أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 10 فبراير 2021

تنوير البصيرة ببيان علامات الكبيرة -لأبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري

تنوير البصيرة ببيان علامات الكبيرة

لأبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري

إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ لما خلق الله الإنسان علم ضعفه أمام المغريات، وأن الشهوة تغلب عليه، كذلك فإن الشياطين تُزين له المعاصي، وتستفزه إليها، ولا ينجو من هذه الآثام والمعاصي إلا من أدركه اللطف الإلهي، وأسعفه التوفيق الرباني، ولا يخلو إنسانٌ من ذنب وعيب ونقص، وهذه الذنوب متفاوتة في الجرم، وبعضها أكبر من بعض، وبعضها أعظم من بعض، بحسب ما تعلق بها من الوعيد والعقوبة وإيصال الأذى والضرر للآخرين.

وهذه رسالةٌ لطيفة فيها بيان بعض العلامات والأمارات التي تدلُّ على أن هذه المعصية كبيرةٌ من الكبائر، وقد ذكر فيها الغماري -رحمه الله -خمسةً وأربعين علامة وأمارة تدلُّ على أن هذه المعصية كبيرة من كبائر الذنوب، ويندرج تحت كل نوعٍ منها كبيرة أو أكثر، وقد تكون الكبيرة الواحدة فيها أكثر من أمارة وعلامة، وقد تكون بعض هذه الأمارات مترادفة أو متقاربة في الإثم والعقوبة.

وإذا أردنا تعريف الكبيرة فهي: ارتكاب العبد شيئاً مما فيه حدٌّ في الدنيا: كالقتل، والزنا، والسرقة، أو جاء فيه وعيدٌ في الآخرة، من عذابٍ أو غضبٍ، فهذه هي الكبيرة.

أو: هي كل ذنبٍ قُرن به وعيدٌ، أو لعنٌ بنصِّ كتابٍ أو سنةٍ، أو عُلم أن مفسدته كمفسدة ما قُرن به وعيد أو حد أو لعن، أو أكثر من مفسدته.

والكبائر كما سبق -متفاوتة في الإثم عند الله سبحانه؛ فبعضها أفحش وأقبح من بعض، فالزنا كبيرة، لكن الزنى بإحدى المحارم أقبح وأكبر، ثم بحليلة الجار، ثم بالمغيبة (وهي التي غاب عنها زوجها في سفرٍ)، ويشتد الإثم إذا كان في سفر طاعة: كالحج والجهاد وطلب العلم ونحو ذلك. كذلك أكل لحم الخنزير أكبر إثماً من أكل لحم الميتة. وأكل مال المسلم بغير حقٍ كبيرة لكنه بالنسبة لمال اليتيم أشدُّ إثماً، وهكذا.

ولا بُدَّ للكبيرة من توبة يمسح بها العبد تبعة الذنب، ولا بُدَّ من ردِّ المظالم إلى أهلها، خلاف الصغيرة التي يُكفرها ثلاثة أشياء، وهي:

1. (اجتناب الكبائر)، روى الشيخان، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إلّا كَفَّرَ اللَّهُ بها عنْه، حتّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها).

2. ويكفرها (اتباع السيئة بالحسنة)، قال تعالى: {إن الحسنات يُذهبن السيئات} (هود: 114)، وفي الحديث، عن أبي ذرٍ الغفاري مرفوعاً: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).

3. ويُكفرها (المصيبة تنزل بالمؤمن) قال الله عز وجل: {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نُكفر عنكم سيئاتكم} (النساء: 31)، وفي مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لا بينهن إذا اجتنبت الكبائر).

ولا بُدَّ من التنبيه إلى أن الصغيرة قد تنقلب كبيرةً بما يُلابسه العبد من أحوال، وبانضمام المعصية إلى أختها، كما أن الإصرار على الكبيرة "كبيرة"، وقيل: الإصرار على الصغيرة صغيرة.

وأما ما يُكفر الكبيرة: فأمورٌ أربعة:

1. الحد المُرتّب على بعضها: وفي حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال وحوله عصابةٌ من أصحابه: (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً؛ فعوقب في الدُّنيا؛ فهو كفارةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله؛ فهو إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه) /رواه الشيخان/، وفي الحديث عن خزيمة بن ثابتٍ مرفوعاً: (مَنْ أصابَ ذَنْبًا فأُقِيمَ عليهِ حَدُّ ذلِكَ الذنبِ فهو كفارَتُهُ).

2. الشهادة في سبيل الله: لحديث: (يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلّا الدَّيْنَ) رواه مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً؛ فمن يُقتل في سبيل الله صابراً مُحتسباً، مُقبلاً غير مُدبرٍ؛ فإن الله عز وجل يُكفر عنه ذنوبه وخطاياه، ومعناه في الحديث كثير.

3. القتل: فإذا قُتل مرتكبُ الكبيرة ظلماً؛ فإن ذلك له كفارة؛ لحديث عائشة مرفوعاً: (قَتْلُ الصبرِ لا يمرُّ بذنبٍ إلا محاه) وحسنه الألباني في الصحيحة (2016)، وقتل الصبر: أن يُقتل الرجل مُقيداً، وقصره الغماري على القتل العمد. ولا مانع أن يدخل في التكفير القتل الخطأ.

4. أعمال ثبت فيها أنها تُكفر الذنوب: كالحج المبرور، وقيام ليلة القدر. كما روى البخاري، عن عائشة مرفوعاً: (مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجَع كما ولَدَتْه أمُّه).

علامات الكبيرة

اعلم أن الشارع نصب علامات يعرف بها كون المعصية كبيرة، وهذه العلامات كثيرة منتشرة في الكتاب والسنة، ومن هذه العلامات:

أولاً: إيجاب الحد على المعصية، ويدخل تحتها عدة كبائر:

1. قتل المؤمن عمداً. 2. الزنا: 3. القذف 4. السرقة.

5. شرب الخمر. 6. اللواط. 7. قطع الطريق.

أما قتل المؤمن متعمداً؛ فقال سبحانه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء: 93).

وأما الزنى؛ فقال سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 2).

وأما قذف المحصنات؛ فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 4).

وأما السرقة؛ فقد قال الله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38).

وأما شرب الخمر؛ فقد ثبت فيه الحد بالجلد من حديث عمر، والسائب بن يزيد، وأبي هريرة، وعقبة بن الحارث عند البخاري، ومن حديث أنس عند مسلم، وانعقد عليه الإجماع.

وأما اللواط؛ فقد روى أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح، عن ابن عباس مرفوعاً: (مَن وجَدْتُموه يعمَلُ عمَلَ قومِ لوطٍ فاقتُلوا الفاعلَ والمفعولَ به).

وأما الحرابة وقطع الطريق؛ فقد قال الله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33).

ثانياً: تسمية المعصية كبيرة، أو أكبر الكبائر، ولذلك أمثلة، منها:

ومن ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه"، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (الكَبائِرُ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ)، وروى البخاري، عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: (إنَّ مِن أكْبَرِ الكَبائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ والِدَيْهِ قيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، وكيفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟ قالَ: يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ)، وروى عن ابن مسعودٍ مرفوعاً: (قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ مِن أجْلِ أنْ يَطْعَمَ معكَ قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: أنْ تُزانِيَ حَلِيلَةَ جارِكَ).

ثالثاً: وصف المعصية بأنها موبقة (بكسر الباء):

ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلّا بالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبا، وَأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلات).

رابعاً: وصف المعصية بأنها فاحشة:

قال سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} (النساء: 22)، وقال جل وعلا: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء: 32)، وقال سبحانه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (النمل: 54).

خامساً:  وصف المعصية بأنها من عمل الشيطان:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90)، فالخمر والميسر والأنصاب كبائر.

سادساً: وصف المعصية أو فاعلها بالفسق:

قال الله جل وعلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (المائدة: 3). فالفاعل لأحد الأمور الأحد عشر يكون مرتكباً لكبيرة من الكبائر، وروى الشيخان، عن ابن مسعود مرفوعاً: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).

سابعاً: الخبر بأن الله تعالى يُحارب فاعلها:

ومن ذلك كبيرة الربا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 278، 279)، وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: (إنَّ اللَّهَ قالَ: مَن عادى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ)، وفي هذا تحذيرٌ لمن يؤذي عباد الله المتقين، الملازمين لشرعه ودينه.

ثامناً: الخبر بأن الله لا يُحبها، أو لا يُحب فاعلها، أو أن الله يبغضه:

قال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (النساء: 148). وقال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء: 36)، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (الأنفال: 58)، فالجهر بالسوء من السب والقذف والشتم لا يجوز وهو من الكبائر. وكذلك الخيانة، والفخر والخيلاء.

تاسعاً: لعن فاعلها:

ومن ذلك ما رواه أبو داود في "سننه"، عن أبي هريرة مرفوعاً: (ملعونٌ من أتى امرأتَهُ في دبرِها). وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود".

وروى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً: (لَعَنَ اللَّهُ الواصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، والواشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ)، وروى أبو داود في "سننه"، عن ابن عباس مرفوعاً: (لعن المتشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرِّجالِ، والمتشَبِّهينَ مِن الرجالِ بالنِّساءِ).

عاشراً: وصف فاعلها بأن الله لا ينظر إليه:

ومن ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ إلى مَن جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ)، وروى مسلم والنسائي، عن أبي هريرة مرفوعاً: (ثلاثةٌ لا ينظرُ اللهُ إليهم يومَ القيامةِ أُشَيْمطٌ زاني وعائلٌ مستكبِرٌ ورجلٌ جعل اللهَ بِضاعتَه لا يشتري إلّا بيمينِه ولا يبيعُ إلّا بيمينِه).

الحادي عشر: الإخبار بأنه لا يدخل الجنة:

ومن ذلك ما رواه البيهقي في "الشعب" عن عمار بن ياسر مرفوعاً: (ثلاثةٌ لا يَدخلُونَ الجنةَ أبدًا: الدَّيُّوثُ، و الرَّجِلَةُ من النِّساءِ، و مُدمِنُ الخمْرِ). وصححه الألباني في "صحيح الجامع". وروى مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود مرفوعاً: (لا يدخل الجنَّةَ من في قلبه مثقالُ ذَرَّةٍ من كِبرٍ). وروى مسلم في "صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعاً: (صِنْفانِ مِن أهْلِ النّارِ لَمْ أرَهُما، قَوْمٌ معهُمْ سِياطٌ كَأَذْنابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بها النّاسَ، ونِساءٌ كاسِياتٌ عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ كَذا وكَذا).

الثاني عشر: الإخبار بتحريم الجنة عليه:

ومن ذلك ما رواه الشيخان، عن جندب بن عبد الله مرفوعاً: (كان فيمن قبلَكم رجلٌ به جُرْحٌ فجزِعَ. فأخذ سِكِّينًا فجزَّ بها يدَهُ، فما رقَأَ الدمُ حتى مات، فقال اللهُ: بادََرَني عبدِي بنفْسِهِ، فحرَّمْتُ عليه الجنةَ). 

الثالث عشر: الإخبار بأن فاعلها برئت منه ذمة الله أو رسوله:

ومن ذلك ما رواه الطبراني في "الأوسط"، عن ابن عباس مرفوعاً: (مَنْ أعانَ ظالِمًا لِيُدْحِضَ بباطِلِهِ حقًّا، فَقَدْ بَرِئَتْ منه ذمَّةُ اللهِ ورسولِهِ)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب". وروى النسائي -بإسناد حسن، عن رُويفع بن ثابت مرفوعاً: (يا رُوَيْفِعُ لعلّ الحياةَ ستطولُ بكَ بعدي فأخبرِ الناسَ أنّ من عقدَ لحيتهُ، أو تقلدَ وترًا، أو استنجى برجيعِ دابةٍ، أو عظمٍ فإن محمدا منه برِيء)، وصححه الألباني في "صحيح النسائي".

الرابع عشر: الإخبار بأنها حالقةٌ تحلق الدين:

ومن ذلك ما رواه أحمد والترمذي، عن الزبير بن العوام مرفوعاً: (دَبَّ إليكم داءُ الأممِ قبلَكم: الحسدُ والبغضاءُ: هي الحالِقةُ، لا أقولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، ولكن تَحْلِقُ الدِّينَ). وصححه الألباني في"صحيح ابن ماجه".

الخامس عشر: الإخبار بنزع الإيمان منه أو نفيه عنه:

ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي شريح العدوي مرفوعاً: (واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ قيلَ: ومَن يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: الذي لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوايِقَهُ).

السادس عشر: الإخبار بغضب الله عليه:

ومن ذلك ما رواه الشيخان عن ابن مسعود مرفوعاً: (من حلف على يمين هو فيها فاجرٌ؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان).

السابع عشر: إلجامه بلجام من نار:

ومن ذلك ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه في "سننهم"، عن ابن عباس مرفوعاً: (مَنْ سُئِلَ عن عِلْمٍ فَكَتَمَهُ جاء يومَ القِيامَةَ مُلْجَمًا بِلِجامٍ من نارٍ، ومَنْ قال في القرآنِ بغيرِ عِلْمٍ جاء يومَ القيامةِ مُلَجَّمًا بِلِجامٍ من نارٍ)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه".

الثامن عشر: الإخبار بعدم قبول صلاته مثلاً:

ومن ذلك ما رواه ابن حبان في "صحيحه"، عن ابن عباس مرفوعاً: (ثلاثةٌ لا يقبَلُ اللهُ لهم صلاةً: إمامُ قومٍ وهم له كارِهونَ وامرأةٌ باتَتْ وزوجُها عليها غَضبانُ وأخوانِ مُتصارِمانِ)

التاسع عشر: وصفه بالكفر أو الإشراك مثلاً:

ومن ذلك ما رواه أحمد والأربعة، عن بُريدة مرفوعاً: (العَهدُ الَّذي بينَنا وبينَهمُ الصَّلاةُ فمن ترَكَها كفرَ)، وروى الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً: (من حَلَف بغيرِ اللهِ فقد كَفَر أو أشرك).

العشرون: وصفه بالخسران:

قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف: 99)، أفادت الآية أن الأمن من مكر الله كبيرة، لأن الخسران لا يُوصف به إلا فاعل الكبيرة.

الحادي والعشرون: وصفه بالضلال:

قال تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (الحجر: 56)، وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: (إنَّ اللهَ لا يقبِضُ العِلمَ انتزاعًا مِن النّاسِ ولكِنْ يقبِضُ العُلماءَ بعِلْمِهم حتّى إذا لم يَبْقَ عالِمٌ اتَّخَذ النّاسُ رُؤساءَ جهّالًا فسُئِلوا فأفتَوْا بغيرِ عِلمٍ فضَلُّوا وأضَلُّوا). فالإفتاء في الدين بغير علمٍ كبيرة، وما أكثر المُفتين في هذا العصر بالجهل.

الثاني والعشرون: التعبير عنه بكلمة (ليس منا):

ومن ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة مرفوعاً: (من حمل علينا السلاح فليس منا)، وروى الطبراني في "الكبير" عن قيس بن أبي غرزة مرفوعاً: (من غشنا فليس منا)، وروى أبو داود في "سننه" عن بُريدة مرفوعاً: (من حلف بالأمانة فليس منا).

الثالث والعشرون: وصفه بالخلود في النار:

قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء: 93). وفي الصحيحين عن أنس مرفوعاً: (من كذب عليَّ فليتبوأْ مقعدَه من النارِ)، ويتبوأ: أي تطول إقامته في النار، وروى الترمذي عن معاوية مرفوعاً: (من أحبَّ أن يتمثل له الرجال قياماً؛ فليتبوأ مقعده من النار). فمحبة الشخص قيام الناس له كبيرة، لكن قيامهم له من غير أن يُحبه ليس بحرام، بدليل أن طلحة قام يُهنئ كعباً بتوبة الله عليه، فلم ينهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين.

الرابع والعشرون: الإخبار بأنها تهدي إلى الفجور:

ومن ذلك ما رواه الشيخان في "صحيحيهما" عن ابن مسعود مرفوعاً: (إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتّى يُكْتَبَ كَذّابًا).

الخامس والعشرون: وصف صاحبها بالنفاق:

ومن ذلك ما رواه الشيخان في "صحيحهما"، عن عبد الله بن عمر، مرفوعاً: (أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنافِقًا خالِصًا، ومَن كانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتّى يَدَعَها: إذا اؤْتُمِنَ خانَ، وإذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ، وإذا خاصَمَ فَجَرَ).

السادس والعشرون: وصف مرتكبها بأنه لم يزل في سخط الله أو سخط الله عليه:

ومن ذلك ما رواه أبو داود والطبراني عن ابن عمر مرفوعاً: (مَنْ أعانَ على خصومَةٍ بظُلْمٍ، لَمْ يزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حتى ينْزِعَ)، وفي رواية: (مَن حالت شفاعتُه دونَ حدٍّ من حدودِ اللَّهِ فقد ضادَّ اللَّهَ ومن خاصمَ في باطلٍ وهوَ يعلمُ لم يزَل في سخَطِ اللَّهِ ومن قال في مؤمنٍ ما ليسَ فيهِ أسكنَه اللَّهُ ردْغةَ الخَبالِ حتّى يخرجَ مِمّا قالَ). وروى ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة مرفوعاً: (من التمس رضا اللهِ بسخَطِ النّاسِ كفاه اللهُ مؤنةَ النّاسِ ومن التمس رضا النّاسِ بسخَطِ اللهِ وكَله اللهُ إلى النّاسِ)

السابع والعشرون: وصفه بأن مُضادٌ لله عز وجل:

تقدم الحديث بذلك في العلامة قبل هذه.

الثامن والعشرون: الإخبار بأن الله يُسكنه ردغة الخبال:

وقد تقدم الحديث في العلامة المذكورة أيضاً، وردغة الخبال: عصارة أهل النار، فسرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم في صحيحه.

التاسع والعشرون: الإخبار بأن الله حجب التوبة عن مرتكبها:

ومن ذلك الحديث الذي أخرجه المنذري في "الترغيب والترهيب"، عن أنس بن مالك مرفوعاً: (إنَّ اللهَ حجب التوبةَ عن كلِّ صاحبِ بدعةٍ حتى يدَعَ بدعتَه).  صححه الألباني.

قال: والمراد بالبدعة في هذا الحديث: بدعة العقيدة، كالمعتزلة والجهمية والمجسمة ونحوهم من الفرق الضالة، وأما المسائل الفرعية المختلف فيها بين العلماء، وقيل في بعضها إنها بدعة فلا تدخل في هذا الباب، وإليك أمثلةٌ منها:

1-قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: اقتعاط العمائم، وهو التعميم دون حنك، وهو بدعةٌ منكرة، وقد شاعت في بلاد الإسلام، وقال الإمام مالك: أدركتُ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين محكاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت المال لكان به أميناً.


2-وقال طاوس: القنوت في الوتر بدعة. وروى محمد بن نصر مثل قوله عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير، وقال غيرهم بسنيته واستحبابه.

3-إحياء ليلة النصف من شعبان، قال أكثر علماء الحجاز: إنه بدعة، منهم: عطاء، وابن أبي مليكة، ومالك. وقال علماء الشام باستحبابه، منه: خالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر، ورجحه والدي الإمام رحمه الله.

وللإمامين مالك والشافعي عبارتان جامعتان تبينان البدعة المذمومة التي يحجب الله التوبة عن صاحبها، والبدعة التي ليست كذلك.

الثلاثون: الإخبار بأن المعصية تأكل الحسنات:

وفي الحديث الذي حسّنه الحافظ ابن حجر في "تخريج المصابيح" عن أبي هريرة مرفوعاً: (إيّاكُم والحسدَ فإنَّ الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النّارُ الحطبَ). 

الواحد والثلاثون: الإخبار بأنها ليست من الإسلام:

ومن ذلك ما أخرجه المنذري في "الترغيب والترهيب"، عن جابر بن عبد الله مرفوعاً: (إِنَّ الفُحْشَ والتَّفَحُّشَ لَيْسا مِنَ الإسلامِ في شيءٍ، وإِنَّ أحسنَ الناسِ إِسْلامًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا). وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب".

الثاني والثلاثون: الإخبار بأن الله خسف بمرتكبها:

ومن ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه"، عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: (بيْنَما رَجُلٌ يَجُرُّ إزارَهُ مِنَ الخُيَلاءِ، خُسِفَ به، فَهو يَتَجَلْجَلُ في الأرْضِ إلى يَومِ القِيامَةِ).

الثالث والثلاثون: الإخبار بأن مرتكبها لا يُسأل عنه:

ومن ذلك الحديث الذي أخرجه أحمد في "المسند"، وابن حبان في "صحيحه"، عن نضلة بن عُبيد مرفوعاً: (ثلاثةٌ لا تَسْأَلْ عَنهم: رجلٌ فارَق الجَماعةَ وعصى إمامَه ومات عاصيًا، وعبدٌ أبَقَ مِن سيِّدِه فماتَ، وامرأةٌ غابَ عنها زَوجُها وقد كَفاها مَؤونةَ الدُّنيا فخانَتهُ بعدَه. وثلاثةٌ لا تَسْأَلْ عَنهم: رجلٌ نازَع اللهَ رداءَه؛ فإنَّ رداءَه الكِبْرُ، وإزارَه العِزُّ، ورجلٌ في شَكٍّ من أمرِ اللهِ، والقانِطُ من رحمةِ اللهِ)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب".

الرابع والثلاثون: الإخبار بأن الله تعالى يكون خصمه:

ومن ذلك ما روه البخاريُّ في "صحيحه"، عن أبي هريرة مرفوعاً: (قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفى منه ولم يُعطِه أجرَه).

الخامس والثلاثون: الإخبار بأن مرتكبها لا يجد عُرف الجنة:

ومن ذلك ما رواه ابن حبان في "صحيحه"، عن أبي هريرة مرفوعاً: (مَن تعلَّم علمًا مما يُبتَغى به وجهُ الله، لا يتعلمُه إلا ليصيبَ به عرضًا من الدنيا لم يجدْ عَرفَ الجنةِ)، يعني ريحها. وصححه الألباني في "صحيح الجامع".

السادس والثلاثون: التوعد عليها بالويل:

كما في قول الله عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} (المطففين: 1 - 4)؛ فتطفيف الكيل والميزان كبيرة. وقال جل شأنه: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (الهمزة: 1).  والهمزة: هو من يعيب الشخص في غيبته. واللمزة: هو من يعيبه في وجهه، وقيل بالعكس. والفصد أن عيب المسلم في غيبته أو حضوره كبيرة.

السابع والثلاثون: وعيد مرتكبها بأن يُحشر بآفةٍ في جسمه:

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في "سننهم"، عن أبي هريرة مرفوعاً: (مَن كانتْ له امرأتانِ فمال إلى إحداهما جاء يومَ القِيامةِ وشِقُّهُ مائلٌ)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".

الثامن والثلاثون: الإخبار بحبوط عمله:

كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (الحجرات: 2)، وكما في الحديث الذي رواه البخاري في "صحيحه"، عن بُريدة بن الحصيب الأسلمي مرفوعاً: (مَنْ تَرَكَ صلاةَ العصرِ حَبِطَ عمَلُهُ).

التاسع والثلاثون: التوعد بفضيحة مرتكبها:

وفي الحديث الذي رواه أبو داود في "سننه"، عن أبي برزة الأسلمي مرفوعاً: (يا مَعشَرَ مَن آمَن بلسانِهِ ولم يدخُلِ الإيمانُ قلبَهُ، لا تغتابوا المُسلِمِينَ، ولا تتَّبِعوا عَوْراتِهم؛ فإنَّه مَن اتَّبَع عَوْراتِهم يتَّبِعِ اللهُ عَوْرتَهُ، ومَن يتَّبِعِ اللهُ عَوْرتَهُ يفضَحْهُ في بيتِهِ)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".

الأربعون: الإخبار بأن الله يمقت فاعلها:

ومن ذلك ما رواه أبو داود في "سننه"، والنسائي في "الكبرى"، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (لا يَخرُجِ الرجُلانِ يَضرِبانِ الغائطَ كاشفانِ عَوْرتَهما يَتحدَّثانِ؛ فإنَّ اللهَ يَمقُتُ على ذلك)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب".

الواحد والأربعون: الإخبار بأن فاعلها خارجٌ عن الإسلام:

ومن ذلك ما رواه الحاكم في "المستدرك" عن ابن مسعود مرفوعاً: (لو أنَّ رجلَيْن دخلا في الإسلامِ فاهتجرا لكان أحدُهما خارجًا عن الإسلامِ حتّى يرجعَ يعني الظّالمَ منهما)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"..

الثاني والأربعون: الإخبار بأن فاعلها يوم القيامة يُكلف بما لا يستطيع:

ومن ذلك الحديث الذي رواه ابن حبان في "صحيحه"، وابن ماجه في "سننه"، عن ابن عباس مرفوعاً: (من تحَلَّمَ حُلمًا كاذبًا كُلِّفَ أن يعقِدَ بين شعِيرتَينِ، ويُعذَّبُ على ذلك)، و(من صوَّر صورةً كُلِّفَ أن ينفُخَ فيها وعُذِّبَ، ولن ينفخَ فيها)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، والعقد بين شعيرتين: هو الفتل بينهما، وهذا يدلُّ على أن الكذب في المنام كبيرة؛ لأن الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة، والرؤيا الصادقة من الله، والكاذب فيها كاذبٌ على الله. 

الثالث والأربعون: توعد فاعلها بعذابٍ شديد في إحدى جوارحه:

ومن ذلك ما رواه الطبراني في "الأوسط" من حديث عبد الله بن عباس مرفوعاً: (من استمع لحديث قومٍ وهم له كارهون صُبك في أُذنيه الآنك يوم القيامة)، وصحح الألباني معناه في "صحيح ابن ماجه" من حديث عبد الله بن عمرو، وحديث الرجل الذي يُعذب في النار فيُرضخ رأسه بالصخرة لأنه كان ينام عن المكتوبة، والذي يُشرشر فاه إلى قفاه، وهو الذي يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق. ويدخل في ذلك كذبة إبريل، والكذب التي تنشره الصحافة.

الرابع والأربعون: الإخبار بأن الله يطبع على قلبه: 

روى أحمد في "مسنده" الأربعة في "السنن"، عن أبي الجعد الضمري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مَن ترَك ثلاثَ جُمَعٍ تَهاوُنًا، طبَع اللهُ على قَلْبِه)، وصححه الألباني في صحيح النسائي.

الخامس والأربعون: إلحاقها بكبيرة معروفة:

ومن ذلك ما رواه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث ثابت بن الضحاك مرفوعاً: (مَن حلَفَ على يَمينٍ بمِلَّةٍ سِوى الإسلامِ كاذِبًا؛ فهو كما قال، ومَن قتَلَ نَفْسَهُ بشيءٍ؛ عُذِّبَ به يَومَ القيامةِ، وليس على رَجُلٍ نَذرٌ فيما لا يَملِكُ)؛ فلعن المؤمن، ورميه بالكفر كبيرتان من الكبائر.

وأما الصغائر؛ فهي التي خلت من العلامات المذكورة آنفاً، ومن الأمثلة على الصغائر:

1. منها: النظر إلى الأجنبية.

2. والخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر.

3. وترك رد السلام، ومثله ترك رد جواب الكتاب.

4. وترك رد إجابة دعوة الوليمة ونحوها.

5. واللعب بالنرد أو الكارطة ونحو ذلك ما لم يصحبه قمار، وإلا فهو كبيرة.

6. وحلق اللحية لما مرَّ بيانه عن التميص، وهذا إذا حُمل الأمر في (أعفوا اللحى) على الوجوب، فإن حُمل على الندب كان حلق اللحية مكروهاً فقط.

7.والجمع بين الصلوات في الحضر بدون عذر.

8. ترك الترحم على الوالدين أو أحدهما، إن كانا مُسلمين.

9. سرقة شيءٍ قليلٍ دون النصاب الذي يوجب الحد.

10.صوم يوم العيد.

11. صلاة النافلة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.

12. ترك صلاة الجمعة مرة أو مرتين بدون عذر.

13. عقد بيعٍ أو نكاح وقت أذان الجمعة إلى الانتهاء من صلاتها.

14. مكث الجُنب أو الحائض في المسجد.

15. مس القرآن على غير وضوء؛ لحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر).

16. ترك تكفير الحالف عن يمينه إذا حنث فيها.

17. ترك الوفاء بنذر الطاعة.

18. الإصرار على فعل الصغيرة، بأن يفعلها كل يومٍ مثلاً.

19. بيعتان في بيعة.









الجمعة، 5 فبراير 2021

الذخيرة الكثيرة في رجاء مغفرة الكبيرة - علي سلطان محمد القاري الحنفي (ت 1014 هـ)

الذخيرة الكثيرة في رجاء مغفرة الكبيرة

تأليف العلامة الشيخ

علي سلطان محمد القاري الحنفي  (ت 1014 هـ)


بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ الحجُّ عبادةٌ عظيمة، وشعيرةٌ كريمة، يتوجَّه فيها المسلم إلى مكَّة لأداء نُسكها من الطواف والسعي والوقوف بعرفات والحلق، امتثالاً لأمر الله عز وجل في كتابه: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً} (آل عمران: 97)، فيؤديه المسلم في العمر مرةً واحدة، حينما تتوفر الاستطاعة: من الصحة، وإمكان السفر، وأمن الطريق. 

وفي أداء فريضة الحج غذاءٌ روحيٌّ كبير، يمتلئ فيه العبد إيماناً وتعظيماً لله عز وجل، ويزداد إقباله فيه على ربّه سبحانه، وتنمو فيه عاطفة المحبة وتأتلف مشاعر الأخوة الإيمانية الصحيحة، ويعود الحاج من رحلته: صافي القلب، قد حظي بالنقاء، وقد انغمس في الطُّهر والبركة، مُفعماً بالخير والإحسان.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّ: (مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجَع كما ولَدَتْه أمُّه)/رواه البخاري وغيره/، وفي هذا الحديثِ: بيان فضل الحج، وأنَّ الحج المستوفي لشروطه مُكفِّرٌ للذُّنوبِ، ولكن العلماء مختلفين: هل الذنوب المُكفَّرة هي الصغائر وحدها كما هو قول أكثر العلماء كالنووي وابن عبد البر، والهيتمي، أم أن المغفرة تشمل الذنوب جَميعِها صَغائرَ وكَبائرَ كما يقول بعضهم ؟

والذي ذهب إليه الإمام القاري أن الحجَّ يُكفر الذنوب جميعها: صغائر وكبائر إلا ما ورد في بعض حقوق العباد وحقوق الله التي يجب قضاؤها، ولا تسقط بالتقادم، على أن هذا الباب هو باب رجاء لا باب جزمٍ وقطع؛ لأن أمر المغفرة لا نعلمه؛ فيغفر الله ما شاء لمن يشاء، وهذا القول هو قول ابن تيمية، وابن المنذر، وبه قال جماعةً من المُحققين.

وقال التوربشتي الحنفي في "شرح المصابيح": إن الإسلام يهدم ما كان قبله مطلقاً، مظلمةً أو غير مظلمة، صغيرةً أو كبيرة، وأما الهجرة والحج فإنهما لا يُكفران المظالم، ونقطع فيهما بغفران الكبائر التي بين العبد ومولاه، وتحتمل هدم الكبيرة التي تتعلق بحقوق العباد بشرط التوبة.

والحق أن حقوق العباد لا تسقط بالحج والهجرة إجماعاً؛ فلا يُكفرها إلا التوبة ورحمة الله تعالى.

كذلك اتفق العلماء: على أن من لم تكن له صغائر فإن الحج يُخفف من إثم الكبائر، فإن لم تكن لديه كبائر؛ فإنه يرفع درجته في الجنة.

والحج المبرور: هو الذي كثر فيه الخير والبر والطاعة، والخالي من الإثم والفسوق والمعصية، وقيل: هو المقبول، ومن علامات القبول: أن يرجع الحاج خيراً مما كان ولا يُعاود المعاصي. وقيل: هو الذي لا يُخالطه شيءٌ من المعاصي؛ كم حج بمال الحرام. وقيل: هو الذي لا رياء فيه ولا سُمعة. وقيل: هو الذي لا يعقبه معصية، وكلها مُرادة ومتداخلة.

وهذه رسالة نافعة ماتعة، سلك فيها الشيخ علي القاري منهجاً وسطاً بين من يرى أن الكبيرة لا يُمكن تكفيرها في الحج المبرور، وبين من يرى أن الحجَّ يُكفر جميع الكبائر من غير تفصيل؛ فيرى الشيخ القاري أن الكبائر المتعلقة بحقوق العباد لا بُدَّ من التحلُّل منها: إما بالأداء أو بالإبراء؛ فمن قتل نفساً معصومةً بغير وجه حق؛ فإن عليه تمكين أولياء المقتول من نفسه، أو أن يدفع إليهم الدية، وكذلك يردُّ مال المظلومين وبضاعتهم، ويستحلَّ منهم. 

وأما الكبائر التي تتعلق بحقوق العباد، والتي لا يُتصور تدراكها؛ لعدم العلم وجود أهلها، أو عدم القدرة على استحلالهم منها، فيُرجى أن تكون مغفورةً إذا كانت الحجة مبرورة.

وأما الكبائر المتعلقة بحقوق الله عز وجل؛ فهي قسمان:

الأول: قسمٌ أجمع العلماء على أنه لا بُد من قضائها، ولو  بعد التوبة: كترك الصلاة والصوم.

الثاني: الكبائر المتعلقة بحق الله التي لا قضاء فيها، ولا استدراك منها: كشرب الخمر، ونحوها.

وحقيقة هذه الرسالة هو الردُّ على الشيخين ابن حجر الهيتمي الشافعي، القائل بنفي تكفير الكبائر مجملاً بسبب أداء الحج المبرور، والشيخ مير بادشاه البخاري الحنفي، الفائل بإثبات التكفير مطلقاً من غير تفصيل.

كلمة أخيرة:

التوبة وظيفة الإنسان المستمرة، ولا يوجد إنسانٌ بلا خطيئة، والموفّق هو من يغسل ذنبه بدموع التوبة، ويُحرقها بنار الندم، فكيف الحال إذا كان العبد يُبارز الله بالمعصية ليلاً ونهاراً، ويستطيل على عباد الله بقوته ومنصبه وجاهه، وبسبب هؤلاء يُمنع الغيث والخير من السماء، فوجود شؤمٌ على الناس، وشؤمه على نفسه أكثر؛ لأنه يوبقها بمثل هذه الأعمال، فالتوبة اليوم معروضة، وأبواب السماء مفتوحة، فتوبةٌ في ستر، خيرٌ من فضيحةٍ على الملأ يوم القيامة..هذا، وأستغفر الله لي ولكم.





شفاء السالك في إرسال مالك -لأبي الحسن علي بن سلطان محمد القاري الحنفي

شفاء السالك في إرسال مالك


لأبي الحسن علي بن سلطان محمد القاري الحنفي

المعروف بـ: ملا علي القاري (ت 1014 هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


  تمهيد/ هذه رسالة لطيفة في تحقيق مسألة شريفة تتعلق بوضع اليدين في الصلاة، حقق فيها مصنفها أن الأحاديث مثبتة لهذه السنة فعلاً وتقريراً، وأنه ليس عند من نفاها دليلٌ على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سدل يديه أو أمر بإسدالهما. 

وقد نسب بعضهم القول بالسدل إلى الإمام مالك رحمه الله! مع أن الثابت المشهور عنه خلافه.

وقد جاء في رواية ابن القاسم عنه: أنه يرى كراهة وضع اليدين على الصدر في الفريضة، وجوازه في النافلة. وقيل في توجيه ذلك: أن الكراهة تتعلق فيه للاعتماد على اليدين في الصلاة، وقد جاء النهي عنه.

ويقول الباجي من كبار المالكية: "وقد يُحمل قول مالكٍ بكراهة قبض اليدين على خوفه من اعتقاد العوام أن ذلك ركنٌ من أركان الصلاة، تبطل الصلاة بتركه".

وفي رواية أخرى عن أشهب ومطرف وابن الماجشون وغيرهم عن مالك: أنه لا بأس به في الفريضة والنافلة. وقال ابن رشد بعد أن ذكر هذه الرواية عنه: "وهذا هو الأظهر، وهو ما كان عليه الناس في الزمان الأول".

وقال ابن عبد البر: "لم يزل مالكٌ يقبض حتى لقي الله عز وجل"، والقبض سُنَّة على المشهور في مذهب المالكية. 

وقيل: إن سبب إرسال مالك أن الخليفة المنصور ضربه على يديه؛ فشُلّت، فلم يستطع ضمّها إلى الأخرى، لا في الصلاة ولا في غيرها.

وبالإجمال فقد اتفق الفقهاء على أنَّ من وضع يديه بأيِّ هيئةٍ من الإرسال أو القبض أن صلاته صحيحة، لأن الخلاف فيها من قبيل السنن وليس الواجبات، وقد أثبت المصنف هذه السنة، واعتذر عن الإمام مالك في تركها دفعاً للملامة.

واختلفوا في أيُّ صفات قبض اليدين أقرب إلى السُّنة، وأحسن ما رُوي في هذا الباب هو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وضع يديه على صدره، وهذا الحديث وإن كان فيه كلامٌ لأهل العلم، إلا أنَّ الإمام الألباني حسَّنه من طريقين أحدهما مُرسلٌ، والآخر منقطعٌ، وصححه ابن القيم في زاد المعاد أيضاً، والنوويُّ في المجموع، وابن خزيمة، وابن حبان، وضعفه غيرهم، وأما قضية السدل فهي ضعيفة اتفاقاً، 

  •  ويُستدل للقبض بأحاديث، منها:

1- حديث قبيصة بن هُلبٍ عن أبيه -رضي الله عنه، قال: «رأَيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه وعن يساره ورأَيته يضع يده على صدره». رواه أَحمد، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، وحسَّنه الترمذيُّ بشواهده، وأقرَّه النووي في المجموع.

2- حديثُ وائل بن حجر؛: «أَنه - رضي الله عنه - رأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يضع يمينه على شماله ثم وضعهما على صدره». رواه ابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي في سننه. وهو حديثٌ حسنٌ بشواهده، سكت عليه ابن حجر في "الفتح"، و"التلخيص"، ومقتضى شرطه في ذلك أن يكون صحيحاً أو حسناً، وساقه ابن القيم في "إعلام الموقعين" محتجاً به.

وقد اشتد بعض المُقلدين على الإمام القاري كونه يُنكر قضية السدل؛ كالمُحبي، والعصامي -اللذان أثنيا على علمه وأشادوا بفضله، ولكنهم أنكروا عليه هذه القضية، ولا شك أن هذا الإنكار لا يضرُّه؛ إذا وضع اليدين على الصدر سُنَّةٌ ثابتةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عنوان الخضوع والتذلل بين يدي الله عز وجل، كما أن الإمام القاري أظهر هذه السُّنة في مقام بيان العلم، وليس في مقام الإزدراء أو الإساءة أو الانتقاص، كما أن الاختلاف في الفروع سائغ، ما دام المختلفون ينشدون الحق وغايتهم العمل بالدليل.

وقد ردَّ لإمامين الشوكاني، والأمير الصنعاني على العصامي والمُحبي وبيّنا تعصُّب هؤلاء، وبعد كل ما تقدَّم: أفليس اللائق بعد كل ما سبق أن يترك إخواننا المالكية ملازمة الإرسال، ويوافقوا بقيَّة المُسلمين في القبض؛ فإن هذا أفضل لهم وأنفع، وأكثر ثواباً وأجراً.

خاتمة

ومما يحسن ذكره في هذا الباب أنه يُستحبُّ للرجل أن يتمذهب بمذهب فقهي مُعين، فيُتقن فروعه وأصوله، وطرق الاستدلال والبحث فيه، على أن لا يترك طلب الحديث والسُّنة، لأن أهل الحديث يتميزون عن غيرهم بأمور منها:

أولاً: لا يتعصبون لأحد من الأئمة، ولا يهضمون حق أحد منهم، فضلاً عن تجريحه.

ثانياً: يأخذون الأحكام من النصوص، مستعينين على فهمها بفهم الأئمة، فمحورهم النصوص، وطريقهم إليها علماء الأمة.

ثالثاً: الأصل عند أهل الحديث الجمع بين النصوص، لا قبول بعض ورد بعض، فتراهم يسعون جاهدين للتوفيق بين النصوص، والأخذ بها جميعاً.

رابعاً: أن أهل الحديث في كل مسألة، هم فيها وسطٌ بين الغالين والجافين، لأنهم اتخذوا سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم مسلكاً.



المطالب المنيفة في الذي عن أبي حنيفة

المطالب المنيفة في الذب عن أبي حنيفة

السيد مصطفى نور الدين الواعظ الحسيني الحنفي 

مطبعة الآداب -العراق، 1329 هـ

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ لا ريب ولا اشتباه بأن لكل مذهب من المذاهب الإسلامية الأربعة مدرك لطيف، وقواعد راسخة، تُفرّع عليها المسائل، وتستنبط بها الأحكام، وكلٌّ منهم يستند إلى دليلٍ صحيحٍ عنده، ويعضد قوله بأثرٍ ثابت لديه، ولكن الخطأ وارد عليهم؛ إذ العصمة لهم غير ثابتة، وبعض أصولهم لا يُوافقون عليها، فالخلاف مع الأدب سائغ، والفروع تتجاذبها القواعد وطرق القياس، مداً وجزراً، صحةً وضعفاً، والمنشود هو إصابة الحق بالدليل.

ثم إن دراسة الفقه وفق مذهب من المذاهب الفقهية الأربعة -مع كونه أمراً حسناً -إلا أنها تحتاج من الطالب إلى أمورٍ أهمها: (التجرُّد من أيِّ عصبيَّةٍ مقيتة) تُهين المُخالف وتزدريه، ويكون الباعثُ عليها الحسد والحقد والأضغان. و(الإنصافٌ الذي يحمل صاحبه على قبول الحقِّ من أي وجهٍ جاء، ومن أي طريق أتى) إذا كان يسنده الدليل الشرعي الصحيح. و(وجوب ذكر الأئمة بالخير، وحسن الثناء عليهم، والترضي عنهم)، واعتقاد أنهم لو سلمت لهم طرق الأدلة، وصحَّ عندهم وجه الدليل لقالوا به، ولكن جلَّ من لا يسهو، فهم الأئمة المجتهدون الذين حرَّروا الأحاديث، ونقَّحوا الآثار، وأخذوها من معدنها، وعن رواتها، مع ما عندهم من عدلٍ وورع وتقوى وعبادة واحتياط في دين الله سبحانه، يوجب لهم حسن الظن.

وعليه؛ فإن مخالفة الطالب النبيه للمذهب الفقهي في بعض مسائل الفروع لدليلٍ سائغٌ جداً، بل واجبٌ لمن تحققت معرفته بتلك المسألة، وعرف وجه الصواب فيها، إذ الإصرار على الخطأ كبرٌ وعناد، والموفق هو من ألهمه الله الصواب، فسدَّد وقارب، واتبع ولم يبتدع.

وهذا الكتاب جاء للرد على قصة صلاة القفال الشاشي بين يدي السلطان محمود بن سُبكتيكين على مذهب أبي حنيفة، والذي تحول على إثرها إلى مذهب الإمام الشافعي. 

وبين السيد مصطفى الحنفي أن هذه القصة مكذوبةٌ ومُفتراة على أبي حنيفة، وقد أظهر استياءه من ذكر ابن خلكان لها في "الوفيات" في نقله مثل هذه القصة، التي اتخذها الغلاة وسيلةً للطعن في أئمة المذاهب، والسخرية منهم، وكذلك ذريعةً للطعن في العلماء المُقتدى بهم، وقد ذكرها "نعمة الله الجزائري" في "زهر الربيع"، ونقلها بعض نصارى المشرق على سبيل التهكم بالملة الإسلامية، وردَّ عليها ردَّاً مُفصّلاً، يأتي.

القصة التي ذكرها ابن خلكان في الصلاة عند الحنفية

ذكر القاضي ابن خلكان في "وفيات الأعيان" في ترجمة أبي القاسم محمود بن ناصر الدولة سبُكتكين الملقب بـ"سيف الدولة" من حكاية صلاة القفال الشافعي على مذهب الحنفية، ونصُّها: أن هذا السلطان كان يستفسر الأحاديث؛ فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي، فجمع الفقهاء من الحنفية والشافعية ، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يُصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي وعلى مذهب أبي حنيفة، لينظر السلطان، ويختار ما هو أحسنها، فصلى القفال الشافعي المروزي بطهارةٍ مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة، وأتى بالأركان والهيئات والسنن والآداب والفرائض على وجوه الكمال والتمام، وقال: هذه صلاة لا يجوِّزُ الإمام الشافعي دونها.

ثم صلى ركعتين على ما يُجوّز أبو حنيفة: فلبس جلد كلبٍ مدبوغ، ثم لطخ ربعه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان في حميم الصيف، في المفازة واجتماع الذباب والبعوض، وكان وضوءه منكساً منعكساً، ثم استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير نيةٍ في الوضوء، وكبّر بالفارسية، ثم قرأ آيةً بالفارسية، ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصلٍ، ومن غير ركوعٍ، وتشهد، وضرط في آخره من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة فقال السلطان: لو لم تكن صلاة أبي حنيفة لقتلتك؛ فأنكرت الحنفيّة أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، وأمر السلطان كاتباً نصرانياً يقرأ كتب المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة، على ما حكاه القفال) انتهى بلفظه.

دفاع السيد مصطفى عن الإمام أبي حنيفة

وردِّه على القفال الشافعي

وبين السيد مصطفى أن الإمام أبو حنيفة كان له الاحتياط التام في باب الطهارة والمياه، واشتهر عنه أنه كان لا يُصلي في الثوب الذي يتوضأ به؛ لقوله بنجاسة الماء المستعمل أولاً، وذهب في الآخر إلى القول بطهارته تخفيفاً، ولا يجوز التطهير به.و لم يقل بطهارة الجلد المدبوغ عن رأيه غير مُستندٍ إلى دليلٍ من الأدلة الشرعية، وحكم بالعفو عما دون ربع الثوب المتنجس بالنجاسة الخفيفة لا المغلظة (والنجاسة الخفيفة كبول مأكولا اللحم، خلاف الغليظة كبول الإنسان وغائطه)، وإنما أجاز ذلك لعموم البلوى، والحرج، وعُسر الاحتراز عن ذلك.

وأباح الوضوء بنبيذ التمر عند عدم وجود الماء المطلق؛ كالتيمم بالتراب عند عدم الماء لا مطلقاً، واشترط لذلك: كون مائه رقيقاً وسائلاً أم المشتد من النبيذ والمتغير اللون تغيُّراً فاحشاً؛ فلا يجوز الوضوء به.

وأما وضوءه المُنكَّس المُنعكس؛ فلأن الترتيب عنده سُنَّة، ويروى أثرٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بعد أن غسل رجليه، فلم يقل بسقوط الترتيب في الوضوء تحكُّماً، بل لما صحَّ عنده من الأدلة السمعية "الشرعية"... 

وأما تركه النيَّة في الوضوء؛ فلأن حديث: (الأعمال بالنيات) عنده على تقدير: ثواب الأعمال وأجرها، وهذا أمرٌ أخروي، ولأن هذا الحديث ظنيُّ الثبوت، فهو يُفيد السُّنية لا الوجوب.

وجوّز الصلاة بالقراءة الفارسية ضرورةً، ولقوله تعالى: {وإنه لفي زُبر الأولين}، قال: وهذا يقتضي أن معانى القرآن موجودةٌ في الكتب السابقة، وهي بلغةٍ غير لغة العرب، فصحَّ القراءة بها. كما أنه وإن قال الإمام أبو حنيفة بجواز القراءة بالفارسية لمن يُحسن العربية مع الكراهية التحريمية؛ فإنه رجع آخراً إلى عدم الجواز لمن يُحسن العربية.

وأما قوله: ناقراً نقر الديك بلا ركوعٍ، أي يسجد سجدتين من غير فصلٍ بينهما، ومن غير ركوع؛ فهذا افتراءٌ وجهلٌ أو تجاهلٌ وتعصُّب، وهل يتصور أن أحداً يعدُّ الصلاة على هذه الهيئة القبيحة صلاة؟ وهل يعقل أن أحداً يجهل أن الركوع ركنٌ لا تتم الصلاة إلا به ؟ وهل يقول مسلمٌ أن الصلاة بلا ركوعٍ أو سجودٍ صحيحة، وشرائط الصلاة وأركانها التي اتفقت الأمة وأجمعت عليها الأئمة الأكثر منها ثابتٌ بالكتاب، والبعض منها ثابتٌ بالسنة المتواترة .

فالصلاة عند أبي حنيفة بلا طمأنينة -وإن كانت صحيحة، إلا أنها ناقصة الواجب؛ فيجب قضاء تلك الصلاة إن ترك ذلك عمداً، وإن يُعدها كان فاسقاً آثماً، هذا إذا ترك الاعتدال بعد الركوع والسجود، وأما السجود كنقرة الديك من غير فصلٍ بين السجدتين، وبلا ركوعٍ؛ فهذه باطلة بالاتفاق.

وأما قوله: يتحلّل من صلاته بتعمُّد الحدث، وأنه تشهَّد وضرَّط في آخره من غير نيّة السلام، فإنه أراد بهذا أن أبا حنيفة لا يقول بفرضيّة لفظ السلام عند تحليل الصلاة، بل يحصل الخروج من الصلاة بالعمل المُباين للصلاة من سلامٍ أو كلامٍ أو أكلٍ أو شرب أو حدث، ولم يقل بفرضية السلام لأن الأحاديث الواردة في ذلك عنده آحاد، وللأحاديث التي ذُكر فيها التشهد ولم يُذكر فيها السلام، على أن الإمام أبا حنيفة يستحبُّ السلام.

قال: والقفال الشافعي إن صحَّ عنه ما حكى عنه ابن خلكان أنه أخرج صلاته صلاة المتلاعب؛ فإنه ينبغي أن يختم صلاته بضراط وضحك وعياط ليكون أضحوكةً لأولئك الحُضّار… عامله الله بعدله.

فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى إنما ذكر حكم المسائل المذكورة لمن ابتلي بها تطبيقاً لقواعد أصّلها، وأصولٍ هذبها، وضوابط رتبها، لا أنه يقول ينبغي للمُصلي أن يُصلي بجلد الكلب المدبوغ مع وجود غيره متوضئاً بوضوءٍ منكوسٍ مُفتتحاً بالفارسية قارئاً بها تاركاً للطمأنينة، ناقراً نقر الديك بلا ركوعٍ، مُتحللاً من صلاته بتعمُّد الحدث!! حاشا وكلا، على أن الحاكي تلك الصلاة افترى على الإمام تجويزه الصلاة من غير ركوع، والركوع وكذا السجود ركنان لا تصح الصلاة بدونهما، هذا وكم للمذاهب نظير هذه المسائل وأشباهٍ: علمها من علمها وجهلها من جهلها.

                                         كلمة في خاتمة المقال

الاتباع حقٌّ خالصٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ويجب على كل مُسلمٍ أن يعلم أنه لم يوجب الله علينا اتباع رجلٍ بعينه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أوجب على الناس أن يتبعوا رجلاً مُعيناً أو رجالاً مُعينين، بحيث تحرم مخالفتهم، فقد أخطأ خطئاً فاحشاً، وضلَّ ضلالاً مُبيناً، ولم يأتِ في القرآن ولا في السُّنة وجوب اتباع مذهبٍ مُعين، وإنما الواجب اتباع كتاب الله عز وجل، واتباع سُنَّة نبيّه عليه الصلاة والسلام، وما أجمع عليه المسلمون في القرون الثلاثة الأولى، ولكن مع ذلك فإنه يُستحبُّ لطالب الفقه والعلم أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب، وأن يتعلم فروعه وأصوله، لتحصل له الملكة، والدُّربة على فهم كلام العلماء، والأخذ به أيضاً، فإن في كلامهم حقٌّ وخيرٌ كثير. 

والخلاصة، أنه:

● لم يتعبدنا الله (عز وجل) بفهم كتاب غير كتابه، ولا بحفظ كلام سوى كلامه، ولم يتعبدنا الله بالاجتهاد في فهم معميات المختصرات، ولا بالاجتهاد في فهم منطوق كلام أحد من خلقه ومفهومه، إلا كلام رسوله (صلى الله عليه وسلم)؛ الذي هو حجة يجب تأملها والنظر فيها؛ وفق ما تقرر من قواعد الفهم والاستدلال..

● والمطلوب من العقل البحث عن الحق بايسر وسيلة وأقربها، دون تعمق او تكلف، فلا يجوز للإنسان أن يضيع عمره في سلوك الدروب المتعرجة مع تمكنه من الوصول إلى الغاية بالطريق المستقيم.

● ولا يجوز لأحد أن يرضى من نفسه بتقليد كل أحد من الناس، بل واجب عليه أن يبحث عن سبيل الحق والصواب، مع تحري الدقة والأمانة في البحث عنه؛ فيثبت في حق طالب الحق وجوب العلم الذي يعينه على معرفة الحق من الباطل، وتمييز السنة من البدعة، والتفريق بين الصحيح والفاسد.

● وعلى المسلم السالك المجد في طلب الحق: أن يختار أثناء سلوكه من الأمور اصوبها، ومن الأفعال أحسنها، ومن العقائد أصحها، ومن الطرق أسلمها، بعيدا عن الإشكالات والمغالطات والخلافات التي لا طائل تحتها..

والله اعلى واعلم...