أرشيف المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 يونيو 2022

رأس الحسين تأليف الإمام المجتهد المُحقق تقيُّ الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الدمشقي (661 -728 هـ)

رأس الحسين

تأليف الإمام المجتهد المُحقق

تقيُّ الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الدمشقي

(661 -728 هـ)

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة


١. ولد الحسين رضي الله عنه في المدينة المنورة، ليلة 5/ شعبان، في العام 4 ﮪ.
٢. ولما ولد اذن النبي ﷺ في اذنه، وسماه حسيناً، وعقَّ عنه، وتصدق بزنة شعره فضة، وكان يحبه حبا جما؛ ولذلك قال فيه:
♢ "حسين مني وانا من حسين"...
♢ "أحب الله من أحب حسينا"...
٣. وكان الحسين كثير الصلاة والصوم والصدقة والحج؛ فقد روي عنه انه حج 25 حجة، ملبيا ماشيا..
٤. ولما توفي النبي ﷺ، كان الحسين مكرما معززا عند أبي بكر؛ الذي ما فتئ يوصي به وبأهله، فهم آل النبي، فكان يقول: "ارقبوا (أي: أكرموا) محمدا بإكرام أهل بيته"..
٥. ولما ولي عمر بن الخطاب الخلافة، كان يؤثره- وهو غلام- على ابنه "عبد الله"..
٦. وفي خلافة عثمان، كان قد جاوز العشرين من عمره، وانتظم في جيش المسلمين، الذي امتدت فتوحاته من طبرستان شرقا، إلى بلاد المغرب غربا، إلى بلاد فارس شمالا على ساحل بحر قزوين..
٧. وفي خلافة أبيه (علي بن ابي طالب)، حضر معه موقعة الجمل بالبصرة، وموقعة صفين، وغيرها..
٨. ولما استقر الحكم لمعاوية رضي الله عنه، ودانت له الدنيا، انضوى الحسين تحت حكمه، بعدما تنازل اخوه الحسن عن الخلافة طوعا، وحقنا لدماء المسلمين..
٩. ولما توفي معاوية، قام بأمر الخلافة من بعده ابنه يزيد، الذي كتب إلى والي المدينة "الوليد بن عتبة" يطلب منه أن ياخذ البيعة من الحسين.. ولكن الحسين امتنع عن مبايعته..
١٠. ولما علم اهل الكوفة بذلك، وكانوا اهل شقاق ونفاق، كتبوا إليه: "أن الحق بنا نبايعك وننصرك، ونسلم امرنا إليك، ونحن نموت دونك، وإن مائة ألف فارس مجرب ينصرونك"، فصدقهم الحسين، ولم يعلم انهم غرروا به، وكذبوا عليه، وأنهم إنما ارادوا الفتنة ..
١١. وعندما اقترب الحسين من ابواب الكوفة، وكان معه أهل بيته، وسبعين فارسا من أولاد عمومته وصاحبته المقربين، اكتشف أن الأمر خديعة، وأدرك انه يسير إلى كمين..
١٢. وفي لحظة مباغتة، وجد الحسين نفسه أمام جيش مكون من اربعة آلاف مقاتل، في منطقة "كربلاء"، وقام هذا الجيش بمحاصرتهم، ومنع الماء والمدد عنهم..
١٣. وأدرك الحسين حقيقة ما يعدونه له، فعرض على قائد الجيش "ابن زياد"، ثلاثة عروض لإنهاء الموقف؛ وهي:
  - أن يتركوه يرجع إلى مكة.
    (أو)
  - أن يذهب إلى يزيد ويتفاوض معه لحل الخلاف.
  (أو)
  - أن يتركه ليتوجه إلى أحد ثغور المسلمين؛ ليشترك معهم في الجهاد.
١٤. ولكن ابن زياد رفض العروض جميعها، ولم يقبل بواحدة منها، فقد كان يبتغي قتل الحسين والخلاص منه..
١٥. ولما أدرك الحسين انه سيقتل لا محالة، أراد دفع الأذى عن أصحابه وأهل بيته، فأمرهم بالمغادرة، والعودة؛ ليبقى هو وحده أمامهم، وقال لهم: "لقد بررتهم وعاونتم ولكنهم لا يريدون غيري.. ولو قتلوني لن يبتغوا أحدا غيري"..
١٦. فرفض أصحاب الحسين خذلانه في موقف يتطلب فيه النصرة، وقالوا له: "والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا.. ونقاتل معك، حتى نرد موردك"..
١٧. ولم يكن الحسين هو المبادر للقتال، بل اكتفى بالجلوس هو اصحابه في مكانهم، حتى إذا عطش طفله "عبد الله"، تقدم إلى الفرات ليسقيه، فأرسل جيش ابن زياد سهما في قلب الطفل، وسهما في وجه أبيه الحسين..
١٨. فهب الفرسان للدفاع عن أميرهم وصاحبهم "الحسين"، فكانوا يتلقون موجات ضاربة، وكتل صماء من الجنود، حتى صرعوا جميعا وقتل الحسين، وقطع راسه، ومثلوا بجسده، وهو يذب عن خيام اهله ونسائه، وذلك في 10/ محرم/ سنة 61ﮪ..
  وجاءت الروايات بأن "شمر بن ذي الجوشن" هو الذي قام بقطع رأس الحسين، بعد أن سدد إلى عنق الحسين اثنتي عشرة ضربة، كان آخرها انفصال الراس الطاهر..
وكان "لابن ذي الجوشن" ضلع عظيم في تحريض ابن زياد وتغريره وتجريئه على قتل الحسين..
١٩. ولم ينج من ذريته واهله سوى النساء، وابنه "علي زين العابدين"، الذي كان مريضا وقت الحادثة، وقد اخذوا جميعا سبايا إلى الكوفة..
٢٠. واتفقت الأقوال على أن جسد الحسين دفن مع أصحابه الذين قتلوا معه في كربلاء.. وذلك في اليوم التالي للحادثة، وقبره معروف هناك إلى اليوم..
٢١. أما رأس الحسين؛ فاختلفوا فيه:
  ▪  فقيل: بعثه يزيد إلى المدينة؛ وأمر بدفنه في البقيع، بجوار قبر أمه وأخيه الحسن.. وهو ما نرجحه، ويؤيده قول شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فيقول: " أما (رأس الحسين)؛ فمدفون بالمدينة عند قبر أمه فاطمة... وأما (بدن الحسين)؛ فمدفون بمصرعه هناك (بكربلاء)، ولم ينبش ولم يمثل به أحد!.."..
▪ وقيل: دفن بمدينة "مرو" بخراسان، وهو بعيد..
▪ وقيل: دفن بمدينة "الرقة" بالعراق..
▪ وقيل: دفن "بدمشق" عند باب الفراديس..
▪ وقيل: دفن بعسقلان، بعد أن طيف به في كل الأمصار..وقواه بعضهم. والصحيح أنه قول ضعيف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "و(المشهد العسقلاني) انشأ بعد عام 490 ﮪ، أي بعد مقتل الحسين بأكثر من 430 سنة...".
▪ وقيل: دفن في مصر، وهو قول لا يصح بحال؛ وذكر هذا القول: ابن خلكان (608 ﮪ / 681 ﮪ) في تاريخه، وابن بطوطة (703ﮪ/ 779ﮪ) في رحلته، ويذكر انه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي في (القاهرة) كذب مختلق بلا نزاع، وهو منقول عن (المشهد العسقلاني)، وهو ايضا كذب"..
وقال: "وأما (المشهد المصري)؛ فأنشأوه بعد مقتل الحسين بما يقرب على 500 سنة، وهذا باتفاق أهل العلم...".. اي حوالى سنة ( 548ﮪ) تقريبا..
واتفق الناقلون لذلك أن الذي قام بنقل الرأس من عسقلان إلى مصر، هو الرافضي العلوي المصري: الصالح طلائع بن رزيق (وزير الفاطميين في مصر) (495 ﮪ/ 556 ﮪ)، والذي قام بدفع مبلغ ثلاثين ألف دينار للفرنجة، حتى يمكنوه من نقل الرأس من عسقلان إلى مصر..
ومعلوم أن الفرنجة استولوا على فلسطين وعسقلان في العام (548 ﮪ)، وخلصها صلاح الدين من أيديهم في العام (587 ﮪ)..
وعليه؛ فإن ابن بطوطة وابن خلكان وغيرهم لم يدركوا الواقعة أصلاً، فكيف يجزمون بذلك، ويصيرونها، وكأنها رؤيا عين..
وكيف تجرأ ابن بطوطة على القول بأنه شاهد نقل الراس، وقد كان ذلك قبل مولده..!!..
ويبدو أن ابناء تلك الحقبة قد تأثروا بما تناقله الناس في مصر، من وجود راس الحسين عندهم، بحيث تصعب مخالفتهم، أو القول بغير قولهم..
أضف إلى ذلك محبة المصريين الجامحة لأهل البيت سيما وأن فترة الفاطميين قد أثرت فيهم ايما تأثير، مع طول المدة، وتجذر التشيع فيها..
ونذكر منهم،
_ ابن الميسر (المؤرخ المصري، ت 677 ﮪ).
- وأحمد القلقشندي المصري (756 ﮪ/ 821 ﮪ).
- وإبراهيم بن وصيف شاه (ت 599 ﮪ)، وهو اقربهم إلى الحادثة، ونقل ذلك، وقد نقل الراس قبل خمسين عاما من وفاته، ولاننا لا نعلم ولادته، فإننا لا ندري هل راى الحادثة بعيني رأسه، وعلى فرض انه رآها، فإنه لم يرد عنه ولا عن واحد منهم انه رأى حقيقة راس الحسين..
-  ومنهم المقريزي المصري (766 ﮪ/  845 ﮪ ).
- وقد عاين قبر الحسين الرحالة ابن جبير الأندلسي (540 ﮪ/ 614 ﮪ)، وذلك في العام (578 ﮪ)، أي بعد دفن الرأس ب (29)  عاما.. والصحيح أنهما لم يدركا حادثة النقل ولا رأياها..
يقول ابن جبير عن الرأس: "وهو في تابوت فضة، مدفون تحت الأرض، وقد بني عليه بنيان جميل يقصر الوصف عنه، وهو مجلل بانواع الديباج، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعا ابيض، وعلقت عليه قناديل الفضة.." الخ.
- ولما جدد الأمير "عبد الرحمن كتخدا" المشهد الحسيني في العام (1175 ﮪ)،  ذكر المؤرخ "عثمان ملوخ" في كتابه (العدل الشاهد)، ان الشيخان: الجوهري الشافعي، والملوي المالكي، دخلا القبر فرأيا: "كرسي من خشب -كالمنضدة- فوقه طست من ذهب، فوقه ستارة من الحرير الأخضر، داخله الرأس الشريف!!..".
والصحيح أنهما لم يتبينا حقيقة الرأس، ربما لأنهما هابا فتح اللفافة التي عليه..!!.
وعلى كل فقد جدد بناءه "عبد الرحمن كتخدا"، وارخ عليه وكتب:
مسجد الحسين أصل المعاني.. لا يضاهيه في البقاع علاء
فيه فضل الرحمن للعبد نادى ... زر وارخ لك الهنا والرضاء
- وجدد بناءه ايضا "علي ابو الانوار"، وارخه، وكتب عليه:
انشا علي ابو الانوار سيدنا ... بابا لسبط رسول الله ذي الرشد
وحسن إشراق نور الله أرخه ... باب حماه عظيم الجاه والولد
- وجدد بناءه الخديوي إسماعيل، وصنع له منبراً..
- وقام عبد الرحمن التازي بكسوة المحراب بالقاشاني (نوع نفيس من الثياب)، وكتب عليه: اللهم كن برحمتك خير مجازي لمنشئه عبد الواحد التازي..!!
واستمر التجديد لمدة ثمانية قرون، كل يضيف ما يحلو له، ويكتب ما بدا له..
والملاحظ أن النقش على التابوت كتبت عليه آيات لا علاقة لها بالحسين، ولا بتاريخ وفاته، إنما هي آيات كريمات فقط..
- ويذكر أهل التاريخ ان الوزير طلائع، استقبل الرأس حافيا، ووضعه على حرير أخضر، وحمله إلى قصر الزمرد، ودفنه في سرداب القصر، وبقي مدة عام، حتى انشا له ضريح؛ ثم نقل إلى هذا الضريح في العام التالي لوصوله.. وذلك في العام (549 ﮪ).
▪ ومن العجيب أنك إن ذكرت ذلك؛ قالوا: إن لم يكن هذا المكان مثوى راسه؛ فليكن المكان الذي نحيي فيه ذكراه..
...........................
وكتبه، ا.  محمد حنونة.
حقوق النشر محفوظة.





الأربعاء، 8 يونيو 2022

زكاة الزيتون أ. د. سلمان بن نصر الداية

زكاة الزيتون

أ. د. سلمان بن نصر الداية

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة



تمهيد/ إن مما أنعم الله به على عباده نعمة الزرع والثمر، ومن جملة الثمر: ثمرة الزيتون المباركة، التي ذكرت في القرآن الكريم في مواضع متعددة، فقد أخبر الله تعالى أن شجرتها مباركة؛ فقال: {شجرةٍ مُباركةٍ زيتونة} (النور: ٣٥)، وأقسم بها في موضع آخر؛ فقال سبحانه: {والتين والزيتون} (التين: ١)، وذكرها في مقام الامتنان على عباده؛ فقال جل شأنه: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ} (النحل: ١١)، وقال سبحانه: {وزيتوناً ونخلاً} (عبس: ٢١)، وقال في مقام بيان قدرته: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (الأنعام: ١٤١).

وهذا بحثٌ موجز نفيس في بيان حكم زكاة الزيتون، وما يجب على المكلف في ذلك، ويقع هذا البحث في مقدمة، ومطلب واحد وخاتمة، وتحدث الباحث في المقدمة عن فضل الزكاة، والترهيب من منع إخراجها.

وأما المطلب فتحدث فيه عن حكم زكاة الزيتون، ومذاهب العلماء فيه، ثم ذكر في الخاتمة القول الراجح في هذه المسألة، مع ذكر مسوغات الترجيح.

وقد رجَّح الباحث المذهب القائل بعدم وجوب الزكاة في الزيتون، وأن الزيتون عندنا مما عفا عنـه، كعفـوه عـن الخـضراوات والفواكه.

وإليك البيان:

اختلف العلماء في وجوب الزكاة في الزيتون على أقوال:

١) ذهب الشافعية  في الجديد والظاهرية إلى أنه لا زكاة في الزيتون؛ وهو رواية عن أحمد، وبه قال الحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وأبو عبيد.

٢) وذهب الحنفية والمالكية إلى أن فيه الزكاة، وهو قول الزهري والأوزاعي، والليث،والثوري، وأبو ثور، وهو قول الشافعي في القديم، ورواية عن أحمد، وقول ابن عباس. واختلفوا في كيفية زكاته:

أ- فقال الزهري، والليث، والأوزاعي: يخرص فتؤخذ زكاته زيتاً.

ب- وقال مالك: لا يخرص، بل يؤخذ العشر بعد عصره وبلوغه خمسة أوسق.

ومنشأ الخلاف بين الفريقين:

هو اختلافهم في تعلق الزكاة بالأصناف الأربعة المذكورة في الحديث، وهي (القمح، والشعير، والتمر، والزبيب)، هل هو:

واجبٌ لعينها، أو لعلة فيها، وهي الاقتيات والإدخار؟ 

أ- فمن قال: يجب لعينها، قصر الوجوب عليها.

ب- ومن قال: يجب لعلة الاقتيات، عدى الوجوب لجميع المقتات.

واختلفوا: هل الزيتون هو قوت، أو ليس بقوت؟

أ-فمن قال إنه قوت: أوجب الزكاة فيه.

ب-ومن قال ليس بقوت: لم يوجب الزكاة فيه.

واستدل القائلون بوجوب الزكاة في الزيتون:

1) تغليب الأدلة القائلة بعموم الزكاة في كل ما أخرجته الأرض، ومن ذلك قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الأنعام: ١٤١) أي: يوم جزّه وقطعه.

وجه الدلالة: أن الزكاة تجب الزكاة في كل ما خرج من الأرض باستثناء ما أجمع الفقهاء على أنه لا زكاة فيه كالحشيش النابت من الأرض، والحطب والقصب.

واعترض عليه: بأن الآية تحكي حكْماً أَمر االلهُ به المؤمنين قَبلَ أن تفرض عليهم الزكاة المعلومة، فكانوا إذا مر بهم أحد يوم الحصادِ أو الجِذَاذِ أطعموا منه، فليس المقصود إذن بيان حكم الزكاة.

ثم إن الله -سبحانه -نسخ الحكم الوارد في الآية بالزكاة، وممن قال بالنسخ: ابن عباس، وابن الحنفية، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وانتصر له ابن جرير الطبري.

3) استدلوا بعموم حديث ابن عمر، مرفوعاً (فيما سقت السماء العشر،  وفيما سُقي بالسواني أو النضح نصف العُشر) "صحيح".

وجه الدلالة: أن الحديث يعم كل ما تخرجه الأرض، ويدخل في عمومه الزيتون؛ فإن كان يسقى بماء السماء والنهر أو كان عثرياً ففيه العشر، وإن كان بالنضح فنصف العشر.

واعترض عليه: بأن أن الحديث إنما جاء لبيان القدر الواجب إِخراجه مما تجب فيه الزكاة من نبات الأرض، وليس المراد منه العموم في كل ما أخرج منها؛ لأنه ورد في السنة ما يخصص الزكاة في أصناف معينة من الحب والثمر.

فأجاب الموجبون: بأن الحديث جاء للعموم في كل مسقي، وذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، ولا تعارض في إيجاب الزكاة في الزيتون مع إيجاب الزكاة في غيره.

ورد عليهم: بأنه لو كانت الزكاة واجبةً في الزيتون وغيره؛ لبينها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكنه لم يفعل، وكذلك أصحابه من بعده.

4) وعن الأوزاعي أن ابن شِهابٍ الزهري، قال: (مضت السنة في زكاة الزيتـون أن تؤخذ ممن عصر زيتونه حين يعصره فيما سقت السماء والأنهار أو كان بعـلاً العشر، وفيما سقي بالرشاء أو النضح نصف العشر).

ويُجاب عليه: أن هذا الأثر موقوف لا يعلم اشتهاره، ولا يحتج به على الصحيح. وقد جاء ما يُعارضه من حديث معاذ الآتي: (لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة) "صحيح" ولم يذكر منها الزيتون.

5) أنه يمكن ادخار غلة الزيتون؛ فأشبه التمر والزبيب.

ويُجاب بأن الزيتون لم يخرج الصحابة زكاته، ولا أمروا بذلك، ولم يثبت ذلك عنهم، فيكون ترك زكاته إجماعاً منهم.

واستدل القائلون بالمنع:

1) أن النص جاء بحصر الزكاة في أربعة أصناف، كما في حديث معاذ بن جبل، قال لهما لما بعثهما إلى اليمن: (لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والتمر، والزبيب) رواه البيهقي في الكبرى.

2) في قوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام: ١٤١).

وجه الدلالة: أن الله تعالى ذكر الزيتون والرمان في سياق واحد، ولا زكاة في الرمان عند الأكثـر دون أبـي حنيفة، فلزم –بسبيل المجاورة – أن يكون الزيتون كذلك ليس فيه زكاة.

واعترض عليه: بأن الآية إنما وردت عامة فيما يقتات ويدخر، فخرج بذلك الرمان؛ لأنه لا يقتات ولا يدخر، وبقي ما عداه تحت حكم العموم، ومن جملة ذلك الزيتون؛ لأنه عندهم يُقتات ويدخر. أما أبو حنيفة، فقد أفاد أن الآية على عمومها لم يخصصها شيء، وبالتالي يدخل في ذلك: الزيتون والرمان معاً.

وقالوا: يوم حصاده هو يوم قطعه، فذلك قد يكون في الخضر، وفي كل ما يقطع من الثمار عـن شجرة، سواء كان بالغاً أو أخضر رطباً.

ويُجاب عليه: بأن المرجع في معرفة الأصناف التي تجب فيها الزكاة، هو أقوال النبيِّ -صلى الله عليه وسلم -والآثار الورادة عن أصحابه، ومن ذلك:

ما رواه سفيان قال: بعث الحجاج بموسى بن المغيرة علـى الخـضر والسواد، فأراد أن يأخذ من الخضر الرطاب والبقول، فقال موسى بن طلحة عندنا كتاب معاذ عن رسول االله -صلى الله عليه وسلم -(أَنَّه أَمره أَن يأْخُذَ مِن الحنْطَةِ والشَّعِيرِ والتَّمرِ والزبِيبِ). قَـال: فَكَتَب إِلَى الحجاجِ فِي ذَلِك، فَقَالْ : صدق. وفي رواية له: (أنه ليس في الخضر شيء).

وروى البيهقي وابن الجارود بإسناد صحيح، عن موسى بن طلحة: (أن مـعاذاً لم يأخذ من الخضروات صدقة).

3) عـن أبي موسى، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعثهما إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم، فقال: (لَاْ تَأْخُذَا الصدقَة إِلَّاْ مِـن هـذِهِ الَأْصـنَافِ؛ الأَربعـةِ: الشعيِر، والحنطةِ، والزبيبِ، والتمر).

الشاهد: أفاد الحديث برواياته حصر الزكاة في الأصناف الأربعة التي اجتمعت فيها صفتي القوت والادخار. وقد ألحق كثير من العلمـاء المالكية والشافعية والحنابلة كل ما تتحقـق فيـه علة القوت والادخار.

ولا يخفى أن الزيتـون ليس مما يُقتات عليه، ولا مما يدخر يابساً، فإنـه كالخضروات، كما ذكر الإمام أحمد في رواية المذهب، وإن زيته من الإدام لا من القوت كما ذكر الشافعي في الجديد، وعليه فلا تجب فيه الزكاة.

كما أن المقصود بالزكاة سد الخُلة، ولا يكون ذلك إلا بما يُقتات عليه؛ فيخرج بذلك الزيتون من عموم ما أخرجته الأرض.

واعترض عليه: بأن الزيتون من أعظم القوت، وأنه يدخر زيتاً ، ويدخر حباً.

والجواب: أن هناك ما هو أعظم قوتاً من الأصناف الأربعة، مع إمكان إدخاره، ولم يوجب النبيُّ صلى الله عليه وسلم -فيها الزكاة، ولا أصحابه من بعده، فعُلم بطلان هذه الحجة.




جزء فيه حديث القلتين بجميع طرقه الثابتة هذا جمع الإمام الحافظ الناقد ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (ت 643 هـ).

جزء فيه حديث القلتين بجميع طرقه الثابتة

هذا جمع الإمام الحافظ الناقد

ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي (ت 643 هـ).

تحقيق: يوسف بن محمد بن مروان بن سليمان البخاري الأوزبكي المقدسي.

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الجزء هو جزءٌ لطيف فريد، ألفه الحافظ الضياء المقدسي في حدود سنة (631 هـ)، وذلك للرد على كلام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر النَمريّ المالكي في قوله باضطراب حديث القلتين وضعفه، وبيَّن فيه ثبوت الحديث، وسلامته مما يقتضي ردَّه، وقد فصَّل الكلام عليه، فجاء شافياً كافياً، وقد اختلف العلماء في سند هذا الحديث ولفظه ومعناه ودلالته اختلافًا طويلاً.

والحق أن خير من حقَّق القول فيه ومحَّصه تمحيصًا دقيقًا من جميع وجوهه: الإمام العلامة المحقق شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (تهذيب سنن أبي داود)، ونحن نكتفي هنا بما أورده الحافظ الضياء في جزئه هذا، وما يميز هذا الجزء الحديثي أنه قُرئ بالمسجد الحرام في لقاء العشر الأواخر من رمضان (1432 هـ)، ثم بمحراب المسجد الأقصى المبارك يوم عرفة (1433هـ).

لفظ الحديث:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سُئل رسول الله  عن الماء، وما ينوبه من الدواب والسباع؟ فقال: ((إذا كان الماء قلَّتين لم يحمل الخبَث))، وفي لفظ: ((لم ينجسه شيء)).

طرق الحديث:

رُوي هذا الحديث: عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ والْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ كلاهما، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ.

رواه الحسين بن نصر، وأبو بكر الباهلي وجماعة، عن يزيد بن هارون عن محمد بن إسحاق.

 إسحاق بن راهويه وجماعة ()، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن الوليد بن كثير.

ورُوي أيضاً في مسند عبد بن حميد: عن حماد بن سلمة()، عن عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عن عُبَيْدِ اللَّه بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عن أبيه، مرفوعاً، وعند ابن أبي شيبة: موقوفاً على ابن عمر.

ورواه الحميدي عن أبي أسامة: حدثنا الوليد، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فهذان وجهان.

تخريج الحديث:

رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني، وغير واحدٍ من الأئمة.

كلام الحافظ ابن عبد البَرِّ المالكي:

قال في كتابه (التمهيد، 1/ 328- 329) في حدِّ الماء: "وأما الشَّافعيُّ، فحَدَّ في ذلك حدَّاً بين القليل والكثير؛ لحديث ابن عمر عن النبي : "إذا كان الماء قلتين لم تلحقه نجاسة"، أو "لم يحمل خبثاً".

*حجة ابن عبد البر في تضعيف الحديث:

1) أن الحديث مضطرب سنداً، ومثَّل لذلك ببعض طرقه، فقال (1/ 329): فَالْوَلِيدُ يَجْعَلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ يَجْعَلُهُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وعاصم بن المنذر، يجعله عَنْ أبي بكر ابن عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَيْهِ.

2) أن الحديث مختلفٌ في وقفه ورفعه: فذكر ابن عبد البر: أن عاصم بن المنذر، رواه عن أبي بكر بن عبيد الله عن ابن عمر موقوفاً، غير مرفوع.

3) أن الحديث مضطرب متناً، ومثَّل لذلك، فقال: قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِيهِ: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ"، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ: "إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْصُلِ الْخَبَث"، وَهَذَا اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ.

4) أن الْقُلَّتَيْنِ غَيْرُ مَعْرُوفَتَيْنِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِمَا لَا يَعْرِفُونَهُ.

الأجوبة على إيرادات الحافظ ابن عبد الـبَّـر:

أولاً: قال الدارقطني في هاتين الروايتين: اختلف على أبي أسامة. وصحَّ أن الوليد بن كثير رواه عنهما جميعًا: وكان أبو أسامة مرة يحدث به:

عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عمر. 

ومرة يحدث به عن الوليد، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر.

وبهذا ينكشف الاختلاف في رواية عبد الله بن عبد الله. فيكون –والله أعلم- قد رواه محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيهما.

ثانياً: على تقدير أن الراوي لهذا الحديث واحدٌ من أولاد عبد الله بن عمر: إما عبد الله، وإما عُبيد الله، فهذا لا يمنع من الاحتجاج بالحديث، وتصحيحه، فقد رُوي في الكتب الستة نحو هذا، ولم يمتنعوا من إخراج هذا النوع في كتبهم.

ذكر لذلك أمثلة، وهي:

الأول: وقع عند البخاري في حديث جابر: "كان النبيُّ إذا خطب يقوم إلى جذعٍ منها..."الحديث.

رواه البخاري في علامات النبوة، عن يحيى بن سعيد، عن حفص بن عبيد الله بن أنس، عن جابر.

ورواه أيضاً في الصلاة: عن يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرني ابن أنس، عن جابر.

والصحيح: أن هذا الأمر غير ظاهرٍ في هذا المثال، وقد تعقبه صاحب "أطراف الصحيحين" الإمام أبي مسعود إبراهيم بن محمد الدمشقي، بقوله: نقول فيه: عن يحيى، عن عُبيد الله بن حفص بن أنس، فجعله البخاري عن ابن أنس؛ ليكون أقرب للصواب، ولم يُسمِّه.

الثاني: عند البخاري في باب المغازي والأدب، عن ابن عمر: "أن النبي لما حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئاً، فقال: إنا قافلون غداً إن شاء الله..." الحديث.

فرواه البخاري عن عمرو بن دينار، عن أبي العباس السائب بن فروخ، عن ابن عمر بن الخطاب.

ورواه مسلم في صحيحه، عن عمرو بن دينار، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وهو هنا أظهر من الأول.

الثالث: حديث أبي أيوب الأنصاري: أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة، فقال القوم: ما له ما له..." الحديث.

رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن شعبة، عن "محمد بن عثمان بن موهب"، وأبيه عثمان بن موهب، أنهما سمعا موسى بن طلحة، يُخبر عن أبي أيوب.

وقال البخاريُّ: أخشى أن يكون "محمد" غير محفوظ، إنما هو عمرو".

وقال ابن أبي حاتم: غلط شعبة في اسمه، إنما هو "عمرو بن عثمان".

ورواه أحمد عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن عثمان، عن موسى بن طلحة.

ورواه مسلم عن عبد الله بن عمير، عمرو بن عثمان، عن موسى بن طلحة، عن أبي أيوب.

الرابع: حديث أبي عامر، أو أبي مالك: عن النبي : "ليكونن في أمتي قومٌ يستحلون الحرير والخمر" رواه البخاري في الأشربة.

الخامس: هو حديث أبي حميد أو أبي أسيد، عن النبي : "إذا دخل أحدكم المسجد، فليقل: اللهمَّ افتح لي أبواب رحمتك..." الحديث. رواه مسلم في الصلاة.

السادس: حديث كعب بن مالك الأنصاري: "أن النَّبيَّ  كان يأكل بثلاثة أصابع؛ فإذا فرغ لعقها". رواه مسلم في صحيحه، باب الأطعمة، عن عبد الرحمن بن مسعد، عن عبد الرحمن بن كعب، أو عبد الله بن كعب عن أبيه.

السابع: حديث حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أو أبي سعيد الخدري، عن النَّبيِّ : "سبعةٌ يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ..." الحديث، رواه مسلم في صحيحه.

الثامن: حديث أبي صالح عن أبي هريرة أو أبي سعيد بالشك: "لما كانت غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا، فنحرنا بعض رواحلنا..." الحديث، رواه مسلم في الإيمان.

قال المصنف: ولو ذهبنا نعدُّ ما في الصحيح من هذا لطال، وإلى الله المرجع والمآل، وهو حسبنا على كل حال…

ثالثاً: ما ذكره من الاختلاف في وقفه ورفعه، من رواية عاصم بن المنذر، فنقول: إن عاصماً –هذا- رواه عن عُبيد الله بن عبد الله مرفوعاً، ورواه عن أبي بكرة موقوفاً. ورواية من رفعه، أولى بمتابعة رواية محمد بن إسحاق في رفعه، والله أعلم.

رابعاً: أما القول باضطراب المتن: لأن في رواية حماد بن سلمة: "إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً"، فقد رواه عنه غير واحدٍ كذلك، وفي بعض رواياته: "إذا كان الماء قلتين"، ولم يقولوا ثلاثاً.

فإذا تبيَّن أن حماد بن سلمة كان يرويه مرَّةً هكذا، ومرةً هكذا، كان الأولى الأخذ بالقول الذي يقول فيه: "قلتين"؛ لموافقة رواية عبد الله بن عبد الله، ورواية محمد بن إسحاق لها، والله أعلم.

خامساً: وأما القول بأن قلال هجر لم تكن معروفة فغير صحيح، فقد روى إسحاق بن راهويه بسنده عن عاصم بن المنذر، قال: القلال الخوابي العظام.

وروى ابن جريج، عن يحيى بن عقيل أنه سأل يحيى بن يعمر، قال: فأظن أن كل قلة تأخذ فرقين.

وقد رُوي في الصحيح من حديث مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ثُم رُفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر"، فدل ذلك على أن القلال معروفة عندهم غير مستنكرة، والله أعلم بالصواب.