أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 22 فبراير 2023

الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية عبد الوهاب الشعراني (٨٩٨ - ٩٧٣ هـ) بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية

عبد الوهاب الشعراني 

(٨٩٨ - ٩٧٣ هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا شك أن الدين الإسلامي الحنيف جاء بالفهم الوسطي المعتدل، وأولى العناية بتزكية الروح، وتنقية البدن بالعلم والعمل، وسعى من خلال تعاليمه إلى تحقيق التوازن بين عيش الدنيا وطلب الآخرة، لا سيما في هذا الوقت التي تعاني الأمة فيه من الجفاف الروحي، وتفشي ظاهرة ضعف الارتباط الإيماني بين أبنائها، والذي ينعكس سلباً على أسلوب الحياة.

ولكن بعد أن تفرعت الطرق، وكثرت العناوين، وأثقلت الأمة بالدعاوى العريضة، والأضاليل والأباطيل، التي منها ما هو منحرف السلوك، وما هو أعمى الفؤاد؛ من تفريط يصل إلى حد النسيان، وإفراط في النفور والتنفير يصل بأهله إلى الجفاف، وكل هذه الدعاوي والتفرقات هي مظهر من مظاهر اقتراب الساعة، وفساد الزمان، وبزيادتها يزداد الهرج والمرج، وتكثرة البدع، وتتحكم الآراء والأهواء.

ولا شك أن تفشي ثقافة البدع، والتهاون بكل ما هو عظيم في الرتبة والحكم يفضي الوقوع في (الضلال العقدي)، (والعته الفكري)، (والانحراف السلوكي)، (والغباء الفقهي)، وعلى المسلم الحق أن يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممّن ذكره به، دون جدل أو مراء، حتى لو كان يُخالف مذهبه وطريقته في التفكير والسلوك.

وهذا الكتاب المسمى بـ(الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية) للشعراني، يعد من المراجع الهامة لدى المتصوفة، وهو يمثل معالم الطريق الصوفي من الناحية النظرية، وميزان لسالك الحق في نظرهم، بالإضافة إلى تضمنه الخبرات الذوقية والمجاهدات النفسية التي مارسها الشعراني خلال سلوكه الصوفي، بل هو نتاج خبراته كلها؛ لأنه وضعه آخر حياته بعد كتاب (بيان العهود المحمدية)، وقد حشد فيـه الشعراني مجموعة كبيرة من أقوال المتصوفة المتقدمين والمتأخرين، من أمثال: إبراهيم الدسوقي، وعلي وفا، والمرسي، والشناوي والأقصري، والكتاني، وعلي المرصفي، وغيرهم.

وقرر الشعراني أموراً لم يقره الشرع عليها هو ولا غيره من أتباعه وأتباع الطرق الأخرى، وبالجملة فالكتاب حفظ كماً هائلاً من النقولات، والشطحات، ورؤوس المتصوفة والمدارس والتي مثلت رمزاً للطرائق المتشعبة للسلوك الصوفي.

وقد رتب الشعراني كتابه هذا على مقدمة، وثلاثة أبواب وخاتمة، وبيانها فيما يلي.

أما المقدمة فتشتمل على جملة من عقائد القوم، وموافقتهم لعقائد أهل السنة (لكنها في الحقيقة عقائد اعتزالية واضحة إلا نزراً يسيراً)، وبيان سند القوم في تلقينهم الذكر (لا إله إلا الله)، وقد اعترف الشعراني بأن أصل التلقين الفردي لا أصل له إلا في كتب القوم، وإسناده مركب موضوع، كما ذكر إلباسهم الخرقة وبين سنده في الخرقة من جهة شيخه علي المرصفي ومحمد السروي، ثم الشيخ محمود الشناوي تلميذ الشيخين السابقين، وهو يبين بجلاء انقطاع المتصوفة من كل وجه في خرقتهم.

ثم بيّن جملة من آداب الذكر، وفي بعضها شيء من البدع، وقد نبّه على بعض تلك الآداب التي لا يلتزم بها أكثر المتصوفة اليوم، والتي منها (مد ألف "إله" لتصير إلاها، وإشباع الصمة في "الله" لتصير اللهو).

ثم ذكر إجماعات القوم والتي تدل دلالة واضحة على ما استقر عند القوم في (الذكر) ونحوه، الأمر الذي نشاهده عند صوفية اليوم، ومن ذلك قوله (ص ٢٣ -٢٤): 

وأجمعوا على أنه يجب على المريد أن يذكر بقوة تامة، بحيث لا يبقى منه متسع، ويهتز من فرق رأسه إلى أصبع قدمه، وهي حالة يستدلون بها على أنه صاحب همة! فيُرجى له الفتح عن قريب.. وأجمعوا على أنه يجب على المريد الجهر بالذكر بقوة تامة، وأن ذكر السر والهوينا لا يفيده رقياً! قالوا: ويجب عليه في طريق سرعة الفتح أن يصعد لا إله إلا الله من فوق السرة من النفس التي بين الجنبين، ويوصل لا إلخ إلا الله بالقلب اللحمي الكائن بين عظم الصدر والمعدة، ويميل رأسه إلى الجانب الأيسر مع حضور القلب المعنوي! قالوا: ويكون الجهر في الذكر برفق، خوفاً أن يتربّى له فتاق في بطنه، فيتعطّل جهره بالكلية.

وذكر من آداب الذكر بلا إله إلا الله: أن لا يمد هاء (إله) فيقول: إلاها، ولا يُشبع ضمة (الله) لتصير اللهو، وجعل ذلك تحريفاً لكلام الله تعالى؛ لأن هذا الذكر ورد في القرآن.

وناقش الشعراني مسألة أيهما أنفع الذكر منفرداً أم الذكر جماعة، واختار التفصيل؛ فجعل المنفرد أنفع لمن له خلوة، والذكر الجماعي لمن لا خلوة له، ومسألة: أيهما أفضل الجهر أم الإسراء؟ فذكر أن الجهر للمبتدئ بالذكر أفضل لغلبة القسوة على قلبه، والإسرار للمتقدم في السلوك أفضل؛ لجمعيته بالحق.

وناقش مسألة الذكر الجماعي، وهل هو بدعة؟ فقرر استحبابه ما لم يشوش على قارئ أو مُصلٍّ أو نائم، ثم مسألة: أيهما أفضل في الذكر الشهادتين أم شهادة واحدة؟ فذكر أن الشهادة الواحدة أجمع للقلب، ومسأله: أيهما أفضل تلاوة القرآن أم الذكر؟ فذكر أن الأفضل للمريد الذكر، وللكامل تلاوة القرآن! وهذا عند الإطلاق، وذكر اختلافهم في أفضلية الذكر بالاسم المفرد أو بشهادة التوحيد، فذكر وجوهاً للمبتدي وللمنتهي.

ثم ذكر بعد ذلك سند خرقة التصوف، وهو سند مخروم مقدوح فيه، قدح فيه ابن عربي نفسه، قم زعم أنه لبسها من الخضر، وأن للخرقة طريقتان في اللباس إما أن تلبس عن العقلاء وعليه فيجب تعيين سندها أو عن المجاذيب فلا يتعين تعيين سندها؛ لأنها كما يقول الشعراني هبة من الله تعالى! 

وذكر الشعراني اتصاله بالخرقة عن الشيخ زكريا الأنصاري، وذكر أنه أرخى له العذبة بذلك، وانتهى بها إلى اثنين من الصحابة، وهما: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب.

ثم في الباب الأول: ذكر آداب المريد، والتي أولها الصدق في السلوك ومحبة الشيخ، والتوبة من جميع الذنوب الظاهرة والباطنة، ثم المجاهدة لنفسه دائماً، وألا يتكلم ولا يسكت إلا لضرورة وحاجة شرعية.

وتحدث بعدها عن أركان الطريق، وهي أربعة: إدامة السهر والجوع، والعزلة وقلة الكلام، وركنها الأساس الجوع، والثلاثة تبع لها؛ ولأن الجوع فيه العلم والحكمة، وفي الشبع الجهل والمعصية.

 ثم ذكر مكملات الطريق، وهي: الأدب في العبادة، وكذلك مخالفة النفس، ثم ذكر الدليل على التوبة الصادقة، ثم دلف إلى الطريقة التي يختار بها المريد شيخه، وتحدث عن تفقه الصوفي، وأن الصوفي الكامل لا يتصدر للمشيخة حتى يكون في مرتبة الكشف، وهي المرتبة التي يستغني فيها عن الاستدلال، ثم عدم اتخاذ المريد لنفسه أكثر من شيخ، وإلا كان مشركاً في الطريق وشيخه الشيطان! وإذا مات شيخة اتخذ شيخاً آخر.

ويقرر الشعراني أن الصحابة والتابعين وأتباعهم كانوا كاملن في أنفسهم، ولم يكونوا بحاجة إلى أن يتخذوا شيخاً في الإرشاد، أو يتقيدوا بشيخ واحد، بل اجتمعوا بمئات من المشايخ، ثم جعل من آداب المريد الخلاص من العلائق، فليس للمري أن يمسك المال إلا بعد كماله! 

ثم على المريد أن يأخذ الأحوط لدينه، ويخرج من خلاف العلماء إلى وفاقهم ما أمكن، مبادرة إلى وقوع عبادته صحيحة ما أمكن على جميع المذاهب أو أكثرها، ثم ملازمته للشيخ، ثم معالجة خواطره ومداومة الذكر، وغض البصر عن الصور المستحسنة، وألا يتصدر للإرشاد والتربية حتى يأذن له شيخه، ولا بد له من مراعاة آداب الشريعة والمشي على ظاهره، وحفظ عهده مع الله تعالى بالتوبة من كل ذنب، ويتباعد عن مجالسة البطالين، والتباعد عن كل شيء يميت القلوب مثل مجالس اللهو والغفلة، والتنويع في الأوراد لاجتناب الملل، وموافقة الفقراء في اللباس، وألا يكون متزيناً به .. وغير ذلك من الآداب في الكتاب.

ثم تحدث عن مشاركة صوفية زمانه للظلمة، وجلوسهم على موائدهم، وحصول الارتزاق منهم، وبين الشعراني أنه لو كان الفقهاء يعتنون بالعمل اعتناءهم بالعلم لكانوا هم الصُّوفية، ولم يحوجوا طالباً إلى غيرهم، كما كان السلف الصالح من العلماء، وقد عبر عن ذلك الشيخ علي بن وفا (٢/ ١٤٩) بأبيات؛ فقال:

تمشيخوا من قبل أن يوجدوا .. فعمرهم ضاع ولم يولدوا

حال عليهم حال أهلاكهم ..من شاخ فالموت له مرصد

 وهل نفوس فهمها وهمها .. إلا بوادٍ وهما مبعد

مشوا مكبين على وجههم .. عمياً عن العلياء لا يهتدوا

قد حسبوا الأرض سماء لهم .. فاستقربوا ما هو مستبعد

وكل ما مالوا بأهوائهم .. قالوا صعدنا وهم أخلدُ

فاعجب لمن شـاخـوا على صغرهم .. في أرذل العيش سواء يخلد

رضوا بأن يعتقدوا سادة .. وهم لأدنى وهمهم أبعدُ

ثم ذكر الشعراني في البابين الثاني والثالث آداب المريدين مع اشياخهم، ثم آدابهم مع إخوانهم، وأجملها في آخر الكتاب، وهنا أنقل بعض الآداب التي وردت في غير كتاب الشيخ ولعل بعضها ورد في هذا الكتاب أيضاً.

آداب المريد مع شيخ الطريقة

ومن الآداب التي يجب على المريد التأدب بها مع شيخه: أن يعلم أن الشيخ كالكعبة، يسجد الناس اليها والسجود لله، فكذلك الشيخ (=المواهب السرمدية ۳۱۳ الأنوار القدسية ٥٢٥). وأن الشيخ هو الواسطة بينه وبين الله لا بد له منه، ومن لا شيخ له فهو عاص لله تعالى (=الحديقة الندية في الطريقة النقشبندية ٣١)، وحينئذ شيخه الشيطان، ومن كان شيخه الشيطان فهو الى الكفر أقرب =(نور الهداية والعرفان ٤١ تنوير القلوب ٥٢٨).

وأن يكون مستسلماً منقاداً راضياً بتصرفات الشيخ يخدمه بالمال والبدن لأن جوهر الإرادة والمحبة لا ينبني إلا بهذا الطريق» (=المواهب السرمدية ٧٩ الأنوار القدسية ١١٢). 

زألا ينكر على أفعالهم فإن المنكر عليهم لا ينجو (=المواهب السرمدية ٤٩٤ تنوير القلوب ٥٢٩) وأن يرى كل نعمة إنما هي من شيخه (=تنوير القلوب ٥٢٩)، وأن لا يعترض عليه فيما فعله ولو كان ظاهره حراماً  (=تنوير القلوب ٥٢٩)، وأن لا يتزوج زوجة طلقها شيخه أو مالت نفسه إليها (= شفاء العليل ۷۸ و ۹۰ المواهب السرمدية ٤٩٤ الأنوار القدسية ١٤٥).

ن يلازم عند الذكر في مخيلته وبين عينيه صورة الشيخ وذلك من أصول الذكر  (=تنوير القلوب ٥١٧)

وأن يعبد الله بالحب بلا خوف ولا رجاء،  وقال أرسلان الدمشقي: من عبد الله لأجل الجنة والنار فهو طاغوت. وأنشد محمد أمين الكردي هذين البيتين الى ربه (=الأنوار القدسية في مناقب النقشبندية ١٣٥): 

أحبك لا أرجو بذلك جنة .. ولا أتقي ناراً وأنت مُراد 

إذا كنت لي مولى فأية جنة..  وأية نار تتقى وتُرارُ 

قارن قوله بقول إبراهيم لله (واجعلني من ورثة جنة النعيم). وقول الله عن زكريا وزوجه (ويدعوننا رغبا ورهبا)

التعليق على نظرة يوسف العجمي إلى كلب (ونذر الناس له)

 يقول الشعراني (= ص ٤٢ -٤٣): ومن شأنه إن كان له شيخ أن يلازمه وإن جاهد على أن تكون خلوته تجاه باب الشيخ ليقع بصره عليه كلما خرج فذلك دليل على سعادته، فربما صيرته نظرة من النظرات ذهباً إبريزاً أغنته عن المجاهدة، كما وقع لسيدي يوسف العجمي أنه خرج يوماً من الخلوة فلم يجد أحداً من الفقراء يقع بصره عليه، فوقع بصره على كلب على باب المسجد، فانقادت إليه جميع الكلاب في وصارت تمشي معه حيث مشى وتقف معه حيث وقف، وصار الناس ينذرون البقر وغيرها للكلاب فأرسل الشيخ وراء ذلك الكلب وقال له اخسأ! فتفرقت عنه الكلاب الوقتي وقال : الى أن تلك النظرة وقعت على آدمى الصار إماماً يقتدى به .

التعليق: هذه القصة خرافة من خرافات الصوفية، فهذا الصوفي منح الكلب الولاية بنظرة أمدت الكلب بكل أسباب الولاية، ثم سلبها منه بقوله له: اخسأ، ومثل هذه القصص غاية في التفاهة والنقص والعقد النفسية.

نظرة على التصوف في القرن العاشر الهجري

والتصوف في القرن العاشر كان في غاية المهانة والاتضاع، وقد بلغ حد الخرف والكِبَر، حتى كثرت المشايخ والدعاوي، وتذمر الناس من سلوك المريدين، وقد انحلَّ نظام الطريق في مصر، وجلس كثير للمشيخة بغير إذن من أشياخهم! كما يقول الشعراني. وقد أوضحت ذلك بجلاء في كتابي (التصوف في التاريخ العربي والإسلامي).

والصوفية: جمعٌ واحدها صوفي، جاء في (المعجم الوسيط): تصوف فلان أي صار من الصوفية، وسموا بذلك؛ لأنهم كانوا يلبسون الصوف.

 وبالغ المتصوفة المتقدمون على أنواع رياضات وأوراد وخلوات تذكري الجانب الروحي، وقد قال أبو بكر الطرطوشي: وهذه الطائفة -يعني الصوفية -مخالفة لجماعة المسلمين؛ لأنهم جعلوا الغناء ديناً وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة، وليس في الأمة من رأى هذا الرأي، وهو من أعظم المنكرات.

ويزعمون أن طريقتهم في الدين تقوم على التحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل، ويقسمون الآداب إلى قسمين: المعاملة مع الله بالصدق، والمعاملة مع الناس بالإحسان. 

حقيقة التصوف المعاصر

التصوف المعاصر في أكثره هو الأخطبوط والسرطان الفتاك الذي يعمل في جسد هذه الأمة، ـ وهو المسؤول الأول ـ بعد فشل كل محاولة في محاربته والقضاء عليه ـ عن تأخر المسلمين وقعودهم عن اللحاق بركب الحضارة السليمة الصالحة، والتقدم العلمي الذي لا حياة كريمة بدونه بما بثه ويبثه في النفوس والعقول من الخنوع والخضوع والخمول والذل، وإلغاء وظيفة العقل، والغلو في البشر وتأليههم وما إلى ذلك مما تطفح به مصادره القديمة والحديثة، من مصائب وتعاليم وثنية على رأسها عقيدة الاتحاد والحلول ووحدة الوجود التي لا تصوف بدونها، والتي يدندن حولها جميع مشايخ الصوفية المشهورين.

وزاد الطين بلة: سكوت العلماء عن هذا البلاء الماحق؛ بل وتأييد عدد كبير منهم لهم شفقة من الإرهاب الفكري الذي يمارسه عليهم الصوفية ويتواصون به. 

ومن الكلمات الشائعة في هذا المجال: قولهم: سلم للخاوي، تنج من العامر واستجابة الناس - ولا سيما الشباب - للدعاة الصالحين محدودة لأسباب كثيرة على رأسها تأييد بعض ذوي الشأن للصوفية - لحاجة في نفس يعقوب - وفيما يتعلق بالشباب: غِرَّتُه، وبطالته، وجهله، واستيلاء اليأس عليه فهو بين أمرين إما الثورة على الكل، والإلحاد والتحرر من الدين والقيم أو الارتماء في أحضان الزوايا والشيوخ الذين يبشرونه بنعيم الولاية والعرفان؟ ولكن بعد الخلوة، وفقدان العقل والإيمان، ولله عاقبة الأمور.

وأنا أقول هذا بعد تجربة شخصية، ودراسة ميدانية، ومعرفة كافية بالتصوف ومخالطة لطرق شتى منه ولأهلها، ولا يغرنك ما يردده المغفلون من التحلية والتخلية والأحوال الربانية، فإن الصالح من ذلك هو مقام الإحسان الذي جاء في حديث جبريل، وهو من لدين الإسلامي الخالص، وقد كان هذا ضمن البعثة المحمدية قبل أن يخلق التصوف اللقيط.

اعتراف الشعراني أنه قد دُسَّ عليه في كتبه

يقول الشعراني عن رسالته (ص ١١): "وأعيذها بالله تعالى من شر كل عدوٍّ أو حاسد يدس فيها ما ليس من كلامي؛ لينفر الناس من مطالعتها، كما وقع لي في كتاب "العهوط"، وفي مقدمة كتاب "كشف الغمة عن جميع الأمة" فإن بعض الحسدة لما رأى إقبال الناس على هذين الكتابين، غار من ذلك فاستعار له نسخة منكل كتتاب، ودس فيها ما ليس من كلامي، وسلكه في غضونها حتى كأنه المؤلف، ثم أعطى ذلك لبعض المتهورين في دينهم، وقال: أطلع العلماء على هذا الكلام المخالف لظاهر الشريعة الذي ألفه فلان! فلا يعلم عدد من استغابني إلا الله تعالى، مع أني بحمد الله سُنّي محمدي، وإني لم أؤلف كتاباً إلا بعد تبحري في علوم الشريعة واطلاعي على مذاهب المجتهدين، وأدلتهم فكيف أخالفهم، وأعرف بعض جماعة يظنون أنني أعتقد ما دسوه في كتبي من العقائد الزائفة إلى وقتي هذا، وما منهم أحدٌ يُجالسني قط، فالله يغفر لهم أجمعين، فإياك أن تصغي لقولهم، فإني بريء من جميع ما دسوه، وبيني وبينهم يوم القيامة".

التعليق على رؤيا منامية

يقول الشعراني: وقد رتبت للفقراء في الفقراء في الزاوية، أن يقولوا كل يوم بعد صلاة الصبح أربعين مرة: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت، لما بلغنا أن الكتاني رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة:

يقول الشاطبي في "الاعتصام" (٢/ ٩٣): وأضعف هؤلاء احتجاجا: قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلانا الرجل الصالح في النوم، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا. ويتفق مثل هذا كثيرا للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا؛ فيعمل بها، ويترك بها، معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال، إلا أن نعرضها على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة والنذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا، كما يحكى عن الكتاني رحمه الله قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم من المنام، فقلت: ادع الله أن لا يميت قلبي، فقال: قل كل يوم أربعين مرة: "ياحي يا قيوم! لا إله إلا أنت"، فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته، وكون الذكر يحيي القلب صحيح شرعا، وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير، وهي من ناحية البشارة، وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين، وإذا لم يؤخذ على اللزوم استقام.

التعليق على بيت شعر

يذكر الشعراني أن الصوفية إذا شاهدوا أنفسهم في الذكر كان ذلك ذنباً من الذنوب، وتمثل قول الشاعر (ص ٥٢): ألا بذكر الله تزداد الذنوب .. وتنطمس البصائر والقلوب.

والجواب: أن ذكر الله تعالى يمحو جميع الذنوب، بما فيها رؤية النفس عند من يراها، لأن الذكر تصفية وتربية وتهذيب للنفس، ولا بد لمن شغل فكره وقلبه بالذكر أن تتفتح بصيرته وقلبه، ولذا لا نجد غضاضة من القول بأن الشعراني أخطأ هنا.

حرق الثياب بدل التصدق بها

يقول الشعراني (ص ٥٥): وقد بلغنا عن الشبلي رحمه الله إنه إذا أعجبه شيء من ثيابه، يذهب به فيحرقه؛ فيُقال له: هلا تصدقتَ به! فيقول: "ما أشغل قلبي فهو كذلك يشغل قلب غيري"، وأجاب اليافعي رحمه الله عن مثل ذلك، بأنه من باب ارتكاب أخف المفسدتين عند القوم!

التعليق: بل إن ما فعله الشبلي خطأ من حيث إنه منع الصدقة، وهي طهرة للنفس، وقربة عند الله، أما عدم لابسه للثوب لشغل قلبه به فلا شيء فيه، أما أمن يتلفه بالإحراق فهو مخالف لدين الله ولهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما ورد في حديث أبي جهم في (الأنبجانية).

