أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 7 أغسطس 2023

مختصر نصيحة أهل الحديث تعليق وشرح: د. يوسف محمد صديق بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

مختصر نصيحة أهل الحديث

تعليق وشرح: د. يوسف محمد صديق

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: هذه صفحات نافعة وجيزة، اختصر فيها الشيخ يوسف صديق كتاب (نصيحة أهل الحديث) للإمام الحافظ الخطيب البغدادي، وزاد عليه في مواضع كثيرة تعليقات وشروحات ووفوائد، حتى أصبح أكثر دسامة وسمناً، وهو كتاب وضعه الإمام الخطيب لبيان أهمية طلب الحديث، وضرورة الجد والنشاط في طلبه، وشحذ الهمم في الرحلة فيه وسماعه، ويقع هذا المختصر في تسعة فصول، اشتملت على نفائس الفوائد، وفرائد القلائد، من كلام أهل العلم السابقين والمعاصرين.

ولم يضن الخطيب البغدادي بالنصح لطالب الحديث، خاصة في ترك الفضول من الكلام وتضييع الأوقات، ولطلبة العلم عامة، وقد ابتدأ كتابه بذكر نماذج من النصائح التي قدمها أولو الفضل من العلماء والصالحين للولاة والسلاطين والأمراء والقضاة.

ثم أتبع ذلك بذكر ألفاب المحدثين، وقصور همم بعض الناس عن إدراكها، وبين أن صاحب الحديث هو من تصدى لإسماعه، والإفادة فيه، أي: هو المنشغل في الحديث رواية ودراية، ويقضي وقته في الاطلاع على أحوال الرواة، وكتب الرجال، ومصنفات الحديث، وشروحاته.

ويذكر في كل فصل وباب ترجمة موجزة لبعض الرواة أو بعض من ينقل عنهم، ويذكر بعض أشعارهم الرائقة، وكلماتهم المؤثرة، وذكر طرائف مدهشة عن التعلم في الصغر، وإمكانه في الكبر.

ثم النظر في تفسير أثر عمر رضي الله عنه: (تفقهوا قبل أن تُسوَّدوا)، ثم قول أبي عُبيد: (الناس بخير ما أخذوا العلم عن الأكابر)، وبيان أن الأصاغر هم أهل البدع والأهواء، وأن من اشراط الساعة التماس العلم عند الأصاغر، وأن هلاك العلم بأخذه عن الأشرار.

وبين أن فقه الحديث مقدم على روايته المجردة، ودعا إلى التفكر والاستنباط وتفهم هذه الأحاديث المروية، وأن طالب العلم لا بد أن يتخلق بأخلاق العلم وأهله، والإقلال من الحديث كراهة الشهرة، وطباً للفهم، كما وضح أن التسرع في الفهم باب هلكة، وحذر من التصدر للتدريس بدون تأهل.

والكتاب في الجملة بحاجة إلى إعادة نظر وصياغة وترتيب، لكي يكون أكثر فائدة ونفعاً، ولعل الكتاب الأصل بتنسيقه وترتيبه أفضل من هذا المختصر، والله أعلم. 

ترجمة المؤلف 

هو أحمد بن على بن ثابت بن أحمد بن مهدى، ويكنى أبا بكر، واشتهر بالخطيب البغدادي. أصله من العرب ولم يكن والده من المبرزين في فن من فنون العلم إلا أن الخطيب في تاريخ بغداد يحدثنا عن والده فيصفه بالحفظ للقرآن الكريم.

قال: «٣٥٩/١١ تاريخ بغداد» ويبدو أن لقب الخطيب لحق بوالده، وكان أحد حفاظ القرآن، قرأ على أبي حفص الكناني وتولى الإمامة والخطابة على المنبر بـ« درزيجان » نحواً من عشرين سنه «الخطيب» لحق والده بسبب توليه الخطابة مدة طويلة ثم انتقل إليه. 

ولد أبو بكر الخطيب يوم الخميس لست بقين من جمادي الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائه، وقد نشأ في كنف والده، فبث فيه روح العلم والتلقى وحبب إليه القرآن والعلم، وحضور مجالس العلماء. 

وحثه والده على سماع الحديث وهو ابن إحدى عشر سنة: فجلس في حلقة ابن رزقويه، ثم انقطع سنوات، ولعل السبب في ذلك أنه أراد أن يبدأ بالفقه فجلس إلى أبي حامد الاسفراييني الذى انتهت إليه رئاسة المذهب الشافعي ببغداد، والذي كان يحضر درسه سبعمائة متفقه، ولم يقتصر على شيخ واحد حتى صار من كبار فقهاء الشافعية؛ فقد قال عنه السبكي (٤ / ٣٠): وكان من كبار الفقهاء تفقه على أبى الحسن بن المحاملي ، والقاضي أبى الطيب الطبري ، وعلق عنه الخلاف، وأبى نصر بن الصباغ عنه مدة ثلاث.

وقال الذهبي في التذكرة (۳ / ۱۱۳۷): وكان من كبار الشافعية ، تفقه بأبي الحسن المحاملي وبالقاضي أبي الطيب.

ثم مال بعد الفقه إلى الحديث حتى غلب عليه كما يقول ابن خلكان «كان فقيها فغلب عليه الحديث والتاريخ». لقد أخذ الخطيب من كل علم بنصيب جيد فقد قرأ القرآن وتعلم وجوه القراءات في صغره كما درس الفقه وأصوله حتى صار فقيهاً من كبار فقهاء الشافعية.

ودرس علوم الآلات وحل فيه وصنف ومع وهذب ورتب ونقد، واشتغل بالتاريخ وخصوصا تاريخ الرحال. ثم غلب عليه الحديث والتاريخ فأعطاهما نفسه وأوقاته وراحته، وتخصص فيهما بحق، وقد كان على جانب عظيم من الأخلاق الكريمة والمثاقب النبيلة، وكان مخلصاً في عمله وتصنيفه. 

ومن كثرة علمه لم يكن الخطيب معجباً بما وصل إليه من العلم ولا متكبراً، بل كان متواضعاً حتى أنه كان لا تروق له الأسماء والألقاب الكبيرة، كالحافظ والمحدث فقد روى أبو نصر محمد بن سعيد المؤدب عن أبيه أنه قال: «قلت لأبى بكر الخطيب عند لقائى إياه: أنت الحافظ أبو بكر؟ فقال: انتهى الحفظ إلى الدارقطني، أنا أحمد بن على بن ثابت الخطيب».

وقد أضفى الله عليه حله من الهيبة والوقار؛ فقد قال ابن السمعاني في  (معجم الأدباء: ٤/ ۳۰) يصفه قال: اكسبه هذا الشأن غضارة وبهجة ونضارة، وكان مهيباً وقوراً نيلاً خطيراً، ثقةً، صدوقاً، متحرياً حجة فيها يصنفه ويقوله ونقيله ويجمعه حسن النقل والخط كثير الشكل والضبط، قارئا للحديث، فصيحا وكان في درجة الكمال والرتبة العليا خُلُقاً وخَلَقاً وهيئة ومنظراً. 

وتوفي رحمه الله بعد أن اشتد مرضه ضحى يوم الاثنين سابع ذي الحجة، سنة ثلاث وستين وأربعمائة رحمه الله، وبوفاته طويت صفحة من صفحات العلم الحافلة بالتحقيق والتصنيف. وفقد المسلمون علماً من أعلام المحدثين الذين أغنوا الخزانة الإسلامية بما تحتاجه والمسلمين خيراً. 

ولقد قيل في رثائه قصائد منها قصيدة للرئيس أبي الخطاب بن الجراح يقول فيها: 

فاق الخطيب الورى صدقاً ومعرفة .. وأعجز الناس في تصنيفه الكتب

حمى الشريعة من غاو يدنسهــــــــــــا ..  بوضعه، ونفى التدليس والكذبا 

جلا محاسن بغداد فأودعها  .. تاريخه مخلصاً الله محتسبا

وقال في الناس بالقسطاس منزوياً ... عن الهدى وزال الشك والريبا

سقى ثراك أبــــا بكــــر على ظمــــــاً .. جون ركام يسح الواكب السربا

المقدمة 

وتشتمل على:

-النصيحة في اللغة والاصطلاح.

- أحاديث النصيحة دراية ورواية ومعنى وتخريجاً.

- النصيحة أحد أرباع الدين.

-النصيحة لكتاب الله تبارك وتعالى.

- النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

- النصيحة لأئمة المسلمين نصيحة أولي الأمر محفوفة بالمخاطر.

- النصيحة لعامة المسلمين.

- نماذج من نصائح أولى الفضل

_______________________________________

النصيحة في اللغة والاصطلاح: 

النصيحة مشتقه من النصح، يقال نصح الشيء إذا خلص، ونصحت العسل إذا صفيته، ونصح له القول إذا أخلص له أو مشتقة من النصح بمعنى الخياطه بالمنصحة (الإبرة) والمعنى أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المنصحة. 

ومنه التوبة النصوح؛ كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه. من كلام الحافظ ابن حجر عن المازري وغيره بتصرف «انظر فتح الباري ١ /١٣٨». 

وعليه فالنصيحة هي: إرشاد الناس لما فيه الصلاح، وعلى صدقها ونفاذها يتوقف الأمم والشعوب في كل العصور؛ إذ فيها حيازة الحظ للمنصوح له، وهى من وجيز الكلام. 

قال الخطابي: «ليس في الكلام كلمة مفردة تستوفى بها عبارة عن نجاح معنى هذه الكلمة (الدين النصيحة).

وقال الإمام البخاري رحمه الله: «باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) - وقوله تعالى: {إذا نصحوا الله ورسوله }. قال الحافظ ابن حجر أورده البخاري ترجمة باب ولم يخرجه مسنداً؛ لكونه على غير شرطه، ونبه بایراده معلقاً على صلاحيته بالجملة.

قال مقيده: الحديث رواه مسلم في صحيحه رقم (٩٥) ولا يضر تعليق البخاري له، فقد أورده بصيغة الجزم، وهذا محكوم بصحته حتى في البخاري. 

وقوله عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة» يقول الحافظ يحتمل أنه على ظاهرة؛ لأن كل عمل لم يرد به صاحبه الأخلاص فليس من الدين.

حديث (الدين النصيحة) أحد أرباع الدين:

 قال الحافظ ابن حجر: «وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل فيها أنها أحد أرباع الدين، ومن عده فيها الإمام محمد بن أسلم الطوسي». 

وقال النووي: «بل هو وحده محصل لغرض الدين كله؛ لأنه منحصر في الأمور التي ذكرها، فالنصيحة الله وصفة بما هو له أهل والخضوع له ظاهراً وباطناً، والرغبة في محاجة بفعل طاعته والرهبة من مساخطه بترك معصيته والجهاد في رد العاصين لله».

وذكر العلامة الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في كتابه غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب: عن ابن داود صاحب السنن أن حديث النصيحة أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه.

النصيحة الله تبارك وتعالى: 

والنصيحة لله تعالى تكون بتوحيده، ووصفه بصفة الكمال دون تعطيل ولا تمثيل، واجتناب معاصيه في السر والعلانية، والقيام بطاعته اخلاصاً ورغبة ومحبته ومحبة شرعه وكلامه، والحب فيه والبغض فيه، وجهاد من كفر به، وبغض شرع الكفار والدعاء إلى ذلك، والحث عليه.

النصيحة لكتاب الله تبارك وتعالى: 

أما النصيحة لكتاب الله؛ فتكون بالإيمان بما فيه، وأنه كلام الله ليس بمخلوق، وتعظيمه في النفوس، وتلاوته أثناء الليل وأطراف النهار، وتعليمه وتعلمه وكتابته وطبعه، والعمل على نشره وتفهم علومه وأمثاله. 

النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكون بتعظيم سنته حياً وميتاً، والإيمان بما جاء به، وتوقيره وتبجيله، والتمسك بطاعته، وإحياء ونشر علومها بالتأليف والترتيب والتعلم، والاقتداء به في الأقوال والأفعال، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبة آل بيته الأطهار وصاحبته الأبرار، ومعاداة عاداه وعادی سنته وأصحابه، وموالاة من والى سنته ووالى أصحابه 

النصيحة لأئمة المسلمين:

 نصيحة أولي الأمر محفوفة بالمخاطر، ولذا قال أبو عمرو بن الصلاح : «والنصحية لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين وترك الخروج عليهم وتأليف قلوب في طاعتهم». 

وقال الخطابي: «ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وألا يُغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدع لهم بالصلاح، وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمر المسلمين من أصحاب الولايات المشهور وحكاه الخطابي. ثم قال: وقد يتأول ذلك على علماء الدين وأن من نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الأحكام وإحسان الظن بهم» (شرح النووي ٢ / ٣٧ / ٣٩). 

النصيحة لعامة المسلمين: 

تبذل النصيحة لعامة المسلمين، دون تمييز بين الفقير والغني، أو الأسود والأبيض، أو العربي والعجمى، ولله الحمد مازالت نصيحة عامة المسلمين مبذولة للجميع في المساجد والإعلام والجمعيات الخيرية وأماكن الفضل والإرشاد والدعوة. 

وتكون بالشفقة على المسلمين، والسعي فيما يعود نفعه عليهم، وكف وجوه الأذى عنهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه. وقد رأيت بعيني رأسي إبان سنوات الجفاف التي وقعت على أفريقيا أهل الاسلام من شيوخ وشبان، يسعون ليلاً نهارا في تحقيق نفع المسلمين بتلك الناحية لا يفرقون بين عربي وعجمي، سواء كانوا من أغنياء وأثرياء أهل الرفعة أم ممن جاءوا من خارج بلادهم.

واعترافاً بالفضل لأهله، وتسجيلاً للجميل وللتاريخ، حملني ضميري على سوق هذه الفائده، وقد كان تدفقهم من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وأغلبهم من الكويت والسعودية ممن رباهم الآباء والعلماء على الإصلاح، وحب الخير.

ونسأل الله تعالى لهم ظله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه.

النصيحة لعامة المسلمين:

وتكون النصيحة لعامة المسلمين بتخولهم بالموعظة الحسنة، وتحبيب شرائع الاسلام لنفوسهم، من غير تنفير ولا تقبيح، وتنشيط هممهم للعبادة. 

روى عن الحسن البصري رحمه الله، أنه قال: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله أن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة». (انظر جامع العلوم والحكم / ۷۷).

ويقبل نصحا من شفيق على الورى .. حريص على زجر الأنام عن الردى 

ويتوجب إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ومجانبة الغش والحسد لهم. 

قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: "ومن أنواع نصحهم تعليم جاهلهم ورد من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل، والرفق في بالمعروف والنهي عن المنكر، محبة لإزالة فسادهم ولو بحصول ضرر له في دنياه كما قال بعض السلف: وددت أن هذا الأمر بهم وأن الخلف أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض. 

وكان عمر بن عبد العزيز ـ رضى الله عنه -يقول: «يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملتم به؛ فكلما عملت فيكم بسنة وقع منى عضو حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسی». (انظر جامع العلوم والحكم ص ۷۸، و السفاريني في غذاء الألباب ص ٣٤).

بعض الأحاديث الواردة في النصيحة: 

عن أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم..» والحديث من حيث الدراية مرفوع، ومن حيث الرواية صحيح، 

وفي مسند الإمام أحمد: عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه ـــ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: في خطبته بالخيف من منى: «ثلاث لا يقل عليهن قلب امرىء مسلم إخلاص العمل الله، ومناصحة ولاة الأمر ولزوم الجماعة». لفظ أحمد وهو عند الترمذي رقم ٢٦٥٩ العلم - وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجه في المقدمة رقم ۲۳۲. 

والحديث من قبيل المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صححه الترمذي - وروى ابن حبان في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"، والحديث من حيث القواعد والمصطلح له حكم الرفع، ومن حيث الرواية صحيح.

وفي الصحيحين عن مَعْقِل بن يسار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من عبد يسترعيه الله رعيه ثم لم يحطها بنصحه إلا لم يدخل الجنة» وهذا من الأحاديث المشهورة لا على اصطلاح المحدثين كما هو معلوم في المصطلح، وهو حديث لا مطعن فيه لتلقى الأمة الكتابين بالقبول وإجماع الأمة على صحة ما في الصحيحين.

 وأخرج الطبراني عن حذيفة بن اليمان ـ رضى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ومن لم يُمْس ويصبح ناصحاً الله ولرسوله ولكتابه ولامامه ولعامة المسلمين فليس منهم»، والحديث من المرفوع القولي وهو من أقوى أنواع المرفوع لأنه خطاب موجه للأمة فينهض للوجوب خلافاً للفعلى. 

ومن حيث الرواية يقول الهيثمي في زوائده (١ /۸۷)، فيه عبد الله بن أبى جعفر الرازي وثقه أبو حاتم وأبو زرعه وابن حبان وضعفه محمد بن حميد.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامه - رضي الله عنه ـــ عن النبي صلى الله عليه وسلم،ـ قال: «قال الله عز وجل: أحب ما تعبدني به عبدي إلى أن نصح لي» حديث قدسي.

والمراد بالأحاديث القدسية: الأحاديث التي تتحدث عن الذات المقدسة والمنسوبة من النبى الله إلى ذات الله تبارك وتعالى. 

وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «حق المؤمن على المؤمن ست - فذكر منها - وإذا استنصحك فانصح له». وهو من حيث الدراية مرفوع قولى ومن حيث الرواية حديث صححه مسلم  في أصل صحيحه لا في المقدمة.

_______________________________

بعض الفوائد النافعة والمنتقاة من الكتاب:

١) ذكر العلامة طاهر بن صالح الدمشقي ـ في كتابه (توجيه النظر إلى أصول الأثر) ص ٤١٥ -وهو كتاب جامع نافع في فن المصطلح ـ عن بعض العلماء قال :

 تنقسم علوم الحديث الآن إلى ثلاثة أقسام: 

الأول: حفظ متون الحديث ومعرفة غريبها وفقهها، وهذا أشرفها. 

الثاني: حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها ، وتمييز صحيحها من سقيمها، وهذا كان مهماً وقد كفيه المشتغل بالعلم بما صنف فيه وألف الكتب تحصيل ما هو حاصل. 

الثالث: جمعه وكتابته وسماعه والبحث عن طرقه وطلب العلو فيه والرحلة إلى البلدان لأجل ذلك ـ والمشتغل بهذا مشتغل عما هو الأهم من العلوم النافعة فضلاً عن العمل به الذي هو المطلوب الأصلى ... الخ ».

٢) الأسباب التي أدت إلى استرخاء الهمم:

ولا ينبغى أن يغفل المصلحون عن الأسباب والدواعي التي أدت إلى الاسترخاء وضعف الهمم والعزائم فنتج والتي من أهمها: 

(أ) ندرة العلماء العاملين ممن تهفو النفوس للهجرة إليهم والإصرار على مصاحبتهم، (هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً). ولو أدى ذلك إلى الارتحال والتنقل في البلاد وترك الراحة والرفاهية والهجرة من الأوطان والخلان.

(ب) الانبهار بحضارة الغرب الكافر والانحناء لها أن تأخر المسلمين في مجال الصناعة والتقنيات والمجال العسكري وغيره أوجد فيهم انحناء وإكبارا لكل شيء جاءهم من الغرب وأمات فيهم الحماس إلى الاشتغال بالتنقيب في كنوز حضارتهم وتراثهم؛ فانكب شبابنا على وسائل الترفيه هذا كان فيهم جادا وإن كان خلاف ذلك فمثاله في الحياه اللاعب أو الفنان أو الممثل.

٣) أمثلة لعلو همة السابقين إلى الله تعالى:

وقد ألف الأستاذ جميل العظم الدمشقي المتوفى سنة ١٣٥٢ هـ رحمه كتابا أسماه (عقود الجوهر في تراجم من لهم خمسون تصنيفا فمائة فأكثر). فذكر ابن جرير الطبري، وابن الجوزي ، والنووي وابن سينا، والغزالي وابن حجر العسقلاني، والبدر العيني والسيوطي، وابن تيمية، وابن القيم، وعلى القارىء، والمناوي، وعبد الغني النابلسى، وعبد الحي اللكنوي؛ فإذا وقفت على تراجم هؤلاء الأفاضل الأعلام وأمثالهم حفزتك تراجمهم إلى أن تحس بقيمة الوقت والزمن وعلو الهمة إن كنت من أهل الهمم فتلحق بهم.

قال الشاعر أحمد شوقي رحمه الله:

دقات قلب المرء قائلــــــــــة له ..  إن الحياة دقائق وثواني

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها..  فالذكر للإنسان عمر ثان      





السبت، 5 أغسطس 2023

حقوق آل البيت تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

 حقوق آل البيت

تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد: هذا الكتاب يعالج فيه الإمام ابن تيمية الانحراف الشيعي في محبة آل البيت من الناحيتين العقلية والفقهية، ويبين فيه ضلال فرقتين من الناس وهم الغلاة من الشيعة، والجفاة من النواصب، وبعد كلا الفريقين عن المذهب الوسط، الذي ارتضاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمته، وسار على هديه الإمام علي رضي الله عنه، وذريته الطيبين الأطهار.

ودعا ابن تيمية إلى الاعتصام كتاب الله تعالى وسنة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنهما العصمة لمن اعتصم بهما، ثم بيّن حرمة سب الصحابة، وبراءة أهل البيت من ذلك، وأن سبب الضلال في الناس هو الجهل المبني على اتباع الهوى، وبين خطورة البدع التي تفعل عند قبور الصالحين من آل البيت، وكون بعضها يفضي إلى الشرك والعياذ بالله، الأمر الذي لا يرتضيه كل مسلم فضلاً عن آل البيت الأطهار.

وقد خدم المحقق الكتاب خدمة جليلة، فقد وضح في مقدمته الفرق بين حب آل البيت النابع من النفس وبين الحب الذي يجتمع فيه العقل والقلب، والذي تمتزج فيه الفكر بالوجدان، وبين كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح في وصل نفوس أصحابه بعقولهم وهم يعبرون عن حبهم له، فكان حبهم له وسطاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، بل قد عبّر الصحابة عن حبهم له، بالعمل على مقتضى سنته ومقتضى القرآن لا يحيدون عنهما ولا يكسلون.

وقد كان الصحابة يعلمون علم اليقين أن الحب هو الموافقة في القول والعمل والسمت والحلية، ولم يكن آل البيت بمنأى عن هذه الحقيقة؛ فقد كانوا قادة في العمل والدعوة، ولما حاول بعض الغلاة تأليه بعض أهل البيت، ونسبتهم إلى العصمة، رفضوهم، وفضحوا أمرهم، الأمر الذي لم يرق لبعض الزنادقة الذين نقلوا هذه الخصائص إلى بعض الدعاة والملالي والأبواب.

والحق أنه لما بسط الفاطميون نفوذهم على مساحات شاسعة من العالم الإسلام، وزعموا أحقيتهم في الخلافة، من أجل عراقة النسب، ابتدعوا أموراً لم تكن موجودة من قبل، فبنوا الأضرحة على مقابر آل البيت والصالحين بشكل يكاد يكون واحداً في كل صقع من الأصقاع، وأوقدت القناديل، وأحرق البخور، ونحرت الذبائح، وأقام المنتفعون والمرتزقة حولهم يذيعون الخرافة، ويبتزون أموال الناس بغير حق، باسم آل البيت، ومحبة آل البيت.

ثم تحول حب آل البيت في القرون المتأخرة من الموافقة في الهدي والسمت إلى الصراخ والعويل والتطبير، واللطم، والنذور الباطلة؟!





الخميس، 3 أغسطس 2023

حكم تصوير ذوات الأرواح مقبل بن هادي الوادعي بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

حكم تصوير ذوات الأرواح

مقبل بن هادي الوادعي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد: هذا الكتاب جمع فيه مؤلفه بعض الأحاديث الواردة في ذم التصوير والتحذير منه، وذلك في اثنين وعشرين فصلاً، وبين أن الأحاديث بعمومها تتناول الصور المجسمة التي لها ظل، وغير المجسمة (الفوتوغرافية) التي لا ظل لها، واستدل بعموم أمره صلى الله عليه وسلم بمحو كل صورة، والمحو لا يكون للصورة المجسمة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم هتك القرام الذي كان بحجرة عائشة، ولم يكن له ظل، بل أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يمحو كل صورة في الكعبة، فبلّ ثوباً ومحاها به، ويُروى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم محا صورة إبراهيم عليه السلام من الكعبة.

وأما قطع عائشة للقرام الذي عليه الخيل المُجنّحة، وصنعها لوسادة أو وسادتين؛ فيُحتمل أن الوسادة التي صنعتها لم تظهر فيها تلك التصاوير كاملة لقطعها، أو أنها كانت محل امتهان، ولكن الأولى تطهير البيت منها، وهذا التوجيه قريب، لأنه حتى في التماثيل التي أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطمسها، استثنى منها لعب الأطفال التي تكون من القماش والعهن؛ لأنها ممتهنة مبتذلة غير مُعظّمة.

وتوسع الشيخ الوادعي فزعم أن الصور الموجودة في المجلات، والجرائد، والتلفزيون، وغيرها من الآلات الحديثة، بل حتى المرئيات المتحركة، بما فيها تصوير الدروس ونحو ذلك كل ذلك مُحرّم، وداخل في الوعيد، وأن من يفعل ذلك يناله نصيب من العذاب، وفي بعض قوله نظر؛ إذ الحاجة متجهة إلى الدروس المسجلة، سيما بعض الشروحات المرئية.

وخلاصة القول في هذه المسألة:

(١) تصوير الإنسان والحيوان، وكلّ ما فيه روح حرام، وهو من كبائر الإثم، لأنه متوعَّد عليه بوعيد شديد في صريح السنّة الشريفة، لا فرق في هذا التحريم بين ما إذا كان هذا التصوير على ما يمتهن ويُهان أو على ما يعظم ويكرم.

(٢) ولا فرق بين ما كان منه على بساط، أو ثوب، أو درهم، أو دينار، أو ورق، أو إناء، أو حائط، أو على غير ذلك، ولا فرق بين ما له ظل وما لا ظل له؛ فتصوير كل ما فيه روح حرام، كيفما كان، وعلى أي شيء كان.

(٣) ويستوي في الحرمة المصوِّر، ومن تقدم إلى المصوِّر ليصوره، لأنه معاون له على المعصية، وإن كان عذاب المصور أكبر، وإثمه أعظم، أما تصوير ما لا روح فيه، كالشجر، والنبات، والجماد، فليس بحرام، ولا إثم في فعله (وهذا حكم نفس التصوير).

(٤) وأما اتخاذ ما فيه صورة حيوان، أو إنسان واقتناؤه، فنقول: إن كانت هذه الصور معلَّقة على حائط، أو منقوشة في ثوب مما لا يعدّ ممتهناً، فاتخاذها حرام، ولا يجوز إبقاؤها، بل يجب نزعها، وإزالتها من مكانها، وإن كانت في بساط يداس، أو وسادة ومخدّة يُتّكأ ويُجلس عليهما، ونحوهما مما يُمتهن، فليس بحرام.

(٥) يستثنى من عموم تحريم اتخاذ الصور أمران:

الأول: الترخيص لصغار البنات والصبيان في لِعَب الأولاد.

الثاني: حالة الضرورة، فإذا دعت ضرورة، أو حاجة أمنية إلى اتخاذ صورة، جاز اتخاذها، ولكن بقدر الضرورة، والحاجة، لأن الضرورة، أو الحاجة تقدّر بقدرها.

إجمال الكتاب:

(١) وابتدأ بالتحذير من الشبهات أي: الأمور المشتبهة التي لا يعلمها كثير من الناس، وعدَّ منها الصور: فذكر حديث النعمان بن بشير عند البخاري، وسهل بن حُنيف عند الترمذي. 

(٢) ثم الأمر بطمس الصور: وذكر فيه حديث علي بن أبي طالب عند مسلم، وابن عباس وابن مسعود كلاهما عند البخاري.

(٣) ثم النهي عن صُنع الصور: وذكر حديث جابر عند الترمذي وأحمد، ثم لعن النبيّ صلى الله عليه وسلم المصورين كما في حديث أبي جحيفة عند البخاري.

(٤) ثم بيان أن هذه الصور قد تعبد من دون الله، وذكر حديث عائشة عند البخاري، 

(٥) ثم كون المصورين لذوات الأرواح يعذبون بها في النار، بأن يكلفوا نفخ الروح فيها فلا يقدرون، وذكر حديث ابن عباس عند مسلم.

(٦) ثم كون المصورين من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وذكر حديث عبد الله بن مسعود عند مسلم، وأحمد.

(٧) ثم كون المصورين من أظلم الناس، وذكر حديث أبي هريرة عند البخاري، 

(٨) ثم الدليل على تحريم عموم صور ذوات الأرواح، وذكر حديث عائشة عند البخاري، وعند مسلم وكان لها قرام عليه خيلٌ لها أجنحة، فأمرها بنزعه؛ فصنعت منه وسادة أو وسادتين.

(٩) ثم كون الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وذكر حديث أبي طلحة عند البخاري ومسلم، وعائشة عند البخاري ومسلم، وحديث ميمونة عند مسلم، وأبي هريرة عند مسلم، وحديث أسامة عند أبي بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"، وحديث علي بن أبي طالب عند النسائي وأبي يعلى في "مسنده"، وحديث أبي سعيد عند مالك في "الموطأ"، وابن عباس عند البخاري، 

وبين أن المراد بالبيت جنس البيوت يعني جميع البيوت التي فيها تصاوير، لا كما قال ابن حبان في "تقريب الإحسان" أن المراد البيوت التي ينزل فيها الوحي، الأمر الذي أنكره الحافظ في "الفتح"؛ فقال رحمه الله في الفتح (ج ۱۰ ص ۳۸۱): إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، إذا كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ص :(۳۸۲) وأغرب ابن حبان، فادعى أن هذا الحكم خاص بالنبي النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ما تقدم عن ابن حبان، ثم قال: وهو بعيد جدا لم أره لغيره

(١٠) ثم ذكر ترخيص بعض الصحابة دخول البيت الذي فيه صورة، فذكر ذلك عن الحسن، وذكر ذلك عن بعض الصحابة والتابعين، وكان في بيت إبراهيم النخعي تابوت فيه تماثيل، وثبت عن إِبْرَاهِيمَ النخعي، أنه قَالَ: "لا بَأْسَ بِالثَّمَثَالِ، في حِلْيَةِ السَّيفِ، وَلا بَأسَ بِهَا في سَمَاءِ البَيتِ، إِنَّمَا يُكرَهُ مِنْهَا مَا يُنْصَبُ نَصِباً" - يعنى الصُّورَة. ورأى مسروق تمثالاً لمريم فلم يتكلم، ولعل الأخبار التي ورد فيها النهي لم تبلغهم.

(١١) ثم الأمر بقطع الصور (يعني رأسها) حتى تكون كالشجرة؛ وذكر فيه حديث أبي هريرة عند الترمذي وأحمد، وذكر أثر ابن عباس موقوفاً: "الرأس الصورة، فإذا قُطع الرأس فليس بصورة" وهو صحيح عنه.

(١٢) ثم بيان أن التصوير كبيرةٌ من الكبائر؛ وذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي، وفيه خروج عنق من النار له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق.

(١٢) ثم ذم الصور لكونها تُذكر الدُّنيا؛ وذكر حديث عائشة عند مسلم، وأنه كان لها ستر فيه تمثال طائر، فأمرها النبيُّ بتغييره، وأنه يذكر الدُّنيا. قال النووي رحمه الله -على هذا الحديث: هذا محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة فلهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل ويراه ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة.

(١٣) ثم جواز اتخاذ اللعب من العهن والخرق للأطفال؛ وذكر حديث الرّبيّع بن معوذ عند البخاري، وعائشة عند مسلم.

(١٤) ثم رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم صورة عائشة في المنام، وذكر حديث عائشة عند البخاري ومسلم.

(١٥) ثم تحريم الاحتراف بالتصوير، أو التدريس في مادة التصوير، وذكر الآيات الدالة على أن الرزق على الله وحده، وحديث عمر في التوكل عند أحمد. 

(١٦) ثم أثر الكسب الحرام على الدُّعاء؛ فذكر حديث أبير هريرة عند البخاري ومسلم، وعدَّ عدم مبالاة كثير من الناس بالمكاسب الطيبة علماً من أعلام النبوة. 

(١٧) ثم بيان أن المتصوّرُ عاصٍ، وأنه من المنكر الذي يجب تغييره، (١٨) ثم ذكر أقوال السَّلف في الصور؛ وذكر النهي عن عمر، وابن مسعود، وأبو مسعود الأنصاري.

(١٩) ثم بيان حكم الصور الاضطرارية؛ (٢٠) ثم الرد على شبهات المجيزين للتصوير، (٢١) وذكر تعقيباً على قصة نوح عليه السلام، (٢٢) ثم تحريم الحيل.

بعض الأحاديث الواردة في ذم التصوير

* ما أخرجه البخاري (٢١٠٥) بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم».

وقال (صلى الله عليه وسلم): «إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة».

* و (البخاري ٢٠٨٦): «نهى النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ثمن الكلب، وثمن الدم، ونهى عن الواشمة، والموشومة ، وآكل الربا وموكله ، ولعن المصور».

* وقال (صلى الله عليه وسلم): «إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة: المصورون». (البخاري ٢١٥/٧ - ط . الشعب) 

* قال أبو زرعة: دخلت مع أبي هريرة داراً بالمدينة فرأى أعلاها مصوراً يصور. قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة» ( البخاري / ٢١٥ - ط . الشعب ).

* وقال:  (صلى الله عليه وسلم): «من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ» ( البخاري ۲۱۷/۷). 

* وقال:  (صلى الله عليه وسلم): «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه تماثيل أو تصاوير» (مسلم ٢/ ٢٥٠ ٢٥٠ - ط . حلبي). 

رأيُ الإمام النووي في التصوير

قال النووي في شرح مسلم (١٤/ ٨١): قال أصحابنا وغيرهم من العلماء تصوير صورة الحيوان حرامٌ شديد التحريم وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان فى ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها.

وأما تصوير صورة الشجر، ورحال الإبل، وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان، فليس بحرام، هذا حكم نفس التصوير.

وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان؛ فإن كان معلقاً على حائطٍ، أو ثوباً ملبوساً أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام. وإن كان في بساط يُداس، ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام.  ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ فيه كلام نذكره قريباً إن شاء الله.

ولا فرق في هذا كله بين ماله ظل وما لا ظل له هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري، ومالك، وأبي حنيفة وغيرهم.

وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل، وهذا مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحدٌ أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة.

وقال الزهري: النهيُ في الصورة على العموم، وكذلك استعمال ما هى فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن، عملاً بظاهر الأحاديث، لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم، وهذا مذهب قوي.

وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقماً في ثوب، سواء امتهن أم لا، وسواء علق في حائط أم لا، وكرهوا ما كان له ظل أو كان مصوراً في الحيطان وشبهها، سواء كان رقماً أو غيره، واحتجوا بقوله في بعض أحاديث الباب: ((إلا ما كان رقما في ثوب))، وهذا مذهب القاسم بن محمد

وأجمعوا على منع ما كان له ظل، ووجوب تغييره. قال القاضي إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات، والرخصة في ذلك؛ لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته، وادّعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخ بهذه الأحاديث والله أعلم.

رأيُ الإمام ابن حجر العسقلاني في التصوير

وقال الحافظ في "الفتح" (١٠/ ٣٧٤): وقال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع. 

وإن كانت رقماً فأربعة أقوال:

الأول: يجوز مطلقاً على ظاهر قوله في حديث الباب: ((إلا رقماً في ثوب)).

الثاني: المنع مطلقاً؛ حتى الرقم (وهي النقوش في الثوب من غير صور).

الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز، قال وهذا هو الأصح.

الرابع: إن كان مما يمتهن جاز وإن كان معلقاً لم يجز.

سبب امتناع الملائكة من دخول بيت فيه صورة

يقول الإمام النووي (١٤/ ٨٤) في حديث (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة): قال العلماء: سبب امتناعهم من بيت فيه صورة؛ كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى.

 وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب؛ لكثرة أكله النجاسات، ولأن بعضها يسمى شيطاناً كما جاء به الحديث، والملائكة ضد الشياطين، ولقبح رائحة الكلب والملائكة تكره الرائحة القبيحة، ولأنها منهي عن اتخاذها، فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته وصلاتها فيه واستغفارها له وتبريكها عليه، وفي بيته ودفعها أذى للشيطان.

وأما هؤلاء الملائكة الذين لايدخلون بيتاً فيه كلب أو صورة؛ فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار.

وأما الحفظة فيدخلون في كل بيت ولايفارقون بني آدم في كل حال؛ لأنهم مأمورون باحصاء أعمالهم وكتابتها.

قال الخطابي: وإنما لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور؛ فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية، والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه.

وأشار القاضي إلى نحو ما قاله الخطابي، والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث، ولأن الجرو الذي كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم تحت السرير كان له فيه عذر ظاهر؛ فإنه لم يعلم به، ومع هذا امتنع جبريل صلى الله عليه وسلم من دخول البيت، وعلل ذلك بالجرو؛ فلو كان العذر فى وجود الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل والله أعلم.

العلة في تحريم صور ذوات الأرواح 

والعلة في تحريم صور ذوات الأرواح ثلاثة أمور، ذكرها النوويُّ وغيره: 

الأول: لأنها عُبدت من غير الله، وتقدم حديث: «أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ، إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ». 

الثاني: أنها مضاهاة لخلق الله، كما تقدم في حديث: «الَّذِينَ يُضَاهِتُونَ بِخَلقِ الله». 

الثالث: أيضًا الفتنة؛ فالمجلات ربما يُفتن الرجل إذا نظر إلى صور النساء العارية والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: «مَا تَرَكتُ فِتْنَةٌ أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِن النِّسَاءِ» . 

وأيضًا نظر الرجل إلى المرأة في التلفزيون أو الفيديو أو الدش أو التليفون الذي ينقل الصورة، أو غيرها مما يعده أعداء الإسلام ليفتنوا المسلمين عن دينهم، فإن الناس كلما كرهوا آلة أتوا لهم بآلة أخرى. 

وهكذا نظر الرجل إلى المرأة، ونظر المرأة إلى الرجل محرمان: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهم}، {وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهنَّ} فحسبنا الله ونعم الوكيل أبصارهنّ

توسُّع الوادعي في تحريم التصوير

يقول الوادعي في "كتابه": فيحرم التصوير، سواء كانت ذلك تلفازًا، أو فيديو، أو سينما، أو هاتفاً تلفزيونياً، أو أجهزة البث المباشر في الملاعب والقاعات الجامعية، أو في أقسام الشرطة للمراقبة، وكل أجهزة المراقبة المرئية. 

تنبيه: إذا كانت الصورة لحيوان لا رأس له مثل نجم البحر فكيف يتم طمس الصورة؟ 

تطمس صورته بأن تقطع حتى تكون كهيئة الشجرة، وأما الحيوان فتصويره حرام؛ لأنه من ذوات الأرواح، وإن لم يكن له رأس. 

والقول بجواز تصوير المجرم لا دليل عليه، بل تقام الحدود وهي كفيلة بزجر المجرم، ولم يقل الله ولا رسوله إذا ظهرت صورة المجرم يُقام عليه الحد، بل ذلك يثبت بالبينات الشرعية!

والقول بإباحة التصوير للتعليم لا دليل عليه، بل حديث لعن المصور المتقدم يشمل هذا وهذا. 

وفي هذا تهوين معصية التصوير في نفوس الطلاب، وهم يهيئون للعنة الله إن كانوا غير بالغين، ويلعنون إن كانوا بالغين، ويُعانون على المعصية، بل يُدفعون إليها، فأين المسئولية والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: «كُلُّكُم رَاعٍ وَكُلُّكُم مَسئُولٌ عَن رَعِيَّتِهِ»، ويقول: «مَا مِن راعٍ يَستَرعيه الله رَعِيَّةٌ ثُمَّ لَم يُحِطْهَا بِنُصْحِهِ إِلا لَم يَجِد رَائِحَةَ الجَنَّةِ».

فحرامٌ على المُدرس وعلى أولياء الأمور أن يُمكنوا الطالب من التصوير.

وكذلك الأمر في الانتخابات ففي هذه الأيام، أيام الانتخابات المشئومة على الإسلام وعلى البلد. قد ملأت الصور السهل والجبل والشجر والحجر، حتى قال بعض الشباب الصالح: أين ستكون الملائكة وقد ملئوا الدنيا صورًا!؟

الصُّور الاضطرارية من وجهة نظر الوادعي

إذا كان الشخص مضطرًا لجواز سفر، سواء أكان لحج أو غيره من الأسفار اللازمة، أو بطاقة شخصية أو رخصة سياقة أو تصريح عمل نقود؛ فالإثم على الحكومات التي اضطرتك إلى هذا. 

وحد الضرورة هنا: أن تتعطل بترك التصوير مصالحك التي هي واجبة عليك. 

وأما الصور التي تطلب من طالب العلم أو من العسكري فليست بضرورية؛ لأنه يمكن أن يترك الطالب طلب العلم في المدارس، ويطلب العلم عند العلماء في المساجد والعسكري ممكن أن يحترف ويترك العسكرية. 

ومن المنكر أن نرى صور العلماء في الجرائد والمجلات، وَأَنْكَرُ من هذا صور البطاقات الانتخابية التي هي وسيلة إلى الديمقراطية الطاغوتية، وَأَنْكَرُ من هذا صور النساء في الانتخابات ومنكر عظيم أن يقوم المحاضر في المساجد يحاضر الناس والمُصَوَّرَةُ موجهة إليه، وكذا تصوير الحجاج بمنى وعرفة ووضع آلة التصوير على مسجد عُرَنة والمسجد الحرام، وغيرهما من تلكم المشاعر العظيمة. 

والبَثُ الْمُبَاشِر دَاخِل في التحريم فهو يعتبر صورة، والناس يسمونها صورة فهي محرمة والتقاط صور الداخل من الباب أو المتسلق على الجدار، كذلك أيضاً.

الرد على أدلة المجيزين للتصوير

ومن أدلة أصحاب الأهواء من العصريين قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن تَحَرِيبَ وَتَمَئِيلَ وَجِفَانِ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَت}.

التماثيل هي الصور، وهي منسوخة، فإليك ما قاله بعض المفسرين 

• قال أبو بكر بن العربي واقفه في «أحكام القرآن» (ج ٤ ص ١٦٠٠): فإن قيل : فكيف شاء عمل الصور المنهي عنها؟ قلنا : لم يَرِدْ أنه كان منهيّا عنها في شرعه، بل ورد على ألسنة أهل الكتاب أنه كان أمرًا مأذونا فيه، والذي أوجب النهي عنه في شرعنا - والله أعلم -ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب.

فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها من الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ الله حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيسَ نافخ»، وفي رواية: «الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلقِ الله»، فعلل بغير ما زعمتم؟ قلنا نهى عن الصورة، وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة وهي عبادتها من دون الله، فنبه على أن نفس عملها معصية، فما ظنك بعبادتها.

وقد ورد في كتب التفسير: شأن يغوث ويعوق ونسترا، وأنهم كانوا أناسًا، ثم صُوِّروا بعد موتهم وعبدوا. وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وَكَسَوْه بزتَه إن كان رجلاً وحِليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب. فإذا أصاب أحدًا منهم كرب أو تجدد له مكروه، فتح الباب عليه وجلس عنده يبكي ويناجيه بكان وكان حتى يكسر سَوْرَة حزنه بإهراق دموعه، ثم يُغلق الباب عليه وينصرف عنه، وإن بعد الزمان عبدوها، وكانت من جملة الأصنام والأوثان. 

فعلى هذا التأويل إن قلنا: إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا، فليس ينقل عن ذلك حكم، وإن قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور نسخاً.. 

المسألة الخامسة، على ما بيناه في قسم الناسخ والمنسوخ قبل هذا. تمادی بهم فشاء الله وهي وإن قلنا: إن الذي كان يصنع له الصور المباحة من غير الحيوان وصورته، فشرعنا وشرعه واحد. 

وإن قلنا: إن الذي حرم عليه ما كان شخصاً لا ما كان رقماً في ثوب، فقد اختلفت الأحاديث في ذلك اختلافاً متباينا بيناه في شرح الحديث، لُبابُه أن أمهات الأحاديث خمس أمهات:

الأم الأولى: ما رُوي عن ابن مسعود وابن عباس «أن أصحاب الصُّورِ يُعَذَّبُونَ»، أَو «هُم أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا»، وهذا عام في كل صورة. 

الأم الثانية: رُوي عن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَدخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صَورَةٌ»، زاد زيد بن خالد الجهني: «إِلا مَا كَانَ رَقًماًً في ثوب».

وفي رواية عن أبي طلحة نحوه، فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: هَل سَمِعت هَذَا؟ فَقَالَت: لا، وَسَأَحَدُتُكُم خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ، فَأَخَذْتُ نَمَطَا فَنَشَرْتُهُ عَلَى البَابِ، فَلَمَّا قَدِمَ وَرَأَى النَّمَطَ عَرَفْتُ الكَرَاهَةَ في وَجهِهِ، فَجَذَبَهُ حَتَّى هَتَكَهُ، وَقَالَ: «إِنَّ الله لَم يَأْمُرُنَا أَن نَكسَوَ الحِجَارَةَ وَالطِّيْنَ»، قَالَت فَقَطَعتُ مِنهُ وِسَادَتَينِ وَحَشَوتُهُما لِيفًا، فَلَم يَعِب ذلك عَلَىّ.

الأم الثالثة: قَالَت عَائِشَةُ: «كَانَ لَنَا سِرٌ فِيهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ، كَانَ الدَّاخِلُ إِذَا دَخَلَ اسْتَقبَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «حَوْلِي هَذَا، فَإِني كُلَّما رَأَيْتُهُ ذَكَرتُ الدُّنيا». 

الأم الرابعة: رُوي عَن عَائِشَةَ قَالَت دَخَلَ على رَسُولُ الله وَأَنَا مُتَسَتُرَةٌ بِقِرَامٍ فِيهِ صُورَةٌ، فَتَلَوَّنَ وَجهُهُ، ثُمَّ تَنَاوَلَ السترَ فَهَتَكَهُ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِن أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ خَلْقَ اللَّه»، قَالَت عَائِشَةُ: فَقَطَعتُهُ فَجَعَلْتُ مِنْهُ وِسَادَتَينِ. 

الأم الخامسة: قالَت عَائِشَةُ: كَانَ لَنَا ثَوبٌ مَمْدُودٌ عَلَى سَهِوَةٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي إِلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَخْرِيهِ عَنِّي»، فَجَعَلْتُ مِنْهُ وِسَادَتَينِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَرتَفِقُ بهما. 

وفي رواية: في حديث النمرقة قالت: اشتريتُهَا لَكَ لِتَقعُدَ عَلَيْهَا وَتَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّورِ يُعَذِّبُونَ يَومَ القِيَامَةِ، وَإِنَّ المَلائِكَةَ لا يَدخُلُونَ بَينَا فِيهِ صُورَةٌ».

قال القاضي: فتبين بهذه الأحاديث أن الصور ممنوعة على العموم، ثم جاء: «إِلا مَا كَانَ رَقْما في ثَوب»، فخص من جملة الصور، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في الثوب المصور: «أَخْرِيْهِ عَلَى فَإِني كُلَّما رَأَيْتُهُ ذَكَرتُ الدُّنيا»، فثبتت الكراهة فيه.

ثم بهتك النبي لى الله عليه وسلم الثوب المصور على عائشة منع منه، ثم تقطيعها لها وسادتين حتى تغيرت الصورة، وخرجت عن هيئتها؛ بأن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز، لقولها في النُّمْرُقَةِ المصورة: «اشتريتها لك لتقعد عليها وتتوسدها» فمنع منه، وتوعد عليه.

وتبين بحديث الصلاة إلى الصورة أن ذلك كان جائزاً في الرقم وفي الثوب، ثم نسخه المنع، فهكذا استقر فيه الأمر، والله أعلم. 

وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره » ( ج ١٤ ص ۲۷۲): الثانية: قوله تعالى: {وَتَماثيل} جمع تمثال، وهو كل ما صور على مثل صورة خبار الله حيوان أو غير حيوان، وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان، وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادًا.

قال: «إِنَّ أُولَئِكِ كَانَ إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوا عَلَى قَبْرِهِ مَسجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلكَ الصُّورَ» أي: ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة، وهذا يدل على أن التصوير كان مباحًا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم.

 وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة (نوح) عليه السلام. وقيل: التماثيل: طلسمات كان يعملها ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالاً للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان ويأمرهم ألا يتجاوزوه، فلا يتجاوزه واحد أبداً ما دام ذلك التمثال قائماً.

وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء- قال: 

ويا رُبَّ يوم قد لهوتُ … وليلة بآنسة كَأَنها خَطُّ يَمْثَالِ 

وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك فيهم السلاح، ويقال: إن اسفنديار كان منهم والله أعلم. 

وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل کرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيها، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما. 

الثالثة: حكى مكي في «الهداية» له: أن فرقة تُجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية وذلك خطأ، وما أحفظ أحد عن من أئمة العلم من يجوزه. إن شاء الله قد قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله. قال النحاس قال قوم: عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح. وقال: صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها، والتوعد لمن عملها أو اتخذها، فنسخ بهذا ما كان مباحًا قبله. وكانت الحكمة في ذلك؛ لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد فكان الأصلح إزالتها.

الرابعة: التمثال على قسمين حيوان وموات، والموات على قسمين: جماد ونام، وقد كانت الجن تصنع السليمان جميعه لعموم قوله: {وتماثيل}. وفي الإسرائيليات أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان. 

فإن قيل: لا عموم لقوله: {وتماثيل له}؛ فإنه إثبات في نكرة، وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسرا، وأنهم كانوا أناسًا، ثم صُوِّروا بعد موتهم وعُبدوا. 

وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته وَكَسَوْه بزته إن كان رجلاً وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب فإذا أصاب أحدًا منهم كرب أو تجدد له مكروه فتح الباب عليه وجلس عنده يبكي ويناجيه بكان وكان حتى يكسر سَوْرَة حزنه بإهراق دموعه ثم يُغلق الباب عليه وينصرف عنه، وإن الزمان يعبدوها من جملة الأصنام والأوثان. فعلى هذا التأويل إن قلنا: إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا فليس ينقل عن ذلك حكم، وإن قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور نسخٌ له.

المسألة الخامسة، على ما بيناه في قسم الناسخ والمنسوخ قبل هذا. وإن قلنا: إن الذي كان يصنع له الصور المباحة من غير الحيوان، فشرعنا وشرعه واحد. وإن قلنا: إن الذي حرم عليه ما كان شخصاً لا ما كان رقما في ثوب، فقد اختلفت الأحاديث في ذلك اختلافا متبايناً بيناه في شرح الحديث، لُبابُه أن أمهات الأحاديث خمس أمهات. وتقدم ذكره.

 الثامنة وقد استثني من هذا الباب لعب البنات، لما ثبت عن عائشة منها: أن النبي لا تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع، ولعبها معها ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضًا قالت كنت العب بالبنات عند النبي وكان لي صواحب يلعبن فكان رسول الله إذا دخل ينتمعن منه، فَيُسرِّبُهُنَّ إلى فيلعبن معي. خرجهما مسلم. معي، قال العلماء وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات، حتى يتدربن على تربية أولادهن ثم إنه لا بقاء ،لذلك وكذلك ما يصنع من الحلاوة العجين لا بقاء له فرخص في ذلك، والله أعلم.

ثم قال ابن كثير رحمه الله: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد ابن منصور حدثنا الحسن بن موسى حدثنا يعقوب، عن أبي المطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر وهو قائم يصلي يزيد بن المهلب، قال: فلما انفتل من صلاته قال ذكرتم يزيد بن المهلب، أما إنه قتل في أولى أرض عبد فيها غير الله ، قال : ثم ذكروا رجلاً مسلما وكان محببا في قومه، فلما مات اعتكفوا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان، ثم قال: إني أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم أن أصوّر لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه؟ قالوا: نعم، فصوّر لهم مثله قال ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره قال هل لكم أن أجعل في منزل كل رجل منكم تمثالاً مثله فيكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم، قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالاً مثله فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال: وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به.

قال: وتناسلوا وَدَرَسَ أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد من دون الله الصنم الذي سموه وَدًّا.اهـ 

هذا الإسناد رجاله كلهم معروفون ثقات إلا يعقوب وهو: ابن عبدالله بن سعد القمي، صدوق يهم. أما أبو المطهر فما عرفنا من هو، والقصة من الإسرائيليات وما ذكر من أن التماثيل التي كانت تصنع لسليمان أنها من النحاس والزجاج والرخام، هذا كله ليس بصحيح. وهذا أيضا من الإسرائيليات والله أعلم من ماذا كانت تصنع.

وما جاء أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيها، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما هذا أيضا من الإسرائيليات.

وما ثبت عن النبي هذا التفصيل الذي ذكر، والله المستعان ويغني عن هذا حديث: ((أَنهم إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ أو العَبدُ الصَّالِحُ، بَنُوا عَلَى قَبْرِهِ مَسجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلقِ عِندَ الله))."