَعَا جَعَلَ باطن كفَّيه إلى وجهه».
٦١- وفي رواية له أيضاً من هذا الطريق نفسه: «كان إذا سأل جَعَلَ باطنَ كفَّيه إليه، وإذا استعَاذَ جَعَلَ ظاهرهما إليه».
٦٢ - وأخرج الإمام أحمد بسند حسنه الحافظ المنذري، والطبراني في «الكبير»، وغيرهما، من حديث يعلى بن شداد، قال: حدثني أبي، وعبادة بن الصامت حاضر يُصَدِّقه، قال: «كنا عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل فيكم غريب؟ يعني أهل الكتاب، فقلنا: لا يا رسول الله، فأمر بغلق الباب، وقال ارفَعُوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله. فرَفَعنا أيدينا ساعة، ثم قال: اللهم أنت بعثتني بهذه الكلمة، ووعدتني عليها الجنَّة، وأنت لا تُخلف الميعاد، ثم قال: «أبشِرُوا فقد غُفِرَ لكم».
٦٣-ـ وأخرج البخاري في كتاب رفع اليدين: حدثنا أبو نعيم، حدثنا الفضيل بن مَرْزُوق، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ذَكَر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الرجل، يُطيل السفَرَ أشعث أغبرَ، يَمُدُّ يديه إلى الله عزّ وجلّ: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام، ومَشْرَبُه حرام، ومَلْبَسُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأَنَّى يُستجاب لذلك».
٦٤ - قلت: وهو عند مسلم والترمذي من حديثه بلفظ: «إن الله طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيباً، وإن الله أمَرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال: {يا أيها الرسل كُلُوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تَعمَلُون عليم}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كُلُوا من طيبات ما رزقناكم}، ثم ذكر الرجل يُطيلُ السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا ربّ» الحديث.
٦٥-وأخرج الحاكم في «المستدرك»: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبي، وشعيب بن الليث قالا: حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة، عن عُمير مولى أبي اللحم رضي الله عنه، أنه «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أحجار الزيت، وهو مُقْنع بكفّيه» (=أقنع بيديه: أي مدهما للدعاء). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
٦٦- قلتُ: قد خرجه البخاري في كتاب «رفع اليدين»، قال: حدثنا مسلم ـــ حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، قال: «أخبرني مَن رأى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَدعُو عند أحجار الزيت باسطاً كفيه»
٦٧- والمبهم هو: عُمير كما تقدَّم، فقد أخرجه أبو داود في «سننه» من طريق الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عُمير: «رأيتُ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم يَسْتَسْقِي عند أحجار الزيت». الحديث. إلى غير ذلك.
۲ - فصل
فعموم هذه الأحاديث الصحيحة دال على مشروعية الرفع، وبسط الأكُفّ في جميع الأدعية، من غير تقييد بوقت دون آخر، ولا بحالة دون غيرها، كقوله: «إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم»، فهو مُتَناول لجميع أحوال الداعي التي منها حالته بعد الصلاة.
وقد ذكرنا أنه وَرَدَ ما يدل على مشروعية الرفع وندبه بعد الصلوات بعموم وخصوص. وقدَّمنا من أحاديث العموم ما أمكن الوقوف عليه.
وأما الخصوص:
٦٨ - فأخرج الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الدينوري، المعروف بابن السُّني، في «عمل اليوم والليلة»، قال: حدثني أحمد بن الحسن بن آذينوية حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن خالد بن يزيد البالسي، حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن القُرَشي، عن خُصَيف، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من عبدِ يَبسُطُ كفَّيه في دبر كل صلاة، ثم يقول: اللهم إلهي وإلهَ إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإلهَ جبريل وميكائيل وإسرافيل عليه السلام، أسألك أن تُجيب دعوتي فإني مُضطر، وتَعصِمَني في ديني فإني مُبْتَلَى، وتَنالَني برحمتك فإني مُذنب، وتنفي عني الفقر فإني متمسكن، إلا كان حقاً على الله عزَّ وجلَّ أن لا يَرُدَّ يديه خائبتين».
قلت: أحمد بن الحسن، لم أقف عليه، وإسحاق بن خالد البالسي، قال الذهبي في «الميزان»: رَوَى غير حديث منكر يدلُّ على ضعفه. قاله أبو أحمد بن عَدِي، قال: ولم يتَّفِق لي إخراج شيء من حديثه.
وعبد العزيز بن عبد الرحمن اتَّهَمه الإمام أحمد، وقال ابن حبان: يُحْتَج به، وقال النسائي: ليس بثقة، وضرب الإمام أحمد على حديثه، لا كذا في الميزان ولسانه.
وخُصَيف بن عبد الرحمن الجَزَري أبو عَوْنَ الحَضْرَمي، قال أبو طالب عن أحمد ضعيف الحديث، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال مرة: ثقة. وقال أبو حاتم صالح يُخطىء، وتكلم في سوء حفظه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال مرة: صالح. وقال ابن عدي: إذا حدَّثَ عن خُصَيف ثقةٌ فلا بأس بحديثه وروايته، إلا أن يروي عنه عبد العزيز بن عبد الرحمن، فإن روايته عنه بواطيلُ، والبلاء من عبد العزيز، لا من خُصَيف، وقال ابن سعد: كان ثقة.
وقال ابن حِبَّان: تركه جماعة من أئمتنا، واحتج به آخرون، وكان شيخاً صالحاً فقيهاً عابداً، إلا أنه كان يخطىء كثيراً فيما يروي، ويتفرد عن المشاهير بما لا يُتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف فيه قبول ما وافق الثقات في الرواياتِ، وتَركُ ما لم يُتابع عليه، وهو ممن أستخير الله تعالى فيه، وقد حَدَّثَ عن أنس بحديث منكر، ولا يُعرف له سماع من أنس.
فهذا الحديثُ كما تَرَى ضعيف، لكنَّه معمول به في هذا الباب وأشباهه، ووجوده كافٍ في ثبوتِ الاستحباب.
فقد نَصَّ الكمالُ بن الهمام في كتاب الجنائز من فتح القدير: على أن الاستحباب يَثبُتُ بالحديث الضعيف.
وتَسَاهُلُ العلماء في رواية الحديث الضعيف والعمل به في نحو الفضائل متواتر عن السَّلَف معلوم مشهور لدى الخلف. وقال الإمام أحمد: إذا رَوَينا في الحلال والحرام شَدَّدنا، وإذا رَوَينا في فضائل الأعمال تساهلنا.
وأخرج الحاكم أبو عبد الله في المستدرك، قال: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحَنْظَلي، يقول: كان أبي ـ يعني إسحاق بن راهوية ـ يحكي عن عبد الرحمن بن مهدي، يقول: إِذا رَوَينا عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحلال والحرام والأحكام شَدَّدنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال، وإذا رَوَينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات تساهلنا في الأسانيد.
وقال الإمام النووي في «الأذكار»: قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويُسْتَحَبُّ العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً، وأما الأحكام كالحلال والحرام، والبيع والنكاح والطلاق، وغير ذلك، فلا يُعمَل فيها إلا بالحديث الصحيح والحسن، إلا أن يكون في احتياط في شيء من ذلك، كما إذا وَرَد حديث ضعيف بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة، فإن المُستحب أن يتنزه عنه ولكن لا يجب. اهـ.
قال الحافظ السخاوي في «القول البديع» بعد نقله هذا: وخَالَف ابنُ العربي المالكي في ذلك، فقال: إن الحديث الضعيف لا يُعمَلُ به مطلقاً.
ونُقِلَ عن الإمام أحمد أنه يُعمل بالضعيف إذا لم يُوجَد غيره، ولم يكن ثُمَّ ما يُعارِضه. وفي رواية عنه: ضعيف الحديث أحَبُّ إلينا من رأي الرجال.
وذكر ابن حزم أن جميعَ الحنفية مُجمعون على أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن ضعيف الحديث عنده أولى من الرأي والقياس.
وسُئِلَ الإمام أحمد عن الرجل يكون ببلد لا يُوجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه، وصاحب رأي، فمن يَسأَلُ؟ قال: يَسْأَلُ صاحب الحديث، ولا يسأل صاحب الرأي. ونَقَلَ أبو عبد الله بن مَنْدَه عن أبي داود صاحب «السنن»، وهو من تلامذة الإمام أحمد أنه يُخرج الحديث الضعيف إذا لم يُوجد في الباب غيره، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال.
وحَكَى النووي في «الأربعين» اتفاق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في الفضائل، لكنَّه مُتعقَّب بما نقلناه عن ابن العربي.
وقال ابن حجر الهيتمي في شرحه على الأربعين: أشار المصنف بحكاية الاتفاق على ما ذكره إلى الردّ على من نَازِعَ فيه بأن الفضائل إنما تتلقَّى من الشارع، فإثباتها مما ذُكر اختراع عبادة، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله. ووجه رده أن الإجماع لكونه قطعياً تارةً، وظنياً ظناً قوياً أخرى لا يُرَدُّ بمثل ذلك، لو لم يكن عنه جواب، فكيف وجوابه واضح، إذ ليس ذلك من باب الاختراع والشرع المذكورين، وإنما هو من باب ابتغاء فضيلة ورجائها بأمارة ضعيفة من غير ترتب مفسدة عليه اهـ.
لكن ذكر الحافظ لجواز العمل بالضعيف شروطاً ثلاثة، وزاد غيره أخرى، كما ذكرتُه في كتاب «أسباب الإقامة في ظل الله يوم القيامة»، وكلُّها دائرة بين مردود لا يُقبل، أو داخل في عموم الثلاثة الأول. وحاصلها: أن لا يكون واهياً، وأن يكون له أصل عام يندرج تحته، وأن لا يُعتقد ثبوته عند العمل به. فقد بان لك من مجموع ما نقلناه أن الحديث الضعيف يُعمَل به في الفضائل، ويثبت به الاستحباب، وما نحن فيه من ذلك الباب. على أنه وَرَدَ في ذلك حديث جيد صحيح، ولاستحباب الرفع بعد الصلاة دليل قاطع صريح:
٦٩ - أخرج الحافظ أبو بكر بن أبي شيبة ـ بسنده -قال الراوي : حدثنا محمد بن أبي يحيى الأسلمي قال: «رأيتُ عبد الله بن الزبير، ورأى رجلاً - رافعاً يديه - يدعو قبل أن يفرغ من صلاته، فلما فَرَغ منها قال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لم يكن يَرفَعُ يديه حتى يَفرُغ من صلاته». قال الحافظ جلال الدين السيوطي: رجاله ثقات. اهـ.
وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة: عن الأسود العامري، عن أبيه، قال: «صليتُ مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلما سَلَّم انحرَفَ، ورَفَع يديه ودَعَا». الحديث. والله تعالى أعلم.
خاتمة
لقائل أن يقول: لا دليل على ما جَرَى به العمل من الدعاء بعد الصلاة جماعة، رافعين أيديهم مُقتدين بالإمام في الافتتاح والاختتام، وإن كان كلُّ واحد يدعو سراً لنفسه.
وقد كره مالك وجماعة من فقهاء مذهبه لأئمة المساجد والجماعات الدعاءَ عَقِبَ الصلواتِ المكتوباتِ جهراً للحاضرين، معللين ذلك بأنه يَجْتَمِعُ لهذا الإمام التقدُّم للصلاة، وشرفُ كونِه نَصَبَ نفسه واسطةٌ الله تعالى وبين عباده في تحصيل مصالحهم على يديه بالدعاء. فيُوشَكُ أن تَعظُم نفسه عنده، فيفسد قلبه ويَعصِيَ ربَّه في هذه الحالة أكثر مما بین يطيعه
وأيضاً لم ير الإمام مالك رفع اليدين في الدعاء بعد الصلاة في كتاب الحج الأول من المواضع التي تُرفَعُ الأيدي فيها.
ونقول: الجواب عن ذلك من وجوه:
الأول: أنه وَرَدَ ما يَدُلُّ على مشروعية الدعاء في الجماعة: أخرج الحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح على شرط مسلم من حديث حبيب بن مَسْلَمَة الفِهْري - وكان مجابَ الدعوة رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لا يجتمع قوم مسلمون يَدعُو بعضُهم ويُؤمِّنُ بعضُهم إلا استجاب الله تعالى دعاءَهم».
وأخرج الحافظ أبو منصور الديلمي في «مسند الفردوس» من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «الداعي والمؤمن شريكان» الحديث.
وأخرج الحاكم: من طريق إسماعيل بن عياش، عن راشد بن داود، عن يعلى بن شداد، قال حدثني أبي شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت حاضرٌ يُصَدِّقُه، إنا لعند رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذ قال: «هل فيكم غريب؟ يعني أهل الكتاب، فقلنا: لا يا رسول الله، فأمَرَ بغلق الباب، فقال: ارفَعُوا أيديكم فقولوا: لا إله إلا الله» الحديث. وقد قدمناه في الفصل السابق من رواية أحمد والطبراني، إلى غيرِ ذلك.
مع ورود النص وإنما أنكر من أنكر منهم ما إذا كان الإمام يدعو جهراً والناسُ يؤمنون، وعليه يَتَمشَّى تعليلهم الكراهة بما تقدم، وهو تعليل فاسد المُصَادِم لذلك، بل هذا من التهورِ في الدين والإبطال لسُنَّةِ سيد المرسلين.
ولا بن عَرَفَة والغُبريني في ذلك كلامٌ حاصله: أن ذلك إن كان من سنن الصلاة وفضائلها، فهو غير جائز، وإن كان مع السلامة من ذلك فهو باقٍ على حكم أصل الدعاء، والدعاء عبادة شرعية فضلها من الشريعة معلوم عِظَمُه، وقد مَضَى عملُ من يُقتدى به في العلم والدين من الأئمة على الدعاء بإثر الذكر الوارد بإثر تمام الفريضة.
الثاني: أنه لم يُنكر أحد من العلماء ذلك، العلماء ذلك، بل نصوصهم صريحة في مشروعية الدعاء عقب الصلوات، والرفع عنده، وعليه استمر عمل الناس قديماً وحديثاً في مشارق الأرض ومغاربها. قال ابن عرفة: وما سمعتُ من يُنكره إلا جاهل غير مقتدى به، ورحم الله بعض الأندلسيين، فإنه لما أُنهِيَ إليه ذلك ألَّفَ جزءاً في الرد على منكره اهـ.
قال ابن ناجي: واستمرَّ العمل على جوازه، وإذا صار شائعاً ذائعاً فعله، فالغالب على من يَنْصِبُ نفسَه لذلك نفي العُجب.
الثالث: أن أحاديث الرفع لم تبلغ مالكاً أو بلغته ممن لا يرى الاحتجاج بحديثه، وعلى الثاني حَمَلَه جمع من العلماء، منهم حجة الإسلام الغزالي والإمام محيي الدين النووي.
والحقُّ غير محتاج إلى مثل هذه التأويلات، والصواب أن الإمام رضي الله عنه لا يُقَلَّد في مثل هذا الباب بل العمل به موقوف على ورودِ الدليل الشرعي وثبوتِه، فمتى وَرَدَ ولم يكن هناك مانع استُحِبَّ العمل به من غير مراعاة لقول أحد ولا لمذهبه. فقد قرَّروا أن التقليد إنما هو في الأحكام كالحلال والحرام والبيوع مأخذها الأدلة، أما من کل والأنكحة، مما ليس في وسع أحد أن يعرف الرقائق والفضائل كسنية رفع اليدين في الدعاء أو عدمها، فليس فيها تقليد.
(=ليس كما قال المؤلف، فهذه السُّنية حكم شرعي، فلا بُدَّ فيها وفي أمثالها من تقليد العلماء الفقهاء المعتبرين، وإلا فيقع من العامة التخليط والفوضى)
على أن الواجب المتعيّن على كل مسلم إذا وَجَدَ في مذهب إمامه ما يُخالف الكتاب والسنة مطلقاً، أن يعمل بمقتضاهما ويضرِبَ بمذهبه لجج البحر، إذ لا حجة لأحدٍ مع كلام الله تعالى وكلام رسوله، والحقُّ أحقُّ أن وقد انعقد إجماع المسلمين على أن من استبانَتْ له سنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن له أن يَدَعَها لقول أحد.
قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذُوهُ وما نهاكم عنه فانتهوا}. {فليَحذَرِ الذين يُخالِفُون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذابٌ أليم}. {من يطع الرسول فقد أطاع الله} .{قل إن كنتم تُحِبُّون الله فاتبعوني يُحببكم الله}، {ومن يطع اللهَ ورسولَه نُدْخِلْه جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدودَه ندخله ناراً خالداً فيها} الآيات. {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تَتَّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبیله}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله} الآيات المكررة. {فإِن تَنَازَعْتُم في شيءٍ فَرُدُّوه إلى الله والرسول} الآية، {وما اختَلَفْتُم فيه من شيء فحكمُه إلى الله} الآيات.
وقال صلى الله عليه وسلَّم: «ما أمرتكم به فخُذُوهُ، وما نهيتكم عنه فانتهوا»، «إني تارك فيكم ما إن تَمَسَّكُتُم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله وسنتی»، «إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلَّم، وشَرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار».
وقال العرباض بن سارية: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم خطبةٌ وَجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها خطبةُ مودع؟ فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسَيَرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة. والأحاديث لا تكاد تُحصى كثرة . وقال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه : «السُّنَّة ما سَنَّه الله ورسوله»،
فلا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة، والأخبار في رجوع الصحابة رضي عن فتاويهم وأقضيتهم عند عنهم إخبار بعضهم بعضاً بالسُّنَّة كثيرةٌ جداً، كافيةٌ مَنْ وَقَفَ عليها، في اعتقاد أن المعروف عند الصحابة والتابعين وتابعيهم وسائرِ علماء المسلمين أن اجتهاد المجتهد إذا خالَفَ نصَّ كتاب الله أو سنة رسوله، وَجَبَ لفظه ومنع نُفوذه.
ولا يُعَارَضُ نصُّ الكتاب والسُّنَّة بالاحتمالات العقلية والخيالات النَّفْسِيَّة العصبية الشيطانية، بأن يقال: لعلَّ الإمام اطَّلَعَ على هذا النص وخَالَفَه لعلة ظَهَرَتْ له، أو اطلع على دليل آخر، أو نحو هذا من أباطيل الفقهاء المتعصبين.
ألم يسمعوا قول مالك فيما رواه الحافظ ابنُ عبد البر بسنده المتصل إلى معن بن عيسى، قال: سمعتُ مالكاً يقول: إنما أنا بشر أخطىء وأصيب، فانظُرُوا في رأيي فكلُّ ما وافق الكتاب والسُّنَّةَ فَخُذُوه، وكلُّ ما لم يُوافِق الكتاب والسُّنَّة فاتركوه.
وجاءه رجل فسأله عن مسألة، فقال له مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال له الرجلُ: أرأيتَ؟ فقال مالك: {فليحذر الذين يُخَالِفُون عن أمرِه أن تُصِيبَهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم}.
وقال مشيراً إلى الحجرة الشريفة: كلُّ كلام، منه مقبول ومردود، إلا كلام صاحب هذا القبر. و
قال الهيثم بن جَمِيل: قلتُ لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً وَضَعوا كُتُباً، يقول أحدهم: عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا، وفلان عن إبراهيم، ويأخُذُ بقول إبراهيم.
قال مالك: وصحَّ عندهم قولُ عُمَر ؟ قلت: إنما رواية، كما صَحْ عندهم قول إبراهيم، قال مالك: هؤلاء قوم يُسْتَتَابُون. فإذا كان الإمام رضي حكم باستتابة من تَرَكَ قولَ عُمَر لقول إبراهيم، فكيف بمن تَرَكَ قولَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لقوله؟ ونحو هذا عن الإمام رضي الله عنه كثير جداً.
ومثله للأئمة الثلاثة رضي الله عنهم. قال الربيع بن سليمان: سمعتُ الشافعي يقول: ما من أحد إلا وتذهب عنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغرب عنه، فمهما قلتُ من قول، أو أصلتُ من أصل، وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم خلافُ ما قلتُ، فالقول ما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو قولي، وجَعَل يُرَدَّدُ هذا الكلام.
وقال أيضاً: سمعته يقول: كلُّ مسألة صَحَ فيها الخبر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وفي روضة العلوم: قيل لأبي حنيفة رضي الله عنه: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اترُكُوا قولي لكتاب الله، فقيل: إذا كان خَبَرُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يخالفه؟ فقال: اتركوا قولي لخبر الرسول، فقال: إذا كان قول الصحابي يُخالفه؟ قال: اترُكُوا قولي لقول الصحابي.
وصح عن كل من الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أنه قال: إذا صَحَ الحديث فهو مذهبي. فهذا تصريح من الإمام مالك رضي الله عنه بأن مذهبه ما دلّ عليه الحديث، لا يقولُ بغيره، ولا يجوز أن يُنسب إليه ما خالفه، ولا أن يُفتى على أنه مذهبه، بل هو افتراء عليه، ككل من صح عنه ذلك من الأئمة، صرّح بهذا جماعة من محققي أئمة مذهبه.
وقال القرافي في قواعده في الفرق الثامن والسبعين ما حاصله: أن المقلد لإمام إذا اطلع على قول مُخالِف لأصل شرعي من كتاب وسنة أو إجماع مثلاً، لا يجوز له أن ينقله للناس، ولا يفتي به في دينِ الفتوى بغير شرع حرام، وإن لم يعص صاحب القول، بل يُؤجر لاجتهاده. بخلاف المطلع عليه المُخَالِفُ عمداً، فيأثم.
قال ابن مسدي بعد كلام له: فقد عُلِمَ أن كل ما خالف الكتاب والسُّنَّةَ آراء مالك، فليس بمذهب له بل مذهبه ما وَافَقَ الكتاب والسُّنَّة.
وقد نَقَل الأجهوري والخَرْشي هذا في شرحيهما على «المختصر». قال: فعلى أهل كلّ عصر تفقد مذاهبهم، فكلُّ ما وَجَدوه من هذا النوع حرم عليهم الفتوى به.
وفي كتاب الجامع من «العتبية»: لا يجوز مخالفة نص الحديث إلا إذا خالف عمل أهل المدينة. وقال القرافي: لا يجوز تقليد مالك في مسألة ضَعُفَ مُدْرَكُه فيها، ولو كان ـــ يُقلّده في غيرها.
فالمالكي لا يجوز له تقليد مالك في حكم ضَعُفَ مُدْرَكُه فيه، وإنما يُقلده فيما وافق فيه الدليل، أو قوِيَ دليله على دليل غيره.
وقال عز الدين بن عبد السلام من العَجَبِ العجيب أن يقف المقلد على ضَعْفِ مأخذ إمامه، وهو مع ذلك يُقَلَّده، كأَنَّ إمامه نبي أُرْسِلَ إليه، وهذا نأي عن الحقِّ، وبُعد عن الصواب. إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تُحْصى، والإرشادات التي لا تُسْتَقْصَى.
فهذه الآيات القرآنية والأحاديثُ النبوية، وآثار الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأقوال سائرِ الأئمة ،وأتباعهم تُنَادِي بعدم تقليد أحدهم فيما خالف فيه كتاب الله وسنة رسوله. فماذا بعد الحق إلا الضلال.
ولمتأخري فقهاء المالكية في هذه المسألة آراء واهية، وأقوال ليس عليها أثارةٌ من علم، وتفريعات عن الشريعةِ السَّمْحَةِ بمعزل، فَتَمَسَّكْ بهدي أنوار الحديث ولا تكُن أنيس ظلماتِ التقليدِ فَتَضلَّ، وتكون من الخاسرين.
هذا ما يَسَّرَ اللَّهُ كتابته في الحال، وكان الشروع فيه يوم الخميس، رابع عشر من شهر ربيع الثاني، والفراغ منه صَحْوَةَ يوم الأحد سابع عشر من الشهر المذكور، سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة وألف على يد كاتبه أحقر العبيد أحمد بن محمد بن الصديق العُمَاري الأزهري الحَسَني، تجاوز الله عن هَفَواتِه بمنه. آمين.
ولمَّا طَلَعَ بدرُ تمام هذه الرسالة، وفاحَ مِسك ختام هذه العُجالة، أطلعت عليها حضرة الفقيه الأجل، الأديب الأمثل، البليغ الأكمل، ذي الذهن المُنير، والفكر المُستنير السيد العربي بن محمد التمسماني من أعيان أهل طَنْجَة، فكتب ما نصه:
تقريظ العلامة السيد العربي لهذا الكتاب
الحمد الله كما ينبغي أن يُحمد، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان، على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه ما ابتهل عبد بالدعاء إلى الله وتمجد، أما بعد:
فإن مشروعية الدعاء إلى الله تعالى في كل حال، مما لهذه الأمة المشرفة الإذنُ العام فيه من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}، وقال: {ادعوا ربَّكم تضرُّعاً وخُفْية}، وقال: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظَلموا أنفسهم ذَكَرُوا الله فاستغفروا لذنوبهم}. إلى غير ذلك من الآيات الصريحة بطلب الدعاء.
وقال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (من لم يدعُ الله غَضِبَ عليه)، وكان سيدنا سفيان الثوري رضي الله عنه يقول: يا مَنْ أَحَبُّ عبادِه إليه مَنْ سأله فأكثر سؤاله، ويا مَنْ أبغضُ عباده إليه من لم يسأله، وليس أحدٌ كذلك غيرك يا رب.
وما كان الإذن فيه عاماً لم يكن وجه لاختصاصه بوقت دون وقت، إلا بمخصص من الشارع صلى الله عليه وسلَّم، ولم يَرِدْ نهي عن الدعاء بعد الصلاة، بل وَرَدَتْ مشروعيَّتُه عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، حسبما أخرجه الإمام البخاري في «صحيحه»، حيث بوب لذلك رضي عنه بقوله: «باب الدعاء بعد الصلاة»، وأخرج فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «قالوا: يا رسولَ الله ذَهَبَ أهلُ الدُّثور بالدرجاتِ والنَّعيمِ المقيم». إلى آخر الحديث.
وأخرج الحديث المشار له أيضاً من طُرُقٍ أخرى حسبما يُعلم من مراجعته . كما أخرج أيضاً أن المغيرة بن شعبة كَتَبَ إلى معاوية رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول دُبُرَ كلَّ صلاةٍ إِذا سَلَّم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ» .
وأما رفع الأيدي في الدعاء، فقد بَوَّب له البخاري أيضاً، وأخرجه عن أبي موسى الأشعري وعبد الله بن عَمْرو، وأنس بن رضي مالك الله عنهم، كلُّهم يُثبِتُ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رَفَعَ يديه في دعائه.
فإذاً من المطلوب المشروع، رفع الأيدي في الدعاء، والدعاءِ عَقِبَ الصلوات، حسبما هو ثابت عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم زيادة على ما لنا من الإذن العام في الدعاء، الذي لا يُخصص وقتاً دون آخر.
فعلى هذا، فما أَطْلَعَني عليه الأخُ في الله، الشريف النزيه الحيي الوَجِيه، سُلالَةُ الأفاضل، ونُخْبَة الأماثل، الفقيه سيدي أحمد بن الشريف الجليل، النزيه الأصيل، المُرَبِّي النبيل، المحدّث العلامة الدراكة الفهامة سيدي محمد الغماري الحَسَني، مما كتبه في هذا الموضوع، هو في غاية، روما استدل به على ذلك حسبما يُعلم من مراجعته، بالغ حدَّ النهاية، مما يُنبيء عن اجتهاده حفظه الله، وجودة فهمه وطول باعه، واتساع علمه. زاده الله ذكاء واطلاعاً، ومَدَّ له في ميدان علم الحديث باعاً:
إنَّ الهلال إذا رأيتَ نمُوه .. أيقنت أن سيكون بدراً كاملاً
وكتبه أفقر العبيد إلى مولاه العربي بن محمد التمسماني، كان الله له وتولاه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق