مسائل في التصوف
عبد الفتاح بن قديش اليافعي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لا شك أن اتباع الهوى يُعمي عن الرَّشد، ويُضل عن الحق، ويُطيل المكث في متاهات العمى، ويورد صاحبه مواطن الردى، وأن اجتماع الأمة لا يكون إلا على كتابٍ مُنزّل من السماء، فيه آية محكمة وفريضة عادلة، قد تضمن جميع أسباب النجاة، فسارت وفق تعاليمه الهداة، وغاية ما فيه التمسك بتقوى الله، وأداء فرائضه، والورع في حلاله وحرامه، وجميع حدوده، والإخلاص لله تعالى في طاعته، ثم التأسّي برسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ظاهراً وباطناً، وترك جميع الأهواء والتفرقات والتشعبات والآراء والجدليات، وإيثار الآخرة على الأولى.
وهذا الكتاب هو عبارة عن مسائل متفرقة في التصوف السُّني بمعناه الحق عند علمائه الحق، احترازاً من المعنى الباطل وعلماء الباطل وأدعياء العلم، والمرتبط بعلوم الآخرة، التي يحصل بها تطهير القلب من الآثام، وملازمة الآداب الشرعية في غالب الأوقات، والبعيد كل البعد عن الشطح والفطح، والرقص والفقس، والنوس والصياح، والطقوس البدعية، والبعيد كذلك عن الأهواء والغلواء والتعمق والجدل والمراء والإزراء والشبهات والشعوذات والمحرمات.
وإن شئت؛ فقل يتناول الحديث عن قسم من أقسام التصوف، أو طائفة من طوائفه النادرة في عصرنا، والتي جمعت بين صدق التوجه لله وصحة المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعني بذلك (التصوف السَّلفي)، أو (التصوف المحمود) أو (تصوف أهل السنة والحديث) الذي نافح عن الشيخان: الشيخ تفي الدين بن تيمية، وتلميذه شمس الدين بن قيم الجوزية، ومن قبلهما وبعدهما أئمة الإسلام العظام، وهذا النوع من التصوف المحمود هو حال أكثر المتقدمين من السلف وأهل السلوك، وقد فقدته الأمة منذ قرون متطاولة، ولعل هذا البحث يثير اليقظة في عيون امتلأت بالرماد، ويبعث العقول من رقدتها الطويلة.
وفي هذا الكتاب يناقش اليافعي أقوال أهل العلم في هذا النوع من التصوف (أعني التصوف السني)، فنقل عن أربعين شيخاً من شيوخ هذه المدرسة: الأمر بالتزام الكتاب والسنة والنهي عن الابتداع في الدين، وهذا منه جمعٌ حسن، غير أن ذلك لا ينسجم في الحقيقة والواقع إلا مع التصوف النظري كعلم للزهد والورع والأخلاق، والذي كان في مرحلة من مراحله تطبيقاً عملياً للدين، بخلاف الطرق المبتدعة التي تلزم أتباعها بمناهج فلسفية، وأفكار حلولية، وطقوس بدعية.
وبعد استبعاد مادة التصوف من القاموس اللغوي والاشتقاق الاصطلاحي، انتقى تعريفاً يتناسب مع مقام الإحسان، الذي هو أعلى مراتب الدين ثم جعله تعريفاً للتصوف السُّني، ثم بدأ يؤسس عليه بوضع معالم الصوفي الحق، الذي يلتزم الكتاب والسنة قولاً وعملاً، ولا يخرج عنهما من خلال كلام الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه الله، ثم تحدث عن الغاية من التصوف الحق وهي تحقيق سعادة الدارين.
ثم تعرض إلى المنحرفين عن التصوف الحق، وذكر أحوالهم، وأن هؤلاء المنحرفين (هو حال كثير من المتأخرين =الطرقيين)، وجعل انحرافاتهم على أقسام:
- فقسم انحرف في الاعتقاد كالقائلين بوحدة الوجود أو الاتحاد أو التحسيم، أو إسقاط التكليف من الاعتقادات الباطلة.
-وقسم انحرف في المقصد؛ فصار مراده بالتصوف ليس الوصول إلى الله تعالى، بل الوصول إلى الخلق، بجمع المادة، والارتزاق، وتحقيق أغراض النفس من الحاكم أو المحكوم.
-وقسمٌ بقي في رسم التصوف وشكله، وشغل به عن مقصده ومعناه ومضموه؛ فهو متهمٌّ بالمظهر دون المخبر، وظن أن ذلك هو التصوف.
ثم ذكر أقوال أعلام الأمة في مدح التصوف -الأمر الذي لا يصح عنهم، وقد بينتُ ذلك مُفصّلاً - في كتابي (التصوف في التاريخ العربي والإسلامي) تحت عنوان "موقف الأئمة الفقهاء من التصوف"؛ فلينظر.
ثم بدأ بذكر بعض أعلام الزهد كواجهة للتصوف -الحارث المحاسبي، والإمام ابن أبي عاصم، ثم بدأ بسرد أقوال السري السقطي، والحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك، والإمام ابن الجوزي، والإمام العز بن عبد السلام، والإمام النووي، الإمام ابن تيمية، والإمام ابن قيم الجوزية، والإمام الشاطبي، والإمام الشوكاني، وكذلك ابن عساكر، والخطيب البغدادي، وابن حجر، وابن رجب، وابن كثير، والذهبي، وابن الأثير، وابن العماد وغيرهم.
وكذلك ذكر أقوال الإمام محمد بن الوزير اليماني، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبناؤه وأحفاده، والشيخ محمد رشيد رضا، والإمام حسن البنا، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز القاري، ثم انتقل اليافعي فجأة للحديث عن ابن عربي وتكفير الناس له بين مُكفّر ومتوقف ومعظّم له، وهي قفزة لا يحتملها المصنفون في هذا الباب، ويتبرر من هذه التهمة بتنبيه ربما يلتمس فيه العذر لمن قد يحمل عليه فيه.
وأما المسألة الثانية؛ فتتعلق بالشطحات الصوفية، والمعاني المحتملة لها، والمشتبهة بها وليست منها، ومتى يعذر صاحبه ومتى لا يعذر، والألفاظ المجملة والمُبيّنة من ذلك، وما أوجبته هذه الشطحات من فتنة لطائفتين من الناس: إحداهما كَفَرَت، والثانية ضلَّلت، ونقل في ذلك أقوال الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام ابن قيم الجوزية، والإمام ابن مفلح، وابن عقيل الحنبلي.
وأما المسألة الثالثة: فتتعلق (بالفناء الصوفي)، ومراد القوم به، وكلام الشيخين ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى - وقد بينا حكم من يقع في شيء من الشطحات بسبب ذلك، وأنه لا يجوز الاقتداء بهم في هذه الشطحات، ولا ترديد كلامهم، لأن مثلهم في الظاهر مثل المجنون الذي ترتفع عنه المؤاخذة.
والمسألة الرابعة: في كرامات الأولياء، وهي من أصول السنة التي يعتقدون بها، وذكر لذلك مثالين من كرامات شيخ الإسلام ابن تيمية، ينقلهما تلميذهما ابن القيم وعمر البزار، من المكاشفة بالغيوب، والإخبار بما في الضمائر، ويجوز أن تكون الكرامة إحياء الموتى، وأخبر السفاريني أن الكرامة تجوز أن تكون قلباً للأعيان، ورؤية بعض المغيبيات مثلما نقل العز بن عبد السلام.
المسألة الخامسة: الخرقة والانتساب إلى الطريقة، وذكر كلاماً لشيخ الإسلام ففي كون لبس الخرقة من الأمور المباحة، وأن الانتساب إلى شيخ مباح أيضاً شرط ألا يمتحن الناس بهذا الشيخ، وأن يكون الشيخ على طريقة مستقيمة في الدين، وهديٍ واتباع للسُّنة. وللعلم فإن سند هذه الخرقة لا يثبت وإن لبسها الأكابر من العلماء جرياً على ما اشتهر لدى المتأخرين منهم، الأ/ر الذي لم يغفل عنه المؤلف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق