التحقيق الرضي في معنى قول الأئمة
(إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي)
للشيخ محمود عاموه
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ اتفق الأئمة الفقهاء على اعتبار السُّنة النبوية المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله عز وجل، وقدَّموا العمل بالحديث الصحيح على الرأي والقياس، لا سيما إذا اعتضد الحديث بأصولهم وقواعدهم المعمول بها، ولم يكن مُعارضاً بتأويل، أو توجيه، أو تضعيف، أو نسخ، ونحو ذلك.
وقد ثبت عن الإمام المطلبي قوله: (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي)، وهو مقتضى كلام الأئمة جميعهم، وثبت عنهم: (إذا صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ يُخالف قولي، فأنا راجعٌ عن قولي بذلك الحديث)، بل قد ثبت نهي بعضهم عن التقليد، فقال: (لا يحلُّ لأحدٍ أن يُفتي بقولنا، حتى يعلم من أين أخذنا).
ولا شكَّ أن نسبة القول بالحديث إلى إمامٍ من الأئمة، يحتاج إلى أهليةٍ للنظر، ودرجةٍ عالية من الاجتهاد والفقه، وضبطٍ لقواعد المذهب وأصول الإمام، ومعرفة تامة بقواعد الاستنباط وضوابط الترجيح، وإذا حققنا ذلك وجدنا هذه المسائل قليلةً جداً بالنسبة لمسائل المذهب وفروعه المختلفة، ويختلف ذلك بحسب أصول المذهب في التعامل مع الأحاديث النبوية الشريفة.
واشترط بعض شروطاً صعبة، تكاد تكون مستحيلة في زماننا هذا، بحيث أوقع نفسه في الحرج، فبعضهم يشترط للعمل بالحديث: أن يقع ذلك ممن له الاجتهاد المطلق، الذي استقرأ نصوص الشريعة كلها، واشترط بعضهم أن يوافق الحديث قولاً في المذهب غير معمولٍ به، بخلاف ما إذا كان العمل بالحديث خارجٌ عن فروع المذهب أصلاً، ولا شك أن هذه الشروط مبنيَّةٌ على المشقة الشديدة والحرج، وديننا مبنيٌّ على التيسير ورفع الحرج، على أننا ندعو إلى ضبط العمل بالحديث وفق قواعد أهل العلم المعتبرة، وأصول الإمام صاحب المذهب، وهذا أمرٌ ممكن غيرُ مُتعسِّر.
وقد غلا بعض المُقلدة (الحرفيين) في فهم عبارات الأئمة، فادَّعى بعضهم أن هذا الأمر يقتصر على فئة مُعيَّنة من المجتهدين، في الطبقة العليا الذين يندر وجودهم في الأزمان المتأخرة، حتى أغلق كثيرٌ منهم باب الاجتهاد، وزعم أنه لا يسع أحداً من العلماء أن يجتهد في مسألةٍ ما، أو يفتي بما ترجَّح له من الحديث في قضيَّةٍ ما، بناءً على توهمه من انقضاء القسمة العقلية داخل المذهب.
وفي المقابل أفرط بعض المتسيبين في استعمال هذه العبارة، فلم يُراعي قواعد الأئمة، ولا ضوابط أهل العلم التي لا يسع أحداً مُخالفتها، وأتاح هذا الأمر لكل عاميٍّ غير مشتغلٍ بالعلوم الشرعية، أو جعل الأمر سيان؛ فيعمل كل إنسانٍ بما شاء، ويتخير ما شاء.
ولا شك أن التوسُّط هو المحمود في هذه القضية بين طريقة المتشددين، وبين طريقة المتسيبين، وذلك بأن يُحقق الباحث مذاهب العلماء، ويتتبع أقوال أهل العلم، وتخريجاتهم، ويبني حكمه الأخير في المسألة على ما توصلوا إليه، لأن حمل الشيء على ظاهره دائماً غير محمود النتيجة، وصحة الحديث لا يوجب العمل به بمجرده؛ لأن الحديث ربما كان له تأويلٌ مُعيَّن، أو دليلٌ آخر يُخصصه، أو ينسخه، أو أوجب ترك العمل به، ونحو ذلك.
ويمكن وضع معايير نسبية لصحة الاجتهاد والنظر، التي يصلح معها نسبة القول بالحديث إلى إمام المذهب، وهي:
أولاً: -بلوغ رتبة النظر المُعبَّر عنها بالاجتهاد (وهو أمرٌ نسبيّ)، والتي تشمل المشتغلين بعلوم الشريعة، ولو في مذهب إمامٍ خاص، أو حتى في المسألة المنظور فيها، وعلى هذا المعنى اتفقت عبارات الأئمة المتقدمين والمتأخرين.
ثانياً: -أن يغلب على ظن الباحث أن الإمام لم يقف على هذا الحديث، وأنه لو اطَّلع عليه لقال به.
ثالثاً: -وأن يسلم الحديث من المعارض والناسخ والمخصص، ونحو ذلك من التوجيهات.
وهذا الشروط حتى تتوافر تحتاج من الباحث إلى وقتٍ كبير في تتبع واستقراء عبارات الأئمة وكلامهم.لذلك كان من حسنات عصرنا تشكيل ما اصطلح الناس على تسميته بـ(المجامع الفقهية) أو (دور الإفتاء)، أو (لجان الإفتاء) التي تصدر عنها الفتاوى الفقهية في القضايا المعاصرة، وأعني بذلك غير المتأثرة بالدوافع السياسية، أو الفتاوى الشاذة الصادرة من بعض الشخصيات اللامسؤولة، والتي تُخالف أصول الدين ومعالم الشريعة.
ومجال البحث في هذه القضية هي أحاديث الأحكام غالباً والتي تمثل (٥%) من مجمل الأحاديث الورادة في السُّنة النبوية عموماً، والتي تشمل المغازي والسير، والتوحيد، والرقائق، والآداب، والتفسير، والشمائل، والقصص.. الخ. ذلك أن الأحاديث المدوَّنة مثلت تقريباً (٦٠ ألف حديث)، منها (ألفا) حديثٍ في الأحكام.
وقد أجمع العلماء على جواز التقليد، وهو الأخذ بقول الغير من غير معرفة دليله معرفةً تامة؛ إذ لو كانت معرفتنا له تامة لصرنا مجتهدين، وحرم علينا التقليد، وقال بعض العلماء بوجوب التقليد لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد.
وهذا كتاب يشرح فيه مؤلفه عبارة الإمام المطلبي (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي) وتكلم فيه عن ثبوت هذه العبارة عن الأئمة، وذكر من رواها عنهم؛ وبين من له الحق في نسبة القول بالحديث إلى إمام المذهب، [وهو من علم كتاب الله عز وجل نصاً واستنباطاً]. وذكر شرح التقي السُّبكي لعبارة الإمام المطلبي في مصنفٍ خاص، وأن العلماء ذكروها في معرض الثناء على الأئمة، وأنهم إنما أخذوا علومهم من الكتاب والسُّنة وفهم السلف، وبنوا أحكامهم على الأدلة الشرعية المعتبرة، وكان للمجتهد المستقل شروط، منها:
أن يكون عارفاً بالكتاب الكريم، وما فيه من آيات الأحكام.
أن يكون عارفاً بما يحتاج إليه من السنن المتصلة بالأحكام.
أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع؛ حتى لا يخرقه.
أن يكون عارفاً بالقياس، واقفاً على شروطه وأركانه، لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي، ومنه يتشعب الفقه.
أن يكون عرافاً بطرق الاستدلال، والنظر، وشروط البراهين والحدود، وكيفية تركيب المقدمات.
أن يكون عارفاً بلسان العرب، وموضوع خطابهم لغةً، ونحواً، وتصريفاً.
أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ.
أن يكون عارفاً بأحوال الرواة قوةً وضعفاً، بحيث يتمكن من تمييز الصحيح من الضعيف والمقبول من المردود.
أن يكون عدلاً في نفسه، حتى يعتمد الناس على قوله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق