أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 11 سبتمبر 2023

فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث أبي عبد الله محمد الإفراني الصغير (ت بعد: ١١٥٤ هـ) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث

أبي عبد الله محمد الإفراني الصغير (ت بعد: ١١٥٤ هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: اللغة العربية هي امتداد للدين الإسلامي؛ فبها نزل القرآن الكريم، وبها جرى الحديث الشريف، ولا يمكن فهم واحدٍ منهما إلا بتفهم العربية والحذق فيها، ولا يمكن استنباط الأحكام الشرعية منهما إلا بعد إجادة العربية بجميع فروعها، ولكننا أمام كتاب يصلح أن يُطلق عليه "رُخص المُحدثسن"؛ لما تضمنه من الرُّخص الكثيرة في قراءة الحديث وسماعه، سيما ما يتعلق باللحن في القراءة، المتضمن للتصحيف والتحريف. 

وقد جعل المؤلف كتابه هذا  في لامعة (أي: مقدمة)، وثلاثة أنماط، ولاحقة، أما اللامعة فجعلها في تعريف اللحن لغةً واصطلاحاً عند أهل الحديث، وضبط أنواعه، وما يتعلق بذلك.

أما النمط الأول: ففي بيان حكم اللحن في الحديث إذا كان الراوي تلقاه بلحنه من الرواة قبله، فيكون ناقلاً له، من غير تصرف؛ فقسمه إلى لحن في المتن، ولحن في الإسناد، وبين أن اللحن في المتن على قسمين أيضاً: لحنٌ يُغيّر المعنى، وآخر لا يُغيره، وذكر كلام العلماء في هذا النمط من اللحون، وحاصلها أربعة أقوال:

الأول: أن يرويه كما هو، ولا يتعرض له بإصلاح. والثاني: أن لا يرويه أصلاً، والثالث: أن يُصلح اللحن، ويقرأه على الصواب، والرابع: الإصلاح بحسب اللحن المُغيّر للمعنى من غير المُغيّر، ثم استدرك هذه الأقوال: بأنه ينبغي البحث عن اللفظة التي يُظن أن الراوي لحن فيها، فإن كان لها وجه في لغة العرب فلا تعتبر لحناً، ثم إن الجزم بخطأ الرواية على سعة اللغة يتردد فيه النظر، والمرجع في معرفة اللحن هو غلبة الظن، واتفقوا على أن الإصلاح الذي يتم على هذا النمط إنما هو باعتبار القراءة، وأما في الكتابة فيثبت كما هو.

 أما النمط الثاني: ففي بيان حكم اللحن في الحديث من جهة القارىء لعدم تضلعه بالعربية أو جهله بها، وناقش كلام العلماء في كون اللاحن بهذه الطريق: هل يدخل في حديث: (من كذب عليَّ متعمداً) أم لا؟ ورجَّح أنه لا يدخل، لعدم تعمُّده تغيير الألفاظ، ثم ذكر الروايات عن بعض العلماء الذين تساهلوا في قراءة الحديث مع اللحن.

والنمط الثالث: في ذكر من رخص من العلماء في اللحن في الحديث وما يتعلق بذلك، فأطال الحديث في هذا الأمر، حتى أن القارئ يقطع بأن قراءة الحديث فيه تساهلٌ، ولا ينبغي التشديد على الناس فيه، ولا قياسه على القرآن؛ لأنه غير متعبد بتلاوته، وإن كان يؤجر عليها.

وأما اللاحقة فتضمنت إحدى عشرة فائدة، وناقش فيها مسائل كثيرة، أهمها مسألة وجوب تجويد القرآن، ورجح أن ذلك مُستحب، وفي ذلك نقول جيدة، ولكن ينبغي أن نحتاط في جانب القرآن، فالقول بوجوب التجويد أوجه وأظهر عندي، والله أعلم.

_________________________________________

ترجمة المؤلف أبي عبد الله محمد الإفراني الصغير

 اسمه: محمد بن الحاج بن محمد بن عبد الله الإفراني

كنيته: أبو عبد الله. 

لقبه: الصغير. 

مكان ولادته: مراكش.

تاريخ ولادته: لا يمكن أن نضبط تاريخ ولادته ضبطاً تاماً، فصاحب الإعلام عباس المراكشي، قال: إنه ولد قرب الثمانين بعد الألف، وذكر صاحب مؤرخو الشرفاء أنه ولد حوالى ١٠٨٠ هــ.

تعليمه: تلقى تعليمه الأول بمراكش مسقط رأسه على الفقيه أبي العباس أحمد بن علي المواسي السوسي وإبراهيم العطار، وغيرهم، ومن مراكش رحل إلى فاس ليتم دراسته بجامع القرويين، فأخذ بها عن جماعة من الأئمة كالعامل المشارك المحصل الصالح سيدي أحمد بن عبد الحسين الحلبي رحمه الله، ومحمد بن عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي وهما عمدته، ومحمد بن أحمد المسناوي والعربي بن أحمد بردلة قاضي القضاة بفاس، وسعيد بن أبي القاسم العميري قاضي مكناس والحسن بن رحال المعداني قاضي مكناس وغيرهم. لقد نال حظوة عظيمة عند هؤلاء الأساتذة الذين أخذوا بيده في بلد الغربة. 

وفي سنة ١١٣٠ هـ / ١٧١٧ م عاد إلى مراكش ليشغل منصب التدريس والتصنيف خاصة تفسير القرآن وصحيح البخاري فاجتمع عليه طلبة الحمراء بكثرة البحث والجدال فرموه بالزندقة والجهل.

مؤلفاته: لقد خلف الإفراني مؤلفات تاريخية وأدبية مهمة زيادة على بعض الكتب الدينية، لكن إنتاجه في هذا قليل وقليل جداً إذا قورن بما صنفه الأدب في والتاريخ. 

١ - المسلك السهل في شرح توشیح ابن سهل کتاب حققه الأستاذ محمد العمري، طبع بإشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية (المغرب)، طبع سنة ١٩٩٧ بمطبعة فضالة المحمدية.

٢- صفوة من انتشر في أخبار صلحاء القرن الحادي عشر، فرغ من تأليفه سنة ١١٣٧ هـ// ١٧٢٥م طبع على الحجر بفاس بدون تاريخ، وسيصدر قريباً بحول الله تعالى بتحقيقنا. 

٣- روضة التعريف بمفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف، تم تحقيقه على يد الأستاذ المؤرخ عبد الوهاب بن منصور وتم نشره سنة ١٩٦٢م. 

٤ - درر الحجال في سبعة رجال کتاب مطبوع حققه الدكتور حسن جلاب. 

٥ - نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي، حققه الأستاذ عبد اللطيف الشاذلي، طبع سنة ١٩٩٨ مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.

٦ - فتح المغيث بحكم اللحن في الحديث، وهو موضوع تحقيقنا.

٧- الوشي العبقري في ضبط لفظة المقري مخطوط عدد ٦٣٦ مؤسسة علال الفاسي الرباط، ضمن مجموع يبدأ من ص ٣٩٦ إلى ص ٤٠٣.

٨- شرح أرجوزة ياقوتة البيان في الاستعارة، مخطوط عدد ٧٠٧ مؤسسة علال الفاسي، عدد صفحاته ٢٦ صفحة ضمن مجموع من ص ١٦٦ إلى ١٩٢، ومخطوط الخزانة الملكية عدد ٤٢٩٤.

٩ - طلعة المشتري في توبة الزمخشري ذكره ليقي بروفنصال في كتابه مؤرخو الشرفاء ص ٩٠. أقوال العلماء فيه شأنه قال في محمد المكي بن موسى الناصري وهو من معاصريه وكان له اتصال: أديب زمانه وفريد أوانه، ثم قال: «الأديب النحوي اللغوي البياني». وقال صاحب التقاط الدرر: «العالم الأديب الإخباري النجيب». 

كان ذا حفظ وإتقان، فصيحاً خطيباً تضرب به الأمثال قد بهر أقرانه من نباهته حتى وقعت المضاربة بمجلسه بين الطلبة. علامة مراكش، مشاركاً في الفنون كلها، قد رفع راية الأدب. وقال عن نفسه مفتخراً: أنا أشعر الشعراء غير مدافع من قال لست بشاعر يأتيني فكري هو البحر الخضم شبيهه والبحر حاوي الجوهر المكنون وفي الدرر: حافظ العصر ومحدثه.

وفاته: بالنسبة لتاريخ وفاته ليس هناك اتفاق موحد بين مترجميه. فالجبرتي أرخ وفاته بشهر رجب سنة ١١٣٨ هـ، وأبو عبد الله محمد المكي الناصري صاحب الرياحين الوردية قال: إنه لقيه بمراكش سنة ١١٤٩ هـ، وصلى الجمعة بجامع علي بن يوسف والإمام به السيد الصغير المذكور خطب خطبة بليغة لو سمعها حجر لا نفلق، أو أصم لنطق. 

وذكر أبو عبد الله محمد بن الطيب القادري في خاتمة التقاط الدرر: أنه توفي حدود ١١٥٠ هـ، ونشر بعض المراكشيين في جريدة «السعادة» أنه رأى كناشة بخزانة جامع ابن يوسف لإعارة كتبها فيه أنه في آخر سنة ١١٥٢ هـ استعار الإفراني بنفسه كتاباً من الخزانة المذكورة، وفي أوائل عام أربعة وخمسين ومائة وألف (١١٥٤ هـ) ردَّ الكتاب إليها بعض ورثته، فعلى هذا تكون وفاته فيما بين ذلك. 

_________________________________________

محتوى الكتاب وسبب تأليفه 

يرجع سبب تأليف هذا الكتاب الذي سماه الإفراني (ثبتاً) هو ظاهرة الجهل، الذي أصاب الأمة في عصره، كما جاء في مقدمة كتابه هذا قوله: ((وقد طم عُبَابُ الجهل في حواضر المغرب فكيف بقراه فكيف ببواديه، ولما رأيت كثرة السؤال في ذلك ألفت هذا الثبت لكشف القناع عما هنالك)). 

وجعل مؤلفه هذا مكوناً من طالعة وثلاثة أنماط ولاحقة تحتوي على إحدى عشرة فائدة كلها مذيلة بتذييل. 

فالطالعة تحدث فيها عن معنى اللحن مستدلاً بالقرآن والحديث وغيرهما من أقوال الصحابة واللغويين والحكماء. ثم ذيل هذه الطالعة بتذييل فرق فيه بين اللحن والتصحيف والتحريف. 

أما الأنماط الثلاثة فقد عالج فيها مسألة اللحن من خلال أقوال سابقيه وكتبهم من الصحابة والتابعين والفقهاء والأدباء وغيرهم.

الكتب المؤلفة في اللحن 

لقد سبق من صنف في هذا الفن وبلغ فيه ذروة البيان والتوضيح ويمكننا أن نعتبر فيه الإفراني بمصنفه هذا عالة عليهم، وهذه الكتب يمكن لنا أن نقسمها إلى قسمين: قسم ألف في لحن العامة، وقسم ألف في لحن الخاصة. 

_________________________________________

كتب ألفت قديماً في لحن العامة 

١- لحن العوام لعلي بن حمزة الكسائي (ت ١٨٩ هـ) ويضم هذا الكتاب اثنتين ومائة مسألة كل مسألة تحتمل قولاً أو قولين معززة بشاهد من القرآن العظيم أو الشعر صغير رآه ابن خلكان في حجم صغير.

٢ -البهاء فيما تلحن فيه العامة لأبي زكرياء يحيى بن زياد الفراء، ت (٢٠٧ هـ). وقد ذكره ابن الجوزي في كتابه (تقويم اللسان وتلقيح الجنان).

٣- ما يلحن فيه العامة لأبي عبيدة معمر بن المثنى (ت ٢٠٨ هـ) كتاب مفقود. ذكره صاحب کشف الظنون ٣ - ٤ ما يلحن فيه العامة لعبد الملك بن قُريب الأصمعي المتوفى سنة (٢١٣ هـ) كتاب مفقود ذكره صاحب كشف الظنون. 

٥- ما خالفت فيه العامة لغات العرب لأبي عبيد القاسم بن سلام، ت (٢٢٤ هـ) كتاب مفقود ذكره ابن منظور في اللسان مادة «قزز». 

٦- ما يلحن فيه العامة لأبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي، ت(٢٣١ هـ) مفقود.

٧- ما يلحن فيه العامة لأبي عثمان بكر بن محمد المازني، (ت ٢٤٨ هـ) ذکره صاحب كشف الظنون. 

٨- لحن العامة لسهل بن محمد السجستاني ت (٢٥٥ هـ).

٩-لحن العوام، لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري، (ت ٢٨٢ هـ) مفقود.

١٠- ما يلحن فيه العوام لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب (ت ٢٩١ هـ) نشر الكتاب باسم فصيح ثعلب.

١١- وأبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي توفي تقريباً سنة (ت ٣٨٠ هـ) وهو مخصوص بعوام الأندلس. 

كما صنفت في هذا كتب حديثة، منها:

١٢- معجم فصاح العامية لهشام النحاس الأغلاط اللغوية، محمد العدناني.

١٣- معجم.

١٤- معجم فصيح العامة، تأليف أحمد أبو سعد.

١٥- معجم عجائب اللغة شوقي حمادة.

١٦-معجم الأخطاء الشائعة لمحمد العدناني.

كتب ألفت قديماً في لحن الخاصة:

١ - إصلاح المنطق لابن السكيت أبي يوسف يعقوب بن إسحاق ت(٢٤٤ هـ) الكتاب مطبوع.

٢ - أدب الكاتب لابن قتيبة عبد الله بن مسلم (ت ٢٦٧ هـ) الكتاب مطبوع.

٣- التنبيه على حدوث التصحيف؛ لحمزة بن الحسن الأصفهاني (ت ٣٦٠ هـ) الكتاب مطبوع. 

٤- شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف؛ لأبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، (ت ٣٨٢ هـ) الكتاب مطبوع. 

٥- تثقيف اللسان لأبي حفص عمر بن مكي، (ت ٥١٠ هـ) وهو مطبوع مشترك بين لحن العامة ولحن الخاصة. 

٦- تقويم اللسان لعبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، (ت ٥٩٧ هــ) الكتاب ،مطبوع، وهو مشترك بين لحن الخاصة ولحن العامة.

٧- التصحيف والتحريف لأبي الفتح عثمان بن عيسى البلطي، (ت ٦٠٠ هـ).

_________________________________________

متن الكتاب

واللحن في اللغة: هو الخروج عن حد الصواب في إحدى الدلالات الثلاث: اللغوية والنحوية واللفظية. واللاحنُ من الناس هو الفطن، ويطلق اللحن على التورية والألغاز، وعلى القراءة من القراءات، وعلى المعنى المجازي.

فاللغوية ما كانت خاصة بمدلول الكلمة. 

والنحوية خاصة بموقع الكلمة. 

واللفظية ما كانت خاصة بالنطق. 

واللحن في العربية مرده إلى أربعة أمور، وهي: 

١ - الإعجام، أي النقط. 

٢- الشكل حركة وإعراباً. 

٣- الجهل بعلوم العربية 

٤- العجمة.

ولهذا نجد من أقام لهذا الفن اعتباراً من علماء اللغة والنحو، فصنفوا كتباً تُقَوِّمُ الألسن عند النطق بالكلمة نطقاً سليماً، أمثال: الكسائي، والفراء، وابن المثنى، والأصمعي، والمازني، وغيرهم

تذييل: الفرق بين اللحن والتصحيف والتحريف:

قال الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: «المخالفة في الحديث إن كانت بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق، فإن كان ذلك بالنسبة إلى النقط فالمُصحَّف، وإن كان بالنسبة إلى الشكل فالمحرف، قال: ومعرفة التصحيف والتحريف من المهمات، وقد صنف في ذلك العسكري، والدارقطني وغيرهما» اهـ. 

وأما اللحن فمما يرجع للإعراب. وانظر أنوار التجلي في شرح قصيدة الحلي لأبي عبيد زيد الثعالبي، ففيه زيادة على ما هنا والله أعلم 

النمط الأول في تقسيم اللحن وضبط أنواعه وما يتعلق بذلك

اعلم أنَّ اللَّحْنَ الواقع في الحديث على قسمين:

أولهما: أن يكون من جهة الراوي بحيث أن الرواية ملحونة، وتحملها الراوي كذلك، وثبتت الرواية على ذلك الوجه، وهذا القسم على وجهين، لأنه: - إما أن يكون اللحن والخطأ في متن الحديث أو في سنده. والأول قسمان؛ لأنه: إما أن يكون مغيراً للمعنى أو لا.

 ثانيهما: أن يكون اللحن من جهة القارىء بحيث أن الرواية جاءت على القانون النحوي والمهيع العربي، إلا أن القارىء لعدم تضلعه بعلم العربية أو جهله به رأساً، لَحَنَ فحرَّف الكلام عن مواضعه، ثم ينقسم أيضاً إلى لحن في المتن أو في السند والأول إما مغير للمعنى أو لا. 

وهذا القسم الثاني هو بيت القصيد، وإليه سياق الحديث، وسنسمعك ما لأسلافنا رحمهم الله تعالى، في ذلك من تشديد وترخيص، وما للأئمة في  ذلك من ظاهر وتنصيص. 

وأما القسم الأول من القسمين؛ فموجود بكثرة في الموطأ، والصحيحين والسنن الأربعة وغيرها، كما لا يخفى على من تأملها ومارسها. 

وقد اختلف الأئمة في ذلك على أقوال: 

أولها: أنه يروى ذلك اللفظ كما جاء، ولا يتعرض له بإصلاح، ويترك على لحنه وخَطَئِهِ وهو محكي عن غير واحد؛ كرجاء بن حيوة، والقاسم بن محمد، فقد كانوا أصحاب حروف، يحكون ألفاظ محمد، ومحمد بن سیرین شيوخهم حتى في اللح،ن وكذا كان أبو معمر عبد الله بن سخبرة يلحن اقتفاء كما سمع، وكذلك نافع مولى ابن عمر يلحن فيما سمع كما سمع، وهؤلاء كلهم من التابعين. 

وعن آخرين مثله لكن مع بيان أنه لحن. قال زياد بن خيثمة -عقب روايته الحديث الشفاعة: أترونها للمتقين؟ لا، ولكنها للمتلوثين الخطاءون، أما إنها لحن ولكن هكذا حدثنا الذي حدثنا. 

قال الإمام ابن الصلاح: «وهذا غلو في مذهب من يرى أن اتباع اللفظ واجب». 

ثانيها: أنه تترك رواية ذلك اللفظ عن ذلك الشيخ الذي يرويه عنه، ولا يرويه له أصلاً، لأنه إن تبعه فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلحن، وإن رواه عنه على الصواب فهو لم يسمعه منه كذلك. واختار هذا القول عز الدين بن عبد السلام -كما حكاه عنه تلميذه ابن دقيق العيد في كتاب الاقتراح له -ونقله الحافظ ابن كثير، ولم يعين قائله. 

قال الحافظ زين الدين العراقي: «ولم أر ذلك لغير ابن عبد السلام، واستحسنه بعض المتأخرين، وقاسمه غيره على ما إذا وكله في بيع فاسد؛ فإنه لا يتولاه كذلك، لأن الشارع لم يأذن فيه ولا صحيحاً، لأن المالك لم يأذن فيه. 

ثالثها: أن يصلح ذلك اللحن والخطأ، ويقرأ الصواب من أول وهلة وهو مذهب المحصلين من علماء الحديث. وممن حكي عنه ذلك الشعبي، وعطاء، والقاسم بن محمد، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين؛ حيث سُئِلوا عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن، أيرويه السامع له كذلك، أم يُعربه؟ فقالوا: يُعْرِبُه. ذكره ابن أبي خيثمة في كتاب الإعراب له. 

وعن الأعمش، قال : إن كان ابن سيرين يلحن، فإن النبي ﷺ لم يلحن، فَقَوْمُوهُ. وعن علي بن أبي الحسن، قال: قلت لابن المبارك: يكون في الحديث لحن أتقوموه؟ قال: نعم. القوم لم يكونوا يلحنون اللحن منا. 

وعن ابن عباس الدوري، أنه قال لابن معين: ما تقول في الرجل يُقوِّم للرجل حديثه يعني ينزع منه اللحن ؟ فقال : لا بأس بذلك. 

وقال أبو داود: كان أحمد بن صالح يقوم كل لحن في الحديث. وعن الأوزاعي: لا بأس بإصلاح اللحن في الحديث. قال الحافظ الخطيب البغدادي: وهذا إجماع منهم على إن إصلاح اللحن جائز. وقال في الجامع: الذي تذهب إليه رواية الحديث على الصواب، ويترك اللحن فيه وإن كان قد سمع ملحوناً، لأن من اللحن ما يحيل الأحكام ويصير الحلال حراماً والحرام حلالاً، فلا يلزم اتباع السماع فيما هذا سبيله. قال السخاوي: ومقتضى كلام الخطيب هذا، أنه لا يفرق في ذلك بين اللحن المغير للمعنى وغيره. 

رابعها: أنه يفصل في اللحن بين أن يكون مغيراً للمعنى أو لا. فالأول يصلح جزماً، بل قال بعض المتأخرين: لا تجوز الرواية له اتفاقاً. والثاني يصلح ويقرأ على الصواب، وهذا هو الراجح من الأقوال كما عند ابن الصلاح، فعلى هذا يكون الخلاف المتقدم خاصاً بغير اللحن المغير، وأن الراجح فيه الإصلاح مع القراءة على الصواب. أما المغير، فلا خلاف في أنه يصلح ولا تجوز قراءته على الخطأ. 

وهذا مذهب طائفة من المحدثين، منهم الإمام أحمد، أنه قال ولده عبد الله: ما زال القلم في يد أبي حتى مات، وكان يقول: إذا لم يتصرف الشيء في معنى، فلا بأس أن يصلح. 

وقال الخطيب في الكفاية: إذا كان اللحن يحيل المعنَى فلا بد من تغييره، وكثير من الرواة يحرفون الكلام عن وجهه، ويزيلون الخطأ عن موضعه أخذ عمن وليس يلزم من هذا سبيله أن يحكي لفظه، إذا عرف وجه الصواب وخاصة إذا كان الحديث معروفاً، ولفظ الإعراب ظاهر معلوم، ألا ترى أن المحدث لو قال: لا يؤم المسافر المقيم بنصب المسافر ورفع المقيم كان قد أحال المعنى، فلا يلزم اتباع لفظه، ونحوه قول عبد الله بن أحمد: كان أبي إذا مرَّ به لحن فاحش غيَّرَهُ، وإن كان سهلاً تركه. 

وقال: كذا قال الشيخ فعُلِمَ من كلامه أن محل الخلاف فيما لم يكن مجمعاً على الخطأ فيه، إما بالاستقراء التام للسان العرب أو بوضوح الأمر فيه. 

وقد صرح ابن حزم في كتاب الأحكام له بالتحريم فيما يكون كذلك، فإنه قال: إن الواقع في الرواية إذا كان لا وجه له في الكلام البتة حرم عليه تأديته لتيقننا أنه عليه الصلاة والسلام لم يلحن قط. وإن جاز ولو على لغة بعض العرب أداه كما سمعه ونحوه. 

قال ابن أبي عمران -فيما حكاه عنه القابسي: إن كان مما لا يوجد في كلام أحد من العرب قرىء على الصواب وأصلح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يلحن، وإن كان مما يقوله بعض العرب ولم يكن في لغة قريش، فلا، لأنه كان يكلم الناس بلغتهم. 

نعم، تردد ابن فارس في الحكم على الرواية بالخطأ مع كون لغة العرب واسعة، فلعل المحكوم بخطئه له وجه لم نعثر عليه، ولذلك قال ابن الصلاح : إن كثيراً مما ترى مما يتوهمه كثير من أهل العلم خطأ وربما غيروه صواباً دون وجه صحيح، وإن خفي واستغرب لا سيما فيما يعدونه خطأ من جهة العربية، وذلك لكثرة لغة العرب وتشعبها.

وقد كان الإمام أبو الوليد هشام بن أحمد الوقشي، شیخ عیاض على تضلعه من اللغة العربية وغيرها، يصلح ثم يظهر أن الصواب ما كان في الكتاب. ويظهر وجهه وإن ما غيره إليه خطأ محض عند كل واقف عليه.

وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام: «لأهل العربية لغة، ولأهل الحديث لغة، ولغة أهل العربية أقيس، ولا نجد بدلاً من اتباع لغة أهل الحديث من أجل السماع». قال السخاوي: ولكن يحسن أن يكون محل كلام أبي عبيد فيما لا يترتب عليه حكم كالجعرانة بالنظر للتشديد والتخفيف، والحاصل أن الجزم بخطأ الرواية مع سعة اللغة يتردد فيه النظر، ولا ينبغي المسارعة إلى إصلاحه. 

وانظر ما لهم في حديث أبي بكر رضي الله عنه، وقوله كما في الصحيح: «لاها الله إذن». فقد صرح عياض وجماعة بأن إذن هنا خطأ، وتعقبه آخرون كما في فتح الباري، فراجعه لكن إذا غلب الظن بالخطأ فالأرجح الإصلاح كما ذكرنا. 

قال ابن المنير: ويدل على ذلك قوله عليه السلام: «نظرَ الله امرءاً»، وقوله: «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه». يعني أن الراوي لا يقلد في كل ما جاء به، ونحوه لابن فارس. 

تذييل: هذا الإصلاح الذي كنا فيه إنما هو باعتبار القراءة، وأما باعتبار الكتابة؛ فالصواب أن يترك الخطأ في الأصل، ويقرر على الوجه الذي وقع فيه ويضبب عليه، ويذكر الصواب بجانب اللفظ المختل من هامش الكتاب. وهذا هو الذي نقله عياض عن أكثر الشيوخ، واستحسن ابن الصلاح قائلاً: إنه أبقى للمصلحة وأنفى للمفسدة. 

قال: والأولى سد باب التغيير والإصلاح؛ لئلا يجسر على ذلك من لا يحسن، ولكن عند القراءة يبدأ بالصواب، أولاً ثم ينبه على الوهم.

النمط الثاني: في حكم القارىء اللحان وذكر ما ورد من التشديد في اللحن في الحديث

 اعلم أنا أفردنا هذا النمط لبيان القسم الثاني من القسمين اللذين بيناهما في النمط الذي قبله، وهو أن يكون اللحن في الحديث من جهة القارىء؛ لعدم تضلعه بالعربية أو جهله بها رأساً، فهو يخبط خبط عشواء، ويركب متن عمياء، وقد جاء التشديد في ذلك عن جماعة من الأئمة وعدوه من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم. 

قال أبو داود السنجي: سمعت الأصمعي، يقول: إن أخوف ما أخاف على طالب العِلْم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في [ جملة] قوله عليه الصلاة والسلام: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يلحن فمهما رويت عنه ولحنت فيه فقد كذبت عليه هـ. 

وعبارة الإمام العيني في شرح البخاري مما يظن دخوله في النهي اللحن وشبهه اهـ.

وقال العراقي في ألفية المصطلح: 

وليحذر اللحان والمصحفـا .. على حديثه بأن يُحَرِّفا

فيدخلا في قوله من كذبا .. فحق النحو على من طلبا 

قلت: لفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما (من كذب علي متعمداً)، والجاهل هل هو كالعامد أم لا ؟ فيه خلاف، وحينئذ فلا يظهر اشتمال الحديث على لحن الجاهل إلا على القول بأنه كالعامد. نعم على رواية إسقاط متعمداً كما في البخاري في كتاب العلم وغيره. يظهر ذلك بأن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، سواء كان جاهلاً أو عمداً أو خطأ، كما فهمه الزبير بن العوام رضي الله عنه.

ونقل ابن عشرة في كتاب التصريف، عن الحسن، أنه قال: «من لحن في القرآن فقد كذب على الله غير متعمد. 

وذكر ابن عرفة في حاشية التفسير، التي جمعها تلميذه العلامة البسيلي: أن بعض الأئمة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم؛ فقال: يا رسول الله هل قلت الحياء من الإيمان ؟ فقال له: لم أقله. فقال ابن عرفة: إن الحياء الذي هو من الإيمان ينطق به ممدوداً، وأما الحيا مقصوراً فهو معنى المطر. فهذا يدل على أن الحديث الملحون مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نسبه له فهو كاذب». 

وعن أبي سلمة حماد بن سلمة، أنه قال لإنسان: «إن لحنت في حديثي فقد كذبت علي فإني لا ألحن». وعن سلم بن قتيبة قال: كنت عند ابن هبيرة الوزير الأكبر، فجرى ذكر العربية فقال: والله ما استوى رجلان دينهما واحد وحسبهما واحد ومروءتهما واحدة، أحدهما يلحن والآخر لا يلحن، لأن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يَلْحن، فقلت: أصلح الله الأمير هذا أفضل في الدنيا لفضل فصاحته وعربيته، أرأيت الآخرة ما له أفضل فيها. قال: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله، وأن الذي يلحن، يحمله لحنه على أن يدخل فيه ما ليس منه، ويخرج ما هو فيه، فقلت: صدق الأمير وبر. 

وقال السخاوي: رأى بعض أهل الحديث في المنام وكأنه قد مرَّ على لسانه وشفتيه شيء، فقيل له في ذلك، فقال: لفظة من حديث رسول الله ﷺ غيرتها برأيي ففعل بي هذا. 

وقال الإمام أحمد: ليس بشقي من لا يدري ما يتقي، فربما يقع الجاهل بصناعة العربية فيما لا يجوز له، وعلى هذا فتعلم ما يخلص من شين اللحن، ويدفع وهم التحريف واجب. 

وبه صرّح عز الدين بن عبد السلام في آخر القواعد؛ حيث قال: البدعة خمسة أقسام، فالواجبة كالاشتغال بالنحو الذي به يفهم كلام الله ورسوله؛ لأن حفظ الشريعة واجب لا يتأتى إلا بذلك فيكون من مقدمة الواجب. 

وقال ابن القاسم: لحن رجل عند رسول الله ﷺ فقال: «أرشدوا أخاكم»، فهذا يدل على أن اللاحن ضال عن طريق الحق. 

وقال الخليل بن أحمد: لحن أيوب السختياني في حرف؛ فقال: أستغفر الله. فهذا يدل على أن اللحن معصية. وقيل للحسن البصري: إن لنا إماماً لحاناً، فقال: أميطوه. وكان المؤدبون بالمدينة يضربون على الخطأ واحدة وعلى اللحن سِتّاً. 

وكتب أبو الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما كتاباً فيه لحن، فكتب إليه عمر اضرب كاتبك سَوْطاً، واتخذ كاتباً حنفياً، وكان رجل إلى جنب ابن عمر فلحن فأرسل إليه: إما أن تتنحى عنا وإما أن نتنحى عنك. 

وقيل لعبد الملك بن مروان أسرع إليك الشيب، فقال: شيبني كثرة ارتقاء المنبر، ومخافة اللحن. وكان هارون الرشيد معجباً بالأصمعي، كثير الإقبال عليه، شديد الميل إليه لبراعته وأدبه، فحدثه الرشيد يوماً حديثاً من فيه، وكان في ذلك الحديث سِداد من عوز بكسر السين؛ فنبهه على الصواب بوجه حسن، ففطن الرشيد فقال: ولا يكون السداد بالفتح، قال: هو الصواب وبالكسر من سداد الثغر والثلم وما أشبههما. 

وأنشده قول العرجي: 

أضاعوني وأي فتى أضاعوا .. ليوم كريهة وسِدَادِ شعر 

قال: وكان الرشيد متكئاً فاستوى جالساً، وتغيّر لونه، واشتد عليه غمه، وقال: قبح الله اللحن وأهله، احملوا للأصمعي خمسين ألف درهم. 

والحديث الذي رواه الرشيد أخرجه الشيرازي والعسكري، عن ابن عباس، وعن علي ولفظه: (إذا تزوج الرَّجَلُ المرأة لدينها وجمالها كان فيها سَدَادٌ من عوزه) وهو حديث ضعيف، وحكم ابن الجوزي بوضعه. 

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن شعبة، قال: «إذا كان المحدث لا يعرف النحو فهو كالحمار تكون على رأسه مخلاة ليس فيها شعير، ونظمه جعفر السراج في بيتين، فقال: 

مثل الطالب للحديث ولا .. يعرف نحو ولا له الاته 

كحمار قد علقت ليس فيها .. من شعير برأسه مـخــلاتـه 

وكان اللحن في الصدر الأول عَيْباً عظيماً، سيما في الحديث، فقد روي في سبب تعلم سيبويه [النحو بل] لعلم العربية، أنه سأل أبا أسامة حماد بن سلمة عن حديث هشام بن عروة في رجل رَعُفَ - بضم العين -على لغة ضعيفة، فانتهره وقال له: أخطأت إنما هو رَعَفَ يعني بفتحها، فاشتکی به سیبویه لشیخه الخليل، فقال له: صدق أتلقى هذا الكلام أبا أسامة. فهناك اشتغل سيبويه بعلم العربية حتى رأس فيها، وقال: سأقرأ علماً لا معه أحد [لحنة]. هكذا ذكر الحكاية الإمام أبو محمد بن السيد يلحنني البطليوسي في حاشية الموطأ. 

والذي ذكره ابن هشام في المغني، حيث تكلم على مسألة إلا الاستثنائية يخالف هذا، فإنه [قال : وهذه المسألة ] كانت سبب قراءة سيبويه النحو، وذلك أنه جاء إلى حماد بن سلمة لكتابة الحديث، فاستملي منه قوله: ليس من أصحابي أحد إلا لو شئت لأخذت عليه، ليس أبا الدرداء»، فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، فصاح به حماد فقال له لحنت يا سيبويه وإنما هو استثناء، فقال: والله لأطلبن علماً لا يلحنني معه أحد. ثم مضى، ولزم الخليل وغيره . 

قال الدماميني في حواشي المغني: وما حكاه ابن هشام هو الظاهر، لأن رفع الاسم الذي حقه أن ينصب إنما يدرك بالنحو، وضم العين الذي حقه أن يفتح لا يدرك من النحو، وإنما يدرك من النقل. 

ونظير ما وقع لسيبويه وقع للكسائي، فيما رواه الفراء، قال: إنما تعلم الكسائي النحو على كبره، وكان سبب تعلمه أنه مشى يوماً حتى أعيا، ثم جلس إلى قوم ليستريح، فقال: قد عييت بالتشديد بغير همز، فقالوا: لا تجالسنا وأنت تلحن، قال لهم: وكيف أقول؟ قالوا: إن أردت من التعب فقل: أعييت، وإن أردت من انقطاع الحيلة، فقل: عييت مخففاً. فقام من فوره وسأل عمن يعلم النحو. فأرشدوه إلى معاذ بن مسلم الهراء، فلزمه حتى أنفذ ما عنده، ثم خرج إلى البصرة إلى الخليل بن أحمد، فقال له: من أين أخذت علمك؟ فقال: من أفواه العرب من الحجاز ونجد وتهامة، فخرج ورج،ع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة سوى ما حفظه، ولم تكن له همة غير الخليل، فوجده قد مات وحل موضعه يونس، فجرت بينهما مسائل أقر له يونس فيها وصدره موضعه.  فتأمل هذه النقول، ففيها من التشديد في اللحن ما لا يخفى على ذوي العقول.

تذييل: شاع على ألسنة الناس أن البلاد التي يقرأ فيها صحيح البخاري مثلاً ملحوناً يأتيها الخلاء، وتفجؤها البوائق، وتغشاها الدواهي، ولم أر من نصَّ على ذلك من الأئمة ولا عثرت عليه بعد الفحص التام والكشف عنه في مظانه، وإن كان وجه ذلك ظاهراً، لأن من تصدر بالجهل لإقراء ذلك الكتاب، الذي هو دعامة من دعائم الدين، وركن من أركان الإسلام لا يسلم من الكذب على النبي ﷺ والافتراء عليه، فلا جرم أن أهل ذلك الموضع إن لم يضربوا على يديه، كانوا راضين منه بذلك المنكر العظيم، فلا يستنكر أن يحق عليهم القول وتنزل بهم النقم.

ومثل هذا ما شاع ذكره في إقراء التفسير، وأن البلاد التي يقرأ فيها التفسير من جاهله تَخْلَى، ولم أقف عليه أيضاً في كلام الأقدمين، لكن رأيت في كتاب لحن العوام للإمام الجليل أبي عمر بن خليل الإشبيلي ما نصه: وقد كان بإشبيلية إبراهيم بن سهل اليهودي، الشاعر، يُضمن شعره آيات من القرآن، يحرفها عما أنزلت فلم يغير عليه أحد، ولا أنكره [عليه من أئمتها ]، فكان ذلك سبباً في أخذ [ الكفرة ] إشبيلية، أعادها الله لديوان الإسلام، كقوله: 

جرى القضاء بأن أشقى عليك لقد  .. أوتيت قلبي يا موسى على قدر

مراضع موسى أو وصال سميه ..  نظيران في التحريم مشتبهان. 

وقوله: 

ألا ليت شعري من بآخر سبح .. كما جاء به التنزيل قبل الذي وفي 

فقوله: كان ذلك سبباً في أخذ إشبيلية يدل على ما شاع عند الناس، وأبو المذكور إمام مشهور ينقل عنه الشيخ زروق كثيراً وغيره، والله أعلم

النمط الثالث: في ذكر من رخص من العلماء في اللحن في الحديث وما يتعلق بذلك:

 اعلم أن هذا النمط هو المقصود أولاً بالذات، وله تتشوف [نفوس] الأكابر والنشأة والهداة، وما قبله كالتتمات له والتمهيدات، وقد صح القول بالترخيص في اللحن في الحديث النبوي عن جماعة من الأئمة الأكابر، فروى الإمام البرقاني في كتاب اللفظ له، والإمام الحافظ الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية له، من طريق عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران قال: سألت الإمام الأعظم شيخ الحنابلة أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى وعلى الجميع بمنه، عن اللحن في الحديث إذا لم يغير المعنى؟ فقال: لا بأس به. 

فانظر هذا النقل الحسن ،عن هذا الإمام الذي هو أحد الأئمة الأربعة، الذين أثبتت على مذاهبهم قبة هذه الملة المحمدية وأسست قواعدها، وتأمل ما اشتمل عليه من الرخصة والتوسعة على الأمة، ورفع الإصر عن العامة والخاصة.

ونقل الخطيب أيضاً في الكفاية، عن الإمام ابن عبد الرحمن النسائي، أنه قال: لا يعابُ اللحن على المحدثين، وقد كان إسماعيل بن أبي خالد يلحن، وسفيان وغيرهما من المحدثين فتأمل قوله: لا يعاب اللحن، الخ، كم فيه من تسهيل وإماطة حرج، وهو أعم وأشمل بحسب الظاهر من جواب أحمد قبله، لأنه يحتمل أن يريد سائر اللحن، وكيف كان من مغير المعنى أم لا، ويحتمل أن يصرف لما قيد به جواب أحمد. 

ومثال اللحن الذي لا يغيّر المعنى:

ما روي أن عبد الله بن موسى المعروف بعَبْدَان، أحد أشياخ البخاري، قد أحال [تحديثه]، وابن سريج يسمع من دعِي، فلم يجب بفتح التحتانية، فقال له ابن سُرَيج: أرأيت لو قلت يُجب يعني بضمها، فأبى أن يقول، وعجب من صواب ابن سريج خطئه. 

ولهذا كان جماعة من أعيان أكابر كما عجب ابن سريج من المحدثين معروفين باللحن في الحديث، ولم يكن ذلك داعية لترك الأخذ عنهم، ولا هضماً من سمى مراتبهم؛ كوكيع بن الجراح، وعوف بن أبي جميلة، وأبي داود الطيالسي، والدراوردي، وخلائق آخرين، ومع ذلك احتج برواياتهم في الصحاح، ولم يجيزوا تخطئتهم، ولا تخطئة من أخذ عنهم، وهذا كله يدل على أن عندهم في اللحن سعة، وإلا لما ساغ ذلك كله. 

قال أبو نصر بن ماكولا: أخبرني أبو القاسم ميمون الصدفي، قال: أخبرنا أبي ظاهر عبد الغني الحافظ، قال: قرأت على القاضي أبي الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي كتاب العلم ليوسف القاضي، فلما فرغت قلت له: قرأته عليك كما قرأته أنت، قال: نعم، إلا اللحنة بعد اللحنة، فقلت له: أيها القاضي أسمعته أنت معرباً؟ قال: لا ، قلت: هذه بهذه، وقمت من ليلتي عند أبي اليتيم النحوي. 

وقال أبو بكر بن الحداد الفقيه: قرأت على ابن مردويه جزءاً من حديث يوسف بن موسى فلما فرغت قلت قرأت كما قرأتُ عليك؟ قال : نعم، الا الإعراب، فإنك تُعْرِبُ، وما كان يوسف يعرب. ومثل هذا وقع للحافظ أبي طاهر السلفي في آخرين.

ورأيت في تاريخ علماء الأندلس جمع محمد بن حارث الخشني مؤلف كتاب الفتيا، في ترجمة أصبغ بن خليل، قال: وكان أصبغ قليل العلم بالحديث، وأسماء الرجال. قال في أسيد بن حضير أنه بالخاء المعجمة تصغير الخضر. وقال: لئن بقينا قليلاً ليقول الناس: عُمَر بن الخطاب - بالغين والظاد ـ فكلمه أحمد بن خالد في ذلك، فأبى أن يرجع. 

ورُوِيَ أن عمر بن عوف الواسطي كان له مستملٍ يلحن كثيراً، فقال: أخرجوه وتقدم إلى ورّاق وكان ينظر في الأدب والشعر أن يقرأ عليه، فكان لكونه لا يعرف شيئاً من الحديث يُصَحُفُ في الرواية كثيراً. فقال عمرو ردونا إلى الأول، فإنه كان يلحن فليس يمسخ. اهـ . 

قال السخاوي: ونحو هذا الصنيع ترجيح شيخنا ـ يعني ابن حجر ـ من عرف مشكل الأسماء والمتون دون العربية على من عرف العربية فقط. فتحصل أن اللحن في الحديث رخصة واسعة لأن أولئك الأئمة الذين سردناهم لو لم يروا الأمر في ذلك سهلاً ما ارتكبوه، ولبطلت روايتهم وامتنع عنهم كيف وهم قدوة في الدين ومرتبتهم في العدالة مرفوعة.

وحينئذ فالذين شددوا في اللحن كما نقلنا عنهم في النمط الثاني، إما أن يحمل كلامهم على النهي عن اللحن مطلقاً احتياطاً وتشديداً، ويحمل [كلام] الذين في هذا النمط على عكس ذلك. فيثبت الخلاف بينهم، واختلاف العلماء رحمة كما يدل عليه الحديث المشهور: (اختلاف أمتي رحمة، وإن كان هذا الحديث ضعيفاً كما قاله العراقي، بل قال السبكي: لم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف، ولا موضوع، وفيه نظر؛ فقد أسنده [البيهقي في المدخل ]، والديلمي في مسند الفردوس، كلاهما من حديث ابن عباس لكن بلفظ: «اختلاف أصحابي رحمة». 

وإما أن يحمل كلام المشددين على الذي يُغَيِّرُ المعنى، وكلام المخففين على الذي لا يغير فيتوافق المذهبان، ولا يبقى بينهما خلاف، على أن كل من لا يُحْسِنُ العربية لا أظنه يسلم من تغيير المعنى، وقد سمعت أن أولئك الأكابر كانوا لا يحسنونها. 

وكان سبب رغبتهم عن تعلم العربية ما قاله الشافعي فيما رواه عنه ابن حكمان في جزئه : إنما العلم علمان علم للدين وعلم للدنيا، فالذي للدين الفقه، والذي للدنيا الطب، وما سوى ذلك من الشعر والنحو فهو عناء هـ».

 قال السخاوي: وعلى ذلك يحمل حال من وُصِفَ من الأئمة باللحن كما ذكرناه قبل اهـ. إلا أن كلام الشافعي المذكور محمول فيما يظهر على التوغل في العربية لأنها مشغلة عن العلم وعن كل خير لما قاله ابن فارس. 

وأما المقدار الذي يحترز به عن اللحن فلا أظن أحداً يعيبه بل صرح عز الدين - أعني عبد السلام - بوجوبه، وإن كان مقتضى كلام الخطيب في جامعه الاستحباب، فإنه قال: ينبغي للمحدث أن يتقي اللحن في روايته، وأن لا يقدم على ذلك إلا بعد دربية النحو ومطالعة علم العربية، اهـ. 

وقال السخاوي: رُبَّ شخص يزعم معرفته بذلك ـ يعني بعلم العربية وهو إذا قرأ لحنه النحاة وخطؤوه لتصحيفه الرواة، وهذا الذي أشار إليه مشاهد في كثير ممن يحسن العربية ومع ذلك يخطيء عند السرد أشد الخطأ، ويقع في أسوأ اللحن. 

وحدثني غير واحد عن الإمام الصدر شيخ شيوخنا أبي علي اليوسي رحمه الله تعالى، أنه أخبرهم أنه لما اجتمع بشيخ الأزهر عالم مصر الشيخ محمد الخرشي شارح شارح المختصر، وجده يسرد صحيح البخاري وهو يلحن فيه، وأن ذلك منع أبا علي من استجازته مع صلاحه وكبر سنه، وإذا كان هذا حال الشيخ مع شفوف مرتبته في الفنون فما ظنك بغيره. 

ومما يستأنس به للتخفيف في [اللحن] في الحديث، ما ذكره الأئمة في الدعاء، فقد ذكروا أن من جملة شروط الدعاء الإعراب والسلامة من اللحن، وما ذكره الإمام ابن الأزرق في كتابه روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام أن الأصمعي مرَّ برجل يقال له: ليث وهو يدعو ويلحن، فأنشد: ينادي ربَّه باللحن لَيْتُ لذاك إذا دعاه لا يــجــيــب،ثم رأيت في الشعب للبيهقي بسنده أن الأصمعي مر برجل يقول في دعائه: يا ذو الجلال، فقال له: ما اسمك ؟ قال: ليث. فأنشده البيت. 

وقال الشيخ علي الأجهوري في حاشيته على الرسالة ما نصه: وللدعاء آداب نحو الستين ومن جملتها أن يصلح لسانه إذا دعا. 

قال الزركشي: وظاهر كلام الحليمي أن تجنّب اللحن من الشروط، فلا يدعو بالجزم مثلاً فيما الصواب فيه الرفع لانقلاب المعنى، وهو ظاهر كلام الخطابي؛ فإنه قال ومما يجب أن يراعى في الأدعية الإعراب الذي هو عماد الكلام وبه يستقيم المعنى، وربما انقلب المعنى باللحن.

وقد قال المازري لبعض تلامذته عليك بالنحو، فإن بني إسرائيل كفرت بحرف ثقيل خففوه، قال الله تبارك وتعالى: "إني ولدتك يا عيسى" فقالوها بالتخفيف فكفروا. صحيح قال الزركشي: وعد صاحب التبصرة من الأدب أن يكون الدعاء اللفظ؛ لأنه يتضمن مواجهة الحق بالخطأ. قال: وقد جاء في الحديث: «لا يقبل الله دعاء ملحوناً». 

وقال ابن الصلاح  الدعاء الملحون إن كان ممن لا يستطيع غيره، لا يقدح في الدعاء ويعذر فيه ذكره في فتاويه  من كتاب الأذكار للشامي اهـ. کلام الأجهوري، فتأمل قوله: الدعاء الملحون الخ، فإن فيه رخصة ظاهرة؛ إذ ظاهره كان الدعاء مأثوراً أم لا، وحينئذ فيشمل نحو كتاب دلائل الخيرات، فإن الصلوات والأدعية التي فيه مرفوعة وموقوفة ما بين حديث عنه عليه الصلاة والسلام أو أثر عن أصحابه أو عن التابعين، ومع ذلك فإن العامة يقرؤونه، ولا معرفة لهم بالعربية فيصحفون ذلك غاية التصحيف، ويلحنون أقبح اللحن ،فلولا هذه الرخصة التي نبه عليها ابن الصلاح رحمه الله تعالى لمنعوا من ذلك، وكان أجرهم وزراً، وإذا حصلت الرخصة في هذا النوع من الحديث قيل بها في غيره من باب الأولى لأن الحديث يتعبَّدُ بتلاوته، كما يتعبد بتلاوة القرآن. 

فالضرورة الشرعية تدعو لقراءته كما تدعو الأدعية المأثورة. ومما يستأنس به للترخيص في اللحن في الحديث، ما أخرجه أبو منصور الديلمي في كتاب مسند الفردوس، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله ﷺ «إذا قرأ القارىء القرآن فأخطأ أو ألحن أو كان أعجمياً كتبه الملك كما أنزل»، قال المناوي: أي قومه الملك الموكل بذلك ولا يرفع إلا صحيحاً. {وقرآناً عَرَبِيًّا غير ذي عِوَجَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} قال وفيه أن القارىء يكتب له ثواب قراءته وإن أخطأ أو لحن، ولكن محله إذا لم يقصر في التعلم وإلا فلا يؤجر بل يوزر اهـ. 

ولا شك أن الحديث حكمه حكم القرآن ممن لم يتعمد إفساد الحديث، وعجز في الوقت عن وجود معلم، فلا بأس بتعبده بقراءة الحديث، وإن وقع منه لحن أو تصحيف أصلحته الملائكة ورفعته. 

ومن العجز عن التعليم أن يكون ذلك يشغله عن معاشه أو معاش أولاده، فلا يترك القراءة في المصحف مثلاً معها حينئذ كما نص عليه الأئمة. 

ومن العجز أيضاً أن يشق عليه [التعلم]،، وقد نص الإمام القرافي في الفروق على أن الجهل الذي يشق على المكلف الاحتراز منه يعفى عنه، فمن شق عليه تعلم العربية وصعب عليه إدراكها لغلبة العجمة عليه أو لبلادته، أو لكبر سنه أو غير ذلك رُخَّصَ له في اللحن كما سمعت، وهذا السبب موجود في كثير من الطلبة وغيرهم من العامة، فلا تكاد عقولهم تقبل تعلم قواعد العربية ولا ترسخ فيها. 

ومما يشهد للتساهل في اللحن في الحديث أن جماعة من أولياء الله من أكابر العارفين كانوا يلحنون في الفاتحة وغيرها في الصلاة كالولي الذي حكى عنه اليافعي وغيره: أن جماعة من أهل العلم قصدوا زيارته فوجدوه يلحن في قراءة الفاتحة [في الصلاة]، فتغير اعتقادهم فيه فناموا كلهم فاحتلموا فخرجوا، فدخلوا في الماء في واد يغتسلون، فجاء الأسد فجلس لهم على ثيابهم، فلم يقدروا على الخروج من الماء حتى جاء الشيخ، فزجر عنهم الأسد وذهب، ثم قال لهم: أنتم اشتغلتم بإصلاح الظاهر فخفتم الأسد، ونحن اشتغلنا بإصلاح الباطن فخافنا الأسد، وأنشدوا:

 لَحْنُهَا مُعْرَبٌ وأعجب من ذا .. أن إعراب غيرها ملحون 

وقال بعض المشايخ لمنكر عليه اللحن في قراءته من الفقهاء: 

لئن لحنت في القرآن..  لقد لحنت أنت في الإيمان. 

وفي ذلك أنشد اليافعي قوله: 

أيا معرباً قولاً وفي الفعل لاحناً .. كذلك في الإيمان بالغيب من أولا 

إذا ما للحن القول من كل معرب..  لفعل وإيمان تعب راكبا جهلا 

ولَحْنُكَ محضور لدى كل عارف .. ولا حصر بل لا كره في لحنه أصلا

أتفجر من قشر الذباب وعنده .. لباب أولي الألباب صار له أهلا 

وفي قلب كل منهما ما يحبه .. ففي قلبك الدنيا وفي قلبي المولا 

ويُحكى أن سيبويه ما قال من الشعر غير هذين البيتين، قالهما عند موته: 

وإنَّ لساني عاد بالنحو سَالِماً .. فيا ليته في موقف الحشر يَسْلَمُ

وما ينفع الإعراب إن لم يكن تُقَى .. وما ضر ذا تقوى لِسَانٌ مُعجم

 وقال البرزلي في جامع ديوانه حكى بعض شيوخنا أن رجلاً كان يقرأ القرآن برواياته وكان يسأل الناس، فرأى في النوم أن قائلاً قال له: امض إلى أبي يعزى، فاقرأ عليه وهو في آخر المغرب بعد أن تكررت له الرؤيا، فمشى حتى لحقه، وقال له  إني أُمِرْتُ في النوم أن أقرأ عليك. فقال له: إقرأ. فقرأ عليه الفاتحة، فلما بلغ وإياك نستعين، قال له: أعد قراءتك، فأعادها فأوقفه عند الآية المذكورة، فقال له يا سيدي اقرأها أنت علي حتى أعلم من أين أوتي عليَّ. فقرأ ،الشيخ، وكان في لسانه عجمة فلم يُقَوِّم حروفها، فقال له: يا سيدي قراءتي فيها أفصح، فقال له: يا بني إنك لم تقرأها بقلبك لكن بلسانك، تقول: (وإياك نستعين) وأنت تسأل الناس وأنت غني، ولكن يعني ثواب قراءتك بكذا وكذا ديناراً، قال فقلت: لا تسخو نفسي بذلك، قال: ختمة منه، قال: لا تسمح نفسي بذلك، فما زال يدرجني إلى سورة فأبيت، فقال لي: معك ألوف من الدنانير وأنت تسأل لكن انقطع إلى الله تعالى واعتمد عليه ولا تلجأ إلى المخلوقين يريك العجائب. قال: فتبت على يد الشيخ ورجعت إلى بلدي فما وصلتها حتى فتح الله علي بألوف الدنانير اهـ. 

وحكايات الأولياء اللحانين أكثر من أن تحصى، وذلك يدل على أنهم رأوا في الأمر سعة، وإلا لما كانوا على تلك الحالة. 

ومن يلحن في الفاتحة والقرآن يلحن في غيره من باب أولى، والقرآن أعظم من الحديث، ولا يقال: لعلهم عجزوا لغلبة العجمة أو إعواز المعلم، لأنا نقول: هذا نقل عن كثير ممن عرف اللسان المولدين في الحواضر، بحيث لا عجمة في ألسنتهم ولا مانع يمنعهم من التعلم لوجود المعلمين. 

ومما يدل على الترخيص في لحن الحديث أن الفقهاء اختلفوا في إمامة اللاحن في الفاتحة أو غيرها من القرآن سواء غير المعنى أم لا، وقالوا: محل الخلاف في العاجز الذي يقبل التعليم، ووجد معلماً، وإلا فلا خلاف في صحة الصلاة. 

قال ابن رشد: «الصحيح أن الصلاة تكره خلفه ابتداء، فإن وقعت لم تجب إعادتها؛ لأن القارىء لا يقصد ما يقتضيه اللحن، بل يعتقد بقراءته ما يعتقد بالموالي وهم يقرؤون القرآن ويلحنون فيه، فقال: نِعْمَ ما قرأتم. ومرَّ بالعرب وهم يقرؤون ولا يُلحنون، فقال: هكذا أُنزل».

 فتأمل قوله لأن القارىء لا يقصد اللحن، فإنه يكاد أن يكون نصاً مقصودنا من الترخيص في اللحن في الحديث، لأن الذي يقرأ البخاري مثلاً ويلحن فيه، لا يقصد ما يقتضيه اللحن وإنما يقصد [ما يقتضيه] التعظيم والمعنى الصحيح الذي يقصده غير اللاحن.

وقوله: مرَّ بالموالي وهم يلحنون الخ، الظاهر أن المراد بالموالي: بلال وصهيب وسلمان وأضرابهم كما ورد تسميتهم بذلك في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْعشِي} الآية. 

لطيفة: يذكر أن سيدنا بلالاً رضي الله تعالى عنه كان ينطق بالشين المعجمة سيناً، فيقول: أسْهَدُ أن لا إله إلا الله، فمن ثم قال: «سين بلال عند الله شين»، ذكره بعضهم.وقال بعضهم : لا يثبت ذلك والله أعلم. 

ومما يدل على الترخيص للجاهل في اللحن في الحديث: ما رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم فشق ذلك على أصحاب النبي الله حتى عرف في وجوههم وقالوا يا رسول الله أقلت كذا ونحن نسمع منك الحديث ونزيد وننقص ونقدم ونؤخر؟ فقال: لم أعن ذلك، ولكن عنيت من كذب عليّ يريد عيب وشين الإسلام». 

ولا شك أن اللاحن في الحديث لا يريد عَيْبَهُ ولا شين الإسلام فلا يدخل في الوعيد، وبهذا يرد على الأصمعي فيما تقدم عنه ومن تبعه، وإن قال الحاكم: هذا الحديث باطل، وأن في السند محمد بن فضيل بن عطية. وقد اتفقوا على كذبه، بل قال صالح: إنه يضع الحديث، فقد قال السخاوي له طرق أخرى. رواه أحمد بن منيع في مسنده والخطيب في كفايته من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة اهـ. 

وقال في تحفة الحبيب للحبيب بما زاد على الترغيب والترهيب ما صورته: وعن رجل من أصحاب النبي ﷺ، قال: قال رسول الله ﷺ: «من تقول عليَّ ما لم أقل أو انتمى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً»، قيل: يا رسول الله، وهل لها عينان؟ قال: «نعم، ألم تسمعوا إلى قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغيُّظًا وَزَفِيرًا} فكففنا عن الحديث، حتى أنكر ذلك شأننا فقال لنا: «ما لي لا أسمعكم تحدثون؟»، قلنا: يا رسول الله وكيف نحدث وقد قلت [من تَقَوَّل] الخ، ونحن لا نقيم الحديث نقدم ونؤخر ونزيد وننقص، قال: ليس ذلك عنيت، إنما عنيت من أراد عيبي وشين الإسلام، رواه أحمد بن منيع ورواته ثقات اهـ. فتأمل قولهم: لا نقيم الحديث، الخ، فإنه مع الجواب بأداة الحصر يفيد ما نطلبه. 

ومما يدل على الترخيص في اللحن في الحديث، أن الأئمة كما في المعيار وغيره نصوا على أن مِنْ شَرْطِ المُفْتي أن يكون عارفاً بعلم العربية، وأن الخالي منها لا يعمل على فتواه، ومع هذا فإن غالب المفتين اليوم، بل غالب القضاة يجهلون العربية ويعمل بفتاويهم، وإن قيل ببطلان ذلك لاتسع الخرق على الراقع، وأدى إلى فتنة وفساد عريض لعموم الجهل وغلبته، سيما في طلبة البوادي والقرى، وكما وقع الترخيص في البابين للأحكام الشرعية يقع في الناشرين للآثار النبوية

وفى علم الحديث ما يشغل عن علم العربية وغيرها، ومن ثم قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: علم الحديث لا يصلح إلا لمن قصر نفسه عليه، ولم يضم غيره إليه. 

ومما يدل على الترخيص في اللحن في الحديث، أن العلماء تحملوا رواية الحديث عن العامة الذين لا أنس لهم بالعربية والظن الغالب أن العامي لا يسلم من اللحن في الحديث. 

قال السخاوي: كان الحجّار عامياً لا يضبط شيئاً ولا يتعقل كثيراً، ومع هذا تداعى الأئمة والحفاظ إليه فضلاً عمن دونهم إلى السماع منه لأجل تفرده، حيث سمع منه نحو مائة ألف أو يزيدون اهـ.

وهذا الحجّار الذي ذكره، روايته أشهر من الشمس في رابعة النهار، وانكباب الأئمة عليها يؤذن بما ذكرنا وانظر ترجمة الحجار في كتاب أعوان النصر للصدفي، فقد تحصل لنا من هذه الأدلة كلها أن اللحن في الحديث فيه رخصة واسعة لبعض أهل العلم، وأن من أراد قراءة الكتب الحديثية كالصحيحين والشمائل مثلاً، ولا معرفة له بالعربية وغرضه التبرك بها في خاصة نفسه أو يُسمعها لقوم بقصد التبرك، فليطلب نسخة من ذلك تكون صحيحة مقابلة مضبوطة، وما اعتراه من اللحن فيها، فلا يؤاخذ به إن شاء الله اهـ. 

وأما إن كان بقصد التصدر وطلب العلو، فلا يحل ومن هذا المعنى قراءة دلائل الخيرات وكتاب تنبيه الأنام، فإنهما اشتملا على أحاديث كثيرة، ولم تزل العامة لاهجين بهما من غير نكير عليهم من العلماء في ذلك، وما ذلك إلا لأن العلماء رأوا فى الأمر سعة، وبما ذكرنا تعلم أن ما نسب للشيخ سيدي المهدي الفاسي شارح دلائل الخيرات من الأولى للعامة أن يبدأوا قراءة الدليل من الأسماء النبوية، ولا يقرؤوا فصل فضائل الصلاة على النبي ﷺ لاشتماله على أحاديث ربما لحنوا فيها محمول على الأفضل وإلا ففيه ما سمعت. 

وأما المستملي - وهو المسمى بالقارىء في المجلس في عرفنا اليوم -فإن لحنه لا يغير المعنى، فلا بأس به كما قاله الإمام أحمد، وإن كان يغير المعنى، فإن كان الشيخ يصلح فساده فلا بأس أيضاً إلا إن تركه وتقديم غيره أولى كما تقدم. 

وإن كان لا يصلح فحكمه يعلم ما ذكرناه قبل، وكلامنا كله إنما هو في مجرد السرد للحديث، وقراءة ألفاظه من الجاهل بالعربية، وأما تفسيره والتكلم على معانيه فذلك شيء آخر ليس من غرضنا في هذا التقييد التعرض له. 

وقد علم أن القارىء للحديث باللحن فيه تفصيل، وقد ألممنا بأدلة في واضحة التفصيل، وأتينا بأنقال يعض عليها بالنواجذ أهل التحصيل، وإذا كان اللحن من الخلاف بحيث ذكرنا فلا حسبة فيه ولا إنكار على متعاطيه، لأن الإنكار إنما يكون فيما أجمع على تحريمه كما نبه عليه الغزالي، والقرافي، وغيرهما.

وأما ما اختلف فيه، فلا إنكار فيه لأن كل مجتهد من العلماء في الفروع مصيب، فليس أحد القولين أولى من [الآخر] إلا أن يكون مرتكب ذلك يعتقد تحريمه فينكر عليه، وما كنت أظن قبل أن أؤلف هذا التقييد أن أحداً العلماء رخص في لحن الحديث حتى تصديت لهذا التأليف.

وما أحسن ما نقل البرزلي عن بعضهم: متى اتسع العلم قل الإنكار، ومتى ضاق كثر الاعتراض. وكان شيخنا الإمام أبو علي [الحسن] بن رحال رحمه الله تعالى، يقول: حَملُ عمل الناس على قول ضعيف أولى من حملهم على الخطأ» اهـ كلامه. 

تذييل: قد علمت أن الحديث حكمه حكم القرآن فيجب على هذا تجويد حروف لفظ الحديث كما يجب تجويد القرآن. 

قال ابن الجزري في النشر: وقد تكون القراءة بغير تجويد لحناً. وقسموا اللحن إلى جَلِي وخفي، فاللحن خَلَلٌ يطرأ على الألفاظ فيخل بها، إلا أن الجلي يخل إخلالاً ظاهراً يشترك في معرفته علماء القراءة وأئمة الأداء الذين نقلوه من أفواه العلماء اهـ . 

ومقتضى كلامه في الطيبة: أنه واجب يأثم تاركه، وبهذا صرح غيره. وقال شيخ شيوخنا الأستاذ الشهير سيدي عبد الرحمن بن القاضي في كتابه الفجر الساطع في شرح الدرر اللوامع: ومعرفة مخارج الحروف هي التجويد، ولا يعرفه إلا ذو نظر سديد، فمن خلا من ذلك فلا تجوز روايته وحجته داحضة، وتلاوته ليست بقرآن بدلیل بطلان صلاته عند الأئمة الأئمة الأعيان، وهذه المسألة قد عمت بها البلوى، فلا تكاد تجد محموداً للقرآن، كما وصف الأئمة فضلاً عن تجويد الحديث، وكان بعض الأشياخ يبالغ في ذم ذلك حتى صرح بأن القراءة بغير تجويد لا ثواب فيها وأنها تجوز مع الجنابة لأنها ليست من قراءة القرآن في شيء.

وقد وقفت في ذلك على سؤال سُئِله شيخ مشايخ شيوخنا الفقيه المحدث الصالح أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيني صاحب المقنع، فأجاب ما نصه 

وأما من كان يقرأ [القرآن] بلا تجويد على شيخه، واستمر على ذلك، ولا يشتغل بتجويده ولا نوى ذلك، فقد ورد فيه سؤال من أهل سوس الأقصى من قبل أبي فارس السيد عبد العزيز بن أبي بكر بن يعقوب الرسموكي الجزولي -رحمه الله تعالى -إلى علماء مراكش، وكان شيخنا أبو مهدي السيد عيسى بن عبد  الرحمن السكتاني حياً، وشيخنا السيد أبو بكر بن يوسف السكتاني حياً، وشيخنا سيدي محمد بن يوسف التينملي حياً، وشيخنا أبو العباس المريد حياً وغيرهم من كبار الطلبة الحذاق على سؤالهم هذا، وعلى مسألتهم هذه بعينها، فاتفقوا في أجوبتهم على المنع من قراءة القرآن بلا تجويد أصلاً، إلا إذا كان القارىء متعلماً مبتدءاً في التجويد على الشيوخ لم يقطع التعلم.

وأما إذا اشتغل بالدنيا وأعرض عن السؤال عما يجهله من ذلك؛ فهو فاسق لا تجوز قراءته ولا إمامته ولا شهادته حتى يتوب من قراءة القرآن بلا تجويد، وتوبته بأحد أمرين: إما أن يشتغل بالتجويد على الشيوخ، وإما أن يترك قراءته أصلاً إلا ما فُرض منه على المكلف كالفاتحة وسورتين من القرآن بعد تجويدها أيضاً.

وإذا ترك القراءة أصلاً على سبيل التوبة فله أجر من يقرؤونه بالتجويد وهو من المتقين الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾، والجواب كثير جداً، واقتصرناه لكم، وهذا حاصله. وقد اشتمل هذا الجواب على تشدید شديد، وليس بسديد، والله أعلم ذلك.

 وقد وقعت هذه المسألة بحاضرة فاس حفظها الله أيام إقامتنا فيها لطلب العلم، فكان من أشياخنا من شدد منهم، ومنهم من خفَّف، وكان من المخففين في أمر التجويد شيخنا الأستاذ حامل راية الإقراء في عصره، مع المشاركة في الفنون أبو سرحان سيدي مسعود بن جموح رحمه الله تعالى فقال: إن النبي ﷺ كان أفصح الخلق وأتقنهم لتجويد القرآن، والصحابة رضي الله عنهم كانوا دونه في ذلك، ولم يكلفهم أن يجودوا مثله، بل اكتفى منهم بما في طباعهم. وكذلك الصحابة لم يكلفوا التابعين من الأعاجم وغيرهم أن يجودوا مثلهم، بل اكتفوا منهم بما في وسعهم ومقدورهم وكذا التابعون إلى هلم جرا . فكيف نكلف اليوم أن نجود مثل الفصحاء الألسن، والبلغاء الأذهان، هذا من شبه التكليف بما لا الصحابة وهم يطاق. اهـ. 

[وقد] سمعت صاحبنا الفقيه شيخ الإقراء بالديار الفاسية أبا العلاء الحسين رحمه الله تعالى، يقول: إن قراءة القرآن اليوم لا بأس بها على ما هي عليه، بدليل أن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كان في ليلة واحدة يقرأ القرآن كله، ولا يتيسر له ذلك إلا مع إسراع شديد يخل بالأداء المطلوب، ولم يكن ذلك منه على سبيل خرق العادة، فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا قدوة للعباد، ولم تكن أمورهم جارية إلا على ظاهر الشرع، ولم يسلكوا فيها خرق العادة؛ لأن الله جعلهم نجوماً يهتدى بهم اهـ. 

وما ذكره من قراءة سيدنا علي القرآن في ليلة لم أقف عليه. والذي ذكره [ابن حجر] في فتح الباري عن أبي جمرة الضبعي، قال: قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، إني لأقرأ القرآن في ليلة الحديث. وأبو جمرة تابعي جليل فيه أسوة. 

قلت: وانظر قول ابن سعيد في جوابه المتقدم فهو فاسق لا تجوز إمامته، وقول ابن القاضي بدليل بطلان صلاته، الخ. فإنه خلاف ما نص عليه غير واحد. قال الزرقاني [عند قوله]: وكره اقتداء بلاحن لحناً خفيفاً، ويقال له: خفي وهو خطأ يعرض للفظ ويخل بالمعنى أو الإعراب كرفع المجرور ونصبه. كما للأنصاري على الجزرية فإن فيه الخلاف المتقدم اهـ. 

فظاهره أن التجويد مستحب لا واجب، وكيف يُفسَّقُ تارك المستحب فقد تحصل لنا الترخيص في ترك تجويد القرآن والحديث كما قالته الأئمة رضي الله عنهم. 

لاحقة وفيها إحدى عشرة فائدة:

الفائدة الأولى: شاع عند الناس أنه لا يجوز لأحد أن يقرأ البخاري أو غيره من كتب الحديث حتى تكون عنده الإجازة فيه، وإن لم تكن عنده فلا تجوز له قراءته، ويقع بسبب هذا إنكار على متعاطيه من غيرها وإن كان حصل المهم من المطلب وغذي بلبان كلام العرب، وهذا أيضاً جهل وغباوة؛ لأن الإجازة ليست شرطاً في التصدر لقراءة الحديث ولا غيره. 

قال الحافظ السيوطي في الإتقان: الإجازة غير شرط في جواز التصدر للإقراء والإفادة، فمن علم من نفسه الأهلية جاز له ذلك، وإن لم يجزه أحد، وعلى ذلك السلف الأولون والصدر الصالح، وكذلك في كل علم. وفي الإقراء والإفتاء خلافاً لما يتوهمه الأغبياء من اعتقادهم كونها شرطاً، وإنما اصطلح الناس على الإجازة لأن أهلية الشخص لا يعلمها غالباً من يريد الأخذ من المبتدئين ونحوهم لقصور مقامهم عن ذلك، والبحث عن الأهلية قبل الأخذ شرط، فجعلت الإجازة كالشهادة من الشيخ للمجاز [له] الأهلية اهـ 

نعم، من وجد مثلاً نسخة صحيحة من البخاري، ولا رواية له فيها، ولا تحملها بشيء من أنواع التحمل الثمانية التي الإجازة نوع منها، هل يجوز له قراءتها أو لا؟  فحكى الحافظ ابن حجر في تقريب الإسناد: الإجماع عليه، ونحوه ما قاله الإمام ابن خير الأموي، وهو خال الإمام السهيلي أنه اتفق العلماء على يصح لمسلم أن يقول: قال رسول الله ﷺ كذا حتى يكون ذلك القول مروياً ولو على أقل وجوه الروايات لقوله: (من كذب علي متعمداً . . .) الحديث، اهـ. 

وناقشه شيخ الإسلام زكرياء بأن في مطابقة دليله لمدعاه نظراً، إذ لا يقال عمن نقل عن صحيح البخاري حديثاً ولا رواية له به أنه كذب على النبي ﷺ اه .

وبهذا يرتفع الحرج عن الذين يقرؤون مثلاً دليل الخيرات وفيه أحاديث، فعلى مناقشة زكرياء لا شيء عليهم وعلى كلام ابن خير لا يحل لهم إلا برواية وهو حرج عظيم.

 تنكيت: قال السيوطي في الإتقان: هل يكون حكم القرآن كذلك، أي فليس لأحد أن ينقل آية أو يقرأها ما لم يقرأها على شيخ لم أر في ذلك نقلاً، والظاهر أنه لا يشترط اهـ. 

قلت: وفيه نظر فإن المسألة سُئِلَ عنها أبو محمد القرطبي هل يحتاج في القرآن إلى إسناد؟ فأجاب بأنه يحتاج فيه إلى الإسناد، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وتعقبه الأستاذ أبو علي الرندي وشنع عليه في ذلك جداً، لأن الإسناد إنما يكون في الأخبار المنقولة [نقل آحاد]، وأما القرآن فمتواتر قطعي، فالقول بأنه لا بد فيه من الإسناد يلزم عليه أن يكون منقولاً أحاداً، وهو خلاف الإجماع، وأطال في ذلك نحو ورقتين وهذا حاصله. 

وسئل بعض الشيوخ عن جواب القرطبي ومناقضه أبي علي: أيهما أصوب؟ فأجاب بأن الصواب مع القرطبي؛لأن السائل سأله عن مصحف الإمام الذي نقله الناس نقل تواتر بالقراءة والكتابة، فهل يفتقر القارىء إذا قرأه من أوله إلى آخره إلى إسناد، أو يكتفي بكونه منقولاً نقلاً يوجب العلم؟ وقد ذهب إلى هذا كثير من قراء أهل الآداء، وهو ابن مقسم فقال: يجوز للعالم بالعربية والمعاني القرآنية أن يقرأ برأيه على ما تقتضيه العربية والمعاني التفسيرية، ولا يحتاج إلى إسناد، فسأله السائل: أيحتاج إلى إسناد في القرآن؟ فقال له: لا تفهم ما ذهب إليه ابن مقسم وهو مذهب فاسد مخالف لما عليه سلف الأئمة، نقله في جامع المعيار للونشريسي اهـ. 

الفائدة الثانية: من الأمور التي تعرض في سرد الحديث قراءته بالطبوع والألحان التي تخل ببعض آدائه. وروي عمر أن رضي الله عنه قال لشخص كان يطرب في أذانه: إني أبغضك في الله وللخوف من الوعيد اهـ. 

قال السخاوي لما تكلم على اللحن في الحديث، والترهيب منه، وألحق بعض المتأخرين في الوعيد من قرأ الحديث بالألحان والترجيع الباعث على إشباع الحرف المكسب للفظه سماجة وركاكة، لأنه عليه الصلاة والسلام بريء من ذلك. 

ويجري فيه ما جرى في التطريب بالقرآن إذا كان يخرجه عن النهج القويم، فمنهم من حرمه. وحكي عن الإمام السرخسي: أنه لا يضر التمطيط مطلقاً، وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة، قال في الفتح: وهذا شذوذ لا يعرج عليه، وإذا كان لا يخرجه فلا شك أنه مطلوب اهـ.

الفائدة الثالثة: رفع الصوت في مجلس الحديث والقارئ يقرأ لا ينبغي له وهو مخل بالأدب، لأن رفع الصوت على حديثه كرفعه عليه في حياته، وحرمته ميتاً كحرمته حياً. وقد هتك الستر في هذا في مجالس العصر، فلا تجد لهم تعظيماً لما عليه حلّقوا ، ولا يبالون مما لأجله أحذثوا. ومقتضى كلام أبي بكر بن العربي وجوب ذلك، فإنه قال : يجب أن لا ترفع عند قراءة حديثه الأصوات، فإذا قرىء كلامه وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك عند تلفظه به وكلامه المأثور بعد موته مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف، اهـ. 

قال شارح المواهب: ولعله أراد بالوجوب تأكيد الندب. وحكى السخاوي عن أبي المحب الحافظ أنه قال: «كنا نسمع الحديث ونحن صغار، فربما ارتفعت أصواتنا في بعض الأحيان والقارئ يقرأ، فلا ينكر علينا من حضر المجلس من كبار الحفاظ كالهندي والبرزالي وغيرهم من العلماء».

وحكى ابن الأثير عن القاضي سليمان بن حمزة أنه زجر في مجلسه الصبيان عن اللعب فقال : لا تزجرهم، فإنما سمعنا مثلهم، هـ . فانظر هذا، فهل يدل على الترخيص للصغار أو يلحق بهم غيرهم فيه.

الفائدة الرابعة: لا بأس بسرد الحديث بسرعة من غير إدماج ألفاظه ولا هدرمة بها، وقد شاع في هذا الوقت، فتجد القارىء يهده هدَّ الشعر، ويُسرع إسراعاً لا يكاد يتبين معه شيء. لكن نقل الذهبي عن جماعة من الحفاظ ما يفيد الرخصة في ذلك، فقال: كان شيخنا ابن أبي الفتح يسرع في القراءة ويعرب، لكنه يدعم بعض ألفاظه، وكان شيخنا أبو العباس بن تيمية يسرع ولا يدعم إلا نادراً، وكان المزني يُسرع ويُبين وربما تمتم يسيراً. 

قال السخاوي: وممن وُصِفَ بسرعة السرد مع عدم اللحن والدمج البرزالي، ومن قبله الحافظ الخطيب، بحيث قرأ البخاري على إسماعيل بن أحمد النيسابوري رواية الكشميهني في ثلاثة مجالس اثنين منها في ليلتين كان يبتدىء القراءة وقت المغرب ويختم عند صلاة الفجر، والثالث من ضحوة النهار إلى طلوع الفجر. 

قال الذهبي: وهذا لا أعلم أحداً في زماننا يستطيعه، وقد قرأه شيخنا ابن حجر في أربعين ساعة فلكية وصحيح مسلم في [أربعة مجالس] سوى الختم من نحو يومين وشيء. فإن كل مجلس كان من باكر النهار إلى الظهر اهـ. 

وقال في الجواهر والدرر: وما وقع لابن حجر في قراءة مسلم أجل مما وقع لشيخه المجد اللغوي صاحب القاموس، فإنه قرأه بدمشق بين بابي النصر والفرج تجاه نعل النبي صلى الله عليه وسلم -على ناصر الدين أبي عبد الله محمد بن جهبذ في ثلاثة أيام متواليات، ففرح بذلك غاية الفرح، وأنشد في ذلك ثلاثة أبيات يقول فيها: 

قرأت بحمد الله جامع مسلم .. بجوف دمشق الشام كرسي إسلام 

على ناصر الدين الإمام ابن جهبذ .. بحضرة حفاظ مشايخ أعلام 

وتم بتوفيـــــــــــــــــــق الإلـــــــــــــــــه وفضله .. قراءة ضبط في ثلاثة أيـــــــــــــــــــــــــــــــــــام 

وهذا كله يدل على أن في السرد مع الإدماج رخصة؛ لأن استكمال البخاري ومسلم في تلك المدة لا يخلو من ذلك. 

وقال ابن دقيق العيد: تسامح القراء في هذه الأعصار المتأخرة في ذلك، وصار القارىء يستعجل استعجالاً يمنع السامع من إدراك حروف كثيرة، بل كلمات اهـ. 

وقد نص العراقي في ألفيته على طلب الترتيل في الحديث، وحمله السخاوي على الاستحباب، ولعل تطويل أولئك الأئمة بمجلس الحديث كان لعلمهم بأن الحاضرين لا يسأمون منه، وإلا فقد نصوا على استحباب تقصير مجلس الحديث. وقال الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب اهـ. 

الفائدة الخامسة: من نبغ في هذا الزمان قوم من المتطلبة إذا سردوا البخاري مثلاً، قالوا: حدثنا فلان، ولا ينطقون بقال في أضعاف ذلك -وهو خطأ فاعله، لأن الذي جرى به العمل عندنا أن قال لا يرمز لها بل تسقط خطأ، لحدثنا برمز ثنا، ولا بد من النطق بها لفظاً كما قاله ابن الصلاح والعراقي، لأن الأصل الفصل بين كلامي المتكلمين للتمييز بينهما، وحيث لم يفعل فهو مضمر، والإضمار خلاف الأصل، وهذا هو الصواب.

وقد صرح الشهاب عبد اللطيف ابن المرحل النحوي بإنكار اشتراط التلفظ، فقال: وأنه يكفي الاقتصار على النطق برمزها فإنهم يرمزون له بالقاف المعرفة. ومثله للكرماني، ونظر فيه ابن حجر فانظره. 

الفائدة السادسة: مثلاً اليوم من المسائل التي أوصى بها الأشياخ أن القارىء عند كل حديث يقول: وبإسنادنا حدثنا الخ، أو يقول: وبه حدثنا، والضمير يعود للسند، وهذا مما جرى به عمل الأشياخ وبه يخرج من عهدة الخلاف، لأن النسخة التي يكون إسناد راويها واحداً كنسخة همام بن منبه عن أبي هريرة رواية عبد الرزاق عن معمر عن همام، وكنسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وكنسخة البخاري عندنا، فإن الفقيه تجده يتحملها عن شيخه فلان عن فلان إلى البخاري، فهذا سند واحد فبعضهم أوجب إعادة الإسناد في كل حديث، وهو شذوذ. 

وبعضهم قال: الأحوط أن يعيد سند شيخه في كل متن؛ حتى يبلغ البخاري. واختار المتأخرون أن يذكر الشيخ سنده للبخاري في مجلس الابتداء، ثم يحيل بقوله وبالسند وبه وبعضهم يذكر السند فى أول الحديث من مجلس كل يوم، ثم يحيل عليه، لكن الأول هو الذي رأيناه من بعض أشياخنا. 

ورأيت بعضهم لا يذكر القارىء عنده شيئاً من ذلك إلا في أول يوم، ورأيت بعضهم يعيد السند أيضاً يوم الختم، وهو كما قال العراقي احتياطاً، لكن لا يرفع الخلاف المذكور. 

الفائدة السابعة: قال السيوطي في الأنموذج: قراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم عبادة يثاب عليها كقراءة القرآن، في إحدى الروايتين والرواية الثانية اختصاص ذلك بالقرآن لأنا نتعبد بألفاظه والحديث بمعانيه، ولذلك جازت روايته بالمعنى للعارف، ولا يجوز ذلك في القرآن مطلقاً. نقله الشيخ محمد الزرقاني في شرح المواهب ومنه نقلت اهـ. 

الفائدة الثامنة: جرت عادة المستملين للحديث أن يبدأوا بـ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، فيجعلون الحديث كالقرآن وسمعت من ينكر ذلك، ويقول: الاستعاذة إنما أمرنا بها عند قراءة القرآن لا الحديث، والذي رأينا عليه القرآن في مجالس شيوخنا [أنهم يبدؤون بها] من غير إنكار منهم عليهم، ولم أقف في ذلك على نص ولا يبعد أن يجري الأمر فيها على الخلاف في كون الحديث كالقرآن. 

الفائدة التاسعة: ذكر السيوطي في الإتقان: أن قراءة القرآن لا تحتاج إلى نية كسائر الأذكار إلا إذا نذرها خارج الصلاة، فلا بد من نية النذر أو الفرض، ولم أقف في الحديث على نقل، والظاهر أنه كما قبله. 

الفائدة العاشرة: وقع النا في قراءة الحديث مع الاتكاء، مسلسل رويناه بالإجازة عن أشياخنا، فأحببت ذكره تكميلاً للفائدة، ولمناسبة المقام، فأجازني شيخنا الفقيه الصوفي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الفاسي، قال: قرأت على أبي الجمال الجزائري وهو متكىء، قال: قرأت على الشهاب أفندي شارح الشفا وهو متكىء، قال: قرأت على الشمس العلقمي وهو متكىء، قال: قرأت على الحافظ السيوطي وهو متكىء، قال: قرأت على أبي القاسم الهاشمي وأبي حامد المخزومي وكل منهما متكيء، قال: قرأت على أبي الخير المقري وهو متكيء، قال: قرأت على حمود بن خليفة وهو متكىء، قال: قرأت على الشريف الدمياطي وهو متكيء، قال: قرأت على أبي محمد بن ظافر وهو متكيء، قال: قرأت على أبي طاهر السلفي وهو متكيء، قال: قرأت على أبي الفتح القزنوي وهو متكيء، قال: قرأت على أبي الحسن الدينوري وهو متكيء، قال: قرأت على أبي القاسم السهمي وهو متكىء، قال: قرأت على أبي الحسن القزويني وهو متكىء، قال: قرأت على أبي الحسن الطبري وهو متكيء، قال: قرأت على أبي الملأ الكوفي وهو متكىء، قال: قرأت على عاصم بن علي وهو متكىء، قال: قرأت على الليث بن سعد وهو متكىء، قال: قرأت على أبي بكر بن الفرات وهو متكيء، قال: قرأت على سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وهو متكىء، قال: قال رسول الله ﷺ: (ما حَسَّنَ الله خَلْقَ رجل ولا خُلُقَهُ فتطعَمُهُ النار). 

وهذا يدل على جواز الاتكاء عند قراءة الحديث، وإن كان الأفضل الجلوس بتواضع وخشوع ولعل أولئك الأكابر كان اتكاؤهم لعذر. قال السخاوي: وربما [تعرض] للمحدث ضرورة لا يتمكن معها من الجلوس، فلا حرج في القراءة عليه وهو متكىء [أو نحوه]. 

قال ابن عساكر: كنت أقرأ على الفزاري فمرض، فنهاه الطبيب عن الإقراء، وأعلمه أنه سبب الزيادة في مرضه، فلم يوافقه على ذلك بل وكنت أقرأ عليه وهو ملقى على فراشه إلى أن عوفي . 

وكذا قرأ السلفي وهو متكيء لدماميل كانت في معدته على شيخه أبي طالب، وغضب الشيخ لعدم علمه بالعذر اهـ

 الفائدة الحادية عشر: أنشدني إجازة شيخنا الفقيه الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد الفاسي الحريشي رحمه الله قال: أنشدني أبو سالم في عموم إجازته، قال: أنشدني الشيخ علي الأجهوري، قال: أنشدني أبو حفص عمران [أن الحاتم] قال: أنشدني جلال الدين السيوطي، قال: أنشدني حافظ الحفاظ ابن حجر شارح البخاري في عموم أذنه، قال: أنشدني أبو إسحاق التنوخي قال: أنشدني أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله الشيرازي، قال: أنشدني جدي أبو نصر، قال: أنشدني الإمام أبو القاسم بن عساكر الدمشقي الشافعي لنفسه هذه الأبيات: 

واظب على جمع الحديث وكتبه  .. واجهد على تصحيحه في كتبه 

واسْمَعْهُ من أربابه نقلاً كما  .. سمعوه من أشياخـهـم تـسـعـد بـه 

واعرف ثقات رواته من غيرهم .. كيما تمیز صدقه من كذبه 

فهو المفسر للكتاب وإنما .. نطق النبي لنا به عن ربه

وتفهم الأخـبـار تـعـلـم حـلـه .. من حرمه مع فرضه من نفله 

وهو المبين للعبـاد بـشـرحـه .. سیر النبي المصطفى مع صحبه

وتتبع الـعـالـي الـصـحـيـح فـإنـه .. قرب من الرحمن تحظى بقربه 

وتجنب التصحيف فيه فربما .. أدى إلى تهذیبه بل قلبه 

واترك مقالة من لحاك بجهله .. عن كتبه أو بدعة في قلبه 

فكفى المحدث رفعة له يرتضى .. ويُعَدُّ من أهل الحديث وحزبه

 انتهى 


التحميل: اكتمل تحميل 2570875 من 5191614 بايت.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق