أثر طمأنينة القلب وريبته في الأحكام الشرعية
د. سلمان بن نصر الداية
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ القلب هو بيتُ الإخلاص، والحارس على النيّات، وقد جعل الشارع للقلب أحكامه الخاصَّة به، التي يثبت بها الإيمان، ويرسخ بها اليقين، ويقوى الاعتقاد، وجعل له مدداً من الأذكار الشرعية التي تحوطه من وسوسة الشيطان، وتحول بينه وبين التمادي في الغفلة، كما أن له تأثيراً على العقل في إمداده بالهدايات الدينية، وحمايته من السير في متاهات أهل الضلال، وحمله على سلوك الصراط المستقيم والسير فيها، حيث تسطع الفطرة في أجلى مظاهرها، وأول عهدها.
ويأتي هذا البحث النفيس للإجابة عن السؤال التالي: (هل للقلب اعتبار في تقرير الأحكام الشرعية أو منعها، أم أن شأنه فيها الفهم والإدراك فقط وليس أكثر؟)، وذكر الباحث ثلاثة مذاهب في هذه القضية، اثنين على طرفي نقيض، وثالثٌ متوسط، وهي:
المذهب الأول: أن طمأنينة القلب لها اعتبار في إنشاء الأحكام الشرعية مُطلقاً، وهو قول أكثر المتصوفة، ومعتمد أهل البدع.
المذهب الثاني: أن طمأنينة القلب لا اعتبار لها مطلقاً في الأحكام الشرعية، لأنه استحسان بطريق العقل، أو تمسُّك بالهوى.
المذهب الثالث: وهو قول الجمهور، وهو اعتبار طمأنينة القلب في طائفة من الأحكام الشرعية: "غـير" ذات النص، ولا المعنى الناشئ عن الـنص:كدلالـة الإشـارة، ودلالـة الاقتضاء، ودلالة المفهوم بقسميه: الموافق والمخالف، ولا الأحكـام الناشئة عن أدلة التشريع التي رعتها النصوص على الجملة: كسدّ الذريعة، والمصلحة، المرسلة والعرف، وغيرها. وما سوى ذلك فيمكن للقلب أن يفصل فيها بإثبات أو بنفي.
وإليه ذهب كثير من العلماء، منهم الطبري، والكيا الهراسي ، والغزالي ، وفخر الدين الرازي ، والآمدي ، وابن رجب، والمناوي، وغيرهم، وهو مذهب أكابر الصحابة، والتابعين.
وأما عمدة أصحاب القول الأول، فهو حديث:
(استفت قلبك، البر ما أطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).
وحديث: (البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمأن إليه القلب، ولو أفتاك المفتون).
وأجاب عليها أصحاب القول الثاني من وجهين:
أحدهما: أن الأحاديث التي ذُكِرت وما في موضوعها ضعيفة؛ إذ لو صحت لكان ذلك إبطالاً لأمره بالعمل بالكتاب والسنة؛ لأن أحكام الله ورسوله لم تثبت بما استحدثته النفوس، وبما استقبحته.
ولكن هذا الاعتراض غير صحيح، لأن الأحاديث صحيحة عند علماء الحديث والأثر، وقد تلقاها السلف بالقبول، بل قد تأيدت بآثار من الصحابة تؤذن بقبولهم لها، كما ورد عن ابن مسعود، وبشير بن كعب، وعمر، وابن عمر، وأبي الدرداء، وغيرهم.
والثاني: أنه لا يجوز العمل بها لا في مورد النصوص، ولا في المسائل التي لا نص فيها، واختلفت فيها الأمة؛ أما في مورد النص فظاهر البطلان وأما في غير مورد النص فباطل –أيضاً- لأمور ثلاثة:
(١) أن كل ما نُصَّ عليه بخصوصه قد قامت على حكمه دلالة، فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلاً معتبراً لم يكن لنصب الدلالة الشرعية عليه فائدة، فيكون عبثاً، والعبث مدفوع في الشريعة.
(٢) أن الله تعالى قال: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول}، وهو أمر صريح بالرجوع عند التنازع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب، لا سيما مع وجود أهل الذكر الراسخين الذين يفتون عن علمٍ وخشية.
(٣) أن الله تعالى قال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وهو صريح في مسألة أهل الذكر عند جهالة حكم المسائل، فلو كان يجوز حسمها بفتيا القلب لكان سؤال أهل الذكر عبثاً، والعبث مدفوعٌ كما أسلفنا.
ويُمكن أن يُجاب على أصحاب هذا القول، بأن: عدم اعتبار طمأنينة القلب بالكلية يقضي بتعطيل الأحاديث والآثار السابق ذكرها في المسألة، فَتعين عندنا القول باعتبارها، ولا تعد هذه الطمأنينة قسماً ثالثاً منفصلاً أو زائداً على الكتاب والسنة، بل هو ضمن ما يدعو إليه الكتاب والسنة؛ وذلك أن االله تعالى هو الذي قال: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}. وهو الذي قال: {ويجعل لكم نوراً تمشون به}.
كذلك: فإنه لا يُصار إلى تعطيل الخبرين (الآية والحديث) إلا عند تعذر الجمع بينهما وبين الآية، وليس بمتعذر، فتعين المصير إليه، وقد ذكر العلماء في ذلك تأويل للجمع بينهما:
أحدهما: أن يكون المفتي لا على كفاءة، ولم يوثق بعلمه ودينه، فإن المستفتي يعود إلى ما حاك في صدره.
الثاني: وإنما تكون فتوى العالم على نحو ما يسمع، أو على ما يرى من ظاهر الأمر، ولو كان ثمة ما يخفَى لو رآه لأثَّر في الفتوى، وكان المستفتي يعلم ذلك، أو يشعر به، فلا يجوز له ألبتة أن يعتمد فتيا العالم، وليراع ما يطمئن إليه قلبه، أو تسكن إليه نفسه؛ لحديث: (إنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم ألحن بحجته من أخته، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار).
واستدلَّ أصحاب القول الثالث (وهم الجمهور):
بأنه يعمل بطمأنينة القلوب في طائفة من مسائل الاشتباه الذي يحصل في المباحات، لا فيما يشتبه أمره بين الحظر والإباحة، فإنه يترك تمسكاً بالنصوص، وأن طمأنينة القلب، وانشراح الصدر معتبر، لكن لا في جميع أبواب الفقه، إذ لا يمكن إعمال ذلك في تشريع الأعمال، وإِحداث التعبدات، فلا يقال: إذا أطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو مشروع، ولا يقال: استفت قلبك في إحداث هذا العمل.
فإن انعدم من يفتيك في قضيَّةٍ ما من أهل الذكر، وقد اطمأن إليه قلبك فَقَبِلْته، أو ارتاب له واضطرب فأنكرته وتركته، فإنه معتبر شرعاً لاعتبار الشارع لأصله الذي أنتجه، وأعني بذلك اعتبار الشارع طمأنينة القلب في بناء أحكام من هذا القبيل فتأمله فإنه دقيق.
موضوعات هذا البحث:
مقدمة، وفيها: أهمية القلب، ورتبته من البدن.
المبحث الأول: في طمأنينة القلب وريبته والألفاظ ذات الصلة، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: الطمأنينة والألفاظ ذات الصلة ، وفيه خمسة فروع :
الفرع الأول: الطمأنينة في اللغة والاصطلاح .
الفرع الثاني : السكينة في اللغة والاصطلاح .
الفرع الثالث: الفرق بين الطمأنينة والسكينة .
الفرع الرابع: التحديث في اللغة والاصطلاح .
الفرع الخامس: الفرق بين الطمأنينة والتحديث .
المطلب الثاني: الريبة والألفاظ ذات الصلة ، وفيه ثلاثة فروع :
الفرع الأول: الريبة في اللغة والاصطلاح .
الفرع الثاني: الحيكة في القلب لغةً واصطلاحاً.
الفرع الثالث : الفرق بين الريبة والحي
المبحث الثاني في أثر طمأنينة القلب وريبته في بناء الأحكام الشرعية، يذكر فيها مذاهب الخلاف في اعتبار طمأنينة القلب، بدءاً بأضعفها وانتهاءً بأقواها، وفيه ثلاث مطالب:
المطلب الأول: في المذهب الأول وأدلته .
المطلب الثاني: في المذهب الثاني وأدلته .
المطلب الثالث: في المذهب الثالث وأدلته
* وخلاصة ما جاء في هذا البحث، هو:
(١) أن الله تعالى رعى مصالح الأنام بالوحيين، حيث أقامهما أصولاً تستوعب جميع الفروع والمسائل لتمنحها أحكاماً شرعية عادلة.
(٢) إن الشريعة قد منحت القلب حظاً من القضايا محددة السبيل ليحسم أمرها بإقدام أو إحجام، وأعطتها قدسية الحكم الشرعي.
(٣) منعت الشريعة القلب من الافتئات على مسائل النصوص، وكذا التي ترجع إلى النصوص من أنواع المفهوم والإجماع، والقياس ومصادر التشريع الأخرى التي اعتمد العلماء.
(٤) لا يصار في المسائل بطمأنينة القلوب أو ريبتها إلا عند غياب دليل الشرع والعالم الراسخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق