أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 28 يونيو 2021

قدم العالم وتسلسل الحوادث بين ابن تيمية والفلاسفة الدكتورة كاملة الكوراني بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

قدم العالم وتسلسل الحوادث

بين ابن تيمية والفلاسفة

الدكتورة كاملة الكوراني


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الكتاب يناقش قضية عقلية دقيقة، حارت فيها عقول الفلاسفة، وزلت فيها أقدام المتكلمين، وافترى فيها الجُهَّال على أهل السُّنة، وهي مسألة (تسلسل الحوادث وقدم العالم)، وقد جلاها وفصلها وتعمَّق في معقولها ومنقولها، وكشف عن كلياتها وجزئياتها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وبيَّن أن نوع المخلوقات "قديم" ويعني بذلك جواز استمرار المخلوقات في الأزل من غير انقطاع، وإن لم يكن شيءٌ من هذه المخلوقات "المُعيَّنة" قديماً، إذ لا بُدَّ أن تكون مسبوقةً بعدم، وبعبارةٍ أخرى: أن جنس العالم قديم، وأعيانه حادثة.

ويُمكن التعبير عن "القدم النوعي" بعبارة "حوادث لا أول لها"، وهي إمكانية الخلق قبل وجود أول مخلوق، وليس معنى لا أول لها: أنه لا أول لوجودها؛ لأن هذا يقتضي قدم أعيانها، ولكن معنى "لا أول لها" أنها لا تقف آحادها عند حدٍّ تنتهي إليه، وكل واحدٍ منها موجودٌ بعد العدم.

و "القدم النوعي" وأن الله سبحانه لم يسبق عليه زمن وهو ممنوع من الفعل قال به كثيرٌ من العلماء؛ كالفخر الرازي، والسراج الأررموي، وقبلهما أبو الثناء الأبهري -شيخ الأصفهاني، والدواني، وأقرَّه من المعاصرين: بخيت المطيعي، ومحمد عبده، وشرحه محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "أضواء البيان" بما لا مزيد عليه، وبه قال كثير من المتكلمين.

والذي قصده شيخ الإسلام من خلال هذا التقرير الرد على الفلاسفة، الذين قالوا بأزلية الفعل ودوامه وقدم العالم، وإثبات "إمكان تسلسل الحوادث"، وإبطال "امتناع تسلسل الحوادث" وإثبات الصفات الاختيارية لله عز وجل، وأن القول بالمنع هو منع اتصاف الله عز وجل بالصفات الفعلية.

والقديم والأزلي لفظٌ مُجملٌ، وله معنيان:

الأول: القدم بمعنى الذي لم يسبقه عدم كذات الله وصفاته اللازمة له عيناً؛ كالحياة والعلم والسمع والبصر.

الثاني: القدم بمعنى "النوع المتوالي المستمر"، الذي يأتي بعضه على إثر بعض، سواء في فعل الله أو مفعوله؛ فيكون "فعله" قديماً و "مفعوله" قديماً بهذا الاعتبار، ولكن "عين" الفعل مسبوقٌ بالعدم، كما أن "عين" المفعول مسبوقٌ بالعدم؛ فليس شيءٌ منها بعينه قديم.

وبهذين المعنين نكون قد وفينا بدليل العقل على إمكان تسلسل حوادث لا أول لها في الأزل، ولم نخالف أدلة الشرع التي تثبت أن الله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، ومن اهتدى في هذا الباب إلى الفرق بين "النوع" و "العين" تبيَّن له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال والكلام والخطاب.

وذكرت الباحثة أصل هذه المسألة، ومُراد ابن تيمية بها، وذكرت بعض من لم يفهم كلام ابن تيمية على وجهه، وبعض من اضطرب في فهم كلامه: ما بين نافٍ ومتأول، وذكرت أيضاً في المبحث الرابع نقولاً مستفيضة عن ابن تيمية في إنكاره قدم العالم، وبينت الفرق بين قوله وقول الفلاسفة، الذين يقولون: قدم العالم مُستندٌ إلى قدم الله تعالى، وقول الفلاسفة بضرورة ملازمة العلة "المؤثر" لمعلوله ا"الأثر"، وضرورة "التسلسل في العلل" أو الفاعلين أو المؤثرين، وهو ما منعه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وبين أن ذلك يوجب أن لا يحدث شيءٌ من العالم منفصلٌ عن علته، وهو أمرٌ يُخالف الحس والعقل والشرع. وختمت الكتاب بالمبحث الخامس، وفيه شرح أبيات نونية ابن القيم لمحمد خليل هراس؛ ليكون مراجعةً لما سبق من مباحث الكتاب. 

وينبغي أن يُعلم أن أساس هذه المسألة، والمدخل لتصورها، وفهمها على حقيقتها، هو

هل يقال بدوام فاعلية الرب وأنه لم يزل فاعلاً؛ ولم يأت يوم وهو معطل عن الفعل أم لا؟

(أ) فمن قال بذلك، كان قائلاً بـ"القدم النوعي" أو "وجوب تسلسل الحوادث"، أي: أفعال الرب، ومن ثمَّ "إمكان تسلسل الحوادث" أي المخلوقات والآثار، بمعنى إمكان استمرار حدوثها. وهو قول أهل السنة، فقالوا: إن نوع الأفعال والمفعولات قديمةٌ النوع، حادثةُ الآحاد، وأن الله عز وجل يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد، وأن النوع المقدور لم يزل موجوداً شيئاً بعد شيء.

(ب) ومن نفى دوام فاعلية الرب قال بعدم التسلسل، وبينهم خلاف:

* فذهبت الجهمية إلى أن الفعل كان ممتنعاً عليه، ثم صار ممكناً بلا مُرجِّح، ولا سببٍ تجدد في الذات.

* وذهبت الأشعرية والكلابية إلى أن الفعل كان ممتنعاً منه، لا عليه، بمعنى أنه كان قادراً على الخلق ولكنه لم يخلق قبل هذا الخلق شيئاً، لأن المقدور كان ممتنعاً منه.

* وذهبت الكرامية إلى حلول الحوادث بالذات، لكن نوع الفعل لم يكن قديماً، وإنما هو حادثٌ تجدد بعد أن لم يكن، فكان ممتنعاً ثم صار ممكناً.

واتفق الفريقان الأولان أن الصفات الفعلية لا تقوم به، وإنما الفعل هو عين المفعول، والخلق هو عين المخلوق، وقولهم مستلزمٌ أن الله تعالى لا يقدر على فلٍ يقوم به، وأن المخلوق حدث بغير فعلٍ منه سبحانه؛ لأن المفعول يدل على قدرة الفاعل ولا بُد باللزوم العقلي، ويدل على فعله بالتضمن.

وقالوا (أي: الأشعرية والكلابية): لو قلنا: إن الصفات الفعلية تقوم به، للزم أن يكون جسماً، والأجسام حادثة طرداً للمقدمة الثانية (كل حادثٍ مخلوق)؛ وخلصوا إلى نتيجةٍ فاسدة، وهي: (ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث)، وهو المُسمى عندهم بـ(دليل الأعراض وحدوث الأجسام). وهو دليلٌ في غاية الفساد والضلال، ولهذا التزموا القول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله في الآخرة، وعلوه على عرشه، وغيرها من الصفات الاختيارية.

ودخل المتكلمون في مضيق آخر، وهو قولهم: ((كل ما قارن الحادث فهو حادث))؛ فاضطروا إلى نفي الأفعال الاختيارية عن الله عز وجل، فراراً من القول بحلول الحوادث به جل وعلا، وقالوا: إن صفة الخلق لم تقم بالخالق عند خلقه، وإنما وُجد المخلوق منفصلاً عنه، من غير صفةٍ قامت بخالقه، ولا علةٍ اقتضت وجوده، فجعلوا مفعوله هو فعله، وهذا خلاف الكتاب والسنة، وخلاف المعقول الصريح.

وذلك ليس خاصاً بصفة الخلق، بل بالأفعال عموماً، فقال المتكلمون ((والفعل هو المفعول)) من غير أن يتعلق شيء من ذلك بالله جل وعز، لنفيهم حلول الحوادث بذاته، أي قيام الصفات الاختيارية به؛ فأثبتوا خالقاً لا خلق به، وهذا ممتنعٌ في بدائه العقول.

ويقولون: الذي أوجب تخصيص الحوادث بالحدوث هي الإرادة القديمة الأزلية، التي خصصت الحادث بالحدوث دون غيره. وإنما قالوا "أزلية" لئلا يقوم بالله شيءٌ يكونُ مُراداً، فالإرادة عندهم على نعتٍ واحد، وهي تتقدم على المراد تقدماً لا أول له، ووجود الحوادث لا سبب له عندهم.

وهذا المذهب الذي ذكرناه، هو قول طائفة الجهمية، وأكثر المعتزلة، وسائر الأشعرية، كأبي الحسن الأشعري، ومن وافقه من أصحابه؛ كأبي المعالي وغيرهم.

وما اتفق عليه المتكلمون هو: حدوث العالم، ومنع دوام الحوادث في الماضي، و نفي حلول الحوادث بالله وعنه تشعبت أقوالهم.

ولما سار الفريقين على غير طريق الوحي وعلى غير منهج القرآن دخلوا في متاهات لا أول لها ولا آخر، 

ولا ينخدع العاقل عندما يتحدث الجهلاء ويصفون كبار المتكلمين بأنهم جهابذة الحكماء، أو هرامسة الدهور! فما أدخل الأمة في جحر الضب إلا هؤلاء وأشباههم.

* أهمية البحث:

(1) بيان دوام فاعلية الرب سبحانه وتعالى، وأنه لا يلزم من ذلك قدم شيءٍ مع الله.

(2) بيان الفرق بين قول ابن تيمية والفلاسفة في أن الفلاسفة لا يقولون بأن الشيء الحادث مسبوق بالعدم، خلاف ابن تيمية الذي يقول بأن الحادث مسبوقٌ بعدم، ويُكفر من لا يقوم بذلك.

(3) نقض المقدمات التي قررها المخالفون ونقد المصطلحات التي تركبت منها (مثل الأزل، الزمان، الجسم، الحادث، الجوهر، العرض، التسلسل الخ.

(4) إثبات قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى نقلاً وعقلاً واتصافه جل شأنه بكل صفات الكمال المطلق.

(5) إظهار الفرق بين إثبات قدم نوع الحوادث وإثبات قدم أعيانها وبيان أن قدم نوع الحوادث هو مقتضى إثبات الفعل والإرادة والكلام لله تعالى أزلاً بل هو مقتضى الحياة لأن كل حي فاعل بحسب ما يليق به من أنواع الفعل والله تعالى حي قيوم لا أول لذلك باتفاق المسلمين فلزم إثبات فعله أزلاً. 

أهم النتائج التي ينبثق عن هذا البحث:

أولاً: التسلسل لفظ مجمل، لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته، وأقسامه ثلاثة: (واجبٌ) وهو في أفعال الرب سبحانه، وأن الله عز وجل لم يكن معطلاً عن نوع الفعل. و(جائزٌ) وهو في مفعولاته وأن الله عز وجل يُحدث المخلوقات شيئاً بعد شيء، و(ممتنع) وهو في المؤثرين أو الفاعلين: بأن يكون للحادث فاعلٌ وللفاعل فاعلٌ؛ فهذا ممتنعٌ باطلٌ، وهو قول الفلاسفة.

ثانيا:ً أن يقال لمن يقول إن الله تعالى خلق شيئاً هو أول مخلوقاته بإطلاق: أيجوز أن يخلق الله قبله شيئاً أو يمتنع؟ فإن قال يجوز فهذه هي المسألة فقد أجاز حوادث لا أول لها، وإن قال لا يجوز فقد قال بغير علم وعطل الباري عن صفاته وسقط في هوة التجهم.

ثالثاً: أنه يمكن للعقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث كما يتصور أنه ما من حادث إلا وبعده حادث، وبالتمثيل نقول: ما من عدد إلا وبعده عدد وهو يعلم أن كل حادث فله أول وكل منقضٍ فله آخر، وكل عدد فله حد ومنتهى وإن لم يكن لجنس العدد حدٌّ ومنتهى.

ثالثاً: أنه لا مشابهة بين القول "بتسلسل الحوادث" وقول الفلاسفة الدهرية؛ لأن المراد بالتسلسل عندهم هو عدم الحد، أو عدم الأولية للخلق، ولكن المراد به عندنا هو استمرار الحوادث مع عدم إمكان الحصر، وقد توهم الفلاسفة أن المفعول المعين لا بُدَّ أن يُقارن الفاعل أزلاً وأبداً، وهذا يُخالف صريح العقل في أنه لا بُد أن يتقدم الفاعل على فعله.

رابعاً: أن القدم النوعي يمكن التعبير عنه (بدوام الخالقية) هو تسلسل الحوادث أو المفعولات والآثار إلى غير بداية من غير أن يكون هناك مخلوقٌ قديمٌ بعينه، وأن الله عز وجل يفعل الشيء بعد الشيء، لم يكن شيءٌ من مفعولاته قديماً، ولم يكن موجباً بذاته في الأزل.

خامساً: أن المتكلمين بالنسبة لنفي "تسلسل الحوادث في الأزل" فهم أهل تراخي وتعطيل، والفلاسفة أهل مُقارنةٍ وشرك، وأهل الحديث هم أهل التسلسل والتوحيد، وأما الجهمية فهم أهل العدم والتعطيل؛ لأنهم يمنعون حوادث لا آخر لها.

سادساً: أن قدم النوع هو إثبات ممكن شيئاً بعد شيء، وهو أمرٌ ممكن في الوجود، بحيث إذا ضُم الحادث المعين إلى الحادث المُعين حصل من الامتداد وبقاء النوع ما لم يكن حاصلاً للأفراد، ولعيه لا يلوم من حدوث الأفراد حدوث النوع.

سابعاً: أن الفعل من الله عز وجل لم يزل ممكناً لأنه قادرٌ عليه، ولم يزل واقعاً لأنه غيرُ ممتنع منه، أو لأنه متصفٌ به. وأن التسلسل في الآثار "المفعولات" ممكنٌ؛ لأنه لا محذور في التزامه، ولا يلزم من القدم النوعي للمخلوقات أنها لم تزل معه سبحانه؛ فإنه عز وجل متقدم على كل فردٍ من أفراد مخلوقاته تقدماً لا أول له، فكلُّ مخلوقٍ له أول، والخالق سبحانه لا أول له.

ثامناً: أن التسلسل في الأفعال: إذا كان بمعنى ترتيب الفاعل فعله الأول على فعله الآخر، فهذا ثابت بل واجبٌ لله عز وجل، وهو قول السلف الذين يُسمون أفعال الله الاختيارية التي يفعلها بإرادته حوادث. -وإذا كان المقصود التسلسل في العلل الفاعلة: بمعنى أن الخلق يفتقر إلى خلق، والخلق يفتقر إلى خلق، فهذا لا يكون فعلاً أصلاً، بل هو ممتنع، لأن وجود الشيء قبل وجوده ممتنع.

تاسعاً: ليس كل حادثٍ يكون مخلوقاً؛ لأن تسلسل الحوادث يدخل فيه تسلسل أفعال الرب، والتي قد يفهم البعض منها غلطاً أن المراد بها تسلسل المخلوقات فقط، مع أن الحوادث أعمُّ من المخلوقات، فليس كل حادثٍ مخلوقاً، وإن كان كلُّ مخلوقٍ حادثاً.

 فالذي يستدل بكلام ابن تيمية بامتناع حوادث لا أول لها ووجوب تسلسل الحوادث على أنه يقصد في هذا الموضوع المخلوقات، فهو يستدل من كلامه بما هو أعمُّ منه، فالحادث عند ابن تيمية يشمل الصفات الاختيارية "الفعلية" القائمة بالذات الإلهية، ويشمل المخلوقات.

والصفات الاختيارية الفعلة عنده: صفات فعلية "لازمة"، وصفات فعلية "متعدية"، فالحادث عنده يشمل هذين النوعين، بالإضافة إلى المخلوقات، فإذا قلنا بامتناع حوادث لا أول لها قلنا بأن الله لا يتصف أزلاً بصفاته الفعليه وأنها بذلك تكون إما قديمة كما يقول الماتريدية، أو حادثة كما يقول الكرامية، وأنه اتصف بها فيما لا يزال، أو اتصف بها أزلاً، أو نقول: الفعل هو عين المفعول كما تقول الأشعرية والمعتزلة، فالقول بامتناع حوادث لا أول لها، أو القول بمنع تسلسل الحوادث قولٌ باطل؛ لأن الله عز وجل لم يزل متكلماً وفاعلاً ومُريداً، وهو قول السلف؛ فالسلف يرون تسلسل الحوادث بهذا المعنى، وأن هذا التسلس واجب لا بُد منه. لأن اثبات القدم النوعي للعالم يعني إثبات الصفات الفعلية لله عز وجل، وأما إن قلنا بعدم بامتناع تسلسل الحوادث كان لازمه أن حدوث العالم رجح بلا مُرجِّح "وهو باطل".



الأحد، 27 يونيو 2021

أيامٌ من حياتي "دروسٌ وعبر" د. وليد بن أحمد الحسين (1964 -). العراق - الكويت -السعودية

أيامٌ من حياتي "دروسٌ وعبر"

د. وليد بن أحمد الحسين

العراق - الكويت -السعودية

بقلم: أ.محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ كنتُ قرأتُ نبذةً جميلة عن الشيخ الدكتور وليد الحسين العراقي في إحدى الكتب قديماً، ولخصتُ ما فيها، وها أنا أنقله هنا.. نشأ الدكتور وليد بن أحمد بن صالح الحسين، والمعروف بأبي عبد الله التميمي في مدينة الزبير العراقية، وأهل الزبير هم أنصار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وكانت الظروف الدينية في العراق لا تسمح بوجود دروس تعليم أو حلقات علمية لأهل السُّنة، وكان موقف نظام البعث هو العداء التام للجماعات الدينية وملاحقة الشيوخ وتعذيبهم، وكان دائماً ما يُنكِّلُ بأهل السنة بالسجن والإعدام والقتل. وكل ذلك لعدم الانتماء إلى حزب البعث!

وكانت المرحلة الأولى بالنسبة للدكتور "الحسين" في العراق؛ حيث توفرت ثُلَّةٌ طيِّبةٌ من أهل العلم يوجهون الناس إلى تعلُّم القرآن والسُّنة، واتباع السَّلف الصالح، ونبذ الخرافات والبدع، ومن أئمة هذه المرحلة الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع، والشيخ هاشم حامد الرفاعي، والشيخ مصطفى أحمد الأسعد، والشيخ رعد عبد العزيز الذي يُعد من أعمدة الدعوة السلفية بالعراق، واستفاد منهم الدكتور وليد الحسين.

ثم جاءت المرحلة الثانية بعد المطاردة والملاحقة من قبل نظام البعث، حيث انتقل الدكتور وليد الى دولة الكويت وذلك في عام 1980 م ليلتحق ببيت أخواله وجدته، وعاش فيها قرابة الثلاث سنوات، والتحق بدعوة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وهو أحد مؤسسي الدعوة السلفية بالكويت، وكذلك الشيخ عبد الله السبت، والشيخ الدكتور عمر سليمان الأشقر وغيرهم، وغيرهم، ولكن لم تكن الكويت بيئة مناسبة للطلب ومزاحمة الركب؛ لأن المجالس العلمية قليلة ومتباعدة.

ثم جاءت المرحلة الثالثة من حياة الدكتور "الحسين" وهي طلب العلم في أرض الحرمين، التي تزخر بالعلماء والعلم، ومجالس الفقه والحديث، قرر الانتقال إليها، وتتلمذ على يد الشيخ العلامة الصالح محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله - في مسجده بعنيزة فلازمه ثلاث عشرة سنة، ودرس عليه الفقه وأصوله والعقيدة والحديث والنحو والبلاغة والتفسير وحفظ عليه زاد المستقنع في الفقه وكتاب التوحيد لشيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب والعقيدة السفارينية وبلوغ المرام وألفية ابن مالك في النحو. 

كما تتلمذ على مجموعة من العلماء مثل العلامة الحافظ عبد الله بن محمد الدويش، والشيخ علي الزامل، والشيخ عبد العزيز المساعد، وغيرهم. 

ثم واصل دراسته النظامية فالتحق بالمعهد العلمي في مدينة عنيزة بالقصيم فأكمل دراسته المتوسطة

ثم المرحلة الثانوية ثم التحق بجامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية فرع القصيم كلية اللغة العربية ثم تخرج منها عام 1994 م. 

وفي هذه الفترة أسس الشيخ وليد الحسين مجلة الحكمة، وهي مجلة بحثية علمية شرعية محكَّمة تعني بالبحوث والدراسات الاسلامية، وكا يُشارك فيها كبار الأئمة والعلماء، وكانت تصدر في كل أربعة أشهر الى العدد الواحد والعشرين، ثم أصبحت نصف سنوية وصدر منها ستة وثلاثون مجلداً، وهي مستمرة في صدورها الى يومنا هذا، وهي من أكثر مجلات البحوث الاسلامية انتشارا في العالم ومن أجودها طباعة كما أنها تتميز بمادتها العلمية الرصينة

ثم واصل دراسته الماجستير وكانت بعنوان ( درج الدرر في تفسير الآي والسور ـ للعلامة عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى 471 هـ تحقيق ودراسة لسورتي الفاتحة والبقرة) وبعد الانتهاء من الماجستير قرر إكمال تحقيق كتاب درج الدرر فأكمله الى آخر القرآن وطبع كامل الكتاب في أربع مجلدات. 

ثم واصل دراسته الدكتوراة وهي دراسة وتحقيق لكتاب ( الدرر السنية على شرح الألفية للعلامة زكريا بن يحيى الأنصاري المتوفى 926 هـ ) وهي  عبارة عن حاشية على شرح ابن الناظم في شرح ألفية ابن مالك في النحو والصرف.

وللدكتور وليد الحسين من الأعمال العلمية المطبوعة إسهامات كثيرة منها:

1 ـ منهج أبي عبيد في تفسير غريب الحديث (مجلد).

2 ـ عمدة الكًًًًًَتاب ـ يوسف بن عبد الله الزجاجي المتوفى 415 هـ ( مجلد)

3 ـ الكشف والتنبيه على الوصف والتشبيه ـ في علوم البلاغة ـ صلاح الدين الصفدي المتوفى 764 هـ ( مجلد)

4 ـ اليواقيت ـ أبو الفرج ابن الجوزي ـ المتوفى 597 هـ

5 ـ رؤوس القوارير ـ أبو الفرج ابن الجوزي

6 ـ ملتقط الحكايات ـ أبو الفرج ابن الجوزي

7 ـ عجيب الخطب ـ أبو الفرج ابن الجوزي

8 ـ الجامع للرسائل والأطاريح في الجامعات العراقية ـ شامل جميع التخصصات ( 17499 ) رسالة ماجستير ودكتوراة في كافة الجامعات العراقية  - (مجلد)

9 ـ الجامع للرسائل والأطاريح في الجامعات السورية ـ شامل جميع التخصصات للماجستير والدكتوراة في الجامعات السورية والطلاب السوريين خارج سوريا - (مجلد)

10 ـ موسوعة الحافظ ابن حجر العسقلاني الحديثية ـ تشمل أحكام الحافظ ابن حجر على الأحاديث في ستة وستين مؤلف من مؤلفاته المطبوعة - (ستة مجلدات)

11 ـ الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والنحو واللغة من القرن الأول الى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم - ( ثلاث مجلدات)

12 ـ الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله - (مجلد)

13 ـ الأحاديث التي حكم عليها شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في كتبه -( نشر في مجلة الحكمة العدد السادس عام 1416 هـ )

وغيرها.



الرد على الدكتور زكي مبارك وأحمد أمين في نفي نسبة كتاب (الأم) عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي تحقيق أحمد صقر

الرد على الدكتور زكي مبارك وأحمد أمين 

في نفي نسبة كتاب (الأم) عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي

تحقيق أحمد صقر

بقلم:  أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ من الشبه التي افتريت على الإمام الشافعي قديماً وحديثاً، هي أن الشافعي لم يؤلف كتاب الأم. وقد ألف الدكتور زكي مبارك كتاباً في ذلك جعل عنوانه:  «إصلاح أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي:
👈كتاب الأم لم يؤلفه الشافعي،
👈 وإنما ألفه البويطي،
👈 وتصرف فيه الربيع بن سليمان».

● وكان الذي هداه إلى تصحيح هذه الغلطة - كما يقول - كلمة قرأها في كتاب «الإحياء» للغزالي، يقول فيها: «وآثر البويطي الزهد والخمول، ولم يعجبه الجمع والجلوس في الحلقة، فاشتغل بالعبادة، وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع بن سليمان ويعرف به، وإنما صنفه البويطي، ولكن لم يذكر نفسه فيه، ولم ينسبه إلى نفسه فزاد الربيع فيه وتصرف» اهـ.

● وكلمة الغزالي- هذه - ليست من بنات فكره، ولا من ثمرات بحثه، وإنما نقلها نقلا عن كتاب «قوت القلوب»؛ لأبي طالب المكي، المتوفى سنة ٣٨٦ﮪ، فقد جاء في هذا الكتاب ٤/ ١٣٥: «وأخمل البويطي نفسه، واعتزل عن الناس بالبويطة -من سواد مصر- وصنف كتاب الأم الذي ينسب الآن إلى الربيع بن سليمان، ويعرف به، وإنما هو جمع البويطي، لم يذكر نفسه فيه، وأخرجه إلى الربيع فزاد فيه، وأظهره وسمعه منه» اهـ.

● وقد رجح الدكتور زكي مبارك أن الأم وضع بعد وفاة الشافعي، لأنه:
-  ليس له مقدمة توضح من وضعه (!!!).
- ولأنه لا تمضي فصوله على وتيرة واحدة،
ففي أحيان كثيرة تجري عبارة:
▫«قال الشافعي».
▫وفي بعض الأحيان: «حدثنا الربيع بن سليمان، قال: أخبرنا الشافعي - إملاء -».
▫وفي بعضها:  «سألت الشافعي فقال».
- وقد يأتي في الأم أحيانا عبارة:  «قال الشافعي كذا، فقلت له كذا (!)».
- وللربيع تعليقات كثيرة في التعقيب على كلام الشافعي (!).
- ويتفق المؤلف أحياناً أن يذكر المصدر الذي نقل عنه فيقول - مثلا (٧/ ١٤٦): «هذا مكتوب في كتاب الإيلاء» (!).

- كذلك عرض المؤلف في باب الوصايا لوصية الشافعي؛ وقوله: «هذا كتاب كتبه محمد بن إدريس الشافعي في شعبان سنة ثلاث ومائتين، وعنونه بعبارة: الوصية التي صدرت من الشافعي».

يقول زكي مبارك: وإذا تذكرنا أن الشافعي مات سنة أربع ومائتين، عرفنا أن كتاب وصيته أثبت (أكثر صدقا) في بيان نسبة الكتاب بعد وفاته (!).

● وجاء في كتاب الأم (٢/ ٩٣) ما نصه: «أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي بمصر سنة سبع ومائتين، قال: أخبرنا الشافعي»، فدل ذلك على أن الأم ليس من وضع الشافعي، وإنما هو من وضع تلميذه الربيع بن سليمان المرادي.

● يقول زكي مبارك: وكلمة «من سواد مصر» تدل على أن المؤلف كان مشغولا بجمع مواد الكتاب في مكان غير مصر - أعني غير العاصمة - وكلمة المكي والغزالي تعين أنه كان في بويط» (!!!).

* وقد وقع الدكتور هنا في خطأ طريف، غير الخطأ الأساسي في نفي الأم عن الشافعي، فكلمة «مصر» لا يراد بها العاصمة في هذا النص، لأن ذلك خطأ محض، وعاصمة مصر في تلك الحقبة من الزمان كانت «الفسطاط».

* ثم هي لا تدل على أن المؤلف كان مشغولا بجمع مواد كتابه في غير العاصمة، والمضحك حقاً أن يقول الدكتور: وكلمة المكي والغزالي تعين أنه كان في بويط!!.. والعبارة - كما جاءت في الأم - لا تدل على أكثر من أن راوي الكتاب عن الربيع،يقول: إن الربيع حدثه بمصر في تلك السنة، ولا مدخل للبويطي، ولا لجمعه مواد الكتاب، في هذا النص على الإطلاق.

ورحم الله الشافعي إذ يقول: «وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه، لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة له».

* وأما استدلاله بوجود وصية الشافعي في الأم على أنها أثبتت فيه بعد وفاة الشافعي - فغير مسلم له. ولست أدري كيف قال هذا وليس في النص ما يشير إليه من قريب أو بعيد. 

جاء في الأم ٤/ ٤٨ تحت عنوان:( الوصية التي صدرت من الشافعي): «قال الربيع بن سليمان: هذا كتاب كتبه محمد بن إدريس الشافعي، في شعبان سنة ثلاث ومائتين، وأشهد الله عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور - وكفى بالله ثناؤه شهيداً - ثم من سمعه: أنه شهد أن لا إله إلا الله. .» إلى آخر الوصية.

* وأكبر ظني أن أصل الكلام: قال الربيع بن سليمان: قال الشافعي: هذا كتاب كتبه.. الخ؛ لأن أول وصية للشافعي كلمة «هذا» .

ويؤيد ذلك ما رواه البيهقي في المناقب، عن الربيع أنه قال: قرئ على محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، وأنا حاضر: هذا كتاب. . الخ.

وهذا النص يدل على أن كتاب وصية الشافعي هو الذي قرئ عليه بحضور الربيع. 

* ومعلوم أن كتاب «الوصايا» الذي سجل الشافعي فيه وصيته لم يسمعه الربيع ولا غيره من الشافعي، في حين أنه كان مكتوبا كله بخط الشافعي. 

وآية ذلك قول الربيع، كما جاء في الأم ٤/ ١٨ :«كتبنا هذا الكتاب من نسخة الشافعي - من خطه بيده، ولم نسمعه منه».

وقول المزني في مختصره بهامش الأم ٣/ ١٥٩: «كتاب الوصايا مما وضعه الشافعي بخطه، لا أعلمه سمع منه».

* وكتاب الوصايا قد ألفه الشافعي في العام الذي توفى فيه، لأنه كتب وصيته في شعبان سنة ٢٠٣ ومات في شعبان ٢٠٤ هـ. 

* وما الذي يمنع عقلا من أن يكتب الشافعي وصيته في كتابه، حتى يقول الدكتور زكي مبارك: إنها أثبتت فيه بعد وفاة الشافعي، ليثبت بذلك أنه ليس من تأليف الشافعي؟!..

ولقد كتب الشافعي كتاب صدقته كذلك في العام التي توفى فيه. 

جاء في الأم ٦/ ١٧٩ تحت عنوان: «صدقة الشافعي»: هذا كتاب كتبه محمد بن إدريس الشافعي في صحة منه وجواز من أمره، وذلك في صفر سنة ثلاث ومائتين. . .»

* أما قول الدكتور: «إن المؤلف يذكر أحيانا المصدر الذي نقل عنه، فيقول مثلا ٧ / ١٤٦: وهذا مكتوب في كتاب الإيلاء»؛ فإنه خطأ محض من جهتين:
• الأولى: أن هذا القول المذكور في هذا الجزء، وفي هذه الصفحة ليس من كتاب الأم، وإنما هو من كتاب مستقل ألفه الشافعي، وهو «كتاب اختلاف العراقيين»؛ فالاستشهاد بهذا النص لا يصح.

• والجهة الثانية: أن المؤلف المزعوم أو الحقيقي لم يقصد من هذه العبارة وأمثالها ذكر المصدر الذي نقل عنه، وإنما قصد بيان الكتاب الذي فصل فيه القول في الموضوع الذي أجمل ذكره قبل هذه العبارة.

* ولننظر كيف قال المؤلف العبارة التي مثل بها الدكتور: جاء في الأم ٧ / ١٤٦: «قال الشافعي، رحمه الله: وإذا حلف الرجل لا يطأ امرأته أربعة أشهر أو أقل - لم يقم عليه حكم الإيلاء يكون الزوج لا يمين عليه. وإذا لم يكن عليه يمين فليس عليه حكم الإيلاء. وهذا مكتوب في كتاب الإيلاء».

ويريد الشافعي بالعبارة الأخيرة أن يرشد قارئ كتابه (اختلاف العراقيين) إلى الكتاب الذي فصل فيه القول من كتب (الأم)، وهو كتاب "الإيلاء" الذي يقع في الجزء الخامس، والمسألة التي يعنيها فيه ص ٢٥٤.

وجاء في صفحة ١٤٦ أيضا هذا النص من كتاب (اختلاف العراقيين): «قال الشافعي، رحمه الله: وإذا ارتد الرجل عن الإسلام، فنكاح امرأته موقوف. فإن رجع إلى الإسلام قبل أن تنقضي عدتها - فهما على النكاح الأول. وإن انقضت عدتها قبل رجوعه إلى الإسلام - فقد بانت منه. والبينونة فسخ لا طلاق. وإن رجع إلى الإسلام فخطبها - لم يكن هذا طلاقا. وهذا مكتوب في كتاب المرتد». وكتاب المرتد من كتب (الأم)،  والمشار إليه في ٦ / ١٤٩ - ١٥٠.

* وقد أشار الشافعي في كتاب «اختلاف العراقيين» هذا إلى تسعة كتب من كتب (الأم)، نجتزئ منها بهاتين الإشارتين:
● قال في ص ١١٦ : «وقد كتبنا هذا في كتاب الأقضية».
● وقال في ص ١٢٣ : «وهذا مكتوب في كتاب العتق بحججه، إلا أنا وجدنا في هذا الكتاب زيادة حرف لم نسمع به في حججهم».

*** الرد على أحمد أمين: ونذر الدكتور «زكي مبارك» ونأتي إلى الدكتور «أحمد أمين»، الذي قال في كتابه (ضحى الإسلام)، ٢/ ٢٣٠:

«وقد ثار الخلاف حديثا في مصر: 👈 هل الأم كتاب ألفه الشافعي، أو ألفه البويطي؟، وأظن أنه لو حدد موضع النزاع في دقة، لكان الأمر أسهل حلاً؛ 👈 فليس يستطيع أحد أن يقول: إن ما بين دفتي الكتاب الذي بين أيدينا هو من تأليف الشافعي!، وأنه عكف على كتابته وتأليفه في هذا الموضع النهائي (!!!)..

وأهم دليل على ذلك أن مطلع كثير من الفصول: العبارة الآتية: «أخبرنا الربيع، قال: قال الشافعي»، وهي عبارة لا يمكن أن يكتبها الشافعي وهو يؤلف الكتاب (!!!) وفي ثنايا الكتاب نجد أخبارا بعدول الشافعي عن هذا الرأي. 

كأن يجى في سير الكلام ٣/ ٢٣: «قال الربيع: قد رجع الشافعي عن خيار الرؤية، وقال: لا يجوز خيار الرؤية». قال: ومحال أن تصدر من الشافعي هذه العبارة وأمثالها. كما لا يستطيع أحد أن ينكر أن في (الأم) مذهب الشافعي بقوله وعبارته، فالظاهر أنها أمال أملاها الشافعي في حلقته، كتبها عنه تلاميذه، وأدخلوا عليها تعليقات من عندهم، واختلفت روايتهم بعض الاختلاف. والذي بين أيدينا منها رواية الربيع المرادي، عن الشافعي».

* يقول المحقق: ماذا أقول في نقض هذا الكلام المدخول، الذي تزور عنه العقول؟،ولست أدري كيف طوعت للدكتور نفسه أن يقول: إنه لا يستطيع أحد أن يقول إن «الأم» من تأليف الشافعي؛ لأن في مطالع فصوله عبارة لا يمكن أن تخطها يمين الشافعي أثناء تأليفه له، وهي عبارة: «أخبرنا الربيع، قال: قال الشافعي»، ولأنه تتردد في ثناياه عبارة أخرى، محال أن تصدر من الشافعي وهي عبارة: «قال الربيع»!!!..

* ولست أرتاب في أن «أهم دليل» لدى الدكتور لا يقبله من له أدني إلمام بالكتب القديمة، وطريقة الأقدمين في روايتها، وكل من قرأ فيها يعلم علم اليقين أن وجود عبارة «أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي» في أول الكتاب أو في داخله مرة أو مرات - دليل ناصع على أنه من تأليف الشافعي، وأن هذه النسبة قد ازدادت وثاقة ومتانة برواية الربيع عن الشافعي، ثم برواية تلميذ الربيع عن الربيع. ثم برواية تلميذ التلميذ. إن وجدت، وهكذا إلى آخر سلسلة رواة الكتاب عن مؤلفه. وهي أوثق طرق التوثيق، والتأكد من نسبة الكتاب المروي إلى من وضعه عن مؤلفه. وهي أوثق طرق التوثيق والتأكد من نسبة الكتاب المروى إلى من وضعه.

* وهذه من الحقائق الأولية والمسائل البسيطة التي لا تخفى على أبسط القراء، فمن العجب العجاب أن تكون سببا للارتياب في الكتاب، ودليلاً على نفيه عن مؤلفه؛ لأنه «لا يمكن أن يكتبها الشافعي وهو يؤلف الكتاب»!!!..

* ولو اتخذنا هذا الدليل الهام عند الدكتورين: زكي مبارك وأحمد أمين، وجعلناه معيارا في نظرنا إلى الكتب العربية في القرون الأولى لنفينا أكثرها عن أصحابها.

* ولو نظرنا كذلك في ضوء هذا الدليل إلى سائر كتب الشافعي التي أفردها عن مجموعة «الأم» لقلنا: إنها ليست من مؤلفات الشافعي»، ولنأخذ منها مثالاً واحدا وهو كتاب:

👈 «اختلاف الحديث» وهو كتاب كتبه الشافعي، وجعل له مقدمة طويلة، وقد سجل فيه أنه من تأليفه وكتابه، ومما قاله: «وقد وصفت في كتابي هذا - المواضع التي غلط فيها بعض من عجل بالكلام في العلم قبل خبرته» .

ومنها: «فحكيت ما كتبت في صدر كتابي هذا ...». 

ومنها: «وقد اختصرت من تمثيل ما يدل الكتاب على أنه نزل من الأحكام عاما أريد به العام. وكتبته في كتاب غير هذا. . وكتبت في هذا الكتاب مما نزل عام الظاهر، ما دل الكتاب على أن الله أراد به الخاص. .».

وإذا نظرنا في أوائل أبواب «اختلاف الحديث»، رأينا أكثرها قد بدئ بعبارة: «حدثنا الربيع. . .».  وباقيها القليل قد بدئ بعبارة «حدثنا الشافعي» أو «قال الشافعي»..

* فهل ننفي هذا الكتاب عن الشافعي، أو نتبع سبيل العلم ونقول: إنه من تأليفه، ومن رواية الربيع عنه، ونبحث عن الراوي الأول الذي قال: حدثنا الربيع»؟؛ لنعلم أنه «أبو بكر: أحمد بن عبد الله السجستاني» تلميذ الربيع.

وما أكثر تلاميذ الربيع من أهل المشرق والمغرب الذين شدوا رحالهم إلى مصر - وليست العاصمة - ليرووا عنه كتب الشافعي الذي قال له: «أنت راوية كتبي»، 

* وقد لبث الربيع بعد موت الشافعي ستا وستين سنة يدرس كتب الشافعي، ويمليها على تلاميذه، ويعقب على بعض أقوال الشافعي بما يعن له أثناء الإملاء.، والطلاب من حوله يكتبون كل ما يقول من قول الشافعي، ومن قول نفسه في التعقيب على بعض قول الشافعي. 

وهذا هو التفسير الصحيح لوجود: «قال الربيع» في ثنايا كتب الشافعي. 

ومنها عبارة «قال الربيع: قد رجع الشافعي عن خيار الرؤية، وقال لا يجوز خيار الرؤية»، التي نقلها الدكتور أحمد أمين، وعقب عليها بقوله:«ومحال أن تصدر من الشافعي هذه العبارة وأمثالها».

* وهل قال أحد ممن يثبتون الكتاب للشافعي: إن «حدثنا الربيع» في مطالع فصوله، و «قال الربيع» في ثناياه مما خطته يد الشافعي في الأم حتى يقول الدكتور: إنه من غير الممكن أن يكتب الجملة الأولى، وهو يؤلف الكتاب، ومن المحال أن تصدر عنه كذلك الجملة الثانية، ثم يتخذ من هذه وتلك دليلا بالغ الأهمية على أن الشافعي لم يؤلف كتاب الأم؟!..

* ومن قبل ذلك يقول في ثقة مطلقة وجرأة بالغة: ليس يستطيع أحد أن يقول إن الشافعي قد عكف على كتابة الأم، وألفه في هذا الوضع النهائي، لا لشيء إلا؛ لأن في أوائل الكلام: «حدثنا الربيع» وفي خلاله: «قال الربيع»!!..

* ولو قد قرأ الدكتور كتاب (الأم) حقا؛ لألفى في أضوائه كثيرا من الأدلة
على أنه له، ومن وضعه، ولمنعته تلك الأدلة من تقليد الدكتور زكي مبارك، الذي تلقف كلمة الغزالي،التي نقلها - دون تعقل أو إدراك - عن أبي طالب المكي، ذلك الصوفي السالمي الذي شطح ونطح، وأخرج تلك الكلمة الخبيثة الخاملة التي قالها، عن خمول البويطي، وتأليفه (للأم)،ومنحه للربيع الذي سارع إلى نسبته له دون أن يردعه عن ذلك الفعل الشائن رادع من حياء أو زاجر من ورع..

* وحاشا للربيع الثقة الأمين، ذي الدين الثخين والورع المكين - أن يقدم على ارتكاب تلك الحماقة التي تلوث شرفه، وتسمه بميسم الضعة والهوان.

* ومن الجدير بالذكر أن قول أبي طالب المكي وقول الغزالي - إن صح تسميته قولا - قد ظل رهين كتابيهما، لم ينقله أحد، ولم يعرض له عالم بتقريظ، أو توهين، إلى أن جاء الدكتور زكي مبارك؛فنفخ فيه من تمويهه وتلبيسه؛ حتى غر به أقواما فتبعوه وقلدوه، وفي مقدمتهم الدكتور أحمد أمين، والمستشرق بروكلمان.

* وكان من قدر الله لإظهار الحق المبين في هذه المسألة: أن البيهقي قد نقل في (مناقب الشافعي)، عن الربيع أنه قال: :إن الشافعي قد ألف بمصر، كتاب (الأم) في ألفي ورقة".

وهو قول عظيم يلقف ما صنع المنكرون، ويدحض أقوالهم ويمحق باطلهم الذي جاؤا به من عند أنفسهم بغيا بغير الحق، أو تقليدا دون حجة قاطعة، أو برهان ناهض.

وإني مورد نص البيهقي بسنده؛ ليكون القارئ على بينة من أمره. 

قال البيهقي ٣/ ٢٩١ : «قرأت في كتاب أبي الحسن العاصمي، رحمه الله،  عن الزبير بن عبد الواحد، قال: حدثني محمد بن سعيد، قال: حدثنا الفريابي - يعني أبا سعيد - قال: قال الربيع بن سليمان: "أقام الشافعي ها هنا أربع سنين، فأملى ألفا وخمسمائة ورقة وخرج كتاب «الأم» ألفي ورقة، وكتاب السنن، وأشياء كثيرة، كلها في أربع سنين».

وما أظن المنكرين وتابعيهم بغير إحسان يجادلون البيهقي فيما قرأ وروى أو يمارون الربيع فيما شهد ورأى. 

وأي شهادة أكبر عند العقلاء من شهادة الربيع بأن الشافعي هو الذي ألف كتاب (الأم) كله، وأنه سطره في ألفي ورقة؟.

ولقد أحسن البيهقي صنعاً في سرده لأسماء الكتب التي اشتمل عليها «الأم» ١/ ٥٤٧ - ٢٥٤، وصدر سرده بقوله: «ومن الكتب التي هي مصنفة في الفروع، وهي التي تعرف بالأم. . . .».

وتسمية البيهقي لأسماء «كتب الأم» لها خطرها وقدرها، ولا مناص من تصديقه فيما قال؛لأنه رجل جمع كتب الشافعي، وأنفق حياته في درسها وترتيبها وتصنيفها، والانتصار لحديثها، ونشرها بين الناس، واتخاذها أساسا لمصنفاته، حتى بالغ إمام الحرمين في قوله عنه: «ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة إلا البيهقي؛ فإن له على الشافعي منة؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه وأقواله». وهذا يضع الصواب في نصابه، ويرد الحق لصحابه،
انتهى.
____________________________

الخلاصة: مما سبق يتضح لنا أمورٌ منها:
١) بيان تدليس وتزوير، وضعف حجج الدكتورين زكي مبارك، وأحمد أمين في قضية نفي نسبة كتاب (الأم)؛ للإمام الشافعي.
٢) أن أحمد أمين نقل الفكرة عن زكي مبارك بلا تحقيق او تأمل، ونقل زكي مبارك عبارة الغزالي، التي قالها الصوفي المدلس أبو طالب المكي.
٣) وضوح كذب الصوفي أبو طالب المكي الذي زعم أن البويطي آثر الزهد والخمول، وصنف أثناء ذلك كتاب الأم، وتصرف فيه الربيع بن سليمان؛ فنسب إلى الربيع!.
٤) بيان أن حجج الدكتورين كانت أقرب إلى العبث، وتضييع الوقت، وما احسن قولهم: "وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه، لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة له".
٥) وأن قول الغزالي وأبي طالب المكي، قد ظل رهين كتابيهما، لم ينقله أحد، ولم يعرض له عالم بتقريظ، أو توهين، إلى أن جاء الدكتور زكي مبارك؛ فنفخ فيه من تمويهه وتلبيسه؛ حتى غر به أقواما فتبعوه وتقلدوه، وفي مقدمتهم الدكتور أحمد أمين.
...................................
انظر: مناقب الشافعي، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت: أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة- مصر، (ص ٣١- ٤٢).



الثلاثاء، 22 يونيو 2021

تفسير القرآن الكريم بالاستدلال بأقوال الصحابة والتابعين عند الإمام الشافعي

د. صبحي رشيد اليازجي

الجامعة الإسلامية-غزة

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ يعتبر الإمام الشافعي أحد أبرز أعلام أهل السنة والجماعة، وهو صاحب المذهب الفقهي المعروف، والمؤسس الأول لعلم أصول الفقه، وكان حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وكـان شجي الصوت عذب القراءة، يقول عن نفسه: "حفظتُ القرآن وما مرَّ بي حرف إلا وقـد علمـت المعنى فيه والمراد"، وكان إذا صلَّى الصبح جلس في حلقتـه فيأتيه أهل القرآن يدارسونه فقهه ومعانيه. 

وكان الشافعي قرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، عن شبل، عن ابن كثير، عن مجاهـد، عـن ابـن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا بحثٌ في بيان احتجاج الإمام الشافعي بقول الصحابة الذين هم أعلى فهماً، وقد عاصروا التنزيل، وحضروا الواقع، وعرفوا أسباب النزول.

فكان الإمام الشافعي يأخذ من قولهم في التفسير ما هو أشبه بالكتاب والسُّنة، وإلا فيأخذ بأقربهم للقياس، بشرط ألا يخالف قوله نصاً شرعياً. 

وكان يأخذ بقول الصحابة رضي الله عنهم في مذهبيه القديم والجديد، لا سيما مُقدَّميهم "أبو بكر وعمر وعثمان وعلي"، ويقلدهم ويقدم قولهم على القياس، ويعتبره المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة والإجماع.

والملاحظ أن الشافعي لا يعتبر ما يأخذه عن الصحابة من "السنة"، لأنه لا يعتبر السنة إلا ما جاء منسوباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليحكم بأن الصحابة إن أجمعوا على أمر يكـون إجماعهم حجة.

وإذا أردنا أن نجمل أقوال الشافعي الواردة في احتجاجه بأقوال الصحابة؛ فهي كما يلي:-

(1) إذا أجمعوا على قول، فإنه يعتبر قولهم حجة، ولا يخرج عن قولهم.

(2) فإذا لم يجمعوا، ووجد قول أحدهم، ولم يوجد ما يخالفه من كتاب أو سنة أو إجماع، اعتبره حجة وأخذ به.

(3) وأما إذا اختلفوا، فنراه ينظر إلى أقوال الأئمة الأربعة الراشدين رضي االله عنهم:

أ- فما كان من قول أحدهم دلالة من كتاب، أو سنة، أخذ به لوجود الدلالة.

ب – وإن لم يكن لأقوالهم دلالة من كتاب، أو سنة، أخذ بقول الأكثر.

ج- فإن تكافئوا نُظر في أحسن أقاويلهم مخرجاً عنده، فأخذ به، لذلك نراه يقول في حقهم: وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا.

وما سبق فيما كان مجاله الرأي، وأما إذا كان قول الصحابي في ما لا مجال للرأي فيه، كالأمور الغيبيـة، مثـل: الإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق، وقصص الأنبياء، وعن الفـتن والبعـث، وأسـباب النزول، أو تحديد ثواب يحصل من عمل ونحو ذلك فهذا له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب الأخذ به إذا صح في سنده، ولم يرد ما يخالفه من كتاب وسنة، أو قول صحابي آخر، ولم يكن معروفاً عنه أنه يأخذ عن أهل الكتاب؛ فيكون  حكم كلامه حكم الإسرائيليات.

وأما أخذ الشافعي بأقوال التابعين في التفسير فكان يأخذ بما أجمعوا عليه، وبما يوافق ظاهر القرآن استئناساً لا استشهاداً، وقد يردُّه إن تبيَّن ضعفه.

 وينقسم هذا البحث إلى ثلاثة مباحث، كما يلي:

في المبحث الأول عن الحيـاة شخصية الإمـام الشافعي، وحياته العلمية. 

ثم المبحث الثاني في نظرة الإمام إلى أقوال الصحابة في التفسير، وبيان رأيه في حجية قول الصحابي، واعتماده في معرفة سبب النزول على الصحابي.

أما المبحث الثالث فيه نظرة الإمام إلى أقوال التابعين في التفسير، ومدى احتجاجه بها.

أهم النتائج التي توصل إليها الباحث:

أولاً: التزام الإمام الشافعي بمنهج التفسير بالرجوع إلى القرآن والسنة وقول الصحابة والتابعين.

ثانياً: أن الإمام الشافعي جعل قول الصحابي فـي المرتبـة الثالثة، بعد القرآن والسنة النبوية.

ثالثاً: أن الشافعي لم يرَ الاحتجاج بقول التابعي، وإذا ذكره فإنما يذكره للاستئناس لا للاستشهاد.

رابعاً: أن الإمام الشافعي له قصب السبق في التفسير بالمأثور، وتأثر به غيره مـن أمثـال: محمد بن جرير الطبري إمام المفسرين.

خامساً: مخالفته لغيره من العلماء لم يمنعه من احترامه لهم، ونقله لآرائهم ومناقشتهم بالدليل.

سادساً: الرحلات العلمية تعتبر عاملاً مهماً من عوامل تكوين الشخصية العلمية، وفتح الآفـاق أمام العلماء.

سابعاً: أن الفقر لم يكن في يوم من الأيام عائقاً عن التعليم والاستفادة، فالفقر لم يمنع الشافعي من التنقل في طلب العلم.