قدم العالم وتسلسل الحوادث
بين ابن تيمية والفلاسفة
الدكتورة كاملة الكوراني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الكتاب يناقش قضية عقلية دقيقة، حارت فيها عقول الفلاسفة، وزلت فيها أقدام المتكلمين، وافترى فيها الجُهَّال على أهل السُّنة، وهي مسألة (تسلسل الحوادث وقدم العالم)، وقد جلاها وفصلها وتعمَّق في معقولها ومنقولها، وكشف عن كلياتها وجزئياتها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وبيَّن أن نوع المخلوقات "قديم" ويعني بذلك جواز استمرار المخلوقات في الأزل من غير انقطاع، وإن لم يكن شيءٌ من هذه المخلوقات "المُعيَّنة" قديماً، إذ لا بُدَّ أن تكون مسبوقةً بعدم، وبعبارةٍ أخرى: أن جنس العالم قديم، وأعيانه حادثة.
ويُمكن التعبير عن "القدم النوعي" بعبارة "حوادث لا أول لها"، وهي إمكانية الخلق قبل وجود أول مخلوق، وليس معنى لا أول لها: أنه لا أول لوجودها؛ لأن هذا يقتضي قدم أعيانها، ولكن معنى "لا أول لها" أنها لا تقف آحادها عند حدٍّ تنتهي إليه، وكل واحدٍ منها موجودٌ بعد العدم.
و "القدم النوعي" وأن الله سبحانه لم يسبق عليه زمن وهو ممنوع من الفعل قال به كثيرٌ من العلماء؛ كالفخر الرازي، والسراج الأررموي، وقبلهما أبو الثناء الأبهري -شيخ الأصفهاني، والدواني، وأقرَّه من المعاصرين: بخيت المطيعي، ومحمد عبده، وشرحه محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "أضواء البيان" بما لا مزيد عليه، وبه قال كثير من المتكلمين.
والذي قصده شيخ الإسلام من خلال هذا التقرير الرد على الفلاسفة، الذين قالوا بأزلية الفعل ودوامه وقدم العالم، وإثبات "إمكان تسلسل الحوادث"، وإبطال "امتناع تسلسل الحوادث" وإثبات الصفات الاختيارية لله عز وجل، وأن القول بالمنع هو منع اتصاف الله عز وجل بالصفات الفعلية.
والقديم والأزلي لفظٌ مُجملٌ، وله معنيان:
الأول: القدم بمعنى الذي لم يسبقه عدم كذات الله وصفاته اللازمة له عيناً؛ كالحياة والعلم والسمع والبصر.
الثاني: القدم بمعنى "النوع المتوالي المستمر"، الذي يأتي بعضه على إثر بعض، سواء في فعل الله أو مفعوله؛ فيكون "فعله" قديماً و "مفعوله" قديماً بهذا الاعتبار، ولكن "عين" الفعل مسبوقٌ بالعدم، كما أن "عين" المفعول مسبوقٌ بالعدم؛ فليس شيءٌ منها بعينه قديم.
وبهذين المعنين نكون قد وفينا بدليل العقل على إمكان تسلسل حوادث لا أول لها في الأزل، ولم نخالف أدلة الشرع التي تثبت أن الله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، ومن اهتدى في هذا الباب إلى الفرق بين "النوع" و "العين" تبيَّن له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال والكلام والخطاب.
وذكرت الباحثة أصل هذه المسألة، ومُراد ابن تيمية بها، وذكرت بعض من لم يفهم كلام ابن تيمية على وجهه، وبعض من اضطرب في فهم كلامه: ما بين نافٍ ومتأول، وذكرت أيضاً في المبحث الرابع نقولاً مستفيضة عن ابن تيمية في إنكاره قدم العالم، وبينت الفرق بين قوله وقول الفلاسفة، الذين يقولون: قدم العالم مُستندٌ إلى قدم الله تعالى، وقول الفلاسفة بضرورة ملازمة العلة "المؤثر" لمعلوله ا"الأثر"، وضرورة "التسلسل في العلل" أو الفاعلين أو المؤثرين، وهو ما منعه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وبين أن ذلك يوجب أن لا يحدث شيءٌ من العالم منفصلٌ عن علته، وهو أمرٌ يُخالف الحس والعقل والشرع. وختمت الكتاب بالمبحث الخامس، وفيه شرح أبيات نونية ابن القيم لمحمد خليل هراس؛ ليكون مراجعةً لما سبق من مباحث الكتاب.
وينبغي أن يُعلم أن أساس هذه المسألة، والمدخل لتصورها، وفهمها على حقيقتها، هو:
هل يقال بدوام فاعلية الرب وأنه لم يزل فاعلاً؛ ولم يأت يوم وهو معطل عن الفعل أم لا؟
(أ) فمن قال بذلك، كان قائلاً بـ"القدم النوعي" أو "وجوب تسلسل الحوادث"، أي: أفعال الرب، ومن ثمَّ "إمكان تسلسل الحوادث" أي المخلوقات والآثار، بمعنى إمكان استمرار حدوثها. وهو قول أهل السنة، فقالوا: إن نوع الأفعال والمفعولات قديمةٌ النوع، حادثةُ الآحاد، وأن الله عز وجل يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد، وأن النوع المقدور لم يزل موجوداً شيئاً بعد شيء.
(ب) ومن نفى دوام فاعلية الرب قال بعدم التسلسل، وبينهم خلاف:
* فذهبت الجهمية إلى أن الفعل كان ممتنعاً عليه، ثم صار ممكناً بلا مُرجِّح، ولا سببٍ تجدد في الذات.
* وذهبت الأشعرية والكلابية إلى أن الفعل كان ممتنعاً منه، لا عليه، بمعنى أنه كان قادراً على الخلق ولكنه لم يخلق قبل هذا الخلق شيئاً، لأن المقدور كان ممتنعاً منه.
* وذهبت الكرامية إلى حلول الحوادث بالذات، لكن نوع الفعل لم يكن قديماً، وإنما هو حادثٌ تجدد بعد أن لم يكن، فكان ممتنعاً ثم صار ممكناً.
واتفق الفريقان الأولان أن الصفات الفعلية لا تقوم به، وإنما الفعل هو عين المفعول، والخلق هو عين المخلوق، وقولهم مستلزمٌ أن الله تعالى لا يقدر على فلٍ يقوم به، وأن المخلوق حدث بغير فعلٍ منه سبحانه؛ لأن المفعول يدل على قدرة الفاعل ولا بُد باللزوم العقلي، ويدل على فعله بالتضمن.
وقالوا (أي: الأشعرية والكلابية): لو قلنا: إن الصفات الفعلية تقوم به، للزم أن يكون جسماً، والأجسام حادثة طرداً للمقدمة الثانية (كل حادثٍ مخلوق)؛ وخلصوا إلى نتيجةٍ فاسدة، وهي: (ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث)، وهو المُسمى عندهم بـ(دليل الأعراض وحدوث الأجسام). وهو دليلٌ في غاية الفساد والضلال، ولهذا التزموا القول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة، وعلوه على عرشه، وغيرها من الصفات الاختيارية.
ودخل المتكلمون في مضيق آخر، وهو قولهم: ((كل ما قارن الحادث فهو حادث))؛ فاضطروا إلى نفي الأفعال الاختيارية عن الله عز وجل، فراراً من القول بحلول الحوادث به جل وعلا، وقالوا: إن صفة الخلق لم تقم بالخالق عند خلقه، وإنما وُجد المخلوق منفصلاً عنه، من غير صفةٍ قامت بخالقه، ولا علةٍ اقتضت وجوده، فجعلوا مفعوله هو فعله، وهذا خلاف الكتاب والسنة، وخلاف المعقول الصريح.
وذلك ليس خاصاً بصفة الخلق، بل بالأفعال عموماً، فقال المتكلمون ((والفعل هو المفعول)) من غير أن يتعلق شيء من ذلك بالله جل وعز، لنفيهم حلول الحوادث بذاته، أي قيام الصفات الاختيارية به؛ فأثبتوا خالقاً لا خلق به، وهذا ممتنعٌ في بدائه العقول.
ويقولون: الذي أوجب تخصيص الحوادث بالحدوث هي الإرادة القديمة الأزلية، التي خصصت الحادث بالحدوث دون غيره. وإنما قالوا "أزلية" لئلا يقوم بالله شيءٌ يكونُ مُراداً، فالإرادة عندهم على نعتٍ واحد، وهي تتقدم على المراد تقدماً لا أول له، ووجود الحوادث لا سبب له عندهم.
وهذا المذهب الذي ذكرناه، هو قول طائفة الجهمية، وأكثر المعتزلة، وسائر الأشعرية، كأبي الحسن الأشعري، ومن وافقه من أصحابه؛ كأبي المعالي وغيرهم.
وما اتفق عليه المتكلمون هو: حدوث العالم، ومنع دوام الحوادث في الماضي، و نفي حلول الحوادث بالله وعنه تشعبت أقوالهم.
ولما سار الفريقين على غير طريق الوحي وعلى غير منهج القرآن دخلوا في متاهات لا أول لها ولا آخر،
ولا ينخدع العاقل عندما يتحدث الجهلاء ويصفون كبار المتكلمين بأنهم جهابذة الحكماء، أو هرامسة الدهور! فما أدخل الأمة في جحر الضب إلا هؤلاء وأشباههم.
* أهمية البحث:
(1) بيان دوام فاعلية الرب سبحانه وتعالى، وأنه لا يلزم من ذلك قدم شيءٍ مع الله.
(2) بيان الفرق بين قول ابن تيمية والفلاسفة في أن الفلاسفة لا يقولون بأن الشيء الحادث مسبوق بالعدم، خلاف ابن تيمية الذي يقول بأن الحادث مسبوقٌ بعدم، ويُكفر من لا يقوم بذلك.
(3) نقض المقدمات التي قررها المخالفون ونقد المصطلحات التي تركبت منها (مثل الأزل، الزمان، الجسم، الحادث، الجوهر، العرض، التسلسل الخ.
(4) إثبات قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى نقلاً وعقلاً واتصافه جل شأنه بكل صفات الكمال المطلق.
(5) إظهار الفرق بين إثبات قدم نوع الحوادث وإثبات قدم أعيانها وبيان أن قدم نوع الحوادث هو مقتضى إثبات الفعل والإرادة والكلام لله تعالى أزلاً بل هو مقتضى الحياة لأن كل حي فاعل بحسب ما يليق به من أنواع الفعل والله تعالى حي قيوم لا أول لذلك باتفاق المسلمين فلزم إثبات فعله أزلاً.
أهم النتائج التي ينبثق عن هذا البحث:
أولاً: التسلسل لفظ مجمل، لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته، وأقسامه ثلاثة: (واجبٌ) وهو في أفعال الرب سبحانه، وأن الله عز وجل لم يكن معطلاً عن نوع الفعل. و(جائزٌ) وهو في مفعولاته وأن الله عز وجل يُحدث المخلوقات شيئاً بعد شيء، و(ممتنع) وهو في المؤثرين أو الفاعلين: بأن يكون للحادث فاعلٌ وللفاعل فاعلٌ؛ فهذا ممتنعٌ باطلٌ، وهو قول الفلاسفة.
ثانيا:ً أن يقال لمن يقول إن الله تعالى خلق شيئاً هو أول مخلوقاته بإطلاق: أيجوز أن يخلق الله قبله شيئاً أو يمتنع؟ فإن قال يجوز فهذه هي المسألة فقد أجاز حوادث لا أول لها، وإن قال لا يجوز فقد قال بغير علم وعطل الباري عن صفاته وسقط في هوة التجهم.
ثالثاً: أنه يمكن للعقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث كما يتصور أنه ما من حادث إلا وبعده حادث، وبالتمثيل نقول: ما من عدد إلا وبعده عدد وهو يعلم أن كل حادث فله أول وكل منقضٍ فله آخر، وكل عدد فله حد ومنتهى وإن لم يكن لجنس العدد حدٌّ ومنتهى.
ثالثاً: أنه لا مشابهة بين القول "بتسلسل الحوادث" وقول الفلاسفة الدهرية؛ لأن المراد بالتسلسل عندهم هو عدم الحد، أو عدم الأولية للخلق، ولكن المراد به عندنا هو استمرار الحوادث مع عدم إمكان الحصر، وقد توهم الفلاسفة أن المفعول المعين لا بُدَّ أن يُقارن الفاعل أزلاً وأبداً، وهذا يُخالف صريح العقل في أنه لا بُد أن يتقدم الفاعل على فعله.
رابعاً: أن القدم النوعي يمكن التعبير عنه (بدوام الخالقية) هو تسلسل الحوادث أو المفعولات والآثار إلى غير بداية من غير أن يكون هناك مخلوقٌ قديمٌ بعينه، وأن الله عز وجل يفعل الشيء بعد الشيء، لم يكن شيءٌ من مفعولاته قديماً، ولم يكن موجباً بذاته في الأزل.
خامساً: أن المتكلمين بالنسبة لنفي "تسلسل الحوادث في الأزل" فهم أهل تراخي وتعطيل، والفلاسفة أهل مُقارنةٍ وشرك، وأهل الحديث هم أهل التسلسل والتوحيد، وأما الجهمية فهم أهل العدم والتعطيل؛ لأنهم يمنعون حوادث لا آخر لها.
سادساً: أن قدم النوع هو إثبات ممكن شيئاً بعد شيء، وهو أمرٌ ممكن في الوجود، بحيث إذا ضُم الحادث المعين إلى الحادث المُعين حصل من الامتداد وبقاء النوع ما لم يكن حاصلاً للأفراد، ولعيه لا يلوم من حدوث الأفراد حدوث النوع.
سابعاً: أن الفعل من الله عز وجل لم يزل ممكناً لأنه قادرٌ عليه، ولم يزل واقعاً لأنه غيرُ ممتنع منه، أو لأنه متصفٌ به. وأن التسلسل في الآثار "المفعولات" ممكنٌ؛ لأنه لا محذور في التزامه، ولا يلزم من القدم النوعي للمخلوقات أنها لم تزل معه سبحانه؛ فإنه عز وجل متقدم على كل فردٍ من أفراد مخلوقاته تقدماً لا أول له، فكلُّ مخلوقٍ له أول، والخالق سبحانه لا أول له.
ثامناً: أن التسلسل في الأفعال: إذا كان بمعنى ترتيب الفاعل فعله الأول على فعله الآخر، فهذا ثابت بل واجبٌ لله عز وجل، وهو قول السلف الذين يُسمون أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بإرادته حوادث. -وإذا كان المقصود التسلسل في العلل الفاعلة: بمعنى أن الخلق يفتقر إلى خلق، والخلق يفتقر إلى خلق، فهذا لا يكون فعلاً أصلاً، بل هو ممتنع، لأن وجود الشيء قبل وجوده ممتنع.
تاسعاً: ليس كل حادثٍ يكون مخلوقاً؛ لأن تسلسل الحوادث يدخل فيه تسلسل أفعال الرب، والتي قد يفهم البعض منها غلطاً أن المراد بها تسلسل المخلوقات فقط، مع أن الحوادث أعمُّ من المخلوقات، فليس كل حادثٍ مخلوقاً، وإن كان كلُّ مخلوقٍ حادثاً.
فالذي يستدل بكلام ابن تيمية بامتناع حوادث لا أول لها ووجوب تسلسل الحوادث على أنه يقصد في هذا الموضوع المخلوقات، فهو يستدل من كلامه بما هو أعمُّ منه، فالحادث عند ابن تيمية يشمل الصفات الاختيارية "الفعلية" القائمة بالذات الإلهية، ويشمل المخلوقات.
والصفات الاختيارية الفعلة عنده: صفات فعلية "لازمة"، وصفات فعلية "متعدية"، فالحادث عنده يشمل هذين النوعين، بالإضافة إلى المخلوقات، فإذا قلنا بامتناع حوادث لا أول لها قلنا بأن الله لا يتصف أزلاً بصفاته الفعليه وأنها بذلك تكون إما قديمة كما يقول الماتريدية، أو حادثة كما يقول الكرامية، وأنه اتصف بها فيما لا يزال، أو اتصف بها أزلاً، أو نقول: الفعل هو عين المفعول كما تقول الأشعرية والمعتزلة، فالقول بامتناع حوادث لا أول لها، أو القول بمنع تسلسل الحوادث قولٌ باطل؛ لأن الله عز وجل لم يزل متكلماً وفاعلاً ومُريداً، وهو قول السلف؛ فالسلف يرون تسلسل الحوادث بهذا المعنى، وأن هذا التسلس واجب لا بُد منه. لأن اثبات القدم النوعي للعالم يعني إثبات الصفات الفعلية لله عز وجل، وأما إن قلنا بعدم بامتناع تسلسل الحوادث كان لازمه أن حدوث العالم رجح بلا مُرجِّح "وهو باطل".