التعليق على استدلال الشعراني بجواز الذكر جماعة

واستدلوا على جواز الذكر جماعة، بقوله تعالى: ((ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)). ووجه الاستدلال: أن الله تعالى شبه القلوب القاسية بالحجارة، ومعلوم أن الحجر لا ينكسر ويلين إلا بقوة جماعة مجتمعين، وكذلك تأثير الاجتماع في الذكر أشد واقوى في إلانة القلوب وجمع شتاتها من ذكر الفرد وحده. (=الأنوار القدسية ص ٣٠).

يمكن أن يجاب بأن إلانة القلب متعلق بنفس الذكر لا بالاجتماع عليه. كما قد يقع اللين من قلوب الكثرة بذكر الواحد، وقد لا يلين قلب بعض الكثرة بكثرتهم، فعلم أنه لا تلازم، وإنما مرجع ذلك إلى صدق توجه الذاكر (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه).

وقال شيخنا صالح الرقب: إذا كان هذا هو الدليل فسلام على هكذا عقول.. يلزمهم الاستدلال بتمايل الأشجار عند هبوب الريح .. فهي تشكر الله.

الصوفية والإمام أحمد

نقل ابن أيمن في رسالة للإمام أحمد: أنه كان يمنع الناس عن اجتماعهم بالصوفية ويقول: وهل مع أحد منهم شيء زائد على ما معنا؟ حتى نزل عليه منهم جماعة في الليل من دور قاعته، فسألوه عن مسائل في الشريعة فأعجزوه، ثم طاروا في الهواء ثم قالوا له طر معنا فلم يستطع . فمن ذلك اليوم صار يحث الناس على الاجتماع بالصوفية ويقول : إنهم زادوا علينا في العمل بما علموا.

التعليق: هذه القصة معلومة الكذب، وسياقها ظاهر في ذلك، وهو من شدة شغف المتصوفة في نسبة التصوف للأئمة الأعلام، وهم منه برآء.

ترجمة الشعراني (كما يراه المحققان)

أسرة الشعراني:

يرتفع نسب الشعراني إلى الدوحة العلوية الهاشمية؛ فجده الأعلى هو: محمد ابن الحنفية ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

وقد هاجر أجداده إلى المغرب الأقصى في الموجات المهاجرة من البيت العلوي التي اختارت الأطراف النائية من الأمبراطورية الإسلامية، وفراراً من الملاحم المتتابعة: بينهم وبين البيت الأموي تارة، والبيت العباسي تارة أخرى. 

وكان الملك في مدينة تلمسان وما جاورها لقبيلة بني زغ بني زغلة، وإلى تلك القبيلة ينتسب: عبد الوهاب الشعراني. 

ولقد أرخ الشعراني لنفسه في كتابه - لطائف المنن (ج ۱ ص ۳۲ )- فلنستمع إليه وهو يحدثنا عن نفسه بأسلوبه الخاص به: ..... أحمد الله تعالى حيث جعلني من أبناء الملوك؛  فإني بحمد الله تعالى -عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن زوفا ابن الشيخ موسى، المكني في بلاد البهنسا بأبي العمران جدي السادس ابن السلطان أحمد ابن السلطان سعيد، ابن السلطان فاشين ابن السلطان محيا ابن السلطان زوفا ابن السلطان ريان، ابن السلطان محمد بن موسى ابن السيد محمد ابن الحنفية، ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان جدي السابع الذي هو السلطان أحمد (=هو أبو عبد الله أحمد الزغلي، سلطان تلمسان وما جاوره) سلطاناً في مدينة تلمسان في عصر الشيخ

أبي مدين المغربي، ولما اجتمع به جدي موسى قال الشيخ أبو مدين: لمن تنتسب؟ قال: والدي السلطان أحمد، فقال له: إنما عَنيت نسبك من جهة الشرف، فقال: أنتسب إلى السيد محمد ابن الحنفية، فقال: ملك، وشرف وفقر - أي تصوف - لا يجتمعن، فقال: يا سيدي قد خلعت ما عدا الفقر. 

فرباه فلما كمل في الطريق أمره بالسفر إلى صعيد مصر، وقال له: اسكن بناحية هو (=إحدى مدن مديرية قنا)، فإن بها قبرك. فكان الأمر كما قال.

ولم يحدد لنا التاريخ السنة التي هاجر فيها موسى إلى مصر، ولكن كتب التاريخ حددت لنا تاريخ وفاته، فقد توفي ببلدة «هو» عام ٧٠٧ هـ بعد أن نجحت دعوته، واهتدى بهديه الصوفي جمهور ضخم في الصعيد الأعلى.

واستمرت أسرة الشعراني بالصعيد حتى مطلع القرن التاسع الهجري، فهاجر عميدها أحمد إلى ساقية أبي شعرة بالمنوفية، وأسس بها زاوية للعلم والعبادة وانتقل إلى جوار ربه عام ۸۲۸ هـ.

مولده ونشأته :

ولد الشعراني على أصح الروايات وأشهرها في ٢٧ رمضان عام ٨٩٨ هـ ببلدة قلقشنده» وهي قرية جده لأمه، ثم انتقل بعد أربعين يوماً من مولده إلى قرية أبيه، ساقية أبي شعرة، وإليها انتسب، فلقب بالشعراني، وعرف بهذا اللقب واشتهر به، وإن كان هو قد سمى نفسه في مؤلفاته بالشعراوي.

ولقد اضطرب رجال التاريخ في تحديد مولده، فقد ذكر صاحب «النور السافر» تاريخاً لمولده قبل هذا التاريخ بقليل والمناوي وعلي مبارك، والمستشرق شاخت فقد أبدوا التاريخ الذي ذكرناه، وهو ا المعتمد.

واضطرب رجال التاريخ أيضاً في الحديث عن طفولته ونشأته، فذهب المستشرقان - كرويمر ـ ونيكلسون - إلى أنه اشتغل في مطلع حياته بالنسيج ( دائرة المعارف الإسلامية).

ولكن المستشرق - فولرز - يسخر من هذا القول قائلاً: «إن حياة الشعراني كانت زاخرة دائماً بالعبادة، حافلة بالتعليم، فلم يكن من الميسور أن يجد وقتاً يحترف فيه عملاً. 

والشعراني يقول في صراحة: إن من منن الله عليه أنه لم تكن هناك عوائق تعيقني عن طلب العلم والعبادة منذ طفولتي، وكانت القناعة من الدنيا باليسير سداي ولحمتي، وهذه القناعة أغنتني عن الوقوع في الذل لأحد من أبناء الدنيا، ولم يقم لي أنني باشرت حرفة ولا وظيفة لها معلوم دنيوي من منذ بلغت.

ولم يزل الحق تعالى يرزقني من حيث لا أحتسب إلى وقتي هذا، وعرضوا علي الألف دينار وأكثر فرددتها ولم أقبل منها شيئاً، وكان التجار والكبراء يأتون بالذهب والفضة فأنثرهما في صحن جامع الغمري، فيلتقطه المجاورون.

وحفظ الشعراني في قريته، كما يحدثنا في المنن ، القرآن الكريم، ثم حفظ أبا شجاع، والآجرومية، ودرسها على أخيه الشيخ عبد القادر. وتوفي والداه قبل أن يبلغ العاشرة، فنشأ يتيماً من الأبوين، وكان الله وحده كما يقول، هو نصيره ووليه.

ويقص علينا الشعراني تاريخ حضوره الى القاهرة بذلك الأسلوب القلبي الأخاذ الذي عرف عن الشعراني فيقول: ".. وكان مجيئي الى القاهرة افتتاح سنة عشرة وتسعمائة ، وعمري إذ ذاك اثنتا عشرة سنة، فأقمت في جامع سيدي أبو العباس الغمري، وحنن الله علي شيخ الجامع وأولاده فمكثت بينهم كأني واحد منهم، كل ما يأكلون وألبس ما يلبسون، فأقمت عندهم حتى حفظت متون الكتب الشرعية وآلاتها على الأشياخ".

ثم يقول: "ولم أزل بحمد الله محفوظ الظاهر من الوقوع في المعاصي، معتقداً عند الناس، يعرضون علي كثيراً من الذهب والفضة والثياب، فتارة أردها، وتارة أطرحها في صحن الجامع، فيلتقطها المجاورون". 

ولبث الشعراني في (مسجد الغمري)، يعلم ويتعلم ويتهجد ويتعبد، سبعة عشر عاماً، ثم انتقل إلى مدرسة (أم خوند) وفي تلك المدرسة بزغ نجم الشعراني وتألق.

في الطريق إلى الله:

عاش الشعراني حياته تحت ظلال المساجد ليله ونهاره متبتلاً في طلب العلم، عالماً في التعبد، عاش نقياً طاهراً مجاهداً في سبيل الكمال العلمي، والكمال الخلقي. وقد اتصل منذ يومه الأول بالقاهرة بصفوة علمائها جلال الدين السيوطي، وزكريا الأنصاري، وناصر الدين اللقاني، والرملي، والسمنودي وأضرابهم، وقد أفاض الشعراني في ذكر أساتذته في كتبه، كما أفاض في ذكر إجلاله لهم، وحبهم له.

ودرس الشعراني على هؤلاء الأعلام الثقافة الإسلامية بشتى فنونها وعلومها، في الأصول والفقه والتصوف والحديث والتفسير والأدب واللغة، حتى غدا كما يقول: "لا يتصور أحد من معاصريه أحاط بما أحاط به علماً، أو تخلق بما تخلّق به عملاً ".

ولكن هذه الدراسة لم ترض كل أشواق قلبه ونداءات روحه، فكان يتطلع دائماً إلى سلوك الطريق المضيء، الطريق الصاعد إلى الله على أجنحة الحب والذوق، طريق التصوف كما رسمه شيوخه، وكما تذوقه سالكوه.

ولقد كان الشعراني صوفياً في منهجه الذي أخذ نفسه به طوال حياته، يقول في (المنن): "إن من منن الله عليّ أن ألهمني مجاهدة نفسي من غير شيخ منذ طفولتي".

ولكن الشعراني كان ينشد الشيخ الذائق الواصل صاحب البصيرة والإلهام؛ ليساعده كما يقول على اختصار الطريق، وعلى إزالة عقبات النفس الخفية. وأخذ الشعراني يتصل بشيوخ التصوف، يلتمس عندهم المفاتيح والأبواب كما يقول، فلم يجد عند أحد منهم أمَّلَهُ.

يقول الشعراني: ولقد اجتمعت بخلائق لا تحصى من أهل الطريق التمس لديهم المفاتيح والأبواب، فلم يكن لي وديعة عند أحد منهم ..

الشعراني والخواص: 

ثم تأذن الله له بالفتح فجمع بينه وبين الخواص، فكان الخواص معراجه وسلمه الذي صعد عليه إلى أبواب الفتح، وسموات المنح، ومناطق النور والإلهام.

وصلة الخواص بالشعراني هي آية الآيات على مكانة الشيخ في الطريق، وهي الآية الكبرى على مقام العلم اللدني! فلقد كان الخواص أمياً، وكان الشعراني عالماً، ذلك هو حكم الظاهر، أما حكم الباطن، فلقد كان الخواص. عالماً، وكان الشعراني أمياً !! 

والشعراني يقول: "إن من منن الله عليه أن كان وصوله وفتحه على يد أمي لا يعرف القراءة والكتابة".

ويقول في وصف هذا الأمي: "رجل غلب عليه الخفاء فلا يكاد يعرفه بالولاية والعلم إلا العلماء العاملون؛ لأنه رجل كامل عندنا بلا شك، والكامل إذا بلغ مقام الكمال في العرفان، صار غريباً في الأكوان". 

ويحدثنا الشعراني بحديثه الروحي العذب عن وصوله إلى معارج المعارف العلوية على يد شيخه، وعن بحار علوم شيخه فيقول:

"وكانت مجاهداتي على يد سيدي علي الخواص كثيرة ومنوعة، منها أنه أمرني أول اجتماعي عليه ببيع جميع كتبي والتصدق بثمنها على الفقراء ففعلت! وكانت كتباً نفيسة مما يساوي عادة ثمناً كثيراً؛ فبعتها وتصدقت بثمنها، فصار عندي التفات إليها لكثرة تعبي فيها وكتابة الحواشي والتعليقات عليها حتى صرت كأنني سلبت العلم، فقال لي: اعمل على قطع التفاتك إليها بكثرة ذكر الله عز وجل، فإنهم قالوا متلفت لا يصل، فعملت على قطع الالتفات إليها، حتى خلصت بحمد الله من ذلك.

ثم أمرني بالاشتغال بذكر الله سراً وعلانية، والانقطاع بالكلية إليه، وكل خاطر خطر لي مما سوى الله عز وجل صرفته عن خاطري فوراً، فمكثت على ذلك عدة أشهره . ويفيض الشعراني في الحديث عن المجاهدات التي أخذه شيخه بها، وعن الفتح الذي ظفر به على يديه، وعن بحار علوم شيخه، وعن اغترافه من هذه البحار الزاخرات. 

وبهذا كله أصبح الشعراني إمام عصره، علماً وذوقاً، وغدا الشعراني قطباً تدور حوله الأحداث.

ثم أمرني بالعزلة عن الناس مدة حتى صفا وقتي وكنت أهرب من الناس وأرى نفسي خيراً منهم؛ فقال لي: اعمل على قطع أنك خير منهم، فجاهدت نفسي حتى صرت أرى أرذلهم خيراً مني.

ثم أمرني بالاختلاط بهم، والصبر على أذاهم، وعدم مقابلتهم بالمثل، فعملت على ذلك حتى قطعته فرأيت نفسي حينئذ أنني صرت أفضل مقاماً منهم، فقال لي: اعمل على قطع ذلك، فعملت حتى قطعته.

مكانة الشعراني:

أصبحت زاوية الشعراني التي أسسها ليتلقى فيها الطلاب علوم الظاهر مع أذواق الباطن من أعظم منارات العلم والثقافة والتوجيه في العالم الإسلامي في ذلك الوقت.

وغدت مثابة للعلماء والأدباء، ومنبراً للدعوة والإرشاد وساحة للذكر والعبادة، ورواقاً يرسل الشعاع الروحي النقي في عصرا انطفأت فيه المصابيح، وخمدت مشاعل الحياة. وأصبح الشعراني قطب الرحى في عصره، يلوذ به طلاب العلم، وطلاب الذوق، كما يلجأ إليه أصحاب الحاجات والشفاعات، وعلى باب الزاوية يزدحم الأمراء والكبراء.

واعتصم الشعراني بخلقه وبدينه وبعزة نفسه في عصر حطم فيه ولاة الترك! كل إباء، وكل عزة.

يقول الوزير الأعظم علي باشا، عندما عزم على الرحيل إلى تركيا: "إننا مقربون إلى الخليفة، فهل لك حاجة عنده نرفعها إليه ؟ فيقول الشعراني في عزة المؤمن، وإباء الصوفي: ألك حاجة عند الله، إننا مقربون إلى حضرته".

ويقول الشعراني: تشفعت عند السلطان الغوري، والسلطان طومان باي، وخابر بك، وغيرهم من بشاوات مصر، فقبلوا شفاعتي وذلك معدود من جملة طاعة الملوك لي؟!. 

ويقول: ومما من الله به علي كثرة قبول شفاعتي عند الأمراء ولا أعلم الآن أحداً في مصر أكثر مني شفاعة عند الولاة، فربما يفنى الدست الورق في مراسلاتهم في حوائج الناس في أقل من شهر.

وأصبح الشعراني المدافع الأول عن الشعب في وجه الطغاة من الولاة، لأنه كان فوق المادة، وفوق الرهبة، وفوق كل إغراء، وقد امتحنوه سراً وجهراً فأرسلوا إليه الأموال والخيرات فردها عليهم، وعرضوا عليه الوظائف والهبات، فأبى أن يأخذ مالاً من حاكم، أو حتى أن يأكل من طعامه، لأن في ذلك ما يخدش عقيدته، وما يخدش رسالته.

خلق الشعراني: 

تخلق الشعراني بخلق التصوف، وتأدب بأدبه وأخذ نفسه بكل ما كتب وسطر في كتبه، فكان خلقه صورة رسالته.

وكان بحسه وبوجدانه صورة للمثاليات، وعنواناً كريماً للإنسانية في كل أفق من آفاقها. كان الشعراني يرى أن الإنسان لا يكون إنساناً إلا إذا شارك الناس كافة في أحزانهم وآلامهم؛ لأن الإنسانية وحدة متماسكة خيرها مشترك، وعذابها مشترك، يقول: من ضحك، أو استمتع بزوجه، أو لبس مبخّراً، أو ذهب إلى مواضع المتنزهات أيام نزول البلاء على المسلمين فهو والبهائم سواء.

وكان رحيماً بالناس، ورحيماً بنوع خاص بالعصاة والمذنبين، لأنهم أشد الناس ضعفاً، وأحوجهم إلى العطف والنصح والرحمة.

ويقول متحدثاً عن مبادئه: "ثم ستري لعورات الناس وعيوبهم، ورحمتي بالعصاة حال تلبسهم بالمعصية، فإنهم أشقى الناس حينئذ".

ثم يقول واصفاً خلقه: "ثم غيرتي على أذني أن تسمع زوراً، وعيني أن تنظر محرماً، ولساني أن يتكلم باطلاً".

وكان الشعراني يرى أن العبادة لا تصلح إلا بصلاح القلب ونقاء الأخلاق، فكان لا يقوم إلى الصلاة إلا إذا فتش قلبه هل فيه غل أو حقد أو حسد أو نميمة، أو شهوة صغيرة أو كبيرة، بل كان يستحي ان ينام وفي قلبه شيء من هذا لأن النوم رحلة الروح إلى الملأ الأعلى". 

ويسمو الشعراني في أدب النفس، ويرتفع في معارج الأخلاق، فيقول: «ومما أنعم الله به علي عدم خروجي من بيتي، إلا إذا علمت من نفسي القدرة بإذن الله على هذه الثلاث تحمل الأذى عن الناس، وتحمل الأذى منهم، وجلب الراحة لهم. 

علوم الشعراني وكتبه:

جال قلم الشعراني في كل أفق من آفاق المعرفة العلمية والذوقية، فكتب في التصوف، والفقه والأصول، والتفسير والحديث والنحو والطب والكيمياء، والأخلاق، وغيرها من ألوان العلوم والمعارف.

وقد استغرق بعض كتبه خمسة مجلدات، ووقع الكثير منها في مجلدين، وأكثر هذه المؤلفات لا يزال محفوظاً وموزعاً على دور الكتب في أرجاء العالم. 

وقد أحصى المستشرق «بروكلمان» أكثر من ستين كتاباً محفوظاً متناثرة في دور العلم العالمية، ويذكر علي مبارك باشا أن الكتب التي رآها للشعراني أكثر من سبعين كتاباً.

يقول المستشرق فولرز: إن الشعراني كان من الناحية العلمية والنظرية صوفياً من الطراز الأول، وكان في الوقت نفسه كاتباً بارزاً أصيلاً في ميدان الفقه وأصوله، وكان مصلحاً يكاد الإسلام لا يعرف له نظيراً، وإن كتبه التي تجاوزت السبعين عداً من بينها أربعة وعشرين كتاباً تعتبر ابتكاراً محضاً أصيلاً لم يسبق إليه أبداً.

ويقول العلامة ماكدونالد: إن الشعراني كان رجلاً دراكاً نفاذاً مخلصاً واسع العقل، وهو رجل أخلاق تهزه أنفة عالية.

ويقول المستشرق نيكلسون كان مفكراً مبدعاً أصيلاً، أثر تأثيراً واسع المدى في العالم الإسلامي، يشهد به إلى يومنا إلحاح القراء إلحاحاً متواصلاً في طلب مؤلفاته.


الباب الأول:

آداب المريد ٣٣

أركان الطريق ٣٦

احذر نفسك ٣٨

دليل التوبة الصادقة ٣٨

كيف يختار المريد شيخه ٣٩

الصوفي فقيه ٣٩

هل للمريد أن يتخذ أكثر من شيخ؟ ٤٠

الفقه في الدين مفتاح الطريق ٤١

الأخذ بالأحوط ٤٢

ملازمة الشيخ ٤٢

معالجة النفس ٤٣

ذكر الله جلاء القلب ٤٣

هل يتخذ المريد له شيخاً آخر بعد وفا شيخه ٤٤

امتحان المريد ٤٤

الأشياء التي تقطع المريد ٤٦

هل يصح إعطاء العهد للنساء ٤٧

متى يتصدر المريد للإرشاد ٤٧

بين الشريعة والحقيقة ٤٨

الولائم مهلكة ٤٨

تربية النفس ٤٩

عاقبة نقض العهد ٤٩

الخير في الاتباع والشر في الابتداع ٤٩

مقام التجريد ٥٠

شرف الهمة ٥١

النهي عن مجالسة العاملين ٥١

المريد الطالب للعلم ٥٢

آفات القلوب ٥٢

دعاء يُقال بعد صلاة الصُّبح ٥٢

لا ذكر بعد المشاهدة ٥٢

هل ينوع المريد أوراده ٥٣

متى تطوى مقامات الطريق للمريد ٥٣

تجنب المظاهر ٥٤

الطريق لا تقبل الشركة ٥٧

ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ٥٨

المريد الصادق ٥٩

إياك والادعاء ٦٣ 

سر الطريق في أورادها ٦٣ 

كيف يكون المريد ٦٥ 

كيف يختار المريد أستاذه في الشريعة ٦٦

الا بذكر الله تطمئن القلوب ۷۰

الإنسان الخالص ۷۱

کن نظيف الباطن والظاهر ٧٣

متى يكون المريد صادقاً ٧٦

إياك والاعتراض ٧٧

العبادة والفتح ٧٨

مراحل المريد ٧٩

أساس الطريق ٨٠

شرط المريد الصادق ٨٤

صور من أمراض النفس ٨٦

كيف يصل المريد إلى حضرة الحق ۸۸

الشيخ أبو الحجاج الأقصري ٩٦

ينصح المريد ٨٨

جواسيس القلوب ٩٦

أخوة الطريق ۹۸

أولياء الله أحياء في قبورهم ٩٨

أفضل أوراد المريد ٩٩

الجزء الثاني من الكتاب

الباب الثاني: آداب المريد مع شيخه ومع إخوانه

في بيان نبذة من آداب المريد مع شيخه ٣

لطائف الحب -صفات المحبين ٤

لغة العاشقين ٥

لا يصح دخول الطريق قبل التوبة ١٠

من أدب الطريق استئذان الشيخ ١٣

الصوفي الحق ٢٠

من شأن المريد أن لا يقول لشيخه لم ٢٦

كيف يحتفظ المريد بمحبة إخوانه له ٢٩

لا تعترض على شيخك أيها المريد ٣٢

علامات فلاح المريد ٣٣

كيف يدعو الداعي ٣٤

الباب الثالث: في بيان نبذة من آداب المريد مع إخوانه 

آداب المريد مع إخوانه ٩٤

خاتمة: في ذكر جملة من آداب القوم وشروطهم العامة 

الآداب العامة في كل أحد من مريد أو شيخ ١٢٦




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق