التعصب المذهبي وأثره في نقد الرواة
(دراسة في المنهج النقدي للشيخ محمد زاهد الكوثري)
أ. د. حميد قوفي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لما كثر الاختلاف في الامة، وظهرت الفرق العقدية المختلفة، وعجز أهل البدع عن مواجهة حقائق النصوص، حاول فريق منهم التنصل من هذه الحقائق بالتأويل وادّعاء النسخ والتخصيص، وتمحلوا في سبيل ذلك كل مسلك، وكان هذا هو الملجأ الوحيد والمخرج أمام سلطان النص وقهره، فكان القرآن هو هدفهم الأول، فقصدوا إليه جميعاً، كلٌّ يبحث فيه؛ ليجد فيه ما يقوي رأيه ويؤيد مذهبه، وإذا لم يجد بغيته وغايته في القرآن تسلل إلى الحديث الشريف، فإن وجد بغيته في الصحيح، وإلا استعان بالموضوعات في الرغائب والفضائل، وقصد الواهي والضعيف والمنكر ومن فيه متهم، وإذا لم يسعفهم ذلك كله، فكروا وقدروا كذبات من عند أنفسهم، ثم ونسبوها إلى من شاءوا من العلماء والعظماء وأهل الفضل.
وفي هذا الجو المشحون بالخلاف تهيأت أسباب الوضع والدس أمام الملحدين؛ فأدخلوا على الدين أموراً تحدث الشك والخلل في منظومة التوحيد والعبادة والسلوك، فوضعوا ما وضعوا من روايات وأوهام باطلة في التفسير والحديث والفقه والسياسة، ومع ظهور هذا الصنف من الناس، بزغت نجوم الأئمة النقاد الذين ميّزوا صحيح الحديث من ضعيفه، وعرفوا المقبول والمردود، وبينوا ذلك للناس بما بثوه من مصنفات جامعة وكثيرة.
وهذا البحث المتواضع يعالج جانباً من جوانب التعصب المذموم، وهي قضية التعصب المذهبي (في معناه السلبي)، في نموذج واضح ومشهور في هذا العصر وهو (العلامة الكوثري) في كتاباته ومؤلفاته الكثيرة، والذي تعصَّب لأبي حنيفة وللأحناف جداً، حتى نال من كل من روى شيئاً في مثالب الإمام أبي حنيفة، وإن لم يكن يقول بها، ونال من كل من ردَّ شيئاً من أقوال المذهب، ولو بخبر صحيح ثابت، ولم يكد يسلم راوٍ موثَّق ولا صحابيٌّ عدل من طعن الكوثري وذمه، بل كل أولئك تعرضوا للنقد والقدح والإساءة من الكوثري، سيما إذا كان الأمر يمسُّ المذهب أو الإمام.
وقد بين الباحث أثر هذا التعصب المقيت في نقد الرواة، سيما الراواة الذين نقلوا بعض الأخبار المسيئة لأبي حنيفة رضي الله عنه، وعمدة الباحث في بيان هذا التعصب هو ما نقله العالمان الكبيران عبد الرحمن المعلمي اليماني وأحمد بن الصديق الغماري في ردودهما على الكوثري.
ولم يكن لهذه الرودود أية قيمة عند الكوثري الذي ظل حبيس عصبيته، ولم يُبالِ بنصح العلماء له، ولذا كان الرد من الغماري -وهو الصديق القديم للكوثري -قاسياً جداً، وكان أغلظ على الكوثري من المعلمي، الذي بين غلط الكوثري من عشرة وجوه.
والقارئ لهذا البحث يجد تسرع الكوثري وتهوره في طعنه على الأئمة النقاد والصحابة العدول، ويبدو أن الكوثري قد كان يصطاد في الماء العكر كل تلك الروايات التي تشفي غليله من الأئمة الثقات، ولم يتمالك نفسه أمام ما يمليه هواه، لكنه ولج باباً مسماً، قلما ينجو منه الأذكياء، وحكم على نفسه بالهلاك، وعليه يمكن القول: بأن آراء الكوثري في باب النقد الحديثي ليس لها أية قيمة أو اعتبار، لما ثبت أنه يُحرف كلام النقاد في الرواة، وذلك بتغيير المعنى والتصرف في عباراتهم، وغير ذلك.
البحث كاملاً
بين يدي الكتاب
التعصب المذهبي مرفوض مبدئياً وعلمياً، ولا اعتداد بما يصدر عن المتعصبين من الكلام الرواة في ميدان رواية الحديث، لذا وجدنا أئمة الحديث يشترطون تفسير جرح الرواة وبيانه كى يوقف على حقيقته، فربّ جرح في الراوي لما فُسّر تبيّن أنّه عن تعصب لم يؤسس على الموضوعية والتجرّد، وقد ردّوا أحكامًا كثيرة بهذا السبب.
والبحث الذي بين أيدينا يعالج قضية التعصب المذهبي وأثره في نقد الرواة، وقد آثرت أن أخص بالدراسة والتحليل والمناقشة ما كتبه العلامة محمد زاهد الكوثري رحمه الله في الباب.
وقد تناول البحث جملة القضايا من خلال ما كتبه - رحمه الله- واعتمدت في مناقشته على ما العالمان أحمد الغماري والمعلمي في ردودهما، وخلصت إلى نتيجة أن منهج الشيخ الكوثري في تناوله لرواة الأخبار المسيئة للامام أبي حنيفة مطعون فيهم -عنده، وليسوا بحجة في الرواية، وهذا يتطلب بحثا، وهو ما دعاني لدراسة هذا الموضوع دراسة هذا في من حرره تحليلية نقدي.
المقدمة
من كان من الحمد لله رب العالمين، وبه ثقتي وأستعين، وصل اللهم وسلم على النبي الأسعد الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى مراضيه، وأن يجعل مستقبلنا حالنا خيرا من ماضيه، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، وأن يرينا مراشد أمورنا وأن يلهمنا الصواب والرشاد. أما بعد؛ فإن التعصب المذهبي مرفوض مبدئيا وعلميا وأدبيا، ولا اعتداد لما يصدر عن المتعصب- كائنا الكلام عموما، وفي الرواة خصوصا، لذا وجدنا أئمة الحديث يشترطون تفسير الجرح وبيانه كي يوقف على حقيقته، فرب جرح في الراوي لما فُسّر تبيّن أنه عن تعصب لم يؤسس على الموضوعية والتجرّد، وقد ردّوا أحكامًا كثيرة بهذا السبب. والبحث الذي بين أيدينا يعالج قضية التعصب المذهبي وأثره في نقد الرواة، وقد آثرت أن أخص بالدراسة والتحليل والمناقشة ما كتبه العلامة محمد زاهد الكوثري رحمه الله -في الباب، فأحسب أنه أقرب نموذج في الدراسات المعاصرة في هذا الموضوع. وما عزمت على بحثه على وجه التحديد إنما هو التعصب المذهبي في معناه السلبي، كما سأبين ذلك.
فجاء البحث لبيان أثر التعصب المذهبي في نقد رواة الاخبار، وجعلت لذلك نموذجاً دراسياً عن مسلك العلامة محمد زاهد الكوثري في تعامله مع رواة الحديث.
والهدف من البحث ليس التشهير أو التعيير، بل هو بحث أكاديمي يعالج قضية علمية تكلم فيها المحدثون في أبـواب علم الجرح والتعديل أثــنــاء كـلامـهـم عـن الـجـرح الــمــردود، فالبحث يـجـري على أصــل علمي مـعـلـوم، غير أنــي في الجانب التطبيقي التمثيلي خصصته للكلام عن منهج الأستاذ الكوثري رحمه الله في التعامل مع رواة الحديث الذين رووا أخباراً في مثالب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فإنه لم يتسامح مع الرواة الذين ذكرت أسماؤهم في الأسانيد تروي أخباراً في مثالب الإمـام أبي حنيفة.
ولولا أن كل ذلك لم ينشر في كتب، وصارت متداولة، وربما اعتمدها بعضهم لإمامة الأستاذ الكوثري ثم تقليدهم له -لما تحمست للبحث في هذا الموضوع، ويبقى أن البحث مشروع في هذه القضايا، إذا التـُزم فيها الحياد والموضوعية والتجرد والأدب.
منهج البحث:
تناولت فيه القضايا المتعلقة بـالـرواة الذين تكلم فيهم الشيخ الكوثري وطعن فيهم، وحررت الموضوع على نسق ما جاء في كتاب (التنكيل) للشيخ المعلمي، وقد استعنت في تحرير البحث فـي جانبه النقدي على مـا كتبه العالمان عبد الرحمن بن يحيى المعلمي وأحمد بن محمد بـن الـصـديـق الـغـمـاري فـي ردهـمـا عـلـى الشيخ الكوثري.
واعتمدت في كل البحث المنهج النقدي، وناقشت المسائل التي ظهر فيها تعصب الشيخ الكوثري على الرواة بالدليل، وبينت ما بدا لي راجحاً في ذلك.
تمهيد:
إنَّ الـدارس لمناهج الفرق وطوائف من أتباع المذاهب، والمتتبّع لعالم الافكار لدى الفرق الفكريُّة المختلفة، يخلص إلى أن السنُّة النبوية- عند كثير منهم- لا تكاد تكون دليلا للاحتجاج بقدر ما هي دليل للاستئناس، فهي عند طوائف دليل للاعتضاد، ويمكن حصر الاتجاهات في هذا في ثلاثة:
١-المقلدة في الفروع و المتعصبة للمذاهب.
٢-غلاة أهل الرأي والعقل.
٣-أهل الكلام ومقلّدوهم.
والحديث عن هذه الاتّجاهات على التفصيل يطول، وليس هو المراد في هذا البحث، وإنما الــذي قـصـدنـاه هــو الـنـظـر فــي طـريـقـة كـثـيـر من المقلّدة في الفروع في التعامل مع بالسنُّة ورواتها.
ولعل أهم سمة بارزة فيهم أنهم لا يــدرون مع السنة حيث صحت على منهج المحدثين أهل المعرفة والاختصاص، إنما يدورون مع قول من قلّدوه في الاغلب الاعم، وإذا صادف أن خالف قول الامام السنة - من غير قصد المخالفة- لجأوا إلـى دفعها بشتى الحجج؛ بالتأويل أحياناً، أو بالقياس أحياناً أخرى، أو بالتضعيف أحياناً، أو بغير ذلك، وأصرح قول يمثَّل به قول أبي الحسن الكرخي الحنفي: (الاصـل أنّ كل خبر يجيء خلاف قـول أصحابنا- يعني الحنفيّة- فإنه يحمل على النسخ أو على أنّه معارض بمثله.
وصور الامام ابن القيم مذهب المقلِّدة بأحسن تصوير، فقال: "أعجب من هذا شأنكم معاشر المقلّدين أنّكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنّـكـم تأنخـذون بها، والعمدة فـي نفس الأمر على مـا قاله لا على الآية، وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله لم تأخذوا بها، وتطلَّبتم لها وجوه التأويل، وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه. وهكذا تفعلون في نصوص السنَُّة سـواء؛ وإذا وجدتم حديثاً صحيحاً يوافق قوله، أخذتم به وقلتم: لنا قوله صلى الله عليه وسلم، كيت وكيت، وإن وجدتم مائة حديث صحيح بل وأكـثـر تخالف قوله، لم تلتفتوا إلى حديث منها، ولم يكن لكم منها حديث واحــد فتقولون لنا قوله صلى الله عليه وسلم، كذا وكذا. وإذا وجدتم مرسلاً قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك. وإذا وجدتم مائة مرسل تـخـالـف رأيــه اطّـرحـتـمـوهـا كـلّـهـا مـن أولــهــا إلـى آخرها، وقلتم: لا نأخذ بالمرسل).
فـكـم مـن سـنُّـة ترك الـعـمـل بـهـا بسبب هـذا التعصب، بل ربما نزل بعضهم السنُّة منزلة البدعة فهجرت السنُّة، ومـن ذلـك ما حكاه ابـن دقيق العيد عن بعض متأخري المالكيّة من المغاربة، قال: (ولما ظهر لبعض الفضلاء المتخرين من المالكيّة قـوة الرفع في الأمـاكـن الثلاثة (أي رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه) -على حـديـث ابـن عـمـر، اعـتـذر عـن تـركـه فـي بـلاده، فقال: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أننّه رفع فيهما- أي عند الركوع والرفع منه- ثبوتاً لا مرد له صحة، فلا وجه للعدول عنه، إلا أن في بلادنا هذه يستحب للعالم تركه لأنه إن فعله نُسب إلى البدعة وتأذى ِ في عرضه، وربما تعدت الأذيُّة إلى بدنه، فوقاية العرض والبدن بترك سنُّة واجب في الدين، بل جازف بعض الحنفية فعدوا رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام مبطلاً للصلاة".
فـهـذه صــورة مـن صـور التعصب المذهبي، وصـــــورة مــن بـعـض الـقـهـر الــفــكــري الــــذي سـاد المذاهب، والذي أهدر سنناً ثابتة، والكلام في هذا يطول.
معنى التعصب المذهبي:
(التعصب: من العصبية. والعصبية: أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته، والتألب معهم، على مـن يناويهم، ظالمين كانوا أو مظلومين. وقد تعصبوا عليهم إذا تجمعوا، فذا تجمعوا على فريق آخر، قيل: تعصبوا... والعصبي هو الذي يغضب لعصبته، ويحامي عنهم.. وفي الحديث: (ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية).
العصبية والـتـعـصـب: الـمـحـامـاة والـمـدافـعـة. و تعصبنا له ومعه: نصرناه.
وبالنظر في كلام علماء اللغة يتبين أن عبارة «التعصب» و«العصبية» تطلق في سياق المدح والذم معاً، فنجدهم يقولون – مثلا- فلان متعصب للسنة، وفلان متعصب لأهل الباطل ونحو ذلك، لكن استعمالها في الذم هو الشائع، ومن ذلك ورود بعض الأحاديث ذم التعصب والعصبية، ومــــن ذلــــك مـــا ثــبــت مـــن حــديــث جــنــدب بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية».
وكذلك ورد مثل هذا في كلام السلف رحمهم الله. والمقصود في بحثنا إنما هو المعنى السلبي لكلمة «التعصب» وهو أنواع؛ فمنه: التعصب لـلـعـرق، ومـنـه الـتـعـصـب لـلـمـذهـب، والتعصب للعقيدة، والتعصب للجهة، التعصب للرجال ...
أمــــــا الـتـعـصـب الـمـذهـبـي - الـــــذي قـصـدنـاه بالبحث- فهو نصرة المرء للمذهب الذي تبناه، والـــدفـــاع عـنـه والـمـنـافـحـة عــن أفكـــار أنصـحـابـه وأشخاصهم، سواء كان ذلك بالحق أو بالباطل.
تنبيه: وليس الاختلاف في المذهب الفقهي أو العقدي عند الأئمة المحدثين جرحاً بذاته ترد به الـروايـة، بل المذهب الفقهي أو العقدي لا شأن له بالقبول أو الرد ما لم يكن الراوي قد أتى بما يخل بعدالته- من الكذب أنو البدعة المكفرة- أو بضبطه، فإننا نرى كثيراً من الرواة من الفرق الإسلامية المشهورة والمرجئة والخوارج والشيعة والقدرية أنه لا للثقة مروياتهم؛ لأنهم اتصفوا الصدق ونبذ الكذب مطلقاً، ومن درس منهج المحدثين وقــف على أحكامهم النقدية في ذلـك وعملهم في مصنفاتهم- كالصحيحين-علم هذا الأمر، وهو شائع، والمعنى من هذا أن نؤكد بأن أئمة الحديث لم يكن لديهم مشكلة مع الرواة من أهل الفرق الأخرى ما داموا صادقين أهل دين وأمانة، وهذا من الاعتدال الذي ميزهم عن غيرهم.
ذكرت هذا لكي نبين أن التعصب المذهبي بنوعيه الفقهي والعقدي لم يكن – بـذاتـه- من معوقات أئمة الحديث كمالك وأحمد والبخاري وسـائـر الـمـحـدثـيـن الـقـبـول الروايــة. ولأجــــل هـذا شرطوا في الجرح المجمل التفسير للوقوف على أسـبـابـه، ولـم يقبلوا الـجـرح فـي راو - ولـو علموا مذهبه العقدي- حتى يتبينوا السبب من جرحه.
ولأجل هذا كله ينبغي أن نتعامل مع تجريح الأسـتـاذ الـكـوثـري أنو غـيـره لـ رواة الحديث بهذا المنهج، فلا يقبل من غير بيان، بل لا يقبل جرح راو أجمع الأئمة على توثيقه، ولا يقبل توثيق راو أجمعوا على تضعيفه، ويبقى مـن اختلف فيه للنظر مـن أهــل الاخـتـصـاص الـنـظـر- كالذهبي وابن حجر وغيرهم.
قـــال الـذهـبـي رحـمـه الـلـه: (نـحـن لا ندعـي العصمة في أئمة الجرح والتعديل، لكن هم أكثر الناس صواباً، وأندرهم خطاً، وأشدهم إنصافاً، وأبعدهم عن التحامل، وإذا اتفقوا على تعديل أو جرح، فتمسك به، واعضض عليه بناجذي، ولا تتجاوزه، فتندم، ومن شذ منهم، فلا عبرة به، فخل عنك العناء، وأعط القوس باريها، فوالله لــولا الـحـفـاظ الانكــابــر، لخطبت الزنادقة على المنابر، ولئن خطب خاطب من أهل البدع، فإنـمـا هـو بسيف الإســــلام، وبلـسـان الشريعة، وبجاه السنة، وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول فنعوذ بالله من الخذلان).
وقال السبكي رحمه الله: (من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فلا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، فلو فتحنا هذا الباب وأخذنا بتقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحــــد).
وقــال فـي موضع آخر: (الجارح لا يقبل منه الجرح وإن فسره في حق من غلبت طاعاته على معاصيه، ومدحوه على ذاميه، ومزكوه على جارحيه، إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الـذي جرحه من تعصب مذهبي أنو منافسة دنـيـويـة، كما يكون بين الـنـظـر انه غير ذلـك، فنقول مثلاً لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في مالك وابن معين في الشافعي والنسائي في أحمد بـن صـالـح؛ لان هــؤلاء أن يـمـة مـشـهـورون، صار الجارح لهم كالآتي بخير غريب).
وقال ابن حجر رحمه الله: (وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل؛ فإنه إن عدل بغير تثبت كـان كالمثبت حكما ليس بثابت، فيخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب، وإن جرح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك، ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً).
والاســــتــــاذ الــعـــامــة مـحـمـد زاهــــد الــكــوثــري (١٢٩٦هــ-١٣٧١هــ) يكاد يكون من أعلام هذا الاتجاه، فهو من أشهر أتباع الحنفية المتعصبين، وقد أتى بأمور أنكرت عليه لأجل هذا- مع إمامته في العلم وقدمه الراسخة فيه- وسنذكر من ذلك طائفة من أخباره كما جاءت في «تأنيبه على الخطيب» ، و«النكت الطريفة في التحدث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة».
وللعلامة أحمد بن محمد بن الصديق الغماري (١٣٢٠هـــ-١٣٨٠هـــ) ردود على هـذه الكتب، وهــي «الــغــارة العنيفة عـلـى الـنـكـت الـطـريـقـة»، و «ســقوط الـتـدريـب على الـتـأننـيـب» وكـتــاب آخـر «التمزيق والـفـرق على أن حـقـوق الــحــق») وله كتاب آخر في الرد على الأستاذ الكوثري، وبيان تناقضاته من خلال كلامه، سماه «بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري» أو «رد الكوثري على الكوثري» وقد اعتمدته في مسائل عديدة في هذا البحث.
وللعلامة عبد الـرحـمـن بـن يحيى المعلمي اليماني (١٣١٣هــــ- ١٣٨٦هـــ) -كذلك-كتاب في الرد على الأستاذ الكوثري وهو «التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل»؛ فهذان الكتابان الأخيران لعالمين مختلفين في المنهج والتوجه -كما لا يخفى- عمدتي في هذه الـدراسـة، واعتمادي عليهما يدفع عني التهمة بالتعصب ضد الأستاذ الكوثري، لا سيما بالنقل من كتاب الغماري الذي وصف الكوثري بقوله «صديقنا الأستاذ الكوثري».
بين الكوثري والمعلمي:
لـمـا كـتـب الأسـتـاذ الـكـوثـري كـتـابـه «تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب» -وهو رد على الخطيب البغدادي فيما كتبه في تاريخ بغداد في ترجمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله- في الجزء الثالث عشر- كتب المعلمي عليه رداً سماه «طليعة التنكيل بما فـي تأننيب الكوثري من الأباطيل» لكنّه لم يكن مفصلاً، ولما بلغت «الطليعة» الأستاذ الكوثري رد عليها برسالة سماها «الترحيب بنقد التأنيب» وهذا الرد لم يرتضيه المعلمي فأجابه بكتاب «التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل» وهو ردّ مفصل لما جاء في «الطليعة» وزاد عليها، لكن أدركت الأستاذ الكوثري المنيّة قبل أن يطبع هذا الكتاب «التنكيل» فرحمه الله ورحم الجميع.
تنبـيه: مـا ينبغي التنبيه عليه هـو أن الغرض مـن تـألـيـف الـعـلامـة المعلمي «التنكيل» ليس الدفاع عن الخطيب فيما ساقه من أخبار عن الإمام أبي حنيفة وتصحيحها كما قد يفهم منه غلطا أو تعصباً- كما فهم الأستاذ الكوثري- لأن الحق يقال أن الخطيب لم يصب في كثير مما نقل مـن الـطـعـون المشينة لـ إلامـام أنبــي حنيفة، وهو منها براء، ومع ذلك ما كان ينبغي أن تروى تلك الأخبار المثيرة للخصومة المذهبيّة، وأن ما ذكره من أخبار طاعنة في نسبه ودينه وعلمه…لا تـقـبـل.
وكــان الأولـــــى أن تـطـوى فــلا تـروى، على أن الخطيب لـم يسق مـا جـاء فـي مثالب أبــي حنيفة وسـكـت عـن ذكــر مناقبه بـل عنون لهذا بقوله: «مناقب أبي حنيفة»؛ فالخطيب قد جـرى على عـادة الأئمة المصنفين في ذكر المناقب والمثالب، قال: (وقد سقنا عن أيوب السختياني وسـفـيـان الـثـورة سـفـيـان بن عيينة وأـي بكر بـن عياش وغيرهم مـن الانئـمـة أخباراً كـثـيـرة تتضمن تـقـريـر فضائل أبـي حنيفة والــدح له والثناء عليه، والمحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين وهؤلاء المذكورين منهم في أبـي حنيفة خـلاف ذلــك... وكلامهم فيه كثير لأمور شنيعة حفظت عليه متعلق بعضها أصول الديانات وبعضها بالفروع نحن ذاكروها بمشيئة الله، ويعتذرون إلى من وقف عليها وكره سماعها بـأن أنبـاء حنيفة عندنا مع جلالة قدره أنسـاه غيره من العلماء الذين دونـّا ذكرهم في هذا الكتاب، وأوردنا أخبارهم، وحكينا أقوال الناس فيهم على تباينها، والله الموفق للصواب).
وقــد أعـــتــذر الإمـــــام ابـن حـجـر الـهـيـتـمـي عن الخطيب في إيراده الأخبار الطاعنة في الامام أبي حنيفة، قال في «الخيرات الحسان في مناقب النعمان في الفصل التاسع والثلاثين: (اعلم أنه لم يقصد بذلك أن لا جمع ما قيل في الرجل على عادة المؤرخين، ولم يقصد بذلك انتقاصه ولا حط رتبته، بدليل أنه قدم كلام المادحين وأكثر منه ومن نقل مآثره، السابقة في أكثرها إنما اعتمد أهل المناقب فيه على «تاريخ بغداد،» ثم عقبه بذكر كلام القادحين ليبين أنه من جملة الاكابر الذين لم يسلموا من خوض الحساد فيهم).
أما غرض المعلّمي فهو بيان أخطاء وأغاليط صـحـبـت رد الـــكـــوثـــري عـلـى الـخـطـيـب، وقـد ذكـر سبب تأليفه الكتاب والهدف منه، قال: (المقصود الأهم هو رد المطاعن الباطلة عن أئمة السنة وثقات رواتها، والذي اضطرني إلى ذلك أن السنَُّة النبويُّة وما يفتقر إليه من معرفة أحوال رواتها، ومعرفة العربيّة وآثار الصحابة والتابعين في التفسير وبيان معاني السنة والانحـكـام وغيرها، والفقه نفسه إنما مدارها على النقل ومدار النقل على أولئك الذين طعن فيهم الأستاذ وأضرابهم، فالطعن فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كله، بل في الدين من أصله).
على أنه ينبغي التنبيه أيضاً على أن رد الكوثري على الخطيب في الأصل لا اعتراض عليه، بل ربما يستحق ذلـك، إنما الاعتراض على أشياء كثيرة جاءت معه مخالفة لـلـحـق والــصــواب، وأخــــص منها مـا ضـمـنـه من تراجم الرواة الذين طعن فيهم بغير وجه حق، إلا فـرط التعصب ورد الفعل -كما سيأتي- وسـواء قصد أنو لـم يقصد، فإن مآل هـذه الطعون في الرواة إلى الطعن في النقل، وهذا ما حدا بالعلماء المعلمي وأحمد صديق الغماري وغيرهما إلى الـرد والتشديد عليه، وقد بالغ الغماري في الرد عليه إلـى درجـة تنزيله منزلة الفساق والملاحدة والاجرام وقلّة الدين، وما كان ينبغي، نسأل الله العفو والعافية.
بين الكوثري والغماري:
ينبغي الوقوف كذلك - قبل البدء في الحديث عن منهج الكوثري في التعامل مع الرواة- على علاقة الكوثري بأحمد بن الصديق الغماري؛ـ فإنه لا يـخـفـى- لـكـل مـن درس- تـلـك العلاقة الحميمة التي كانت تربطهما والمودة بينهما، والتقدير الذي يكنّه كل واحد للآخر، وقد بيّن ذلك الغماري في بعض كتبه ككتاب «تلبيس المفتري في الرد على الكوثري»؛ إذ وصفه بقوله: «صديقنا..» وكذا ما علم من ثناء الكوثري على آل الصديق في بعض كتبه، ثم انقلبت الألفة بينهما بسبب خلافات علميّة من خـلال ردود الكوثري على الغماري حتى قـال الغماري فيه قولاً شنيعاً في بعض رسائله: (وأمـا الشيخ زاهد الكوثري فإنه حقاُ عدو السنُّة، إلا الحنفيّة ومن وافقهم لفرط تعصبه للحنفيّة وللجنسيّة التركيّة أيضاً، حتّى أننّه متّهم بالشعوبيّة مع أنّه عالم فاضل مطّلع، واسـع الاطــلاع والـد رايـة، مع المشاركة فـي كثير مـن الفنون، لكن فـرط تعصبه أوصله إلى درجة المقت، بل درجة الجنون، حتّى طعن في مالك والشافعي وأحمد وعبد الرحمن ّ بن مهدي والبخاري، وهـذه الطبقة، بل وتكلّم في أنس وأبي هريرة وبعض الصحابة. وقد كنت شرعت في الـرد عليه.. ثم توقّفت لكون الرجل يدعي لنا بالمحبُّة والصداقة، ولنا معه مجالس طويلة، والحق أولـى منه).
وقال مبيناً السبب في موضع آخر: (وبعدما استبانت حجتنا، وظهر برهان صدق قولنا، وتحققت براءتنا مما رمانا به الأستاذ من الإسـاءة إلى النفس، والنطق خلفاً، والحيدة عن سبيل أهل العلم واتباع غير سبيل المؤمنين، فلنعتمد قول الله تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}).
فهكذا حصلت النفرة بين الشيخين بسبب رد الكوثري على بعض فتاوى الغماري لم يرتضيها الكوثري بدافع المذهب، والحال أن الغماري كـان يكره التقليد، وقـد صـرح بذلك في بعض مقالاته، وليس المجال هـذا موضع البسط في الخلاف بين الرجلين، إنما أن أردت الإشــارة من خلال ما ذكرت إلى النفرة التي حصلت بينهما بعد المودة والألفة.
الكوثري والتعصب المذهبي:
ليس خافياً على كل من درس سيرة الأستاذ الـكـوثـري بأنّـه مـفـرط فـي الـتـعـصب الـمـذهـبـي، ولا يحتاج إلى عناء فـي اكتشاف هـذا، حتى ذهـب أحمد صديق الغماري إلـى الـقـول: (…لكن الأستاذ لم يشكر لغير الحنفية منهم نعمة، ولـم يـرع لهم حـرمـة، بـل جعلهم غـرضـاً لطعنه، ونـصـبـهـم هــدفــاً لانــتــقــاده، ومــحــلاً لاسـتـهـزائـه وسخريته، وهو في كل ذلك غير جاهل بمنزلتهم ولا بعظيم مكانتهم، ولا غافل عن أمر الله تعالى بإجلالهم، ولا باستهجان حـال المتكلم فيهم والهضم لحقوقهم… ثم قال: وأما صاحبنا، فما يدعوه إلى ذلك إلا مجرد البغض والحنق وفرط التعصب المذهبي الجنسي على أقوام ليسوا من أهل مذهبه، ولا هم أنغام من جنسيته..).
بل وصفه في موضع آخر (بمجنون أبي حنيفة)، وقــــال المعلمي- وكـــان ألـــطـــف عــبــارة من الغماري:- (الأستاذ من أهل الـرأي، ويظهر أنه من غلاة المقلّدين في فروع الفقه، ومن مقلّدي المتكلّمين ومـن المجارين لكتّاب العصر إلى حدٍ ما، وكل واحدة من هذه الأربع تقتضي قلّة مبالاته بالمرويات ودربة على التمحل في ردها، وجرأة على مخالفتها واتّهام رواتها).
مـظـاهـر تعصّب الــكــوثــري و تـحـامـلـه على مخالفيه:
إن ما كتبه الأستاذ الكوثري في هذه الكتب المذكورة- في كثير من المواضع- ينبئ بتعصبه الشديد لمذهب الحنفية ولأبي حنيفة رحمه الله على وجه الخصوص، بل لقد غلا في مواطن في تزكية المذهب وصاحبه-رحمه الله- غلواً يخرج صـاحـبـه عـن المنهج الـعـلـمـي وعــن أخـلاقـيـات البحث الموضوعي، بل لقد بلغ حقده وبغضه لمن تصدى للكلام في الإمام أبي حنيفة مبلغاً غـيـر مـرضـي، ومــن ذلــك حمله عـلـى الخطيب ووصفه بما يخجل المرء أن يحدث به المرء نفسه، ولولا أنّه ذكره بذلك في «التأنيب» ما تعرضت له، فقد روى حكاية عن السبط ابن الجوزي في كتابه «مرآة الزمان في تاريخ الأعيان» يذكر فيها أن ّالخطيب كـان مولعا بعشق الأحــداث والــخــلــوة بــهــم.
بــل عــبــر أحــمــد الــغــمــاري عن ذلـك باللواطة- قـال الكوثري: (قـال السبط ابن الجوزي في مـرآة الـزمـان: قـال محمد بن طاهر المقدسي: لما هرب الخطيب من بغداد عند دخـــول الـبـسـاسـيـري إلـيـهـا قــدم دمـشـق فصحبه حدث صبيح الوجه، كان يختلف إليه، فتكلّم الناس فيه وأكثروا حتى بلغ والي المدينة، وكان من قبل المصريين شيعياً، فأنكر صاحب الشرطة بالقبض على الخطيب وقـتـلـه، وكــان صاحب الشرطة سنّيّا يهجم عليه، فرأى الصبي عنده وهما في خلوة، فقال للخطيب: قد أمر الوالي بقتلك، وقد رحمتك ومالي فيك حيلة إلا أنني إذا خرجت بك أمــر على دار ابـن أبـي الحسن العلوي، فأدخل داره فإنني لا أقدر على الدخول خلفك… ثم قـال: واشتد غرامه بذلك الصبي؛ فقال فيه الأشعار، فمن شعره:
بـــــات الــحــبــيــب وكـــــم لــــه مــــن لـيـلـة .. فـيـهـا أقــــــام إلـــــى الـصبــاح مـعـانـقـي
ثم الـصــــبــــاح أنثـــــــى الــــفــــرق بـيـنـنـا .. ولـقـلـــمـا يـصـفـو الـــســـرور لــعــاشــق)
قــال الـكـوثـري: (فـذكـر لـه أن شــعــاراً كثيرة من هـذا القبيل، ومـن الظلم أن يعد مثله في عداد علماء الـجـرح والتـعـديـل، ويـقـول على قـولـه في دين اللـه).
فانظر إلى هذا البهتان الـذي أقـره ونقله محتجا به، وما كان ينبغي أن يصدر هذا عن مثله، وهل بهذه الحكاية يسقط الخطيب البغدادي من مرتبة علماء الجرح والتعديل لأنه نقل كلاماً في الإمـام أبي حنيفة؟ لكن العلماء أحــمــد صــديــق الــغــمــاري والـمـعـلـمـي ردا هـذه الحكاية المكذوبة، وهذه الفرية العظيمة بأوضح بـيـان، قـال أحـمـد الـغـمـاري: (وجملته الأخـيـرة التي حكم فيها بـ أن من الظلم إعـداد الخطيب من علماء الجرح والتعديل، هي الحاملة لسلفه عـلـى اخــتــلاق هـــذه الأكـــذوبـــة عـلـى الخطيب البريء منها براءة الذئب من ابن يعقوب ليثبتوا بها جرحه، وإسقاط عدالته ومنزلته، فلا يقبل لـه قـول ولا يعتمد لـه نقل، سيما تلك الأنقال المتكاثرة عن الأئمة الحفاظ في ذم أبي حنيفة ومذهبه ورأنيــه… إلـى أن قـال: فبئس ما نطق به الأستاذ، وتعسا للعالم يسمح لقلبه أن يجري في مثل هؤلاء الأئمة بمثل هذا الكذب المكشوف، والقذف المفضوح، وهكذا قال عنه أنه كان يتّهم بشرب الخمر حسبما استدرك ذلك بخطه آخر صفحة ١١من تأنيبه وأحال في ذلك على مرجعه «معجم الأدباء).
بل إّن الحافظ ابن حجر لم يكن بمنأى عن ذلك؛ إذ اتّهمه بمثل ذلك البهتان فيما ذكره عنه أحمد الغماري، قال: (وأما الحافظ ابن حجر؛ فإنه يحكي عنه في مجالسه أننّه لفرط غرامه بالزنا كان يتبع النساء في الشوارع، حتى تبع ذات يوم امرأة ظنّها جميلة، فلما مدت يدها إليه إذا هي أمة سوداء، فرجع عنها، وقال لها: بيدك فضحت نفسك».
قال الشيخ الغماري: هكذا يتبجح به ويحكيه لكل مـن يجلس إليه، إرادة الغض من ذلك الإمام والحط من مرتبة ذلك الحافظ).
وهذه الحكاية عن الحافظ ابن حجر حكاها أيضاً عبد الله محمد بن الصديق الغماري - أخو أحمد بن الصديق- في كتابه «بدع التفاسير»، قــال: ...( وكنا نعجب بالكوثري لعلمه وسَعة اطّــلاعــه، كـمـا كنا نكره مـنـه تـعـصـبـه الشديد للحنفيّة تعصباً يفوق تعصب الزمخشري لمذهب الاعتزال، حتى يقول عنه شقيقنا أبـو الفيض: «مجنون أبي حنيفة،» ولما أن هداني رسالة «إحقاق الحق ّ في الرد على رسالة إمام الحرمين في ترجيح مـذهـب الـشـافـعـي» وجـدتـه غمز نـسـب الإمــام الـشـافـعـي، نـقـل عـبـارة «الـسـاجـي» فـي ذلـك، فلمته على هذا الغمز، وقلت له: إن الطعن في الأنساب ليس برد علمي، فقال لي: «متعصب رد عـلـى مــتــعــصــب» هــذه عــبــارتــه، فـاعـتـرف بتعصبه... وذكر – الكوثري- أننّه – يعني الحافظ ابن حجر- كان يتبع النساء في الطريق، ويتغزل فيهن، وأننّـه تبع امـرأة ظنّها جميلة حتّى وصلت إلى بيتها وهو يمشي خلفها، وكشفت له البرقع فإذا هي سوداء دميمة، فرجع خائباً... ).
قال عبد الله بن الصديق بعد هذا: (وسر هذه الجملة أن الحافظ كان يحمل على بعض الحنفية في كتب التراجم مثل الدرر الكامنة، ورفع النصر…) وكـل هـذا بـدافـع التعصب، قـال فـي تأننيبه: (وقـد جهد كثير منهم على أن يحط من مرتبة الإمام أبي حنيفة، ويصرف قلوب أهل عصره عن محبّته، فما قدر على ذلك، ولا نفذ كلامه فيه، حتّى قال بعضهم: فعلمنا أنّه أمر سماوي لا حيلة لأحد فيه، ومن يرفعه الله تعالى لا يقدر الخلق على خفضه).
فإذا كان أبو حنيفة رحمه الله -بهذه المنـزلة، فكيف بالأستاذ الكوثري لا يتورع عن الكلام في روايـة أمثال ابن عباس وأنس بن مالك وهم أن إ على من الإمام أبي حنيفة منـزلة وقدرا، كما لم يتورع عن الكلام في الكبار هشام بن عروة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم؟! وسيأتي بيان بعض من هذا.
قال المعلمي: (ومن أوسع أوديــــة البـاطـل الـغـلـو فـي الأفــاضــل ومــن أمـضـى أسلحته أن يرمي كل من يحاول رده إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم… وعلى هذا جـرى الأمـر في هـذه القضية، فإن الأسـتـاذ غلا في أبي حنيفة حتّى طعن في غيره منّ أئمة الفقه وفي أئمة الحديث وثقات رواته، بل تناول بعض الصحابة والتابعين وأسكت أهل العلم في مصر وغيرها برمي كل من يهم بأن ينكر عليه ببغض أبي حنيفة ومعاداته).
وقال: (وفي التأنيب الطعن في زهاء ثلاثمائة رجـل، تبيّن لي أن ّن غالبهم ثقات، ومنهم نحو تسعين حافظا وجماعة مـن الأئمة، فكم ترى يدخل في الدين من الفساد لو مشى للأستاذ ما حاوله من جرحهم بغير حق؟ على أن الأمر لا يقف عندهم، فإن الأستاذ يحاول الرد بالاتهام، والتهم غير محصورة، فيمكن كل من يهوى رد شيء من النقل أن يبدي تهمة في رواته ومصدقيهم ويحاول إسقاطها لـذلـك ..).
وقـال: (مـدار الـنـقـل عـلـى أنولــئــك الـذيـن طـعـن فيهم الأسـتـاذ وأضـرابـهـم، فالطعن فيهم يؤول إلى الطعن في النقل كله في الدين من أصله)، ويكفي في بيان تعصبه، إقراره بصحة حديث «أن في أن ّمتي رجلاً اسمه النعمان وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي، هو سراج أمتي»، مع أن الخبر من رواية أبي نعيم الذي لم يرتضيه فيما رواه في مثالب أبي حنيفة رحمه الله خاصة، أما فيما يدل على فضله فيقبله كما هو الحال هنا، فانظر مثلاً إلى قوله في أبي نعيم: (فأمثال أبي نعيم والبيهقي والخطيب ممن ثبتت شدة تعصبهم الموجبة لرد أنبائهم فيما يمس تعصبهم لا يقبل قولهم في توثيق رجــال الـمـثـالـب).
وقال فـي موضع آخر: (وقلت في الكلام على رجاله أبو نعيم على تعصبه متكلّم فيه)، والعجيب أنه اقتصر في الخبر على ذكر منقبة الإمام أبي حنيفة، وحذف بقية الخبر وهـو قـولـه: «يـكـون فـي أمتـــي رجل يقال له محمد ابـن إدريـس هو أضر على أمتي من إبليس» لأن الأمـر مكشوف، وهذه الجملة تفضح التصحيح، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الكوثري- مقلّداً العيني في حكمه- (وقد استوفى طرقه البدر العيني في «تاريخه الكبير» واسـتـصـعـب الـحـكـم عـلـيـه بـ الـوضـع مــع وروده بتلك الطرق الكثيرة، وقد قال بعد أن ساق طرق الحديث في «تاريخه الكبير:» «فهذا الحديث كما ترى قد روي بطرق مختلفة، ومتون متباينة ورواه متعددة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ّ فـهـذا يــدل على أن لـه أصــلاً، وإن كـان بعض المحدثين بل إن أكثرهم ينكرونه، وبعضهم يدعون أنـه موضوع، وربما كـان هـذا من أثـر التعصب. ورواة الـحـديـث أكـثـرهـم عـلـمـاء وهــم مــن خير الأمــم، فلا يليق بحالهم الاخـتـراق على النبي عـلـيـه الـصـلاة و الـسـلام مــع عـلـمـهـم بـمـا روي فــي حــق مــن كــذب عـلـى الـنـبـي عـلـيـه الـصـلاة والسلام متعمداً).
قلت: وهـل على هـذا التقرير يبني قبول هذا الـمـوضـوع؟ وفـي الـوقـت نفسه يــرد الـكـوثـري ما جـاء فـي الصحيحين مـن بعض أحـاديـث أنس بحجة أنه «انفرد بها في عهد هرمه» كما يزعم، وسيأتي بيانه.
قـال أحـمـد صديق الـغـمـاري: (فـواصـل جهل هــؤلاء الـغـلاة المبتدعة وجنونهم الـمـفـرط إلى حد أن يجري بخاطرهم كون هذا الحديث حقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الكذب والتلبيس والافتراء والتدليس أن ينقل هذا الأعجمي إثبات الحديث لــمــن لا يـــدري الــحــديــث مـمـن صـنـعـتـه نقل الفروع وأعــربي الكلمات من متعصبة الحنفيّة كالعيني وأمثاله).
فـهـذه بـعـض الـمـظـاهـر الــدالــة عـلـى تعصب الشيخ الكوثري، ذكرت جملة منها اختصاراً.
المحاور التي دار عليها كتاب التنكيل:
دار كتاب التنكيل على أربعة محاور أساسية:
١- الـقـواعـد: وهــي قـواعـد فـي عـلـوم الحديث محررة، التي ظهر فيها تخليط الأستاذ الكوثري.
٢- تـرحـم الــــ رواة: الـذيـن تكلّم فيهم الأسـتـاذ الكوثري.
٣- الفقهيات: وهي بضع عشرة مسألة انتقدت على أبي حنيفة وأصحابه، ومناقشة الكوثري في الانتصار لمذهبه.
٤- الاعــتــقــاديــات: وفـيـهـا بـيـان صـحـة معتقد أهل الحديث، مع مناقشة الكوثري في مسائل انتقدها عليهم.
ولكني رأيت أن أن تناول بالبيان القسم الثاني - فقط- الـذي عني بتراجم الرواة خشية الطول، وسـوف أورد فيه المسائل بإيجاز غير مخل إن شاء الله، واقتصر على الأهم مع مناقشة ما تدعو الحاجة إليه في نظري، وبالله التوفيق.
محاور القسم الثاني (من كتاب التنكيل) وهو في التراجم
دار القسم الـثـانـي مـن كـتـاب التنكيل على قضايا كثيرة سماها المعلمي أنواعاً، يمكن جعلها فـي مباحث وسـردهـا فـي عـنـاويـن مـع التصرف في العبارة:
١-إبـدال الـراوي المقبول بـراو مجروح يوافقه في اسمه واسم أبيه.
٢-جعل ألفاظ لا علاقة لها بالجرح جرحاً.
٣-السكوت عن التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الألفاظ واعتماده إذا وافق الغرض.
٤-تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل.
٥-تقطيع كلام علماء الجرح والتعديل وبتره.
٦-تـجـهـيـل الـمـعـروفـيـن الـمـوثَّـقـيـن، وتـوثـيـق المجاهيل.
٧-الجزم بجرح أو تعديل لم يثبت.
٨-اعـتـمـاده لـكـلام فـي الـراوي رده الأئمة، ولم يعبأ به.
٩-اتـــهــام بــعــض الـــحـــفـــاظ الـــثـــقـــات بـتـهـم لا أصل لها.
١٠-إطلاق صيغ الجرح مفسراً وغير مفسرة بما لا يوجد في كلام الأئمة ولا عليه بينة.
فــي هــذه أنهـــــم الـقـضـايـا الــتــي دار عـلـيـهـا هـذا الـقـسـم، وربـمـا أنغـفـلـت بعضها خشية الطـول. وسوف نكتفي بذكر مثال واحد لكل مسألة من هذه المسائل:
المبحث الأول: إبدال الراوي المقبول براو مجروح يوافقه في اسمه واسم أبيه
من ذلك تعقيبه على الخطيب في إسناده عن محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزار بهمدان، حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ حدثنا القاسم ابـن أبـي صالح حدثنا محمد بن أيوب أخبرنا إبراهيم بن بشار قال سمعت سفيان ابن عيينة يقول: ما رأيت أحدا نجران على الله من أبي حنيفة، ولقد أنتـه رجل من أهل خراسان فقال: يـا أبــا حنيفة قـد أنتيتك بمائة ألف مسألة أريـد أن إسألك عن هـذا، قـال: هاتها، فهل سمعتم أحــداً أجــــرأ مـن هـــــذا؟).
فتكلّم الـكـوثـري في بعض رجال هذا الإسناد منهم صالح بن أحمد التميمي قــال: وهـو ابـن أبـي مقاتل القيراطي، هروي الأصل قال: ذكر الخطيب عن ابن حبان أنـه كـان يسرق الحديث، ولعله قلب أكثر من عشرة آلاف حديث فيما أخرج من الشيوخ في الأبواب، لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال ابن عـدي: أنـه كـان بيرق الأحـاديـث ويـلـزق حديث قـوم على قـوم ويرفع الموقوف، ويصل المرسل، وقال الدارقطني: كذاب دجال يحدث بما لم يسمعه).
لكنه لم يصب الحق في هذا، وبيّن المعلمي أن صالح بن أحمد هو التميمي وهو الحافظ كما وصف في الإسناد وليس القيراطي الـمـتّهـم بـالـكـذب الـــذي ذكـــره الــكــوثــري، قـال المعلمي: (ومـن اطلع على التأنيب وغيره من مؤلفات الأستاذ علم أنه لم يؤت من جهل بطريق الكشف عن تراجم الرجال الواقعين في الأسانيد، ومعرفة كيف يعلم انطباق الترجمة على المذكور في السند من عدم انطباقها ولا من بخل بالوقت ولا سآمة للتفتيش..)، ثم فصّل في بيان تعمد الكوثري إبدال هذا الراوي الثقة بذاك المتروك.
قلت: غير أن ّ الكوثري اعتذر- في الترحيب-فاعترف بوهمه في هذا الـراوي، قال: (وأمـا من يرى كون صالح بن أحمد في السند هو المضعف فليس هــذا الـعـاجـز فـقـط - كـمـا يـظــن الأســتــاذ الناقد - بل سبقني إلى هذا الرأي الملك المعظم عيسى الأيوبي شارح الجامع الكبير في رده على الخطيب، وكـذا أركــان اللجنة العلمية الأزهرية التي قامت بالرد على الخطيب أيضاً في تعليقهم على المجلد الـمـعـاد طبعه مـن تـاريـخ بـغـداد، ومع هذا لا مانع لدي من قبول تحقيق الأستاذ اليماني في عد صالح بن أحمد في السند هو الموثّق، مقدار شاكراُ فضله، ومعترفا بأنني كنت وهمت).
لكنه لم يرتض المعلمي منه اعتذاره هـذا، لأن الكوثري نفسه أبطله بقوله أنه عقب بقوله: (على أن صالح بن أحمد المضعف عند الملك المعظم واللجنة العلمية الأزهرية، وصالح بن أحمد الموثّق عند الأستاذ الناقد كلاهما من طبقة واحدة على تأخر وفاة أحدهما، وبعد ثبوت المعاصرة بينهما لا يقبل في الطبقات المتأخرة ادعاء أن هذا أخذ عن فلان وعن فلان خلاف ذاك إلا من جهبذ خريت، وأين هو؟).
واستقبح المعلمي منه استشهاده فـي الترحيب بالملك عيسى واللجنة الأزهرية قال: (وليس للأستاذ في ذلك عذر؛ إذ ليس هو ممن يقلد مثل من ذكره في هذه المواضع، وكلامه يدل على أنه لم يقلّد، بل بحث ونظر فغاية الأمر أن يكون جرّأه الغلط على التغالط، فيلحق ذلك بنظائره).
المبحث الثاني: جعل ألفاظ لا علاقة لها بالجرح جرحاً
من ذلك حكمه على جرير بن عبد الحميد وأبي عوانة بالضعف، قال: مضطرب الحديث، لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم عند سليمان بن حرب، وكان سيّئ الحفظ، انفرد برواية حديث الأخرس الموضوع، والكلام فيه طويل، وليس هو ممن يساق خبره في صدد سرد المحفوظ عند النقلة إلا في مذهب الخطيب).
وقال في موضع آخر: (بل كان يراه سليمان بن حرب لا يصلح أن لأن يكون راعي غنم)، وقال في موضع آخـر: (وكـان سليمان بن حرب يقول عنه: لا يصلح أن لأن يكون راعي غنم).
وفـي هـذا النقل تصرف غير سديد، وتأويل بعيد، لأن ّن عبارة سليمان بن حرب ليست هكذا إنما قال: (كان جرير وأبو عوانة يتشابهان، ما كان يصلح إلا أن يكونا راعيين، وقال ابن المديني: كان جرير بن عبد الحميد صاحب ليل، كان له رسن-أي حبل -يقولون إذا أعيا تعلق به، قال أبو حاتم: جرير يحتج به، وقال سليمان بن حرب- أيضاً-كان جرير وأبو عوانة يصلحان أن يكونا راعي غنم كانا يتشابهان في رأني العين، كتبت عنه أنا وابن مهدي شاذان بمكة).
وعــبــارة سـلـيـمـان لا يـفـيـد الــجــرح كـمـا زعم الأستاذ الكوثري، بل جاءت في عبارة سليمان ما يدل على أنه روى عنه هو وغيره من الكبار، وجرير متفق على توثيقه كما تراه في كتب القوم، وقد احتج به أصحاب الستة، وإنما ذكره الذهبي في الميزان لدفع توهم الجرح فيه كما هو معلوم من منهجه، وقد أبان المعلمي عن معنى عبارة سليمان ابن حرب، قال المعلمي: (أما الكوثري فإنه احـتـاج إلى الـطـعـن فـي هـذيـن الحافظين الجليلين جرير وأبي عوانة، فكان مما تمحله للطعن فيهما تـلـك الـكـلـمـة، وقطعها وفصلها بحيث يخفى أصـل المراد منها).
وإنما عبارة (سيئ الحفظ) فمن عنده، قال المعلمي: (لم يقلها أحد قبله، وإنما المعروف أن جريراً كان لا يحدث من حفظه إلا نـادراً، وإنما يحدث من كتبه، ولم ينكروا عليه شيئاً حدث به من حفظه، وأثنوا على كتبه بالصحة).
لـكـن الــكــوثــري مــع هــذا لــم يلتفت إلى رد المعلمي في «الطليعة،» قال في «الترحيب» في الرد على الطليعة: (وأما تحدثه عن اتخاذ ما لا دخل له في عد الرجل مجروحاً وسيلة للتجريح وضرب لذلك الأمثال، فلم أر فيما تحدث عنه بذكر جرير بن عبد الحميد ولأبي عوانة وأبي أحمد الـفـراء شيئا يجدر التحدث عـنـه)، ثم عــاد بعد صفحة ليؤكد تجريح أنبــي عـوانـة بما قيل فيه غير عبارة سليمان، وأجابه المعلمي بما يبطل قوله.
المبحث الثالث: السكوت عن التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الألفاظ واعتماده، إذا وافق الغرض
ومن ذلك ما وقع من تصحيف في اسم أبي عوانة «وضــاح» إلـــى «وضـــاع.» فـقـد جــاء في التهذيب، قول علي بن عاصم: «وضـاع ذاك العبد» هكذا وقعت هذه العبارة في التهذيب، وقد اعتمدها الأستاذ الكوثري، وراح يطعن في أبي عوانة وينسبه إلى الكذب، قال: وقد قال عنه سليمان بن حرب: لا يصلح إلا أن يكون راعي غنم، وبلغ به الأمر أن كذبه علي بن عاصم).
وقـال أيضاً: (وأما أبـو عوانة فهو ممن ينتقي من أحاديثه عند الجماعة لكن يقول عنه علي بـن عـاصـم: وضــاع ذلـك العبد… وقـد وقـع في تـهذيب الـتـهـذيـب: وضــاع ذلــك الـعـبـد. وبـعـد الأستاذ الناقد- المعلمي- ذلك محرفا من «وضاح ذلك العبد» وهو أدرى بزملائه في دار التصحيح إن كـان يقع منهم مثل هـذا التحريف، والـذي أراه أن قول الأستاذ في دائـرة الاحتمال..).
وأوضح المعلمي حقيقة التصحيف الذي لم يعبأ به الكوثري، وأحاله على تاريخ بغداد، فإنه نقل نص علي بن عاصم الذي قال فيه «وضاح» وليس وضاع، قال المعلمي: (ولا أشك أن الكوثري لا يخفى عليه ذلك حتّى ولو لم يطّلع على ما في «تاريخ بغداد» مع أنّه قد طالع الترجمة فيه ونقل عنها، ولكنّه كان محتاجاً إلى أن يطعن في أبي عوانة، ووقعت بيده تلك الغنيمة الباردة فيما يريه الهوى فلم يتمالك أن وقع).
وكذلك يقال لو كان هذا الجرح ثابتا على أبي عوانة، فلماذا لم يذكره الحافظ في ترجمته-وهو أنسب- بدل ذكره في ترجمة علي بن عاصم).
قـلـت: ومـمـا يـــدل عـلـى التصحيف مـا نقله المزي في تهذيب الكمال) وهو أصل تهذيب ابن حجر- وفيه قال: «وضاح» بالحاء لا بالعين.
والإصرار على الخطأّ بعد ظهور الحق يعد قدحاً في النزاهة العلمية، وتضعيف الثقة مجازفة، وهــب أن عـلـي بـن عـاصـم قـال فيه ذلـك، فـليس في مرتبة من يؤخذ عنه هذا التجريح، ولو صدر منه لبيّنه العلماء وهذا لم يقع، ثم إنه كان يستصغر أئمة مشهورين، قال عفان: (قدمت أنا وبهز واسطاً، فدخلنا على علي بن عاصم فقال: مـن بقي مـن أهـل البصرة، فلم نذكر لـه إنساناً إلا استصغره، فقال بهز: ما نرى هذا يفلح).
وعابوا عليه أنّه كان يخطئ ولا يرجع إذا رد عليه، قال علي بن المديني: (كان كثير الغلط، وكان إذا غلط فرد عليه لم يرجع).
تنبيه: كـلام الكوثري هـذا- الـذي سبق- في أبــي عــوانــة يـنـاقـضـه فــي مـوضـع آخر فــي كتابه «النكت الطريفة» حين احتج بخبر رواه مقطوعاً بما يخدم مذهبه، قال: (وفي مصنّف ابن أبي شيبة: عن سويد بن عمرو عن أبي عوانة عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي في الرجل يكون له الشاهد مع يمينه، قالا: «لا يجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين».
المبحث الرابع: تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل:
ومــن ذلــك تـصـرفـه فـي كـلام الـدار عـطـنـي في «أحمد بن سلمان النجاد» بما يحيل معناه، قال الدارقطني: (قـد حـدث أحـمـد بـن سلمان من كتاب غيره بما لم يكن في أصوله).
هكذا فـي «تـذكـرة الـحـفـاظ» و«الـمـيـزان» و«لـسـانـه» أما الكوثري فقال: (وأن محمد بن سلمان النجاد الـحـنـبـلـي، يـقـول عـنـه الـدارقـطـنـي: يـحـدث من كتاب غيره بما لـم يكن فـي أصــولــه). وقـال لـذلـك: (والـنـجـاد ممن يروي عما ليس عليه سماعه، كما نـص على ذلـك الـدار عـطـنـي)، والفرق بين العبارتين ظاهر، قال المعلمي: (لفظ الدارقطني «حدث»… كما في تاريخ بغداد في الموضع الـذي أن حــال عليه الأسـتـاذ وهكـذا في «تذكرة الحفاظ» وفي «الميزان» و«اللسان،» وهذه الكلمة تصدق مرة واحــدة كما حملها الخطيب إذ قال: «كان قد كف بصره في آخر عـمـره، فلعل بعض طلبة الحديث قــرآن عليه ما ذكره الدارقطني».
بخلاف ما نسبه الأستاذ إلى الدارقطني أنه قال: «يحدث من كتاب غيره …» «ممن يروي عما ليس عليه سماعه»، فإن هاتين العبارتين تعطيان أن ذلك كان من شأنه، تكرر منه مراراً، وقد تصرف الأستاذ مثل هذا التصرف وأشد منه في مواضع).
وقد حدث عنه الدارقطني نفسه وابن شاهين والحاكم وغيرهم كما في تذكرة الحفاظ، وقال ابن ماكولا: (روى عنه الدارقطني والناس).
قال المعلمي: ( ولم ينكر عليه حديث واحد، الثقة تثبت بأقل من هذا، ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا ببينة واضحة لا احتمال فيها). وقال الذهبي: (النجاد، الإمام الحافظ الفقيه شيخ العلماء ببغداد).
ومما يستغرب مـن الأســتــذر الـكـوثـري قوله: (وأما مراعاة حرفية الجرح فغير ميسورة كل وقت وكفى بالاحتفاظ بجوهر المعنى)، وليس هذا من منهج أهل النقد، والأصل أن الناقد في هذا الفن يلزمه الاحتياط فيما ينقله عن الأئمة صيانة لأعراض الرواة؛ فإن الفهوم تختلف، وربما حمل الإمام ما لم يقصده، وما دامت المصادر متوفرة فالواجب الوقوف عندها، ومن هنا جاءت أخطاء فاحشة في أحكام الأستاذ الكوثري، وقد عاب المعلمي صنيعه هذا؛ إذ قال: (ولا أدري ما الذي عسر عليه المراعاة، ألعلَّه كان بعيدا عن الكتب فلم يتيسر له مراجعتها، وإنما اعتمد على حفظه؟ أولا يحق لي أن أقول أن الذي عسر عليه ذلك هو أننا رأينا كلمات النائمة التي تصرف فيها ذاك التصرف لا يشفي غيظه ولا يفي بغرضه فاضطر إلى مـا وقـع منه، ويدل على هـذا أننـي لـم أر له كلمة واحدة من كلمات التليين في الذين يريد جرحهم تصرف فيها فجاءت عبارته أخـف من أصلها بل رأيته يحافظ على حرفية الجرح حيث يراه شافيا لغيظه..).
بـل ومـن الـغـرائـب فيما وقـع لـه مـن التحريف فـي نـصـوص الأئــمــة، أن يـجـيء إلى الـرجـل قد قيل فيه كـلام لين خفيف لا يـضـر، وليس هو بجرح، فيحكيه بصيغة أخرى تدل على الجرح؛ من ذلك اندراج إبراهيم بن سعيد الجوهري في «عصبة العصبية والتخليط»، وقال فيه: (كان يتلقى وهـو نائم، كما قـال الحافظ حجاج بن الـشـاعـر، وحـجـاج بـن الشاعر يكثر عنه مسلم في «صحيحه» … فحجاج هذا ممن جرحه لا يندمل).
وقال في موضع آخر: (رواه الحافظ حجاج بن الشاعر بأنه كان يتلقى وهو نائم)، قال هذا بعد حكاية بعض رواياته في أبي حنيفة بما لم يعجبه.
وعند النظر في كلام حجاج بن الشاعر، يعلم أنـه ليس بـذاك الجرح الـذي عـول عليه الأستاذ ّ الكوثري لرد رواية إبراهيم، فقد حكى الخطيب عن عبد الرحمن بخرًا، قال: سمعت حجاج بن الشاعر يقول: رأيت إبراهيم بن سعيد عند أبي نعيم، وأبو نعيم يقرأن وهو نائم، وكان الحجاج يقع فيه).
قال المعلمي: والمقصود هنا أن الكوثري ذكر تلك المقالة فحرفها تحريفا قبيحاً -يريد قوله: كـان يتلقى وهـو نائم كما قـال الحافظ حجاج بـن الـشـاعـر… قـولـه: رمــاح الحافظ حـجـاج بن الشاعر بأنه كان يتلقى وهو نائم- قال المعلمي: وعبارة حجاج إنما تدل على مرة واحدة عند أبي نعيم، وعبارة الكوثري تدل أن التلقي في حال النوم كان من عادة إبراهيم عند أبي نعيم وغيره، فتدبر وتأمل).
قـلـت: وابــراهــيــم بـن سـعـيـد الـجـوري وثقه أحمد والنسائي وابن حبان والدارقطني والخليلي والخطيب)، روى له الجماعة سوى البخاري،
وقد رد الذهبي قول ابن الشاعر- عمدة الكوثري– وقـــــــال: (لا عـبـرة بـــهـــذا وأنبــــراهــــيــــم حــجــة بـلا ريبب)، وفي التقريب قال الحافظ ابن حجر: (ثقة حجة، تكلم فيه بلا حجة).
وهنا ينبغي التنبيه إلى أمـر مهـم فـي طريقة الكوثري في هذا الباب، فإننا أحيانا يقبل الجرح إذا انفرد به واحد-كما هو الحال هنا- وأحيانا يرده؛ ومن ذلك على سبيل التمثيل: حديث أبي سعيد أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء، أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها)؛ فنقل كلام الزيلعي في نصب الـرايـة محتجاً بـه: (فظهر أن رجـال هذا الحديث كلهم ثقات من غير كلام، سوى ابن محمد بن ربيعة المدني، وهو أيضاً لم يتكلم فيه أحـد من أئمة الجرح والتعديل من القدماء غير العقيلي، فإنه قال في كتاب الضعفاء: الغالب على حديثه الوهم)؛ فهذه ازدواجية في التعامل مع أن كلام علماء الجرح والتعديل، يقبل منها ما شاء ويرد ما شاء، ويرجح ما يرضاه ويرد ما يأباه، وما ذاك إلا رغبة في تصويب رأي المذهب كما هو الحال في مسألة الوتر المروية في حديث «البتيراء» هذا، وهو من أدلة الحنفية.
المبحث الـخـامـس: تقطيع كــلام علماء الجرح والتعديل وبتره
ومـن ذلـك كلامه في القاسم بن أبـي صالح الحذاء، قال: ( ذهبت كتبه بعد الفتنة، فكان يقرأ من كتب الناس وكف بصره، كما قاله العراقي ونقله ابن حجر في لسان الميزان)، وقال في موضع آخر: (أن القاسم بن أبي صالح ضاعت كتبه وبـدون يحدث بكتب غيره، أفلا يكون هذا مظنة الخطأ في الرواية).
ورد المعلمي على هذا النقل المبتور بإحالة الكوثري على لسان الميزان، وفيه: (قاسم ابن أبي صالح بندار الحذاء … روى عنه إبراهيم بن محمد بن يعقوب وصالح بن أحمد الحافظ...قـال صـالـح: كـان صـدوقـا متقنا لحديثه، وكتبه صحاح بخطه، فلما وقعت الفتنة ذهبت عنه كتبه فكان يقرأن من كتب الناس، وكف بصره، وســمــاع الـمـتـقـدمـيـن عـنـه أن صـــــــح).
قلت: (والنص هذا في سير أعلام النبلاء غير أن فيه قول صالح بن أحمد: سمعت منه قديما وكان صدوقاً متقناً، سمعنا عـامـة مـا كــان عـنـده وكــان يتقن حديثه، وكتبه صـحـيح بخطه، وذهـب عامتها في الفتنة ثم كف بصره)، وهذه الترجمة وهذا النص في اللسان مرموز عليه بحرف (ز) أي مما زاده الحافظ ابن حجر على الميزان، وليس مما نقله الحافظ عن العراقي كما أن وهم الكوثري، قال المعلمي: (وحرف (ز) أول الترجمة إشـارة إلى أنها من زيادة ابن حجر كما نبه عليه في خطبة اللسان، وذكر هناك أن لشيخه العراقي ذيلاً على الميزان، وأنه إذا زاد ترجمة في اللسان فما كان مـن ذيـل شيخه العراقي جعل فـي أنول الترجمة حــرف (ذ)، ومـا كـان من غيره جعل حـرف (ز)؛ فعلم من هذا أنن ترجمة القاسم من زيادة ابن حجر نفسه لا من ذيل العراقي، وهب أن الكوثري وهم في هذا).
فالمقصود هنا أن الذي في الترجمة من الكلام في القاسم هو من كلام الراوي عنه صالح بن أحمد الحافظ، فلماذا دلس الكوثري النقل وحرفه ونسبه إلى العراقي؟) ،وأجاب المعلمي بأنه خشي إذا نسب الكلام إلى صالح بن أحمد الحـافـظ أن يتنبه القــارئ فيفهم أن صـالـح بن أحمد الحافظ هذا هو الواقع في سند الخطيب وليس القيراطي).
هــذا مــن حـيـث نـسـبـة الــكــلام إلــــى صاحبه والهدف منه، أمــا مـن حيث الأمانة فـي النقل والأداء ففي ذلك بعد عن المنهج العلمي النزيه، فإن في كلام صالح بن أحمد توثيقاً للقاسم كما لا يخفى، لكن الأسـتـاذ الكوثري قطّع النص، وسـام منه جزءا، قـال المعلم: (حــذف من العبارة ما فيه ثناء القاسم وهذه عادة له، سيأتي أمثلة منها أن شاء الله تعالى).
الـمـبـحـث الـســادس: تـجـهـيـل الـمـعـروفـيـن الموثَّقين، وتوثيق المجاهيل:
ومن ذلك تجهيل لجماعة منهم: محمد بن مسلمة المخزومي المدني، قال عنه: (مجهول وليس بكاتب الحارث بن مسكين، فإنه محمد بن سلمة لا محمد ابن مسلمة، وإنــه مصري لا مديني).
وسـبـب تجهيله هـو أن ّن الخطيب روى خبراً عنه تناول فيه الإمام أبي حنيفة، فأسند الخطيب عـن محمد بـن أنسماعيل الـبـخـاري قـال حدثنا صاحب لنا عن حمدويه قـال: قلت: لمحمد بن مسلمة: ما رآني النعمان دخل البلدان كلها إلا الـمـديـنـة ؟ قــال: أن رســول اللــه صلى الله عليه وسلم قــال: لا يدخلها الدجال ولا الطاعون» وهو دجال من الدجاجلة).
وأخرجه بلفظ مقارب من طريق أبي رجـاء المروزي عن حمدويه بن مخلد عن محمد بـن مسلمة. ولـفـظـه: (مـا بـال رأي أبي حنيفة دخل هذه الأمصار ولم يدخل المدينة ؟ قال- محمد بن مسلمة: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «على كل نقب من أن َ نقابها ملك يمنع الدجال من دخولها» وهذا من كلام الدجالين، فمن ثم لم يدخلها، والله أعلم).
قـال المعلمي: (قـد قـرأ الكوثري ترجمته في «الانـتـقـاء» لابــن عبد البر الــذي بـث الـكـوثـري عقاربه في تعليقاته، وفي تاريخ البخاري» محمد بــن مسلمة أنبــو هـشـام الـمـخـزومـي الـمـدنـي… سـمـع مـالـهـا … وقــيــل لـ مـحـمـد بـن مـسـلـمـة: مـا لـــرأي فـــلان»… فـذكـر الحكاية الـتـي ذكرها الـخـطـيـب).
ونـقـل المعلمي عـن ابــن حبان فـي الـثـقـات «محمد بـن مسلمة بـن هشـام أبـو هشام المخزومي… يروي عنه هارون بن عبد الله الجمال والناس، وكان يتفقه على مذهب مالك ويفرع على أصوله، ممن صنف وجمع..).
وكذا نقل عن ابن أبي حاتم قوله: روى عنه عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة وأنتـي… سألت أبي عنه، فـقـال: كـان أحـد فقهاء المدينة من أصحاب مالك، وكان من أن فقههم… سئل أبي عنه فقال: مديني ثقة)، وأحـــالـــه كــذلــك عـلـى تـرجـمـتـه فــي الـديـبـاج المذهب في تراجم أعيان المذهب-المالكي-لابــن فــرحــان الـمـالـكـي. ثــم قــال- الـمـعـلمي ويبعد أن يكون هذا كله خفي على الكوثري مع ما عرفناه منه من النشاط في التفتيش عن التراجم بل سياق كلامه يشعر بأنه عرف هذا الرجل، ثم ذكر له نصاً واختصره، وتمامه هو قوله: (ونهمس في أذن هذا المتعصب الهاذي: أن كنت تعد كلام أبي حنيفة كلام الدجالين، فما رأيك في إمامك الذي أخذ بكلام أبي حنيفة في كثير من المواضيع؟ بل سدى فقهه فقه أبي حنيفة).
هذا في تجهيل المعروفين الموثّقين، بل ذهبّ بعيداً حين جهل الصحابة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم -عن أمـور من غير ذكر أسمائهم، ومـن ذلـك ما جاء في «النكت الطريفة» في إبطال حديث في الصحيحين عن جماعة من الصحابة، قال كل منهم: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: حلقت قبل أن أن ذبـح، فقال: اذبح ولا حرج، قال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: «ارم ولا حرج.» قال الكوثري: أن هؤلاء السائلين مجاهيل في هذه الروايات وفي الـروايـات المدونة فـي «الصحاح» و«السنن»
وليس بينهم أحــد مـن مشاهير الصحابة رضي الله عنهم قـال أحـمـد الـغـمـاري: ( وهنا يــرد الأحـاديـث بالجهل بالصحابة غير الــــرواة، بـل المذكورين في الحديث سائلين فقط، وقد يكون السائل أبا بكر أو عليا أنو سلمان أو أبا ذر، وأمثالهم من كبار أفاضل الصحابة، فهذا والله بهتان عظيم وفجور ما بعده فجور، ولا يليق أن يصدر إلا ممن أنعم الله قلبه وطمس بصيرته، وحقر في عينه دينه، فصار يهدمه، ويعبث به غلوه وتعصبه لهواه..).
قلت: وفي موضع آخر يقبل الشيخ الكوثري رحـمـه اللـه روايــة الـصـحـابـي الـمـجـهـول، ويعتد بــــروايــــة الــمــجــاهــيــل مــن الــصــحــابــة، كــمــا فـي النكت الطريفة، قال: ...(في الحديث الأول مجهول، لكن الجهل فـي الصحابة غير مضر عند الجمهور).
إنمـا توثيق المجاهيل انتصاراً للمذهب، فأمر مستهجن أن يصدر مـن عالم متبوع لما ينبني عليه من أثر في قبول أخبار هؤلاء المجاهيل. فهو يقبل رواية المجهول إذا روى ما يوافق المذهب كما في مسألة العقيقة؛ فإن أبا حنيفة يرى أنها من عمل الجاهلية، وفي هذا الباب نقل الكوثري عن محمد- ابن الحسن- أخبرنا أبو حنيفة قال: حدثنا رجل عن محمد بن الحنفية: أن العقيقة كانت في الجاهلية، فلما جاء الاسلام رفضت، قـال محمد: وبـه تـأخـذ، وهـو قـول أبي حنيفة).
وتعقبه أحمد الغماري: (فهنا قف وتعجب من هـذا الأمـر المرقص المطرب، فعهدنا بهذا الأعجمي أنه يذم الإمام الشافعي رضي الله عنه! ويسخر مـن قـولـه: «أنـبـرنـا الـثـقـة،» فهذا إمامه ومعبوده يقول (أخبرنا رجــل)، ورجـل نكرة من النكرات، ولعله هيان بن بيان، الذي ترجمته أشهر من نار على علم بخلاف الثقة شيخ الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي قد عرفه الشافعي المعرفة التامة حتى وصفه بالثقة، بأنه مجهول وصيغته صيغة انقطاع كما يدعيه هذا المفتري، فإنا لله وأننّا إليه راجعون).
المبحث السابع: الجزم بجرح أو تعديل لم يثبتا:
ومن ذلك جزمه بجرح الأصمعي عبد الملك بــن قــريــب، نــقــل ذلــك الــجــرح عــن أبـــــي زيـد الأنصارى -وهو سعيد بن أنس- وكان هذا عقب ما رواه الخطيب من طريقه- الأصمعي– حدثنا سعيد بن سلم الباهلي قال: قلنا لأبي يوسف: لمَ لم تحدثنا عن أبي حنيفة؟ قال: ما تصنعون به؟ مات يوم مات يقول: القرآن مخلوق».
قال الأستاذ الكوثري: (… وعبد الملك بن قريب الأصمعي، كذبه أبـو زيـد الأنـصـاري، وذكـر علي بن حمزة البصري في كتابه «التنبيهات على الأغلاط في الـروايـات» أشـيـاء في أغـلاطـه، ورماه بـأمـور تؤيد رأي أبي زيد الأنصاري فيه، ولست أنشط لنقلها هنا، وليس بقليل ما ذكره الخطيب من نوادره، ومن جملة ما ذكـره أن الأصمعي لما توفي سبة ٢١٥هـ، قال أبو قلابة الجرمي في جنازته:
لـــعـــــــن اللـــــــه أعـــظـــمـــــــاً حــمــلــوهـــــا .. نـحـو دار الـــبـــلـــى عـــلـــى خــشــبــات
أعـــظـــمـــا تــبــغــض الـــنـــبـــي وأهـــــــل الــــ .. بـيـت و الـطـيـبـيـن والــطــيــبـــــات
هكذا أثبت هذا الجرح الذي حكاه أحمد بن عبيد بن ناصح عن أبي زيد الأنصاري كما في تاريخ بغداد، (قال أحمد بن عبيد: سئل أبو زيد الأنصاري عن أبي عبيدة، والأصمعي، فقال: كـذابـان)، مع أنـه طعن فيه – الكوثري - في موضع أن آخـر حين روى ما يقدح في الامــام أبي حنيفة قال: ( وأنما أحمد ابن عبيد بن ناصح...فلم يكن بعمدة كما ذكره الذهبي في ترجمة عـبـد الـمـلـك الانصـمـعـي مـن «الــمــيــزان،» وقـال الخطيب: قــال ابــن عــدي: يـحـدث بمناكير، و قــال أبــو أحـمـد الـحـاكـم الـكـبـيـر: لا يتـابـع في جل حديثه).
قـــال الـمـعـلـمـي: (يــجــزم الأســـتـــاذ هـنـا بـأنه لـيـس بـعـمـدة، ثـم يـعـتـده فـيـقـول فـي الأصمعي: كذبه أبـو زيـد الأنـصـاري، هكذا تكون الأمانة عند الكوثري).
قلت: يعمد إلـى كـلام أبـي زيـد الأنـصـاري- الـــذي حـكـاه عـنـه مــن لا يـعـتـد بــه- فـيـجـزم بـه، ويغض الطرف عن قول ابن معين فيه: لم يكن ممن يكذب، وقال كذلك: ثقة)، بل وقول الامــام الشافعي فيه: (مـا رأيــت بذلك العسكر أصدق لهجة من الأصمعي، أولم يعلم أن الإمام مالكاً سمع منه كما حكاه ابن معين الـبـخـاري؟)، وهـل فاته ما في ثقات ابن حبان: (ليس فيما يـروي عـن الثقات تخليط إذا كان دونه ثقة).
و الـجـواب: أننـا لم يفته شيء من هذا، بدليل أنـــه اعـتـرف أننــه وثّـقـه غير واحــد مـن المحدثين، لكنّه قيد توثيقه هـذا في الحديث، قـال: (وإنمـا الأصمعي فقد وثّقه غير واحد في الحديث، وإنما أخباره ونوادره المدونة في الكتب ففيها كثير مما يـرفـض.. ثـم نقل عـن ابـن أخـي الانصمعي عبد الرحمن بن عبد الله أنه سئل عن عمه، فقال: هو جالس يكذب على العرب..).
قــلــت: أمـــــا تـخـصـيـص الــتــوثــيــق بــكــونــه في الحديث- الذي نقله عن المحدثين- دون سائر أخـبـاره فـأمـر احـسـب أنـه لـم يسبقه أحــد إلـيـه، وليس هذا من منهج الأئمة المحدثين، فإنهم لا يعدِّلون ألا من صدق في قوله وقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعدلون من يكذب في كلامه أنو كلام الناس، وهذا أمر معلوم لا يحتاج إلى برهان، فلا يجوز أن يحمل توثيق الإمام الشافعي وابن معين وغيرهم في الحديث خاصة -كما زعم الأستاذ الكوثري-دون حكاياته التي ثبتت عنه بالسند الصحيح. قـال المعلمي: (ومـحـاولـة الأسـتـاذ التفرقة بين الـحـديـث والـحـكـايـات فـاشـلـة، والـصـدق الـذي يثنى به على الـراوي شـيء واحـد؛ أنـا أن يثبت للأصمعي كله، وهو الواقع كما صرحت به كلمة الشافعي السابقة، واقتضته كلمات غيره، وإما أن يسقط كله).
فـكـيـف يــكــون- بـعـد هــذا- تـجـريـح أبي زيـد الأنصاري للأصمعي ثابتاً مقابل توثيق الأئـمـة الحفاظ له؟ والتجريح-كما سبق- من رواية أحمد بـن عبيد وهــو مـمـن لا ُيـعـتـد بـه فـي التجريح؟
والحاصل أن الـحـق فيما أجـمـلـه المعلمي في ذيل رده: (وليس للأصمعي ذنب إلا أنه من أهل السنُّة، والله المستعان).
وأمـا ما حكاه أبو العيناء، محمد بن القاسم اليمامي عن أبي قلابة وهجاءه للأصمعي في موت، فيحتاج إلـى تثبّت،لأن أبا العيناء نفسه متكلم فيه، وقد جرى الكوثري في تأنيب وغيره على الطعن في رواة مثالب أبي حنيفة، فلم يقبل من أبي العيناء ما نقل، وهو من اعترف بوضع حديث فدك قال: أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك، وأدخلناه على الشيوخ ببغداد، فقبلوه إلا ابـن شيبة العلوي؛ فإنه أباه).
ومـع هـذا ففي هذا المشهد كلام لم يحكه الكوثري وهو بقية الحكاية فقد قال أبو العيناء: (... وجذبني من الجانب الآخر أبو العالية الشامي، فإن نشدني:
لا در نبـــات الأرض منذ فـجـعـت .. بالأصــمــعــي لـقـد أبـــقـــت لـنـا أســـفـا
عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى .. فـي الـنـاس مـنـه ولا مـن علمه خلفا
قـــال: فعجبت لاخـتـلافـهـمـا- يـريـد أبـــا قلابة وأبا العالية).
المبحث الثامن: اعتماده كلاما في الراوي، رده العلماء، ولم يعبأ به
مـن ذلـك مـا حكاه فـي حـق أبـي مسهر عبد الأعـلـى بـن مسهر الدمشقي، فيما أخــرج عنه الخطيب بسنده، وفيه: قال أبو مسهر: (حدثنا يحيى بن حمزة وسعيد) يسمع، أن أبا حنيفة قــال: لـو أنن رجــلا عبد هــذه النعل يتقرب بها إلى الـلـه، لم أر بذلك بـأسـاً، فقال سعيد: هذا .الكفر صراحة).
قلت: وفـي نفسي أن هـذه القصة منكرة، لا ّ ينبغي حكايتها في حق الإمام أبي حنيفة، والبلية– فيما أحسب - من أحد رواتها، لكن يبعد أن يختلقها أبو مسهر، الذي غمزه الكوثري وجرحه لورود اسمه في هذا الاسناد، قال الأستاذ الكوثري: وأبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي ممن أجاب في محنة القرآن، فترد روايته مطلقا عند من يرد رواية من أجاب في المحنة).
وفي موضع آخر في خبر آخر، قال: (وأبو مسهر طويل اللسان على مخالفيه، لكنه سرعان ما أجاب في محنة القرآن، سامحه الله).
وقد رد المعلمي زعم الكوثري في أن أبا مسهر كـان مـن الـذيـن أجـابـوا فـي المحنة دون اعتبار ذلك بالإكراه كما جاء في النص الذي نقل منه
ّ الكوثري ّ ، قال المعلمي: (ومـن زعم أننـه أجاب فقد صـرح بــأن إن ذلـك بعد تحقق الإكراه، قال ابـن سـعـد: «أشـخـص مـن دمـشـق إلى المأمون في المحنة، فسئل عن القرآن؟ فقال: كلام الله. فدعا بالسيف ليضرب عنقه، فلما رآني ذلك، فـقـال: مـخـلـوق.فأمر بإشخـاصـه إلـــى بـغـداد، فحبس بها فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات».
قلت: لم ينقل المعلمي القصة كاملة، ففيها التصريح بــأن أنبــاء مسهر لـم يقل ذلـك عقيدة، وهو ما علمه وتحقق منه المأمون، وهو السبب الـذي جعله ينفيه إلـى سجن بغداد الـذي مات فيه، وبقية القصة كما يلي …( فتركه، وقال: أما أنك لو قلت ذلك قبل أن أندعو بالسيف لقبلت منك رددتك إلى بلادك وأهلك، ولكنك تخرج الآن فتقول: قلت ذلك فرقاً من القتل، أشخصوه إلى بغداد فحبسه بها حتى يموت، فإن شخص من الرقة أن ِ لـى بـغـداد… فحبس قبل إسـحـاق بن إبـراهـيـم، فلم يلبث في الحبس إلا يسيرا حتى مات فيه.. ).
ثم نقل المعلمي عن أبـي داود قوله: «كان من ثقات الناس، لقد كان من الاسلام بمكان،حمل على المحنة فأبى، وحمل على السيف فمد رأسـه وجرد السيف فأبى أن يجيب، فلما رأوا ذلك منه حمل إلى السجن فمات». قال الـمـعـلـمـي: وأبــو داود أنثـبـت مـن عــدد مـثـل ابـن سعد، والظاهر أنه لم يحضر الواقعة واحد منهما ولكن بعض الحاضرين لها من الجهمية أن يخبر بما ذكر ابن سعد، وبعض الحاضرين من أهل السنة أخبر بما ذكر أبو داود).
أما قول الكوثري: …( فترد روايته مطلقاً عند مـن يــرد روايــة مـن أنجــاب فـي المحنة) أحسب أنه يريد بذلك الإمـام أحمد، بأنه كان يمسك عن الـروايـة عن كل من أجاب في المحنة بما فيهم يحيى بن معين وعلي بن المديني، لكنه لم يقل لا تقبل رواياتهم -كما نبّه المعلمي،- بل إنه لم يفعل هذا مع إنبي مسهر، ولم ينقل امتناعه عن الرواية عنه، وكان يثني عليه، ويقول: (رحم الله أنبا مسهر، ما كان أثبته)، وقد وثقه الأئمة أحمد ويحيى بن معين وأبو حاتم والعجلي وأبو داود وابن حبان والحاكم)، واحتج به الستة.
تنبيـــه: فهذا الأستاذ الكوثري يطعن في أبي مسهر لشبهة القول بخلق القرآن ولم تثبت، بل الحق أنه قتل شهيداً- أنن شاء الله- من أنجل قوله أن القرآن كلام الله غير مخلوق، والأئمة المعتمدون بيّنوا ذلك، ولم يلتفتوا إلى ما قيل فيه، ولم يعبؤوا لـذلـك كما سبق بيانه، لكن الشيخ الكوثري تمسك بما ذكــر ابــن سعد مـع مـا تضمنه من التصريح بأن كراهة على ذاك اللفظ، وتصرف في العبارة بما يوحي أن أبا مسهر يقول بخلق القرآن منشرحاً بها صـدره، وهو من التعدي بلا ريب.
وأعجب من هذا كله أنه لا يعد قضية القول بخلق القرآن جرحاً في الراوي في مواضع، كما نقل عنه أحمد بن الصديق الغماري، عن كتابه «النكت الطريفة» ص: ١١٩ -قوله: (وروى الحسين بن علي الكرابيسي من أصحاب الشافعي العراقيين رفعه بهذا الطريق، وكلام الحنابلة في الكرابيسي بسبب مسألة اللفظ بالقرآن فقط) قال الغماري معلقا: (أني: وذلـك لا دخـل له في الجرح ولا تأثير في الرواية)، ثم قال الغماري: (وقد قبل خبر الكرابيسي مع اتهامه بالمسألة عينها).
فليس للشيخ الكوثري في الجرح بالمعتقد منهج واحـد مطرد، فإنه مرة يجرح به، ومرة لا يعبأ به، ومن ذلك مثلاً قوله في الحارث الأعور
( وفـي أسوأ حـال أنه- يريد خـلاس ابـن عمرو- عن الحارث الأعور، دعنا من نحلة الحارث، لكن ليس بقليل بين النقاد من يعول على رواية الحارث).
فانظر، أيقبل هــذا؟ وهـو -فـي الـوقـت نفسه- يطعن فـي أبي مسهر الــذي اتـفـق الائـمـة على توثيقه؟ ومــع هــذا فـإنه يـقـدح فـي الـحـارث في موضع آخـر، يقول: (ومـا أورده المصنف بهذا المعنى في هذا الباب بلفظ «قد جاوزت لكم عـن صدقة الخيل والرقيق» أن ضـيـق دلالـة، وفي سنده الحارث الأعور، والكلام فيه معروف).
وأن حـسـب أن هـذا كله من فيض التعصب، ولا يليق به هذا المسلك.
المبحث التاسع: اتهام بعض الحفاظ بتهم لا أصل لها:
كمثل طعنه فـي الـحـمـيـدي شـيـخ الـبـخـاري وتكذيبه - وإن كان في غير الحديث،- وقد زعم أن محمد بن عبد الحكم كذبه كذلك، ذكر هذا في أكثر من موضع في التأنيب، فمن ذلك قوله: (والحميدي كذبه محمد بن عبد الحكم في كلامه في الناس، راجـع طبقات السبكي، وهـو شـديـد التعصب وقّــاع مـضـطـرب) قال: هـذا تعقيباً على الخطيب فـي إخـــراج خبر من طريقه- الحميدي- في ذم أبي حنيفة، بل أسوأ من هذا تأكيده على كذبه في قوله: (والحميدي الذي رماه محمد بن عبد الحكم بالكذب في محادثاته في الناس، وقد جربنا عليه ذلـك).
وقال أيضاً: (والحميدي هو الذي أفسد ما بين الشافعية بمصر، وكذبه محمد بن عبد الحكم في محادثاته بين الناس، وأنا واثقه من وثقه في حـديـث الــرســول صلى الله عليه وسلم، وعنده مـن التعصب ما يحار فيه اللبيب).
وقال: (بل كذبه محمد بن عـبـد الـحـكـم فــي كـلامـه وإن كـــان مـوثـقـا في الـحـديـث)، وقــال: (ولــو أنـه كـان روايــة ابن عيينة لكان الناس استغنوا عنه وعن حديثه لبذاءة لسانه وتعصبه الشديد)، وهـذه المواضع التي تكلّم فيها الكوثري في الحميدي كان بسبب روايات رواها في مثالب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله- ولا مستند له في ذلك سوى ما اقتبسه عن محمد بن عبد الحكم.
وقد رد المعلمي زعم الكوثري، وبين حقيقة قصة محمد بن عبد الحكم مع الحميدي من طبقات السبكي التي نقل منها الكوثري، والقصة كما جـاءت في الطبقات، قـال السبكي: (..قال ابن خزيمة فيما رواه الحاكم عن الحافظ حسينك التميمي عنه: كـان ابـن عبد الحكم مــن أصـــحـــاب الــشــافــعــي، فـوقـعـت بـيـنـي وبـيـن البويطي وحشة في مرض الشافعي، فحدثني أبو جعفر السكري صديق الربيع، قال: لما مرض ّ الشافعي، جاء ابن عبد الحكم ينازع البويطي في مجلس الشافعي، فقال البويطي: إننا أحق به منك. فجاء الحميدي وكـان بمصر، فقال: قـال الشافعي: ليس أحد بأحق بمجلسي من البويطي، وليس أحـد من أصحابي أعلم منه، فـقـال لـه ابــن عـبـد الـحـكـم: كـذبـت. فـقـال له الحميدي: كذبت أنت وأبوك وأمك. وغضب ابــن عبــد الـحـكـم، فـتـرك مـذهـب الـشـافـعـي).
فحدثني ابن عبد الحكم قال: كان الحميدي معي في الـدار نحواً من سنة، وأعطاني كتاب ابن عيينة، ثم أبا إلآ أن يوقعوا بيننا ما وقع).
فهذا من الشيخ الكوثري من سـوء الاقتباس والتصرف، وقد علم الأستاذ الكوثري -بلا ريب- أن مثل هذا الكلام في الحميدي لا يلتفت إليه بسبب هذه النفرة التي وقعت بينهما)، وكلاهما كــذب الآخـــر، بـل اعـتـرف ابـن عبد الحكم أن ناساً أن وقعوا بينهما، والجرح وإن ثبت عن قائله لا يعبأون به لهذا السبب.
ثــم كـيـف يــفــرق الــكــوثــري بـيـن مــن يـكـذب فــي حــديـث الــنــاس ومــن يكــــذب فـي حـديـث الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث رد روايته، وكيف فاته هذا وهو معلوم من علم الجرح والتعديل بالضرورة؟
أمــا قـولـه: (وقــد جـربـنـا عليه ذلــك) فـهـو من أعـجـب الـجـرح، وهـو جـرح مـرسـل باللاسلكي كـمـا يسميه الــغــمــاري، إذ كـيـف جـــرب عليه الكذب بعد كل هـذه الـقـرن؟! قـال الغماري: (وكذب والله، ما جرب عليه إلا نقلة الأخبار في هفوات أنبي حنيفة وسقطاته، التي تابع الحميدي عليها كبار الأئمة: مالك والثوري وابن عيينة وابن مهدي، وابن المبارك ووكيع وأن محـمـد بن حنبل وأكثر الحفاظ في عصره وما قاربه).
ولا يـحـتـاج إلـى تـكـلّـف نـقـل كــلام الائـمـة الحفاظ المزكين للحميدي، فهو أشهر من نار على علم، ولا ُيسأنل عنه، إذ أجمعوا على إمامته سوى الكوثري الذي جرب عليه الكذب.
المبحث العاشر: إطلاق صيغ الجرح مفسرة وغير مفسرة بما لا يوجد في كلام الأئمة ولا عليه بيّــنة
تكلّم الأسـتـاد الكوثري ٍ في رواة منهم بعض الصحابة بكلام لم يسبق إليه، ولم يتورع في رميهم بما لا يليق، واستعمل معهم عبارات في الجرح لم يسبق أن ّ ليها، قـال الغماري: (بـل اجترأ على صحابة رسـول الله صلى الله عليه وسلم، فجرهم إلى الميدان، وأدخلهم تحت مطرقة نقده وحشرهم في زمرة ّ الضعفاء والمجروحين الذين يرد بهم الحديث، في خرق إجماع أهل الحق من المسلمين، وابتكر طريقاً لم يجترئ عليه إلا غلاة المبتدعين).
قــال- أي الــكــوثــري:- (وأمــــا حـديـث الرضخ فما روي عن أنس بطريق هشام بن زيد وأبي قلابة عنعنة، وفيه القتل بقول المقتول من غير بينة، وهذا غير معروف في الشرع. وفي رواية قتادة عن أنس إقرار القاتل، لكن عنعنة قتادة متكلم فيها.
وقد انفرد برواية الرضخ أنـس رضي الله عنه في عهد هرمه، كـانـفـراده بـ روايـة شـرب أبــوال الإبـل في روايـة قتادة، وبحكاية معاقبة العرنيين تلك العقوبة الحجاج الظالم المشهور، حينما سأله عن أشد عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى استاء الحسن البصري مـن ذلــك، وقــال لما بلغه أنه حدثه بحديث العرنيين: وددت أنه لم يحدثه.
حــديــث الـعـرنـيـيـن بـمـا لــم يـخـرجـه مــالــك في موطئه، ومن رآني أبي حنيفة أن الصحابة رضي الـلـه عنهم مـع كونهم عـدولاً ليسوا بمعصومين من مثل قلّة الضبط الناشئة من الأمية أو كبر الســن..).
وكــأن الأسـتـاذ الكوثري أخـذ هذا مما حكاه أبو شامة عن محمد بن الحسن عن أبـي حنيفة: (أنقل جميع الصحابة ولا يستجيز خلافهم إلا ثلاثة نفر؛ أنس بن مالك وأبو هريرة وسـمـرة بـن جـنـدب، فقيل لـه فـي ذلــك؟ فقال: إنما أنس فاختلط في آخر عمره، وكان يفتي من عقله، وأننا لا أقلّد عقله. وأن ّما أبو هريرة فكان يروي كل ما سمع من غير أن يتأمل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ والمنسوخ).
وهذا النقل عن أبـي شامة اعتمده- أيضاً- أبو رية في كتابه «أضواء على السنُّة»، ورد المعلمي والغماري عليه، وأوسع الغماري في الرد وبالغ أكثر من المعلمي.
قال الغماري: (هذا هو أحد من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده مـن الـنـار»، وخدمه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فلم تنفعه خدمته، ولا عادت عليه بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم- يريد دعائه له طول العمر كما في البخاري- فأصبح في نظرك مـن الزمنى والـكـذابـيـن الـذيـن لا يصح قولهم، ولا يقبل تفردهم مع خرقك أنجماع أهل الحق فـي ذلــك… ثـم بعد هـذا نـسـأنلـك: مـن حدثك أن أنساً رضي الله عنه خرف وهرم؛ فأنا أتخذت ذلك من تعميره ما يقرب من المائة، فهل كل معمر يعتريه الهرم، فكم من معمر زاد سنُّه عن أنــس بالثلاثين والعشرين فما خـوف ولا هرم، بل بقيت قـوة محفوظة وذاكرته قوية، وهـو من مطلق الـنـاس لا ممن دعـا لهم رســول الـلـه صلى الله عليه وسلم بطول العمر… بل تزعم أنـت والـغـلاة من قبلك أن أن أبا حنيفة أدرك أننا وسمع منه، وروى عنه حديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» وما أدريه أبو حنيفة إلا في سن الشيخوخة، أو أواخر عمره، ولا سمع منه هذا السماع المزعوم أنا في وقـت ذلـك الهرم الموهوم. ثم ما يغنيك شبابه وفيه علة أخــرى توجب عندك رد حديثه وهـي الأمية التي كانت وصفاً لـه طـول حياته، فجميع حديثه مردود، فكيف تحتج بالكثير منه؟
فهل طرق سمع مسلم أعجب من هذا؟ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ترد عليه لأمية أصحابه… ثم أّي دخل للأمية في نقل قصة شاهدها أنس بعينه، قد تحكيها العجائز من نساء الشركس فلا يخطئن منها حرفاً، ويخطئ فيها أنس صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! … فما هـذا أن لا تلاعب بالدين، وهـرب من الحجة الناصعة، والدليل القاطع المقبول، ورد مجرد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، فتارة تلجأن إلى الإسناد في أنه إذا لم تجد منفذا خرقت الإجماع، وطعنت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..).
أما المعلمي فرد هذا النقل ولم يرتض ذلك؛ فقال: (أبو شامة من علماء الشافعية في القرن السابع، بينه وبين محمد بن الحسن عدة قرون، ولا ندري من أين أخذ هذا، وقد احتاج العلامة الكوثري في رسالته «الترحيب» ص ٢٣ إلى هذه الحكاية، ومع سعة اطلاعه على كتب أصحابه الحنفية وغيرهم لم يجد لها مصدراً أنها مصدر أبي رية هـذا. وحكاية مثل هذه عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة لا توجد في كتب الحنفية أي قيمة لها؟).
والـحـاصـل مــن هــذا أن الــكــوثــري طـعـن في أحاديث أنس التي ذكرها لأميته وهرمه، اغتراراً بذاك النقل عن أبي شامة، وهذه مجازفة وتجاوز للحد، قال الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في رده على الشيخ الكوثري هذا التوجه: (وثالثة الأثافي طعنه على أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد فقهاء الصحابة وحفاظهم بالخرف والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنمية بسبب الكبر والشيخوخة وطول العمر الذي أعطاه الله أنه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بثلاث منها: طول العمر، فهل استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس الهرم ويخرف ويكذب على رسـول الله صلى الله عليه وسلم أنـه رض رأس اليهودي قاتل الجارية الأنصارية برض رأسها فقتله من غير بينة؟)..
وكذلك غمز ابن عباس حبر هذه الأمـة وابن عم رسـول الله صلى الله عليه وسلم حيث نسب إليه فعل التقية مع معاوية رضي الله عنهما، قـال في «النكتالطريفة» عـن الحديث الذي خرجه أبي شيبة عن عطاء، قال: أوتر معاوية بركعة، فأنكر ذلك عليه، فسئل عنه ابن عباس، فقال: أصاب السنة- ما نصه: فلو صح عن ابن عباس هذا لحمل على التقية، لأنه كان حاربه تحت راية علي كرم الله وجهه فلا مانع من أن يحسب حسابه في مجالسه العامة دون مجلسه الخاص»
قال الغماري: (فانظر إلى هذا المجرم القليل الــديــن، يستهين بصاحب رســول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، وينسب إليه ما لا يرضاه لنفسه مسلم أبـيٌّ غيور على دينه، ولم يـراع فيه حرمة الـصـحـبـة، ولا حـرمـة الــقــرابــة، ولا جـلالـتـه في العلم، ولا مكانته في الورع والتقوى، كل ذلك من أجل أبي حنيفة حتى لا يسقط له قول، ولا يرد له رأني، ولهذا قلنا: أنه على استعداد تام لأن يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا شافه يخطئ أبا حنيفة… وهكذا اتّهم في قضية أخرى جملة من الصحاب والتابعين باعترافه، ونسب إلى أبي هريرة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يقل… كالحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يمنع أحدكم أخاه أن يضع خشبة على جداره» ثم قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينَّ بها بين أكتافكم، والحديث في الصحيحين.
ونقرأ كذلك ما قاله في «نكته الطريفة» في حديث أبي هريرة وعمران بن حصين، (وحديث أبي هريرة فيه اضطراب كثير، إنما أسلم عام خيبر، وكذا عمران بن حصين، فلا يكون حديثهما هنا إلا مرسلاً، لتقدم حيث الخرباق على ذلك بمدة كبيرة، فلا يمكن أن يحضر هذا ولا ذلك تلك الصلاة لوفاة الخرباق في غزوة بـدر)؛ فهكذا يــرد مـرسـل هـذيـن الصحابيين فـي هــذا الخبر، لكنه يقبله فـي مـواضـع أنخـــرى بـل يـذكـر - قبل هـذا الـذي قــال-أن مرسل الصحابي حجة عند الجميع، وهذا من التناقض الذي وقع له في كثير من المواضع، وما ذلك إلا ّ لفرض التعصب، بل وجدناه يحتج ببلاغ محمد بن الحسن ويعده صحيحاً كما جاء في نكته، ذكر عن محمد بن الحسن في الموطأ أنه قال: (بلغنا عن عمر بن الخطاب أنه كتب في الإنفاق ينهاهم أن يجمعوا بين الصلاتين، ويخبرهم أن الجمع فـي وقت واحد كبيرة من الكبائر، أخبرنا بذلك الثقات عن العلاء بن الحارث عن مكحول..» ثم حكم عليهّ – الكوثري - بالصحة).
وأشار الغماري إلى أن سبب قبول هذا البلاغ - وغيره- مع ضعفه كونه. من رواية محمد بن الحسن ليس ورد كذلك سنَُّة الأشعار لبدن الهدي برواية ابن عباس وعائشة والمسور بن مخرمة، قال في «نكته:» (ولــم يـرو حديث الإشعـار إلا شرذمة قليلون؛ رواه ابـن عـبـاس ولـفـظ حديثه على ما ذكـرنـاه، ورواه المسور بن مخرمة، وفـي حديثه ذكــر الاشــعــار مـن غـيـر تـعـرض للصيغة، ثـم إن المسور وإن لم ننكر فضله وفقهه في أنه ولد بعد الهجرة بسنتين، وروته عائشة).
وعلّق أحمد بـن الـصـديـق عـلـى هــذه الـمـجـازفـة بـقـولـه (أني، وروايتهم غير كافية ولا مقبولة، فخبرهم مردود، فلا يكون حجة على أبـي حنيفة، ولا يصح أن يرمى معه بمخالفة السنُّة)؛ فهذه جملة يسيرة فـي بيان منهج الكوثري في التعامل مع رواة الأخبار والآ ثــار، والحق أن الحديث فيه يطول لـو تتبّعت كـل مـا كتبه في كتبه الـمـذكـورة أول هـذا البحث.
وفـي الأخير نخلص إلى القول بأن الأستاذ الكوثري - بالرغم من تحامله على طائفة من أهل الحديث وتجريح أئمة كبار بلا حجة، إلا بدافع التعصب لأبي حنيفة ومذهبه، وما كتبه يدل على ذلك - فهو واحد من العلماء الإعـلام، وقليل من يدانيه في عصره، ويشهد المعلمي نفسه بعلمه؛ إذ قال: (فإنني قد وقفت على كتاب «تأنيب الخطيب» للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري).
ولكن ما من كبير إلا سقط في بعض علمه، كما قال الإمام ابن قتيبة: (ولا نعلم أن أحدا من أهل العلم والأدب إلا قد سقط في علمه كالأصمعي وأبي عبيد وسيبويه والأخفش والكسائي والفراء وأبي عمرو الشيباني والأئمة من قراء القران والأئمة المفسرين، وقـد أخـذ الـنـاس على الـشـعـراء في الجاهلية والإسلام الخطأ في المعاني والإعراب وهم أهل اللغة وبه يقع الاحتجاج).
فرحم الله العلامة الكوثري وغفر لنا وله ولسائر المسلمين
الخاتمة
١-مــا يمكن اسـتـخـلاصـه مـمـا سـبـق أنّــــه لا اعتداد بالجرح الصادر عن التعصب والمنافرة، وليس يقبل من أحد- كائناً من كان.
٢-خطورة الكلام في الرواة من غير بيّنة وبرهان، فإن «أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام» كما قال الإمام ابن دقيق العيد، ولا تتزحزح عدالة الراوي ولا ترفع -إذا ثبت- أن لا أمر بيّـن ودليل صحيح.
٣-وقفنا البحث على أن من جـرح الثقة أو وثّـق الضعيف تعصباً، إنـمـا أراد - بالقصد المائل- زعزعة السنُّة وحجيتها، وانتهاك قدسيتها ومصدريتهم، ذلــك أن الأحــكــام المترتبة على جـرح الثقة أو توثيق الضعيف أو تزكية المتروك نتائجها وخيمة على الشريعة.
٤-أكد لنا البحث كذلك أن التعصب بأي شكل من الأشكال مذموم عند المحدثين بل عـنـد كـل الـعـقـلاء، فـلا يليق بــأهـل الــمــروءات تعاطي هذا المسلك؛ لأن ذلك يشينهم وينقص من أقدارهم.
٥-نكــد لنا البحث أنــا لا أحــد معصوم من الزلل والخطأ، وأن كل واحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام.
٦-تبين أنه ليس كل جرح يعتبر به مهما صدر من أمــام، بل المنهجية تقتضي وجوب التثبت فيما يقال وينقل، ولا يليق التسرع في القبول أو الرد إحسانا للظن بالناقل.
٧- وأ مـــــر آخــــر بـيـــنـه الـبـحـث يـتـعـلـق كتاب تاريخ بغداد، فـإن للخطيب منهجاً كان ينبغي اعـتـبـاره حــال الـــرد عليه مـن الـشـيـخ الـكـوثـري، ذلك أنه ذكر أن إخبارا عن الإمـام أبي حنيفة فيها المناقب والمثالب على ما بلغه من النقلة، فلا يليق التحامل عليه في شخصه، بل ينبغي تفنيد الأخبار المشينة للإمام بالدليل والبرهان.
٨-وقــــفـنـا الـبـحـث -أيــضــاً- عـلـى أنه بسبب التعصب المذهبي قد يطعن في أئمة أجمع على إمامتهم وعلو مكانتهم، بل قد يتجاوز الطعن إلى بعض الصحابة إذا رووا ما يخالف مذهب المنتقد، كما سبق اتهام أنس بن مالك بالأمية والـهـرم، وابـن عباس بالتقية مع معاوية إذ وافقه في صلاة الوتر بركعة، وقــال: أنصــار السنة...- رضي الله عنهم جميعاً-
٩-تبين من خلال هذا البحث أسلوبان في الرد العلمي، أحدهما اتسم بالهدوء والاعتدال واللآخــر اتسم بنوع من القسوة والشدة، فالأول كان منهج الشيخ المعلمي، والثاني كان منهج الشيخ أحمد الغماري، الذي استعمل عبارات مشينة فـي حـق الشيخ الكوثري كمثل وصفه بالمجرم القليل الدين، وعدو السنة.... ولا شك أن المنهج النقدي في البحث العلمي يجب أن يكون بأدب وتجرد وموضوعية بعيدا عن الذاتية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق