الحميَّة الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية
لأبي المظفر يوسف بن محمد العبادي السَّرمرّي
(ت 696 - 776 هـ).
ويليها قصيدة
أبي عبد الله محمد بن يوسف الشافعي اليمني
تقديم وتعليق:
صلاح الدين مقبول
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لا شكَّ أن تاريخنا حافلٌ بالأمجاد، والبطولات، والمآثر والمفاخر، وفي مقابل ذلك فهو مليءٌ بالمآسي والنكبات والمصائب، وأعظم هذه النكبات ما ابتلينا به من متعصبة المذاهب، الذين خانهم النظر، وأعوزهم الفحص، ونبا عنهم الإنصاف؛ فإذا جاء التقليد: حبسوا عيونهم، وأغلقوا أفئدتهم، وتجارت بهم الأهواء في سبيل الكذب والدس والتشنيع، وخرجوا عن رحبة الإسلام الواسع إلى عطن المذهب وضيقه، وخرجوا من فضاء التواضع ومكارم إلأخلاق إلى مخارج الكبر والتعاظم، وبرغم كثرة هؤلاء المتعصبة في عصر ابن تيمية، ولمعان أسمائهم، وبروزهم في التأليف والتصنيف، إلا أنهم بجمودهم وإلغاء عقولهم دمَّروا الأمة أيما دمار، وخرَّبوها أيما خراب.
ثم لا تزال طوائفٌ منهم يتنكرون للصواب رغم وضوح الأدلة، بل ويشنون الغارات تلو الغارات على من يجتهد في مسألة من مسائل الدين أو قضية من واقع الحياة، وليس ذلك ببعيد عمن حجر عقله في تفكير غيره، وأغلق على نفسه باب الاجتهاد، فقصَّر في حق نفسه وفي حقِّ إمامه الي ينتمي إليه، لذا نجد التخريف وقصص الخيال عند المتأخرين أكثر منه في المتقدمين، وقد خسر المسلمون الكثير والكثير بسبب هذا التعصُّب المقيت، الذي أهلك هذه الأمة بوادٍ غير ذي زرع.
وقد أسلفنا أن لهذه الأمة ماضياً مُشرقاً بعلمائه وقادته وكباره، ومن هذه المواقف المشرفة، والكلمات الصادقة، ما حفظه التاريخ لنا من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية، وحفظ لنا جهوده في نشر الدين والسُّنة، والدعوة إلى التوحيد الخالص على سنن الأنبياء والصحابة والصادقين من أبناء هذه الأمة، وتحمل في سبيل ذلك جرعات الألم، وقاسى ألم السجون، حتى تطاول عليه سفهاء عصره ورويبضة زمانه، حطاً من قدره، وطعناً في علمه، بدلاً من أن يوجهوا سهام الطعن إلى الرافضة الذين نشروا التشيُّع، وأذاقوا أهل السُّنة الويلات والغُصص، ولكن الله يُدافع عن الذين آمنوا، لا سيما هذا العلم الكبير، والإمام النابعة شيخ الإسلام ابن تيمية.
وبعد مقدمةٍ طويلة وحافلة تحدث فيها الباحث عن دور الرافضة في تقويض نظام الخلافة، وسعيهم في إفساد نظام الدولة، وتآمرهم على العالم الإسلامي، تعرَّض للحديث عن السُّبكيان: التاج ووالده التقي، وموقفهما السيء من شيخ الإسلام ابن تيمية، اللذان خذلاه في موطنٍ كان تجب عليهما فيه نصرته مع ما كان من علماء عصره، ولا دافع لهما إلا النقمة والحسد والعصبية الهوجاء، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله -بقي طوداً شامخاً، وعفا عنهم في دنياه، وعند الله تجتمع الخصوم، وقد خسر السُّبكيان ما هاهنا، وحسابهم عند الله؛ فرحم الله شيخ الإسلام وأعلى درجته في الشهداء والصديقين.
وهاتان قصيدتان؛ لأبي المظفر السرمري، وأبي عبد الله الشافعي، تمحضتا للدفاع عن "مُفتي الفرق"، الذي حيَّر الألباب من جودة مذهبه، ووفور عقله، وتمام نُصحه للأمة، بضرورة متابعة مذهب السلف، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الدمشقي، والتي تُنبي عن حسن الإيمان، وصحة اعتقاد صاحبيهما.
وقد تميزت هاتين القصيدتين بجمال السبك، وحسن الصياغة، وبلاغة الإشارة، وسلامة المعتقد، واستقامة المنهج، يحدوهما قوَّةٌ تتسامى في الانتصار للحق، وتتجاوز كل العقبات والظروف؛ لتسير في موكبٍ واحد في درب الدعوة إلى عقيدة السلف، إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى النظر والإنصاف والحكمة، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، بالقلم، واللسان، والسيف، والسنان، لإعلاء كلمة الله في أنحاء المعمورة.
والحق أبلجُ لا يزيغُ سبيله … والحق يعرفه ذوو الألباب
وقصة هاتين المنظومتين
أنه لما ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتابه النفيس "منهاج السُّنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية"، وهو كتابٌ حافلٌ في الرد على الشيعة الإثني عشرية وفرقة القدريّة، وقصد به الرد على كتاب "منهاج الكرامة" للشيعي المعروف ابن المطهر الحلي، واطلع على هذه الجوهرة التقي السُّبكي، فوجده حافلاً بالمقصود، وكتب فيه يمدحه:
ولابن تيمية ردٌّ عليه وفي … بمقصدِ الردِّ واستيفاءِ أضربه
إلا أن التقي السُّبكي ناقره بأبيات فيها مغالطات وتهويلات من جهة، واتهامات وتحاملات من جهة أخرى، وتتلخص مؤاخذات السُّبكي في هذه القصيدة على شيخ الإسلام وكتابه "منهاج السُّنة النبوية" في أمرين:
الأول: اتهام شيخ الإسلام بأنه يُحاول في كتابه هذا الحشو والتجسيم.
الثاني: اتهام شيخ الإسلام بأنه يرى إمكان وجود حوادث لا أول لها.
وقد تناول شيخ الإسلام هاتين القضيتين في كثيرٍ من كتبه ورسائله، وفنَّدها وجلاها بالبحث والتحقيق، وبيَّن الحق في ضوء الكتاب والسنة، بحيث لا يبقى فيهما مجالٌ للتمويه والمغالطة،
وأنشد التقي السُّبكي قصيدته المذكورة في الرد على شيخ الإسلام بعد وفاته، كما يدل عليه قوله:
لو كان حيَّاً يرى قوي ويسمعه … رددتُ ما قال ردّاً غير مُشتبهِ
الرد على قصيدة التقيِّ السُّبكي
ومن هنا نهض تلميذان بارّان من مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية لمعارضة قصيدة السُّبكي -بحراً وقافية -بقصيدتهما اللتين هما من روائع الشعر الإسلامي، ونفائس الانتصار لمذهب السلف الصالح في العقيدة والعمل، ونماذج الدفاع عن الحق، من غير ملل وكلل، فوفُّوه الكيل، وردُّوا عليه غارته، وقرعوه بسياط الذل، واشتدُّوا عليه من كل ناحية حتَّى ضعف واستكان:
أولهما: أبو المظفر يوسف بن محمد العبادي السَّرميّ في قصيدته (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية).
ثانيهما: لأبي عبد الله الشافعي اليافعي اليمني.
أولاً ترجمة مختصرة للسرّمرّي صاحب (الحميَّة الإسلامية)
أما الناظم؛ فهو: الإمام الحافظ يوسف بن محمد السرّمرّي، وهو أحد الأئمة النُّقاد، وكان زاهداً ورعاً، فقيهاً، وقد أوتي رحمه الله حظاً وافراً من الفهم واتباع الدليل من الكتاب والسنة على نهج السلف الصالح،
وقصيدةٌ بائيَّة، تتضمن مائة واثنين وخمسين بيتاً مع أبيات السُّبكي: رداً عليه، ودفاعاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية. ومجمل أبيات السُّبكي المذكورة في القصيدة ستة عشر بيتاً مفرقة، والبقيَّة للسرمري رداً عليها في مائة واثنين وخمسين بيتاً.
وقد جمع فيها السرمري كل ما يفي بالمقصود، فجاءت في الصميم، وأصابت الهدف، وتململ بها المتهالكون من أهل الأهواء والبدع، وكانت عظيمة الوقع عليهم، وشديدةً على قلوبهم،
وذكر السرمريُّ أولاً خمسة عشر بيتاً، ثم ذكر أول بيت من قصيدة السُّبكي، وردَّ عليه رداً مُفصلاً، ومن أبياته:
يا أيها المعتدي قولاً ومُعتقداً … على ابن تيمية ظلماً ومذهبه
بيّن لنا بصريح القول مُعتمد الـ … الإنصاف والعدل فيه ما تُريد به
وقال:
لكن إذا الأسد الضرغام غاب عن الـ … عَرينِ تسمعُ فيه ضبح ثعلبه
كذ الجبانُ خلا في البرِّ صاح ألا … مُبارزٍ وتعالى في توثُّبهِ
إلى أن قال:
فالفتك قيّده التقوى ومذهبنا .. ترك الجدال وتأنيبٌ لطالبه
فهذه نبذةٌ أوردتُها عجلاً … عن ابن تيمية نصراً لمذهبه
ثانياً: ترجمة مختصرة لأبي عبد الله الشافعي اليمني
هو أبو عبد الله محمد بن جمال الدين يوسف اليافعي الشافعي اليمني، وقصيدته هذه تُنبيك عن علمه وفهمه وذكائه، وسلامة مُعتقده، وانتصاره لمذهب السلف الصالح، وقد جادت قريحته الوقادة بهذا النظم العظيم، للدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والانتصار لمذهبه، وكشف اللثام عن المغالطات والتمويهات التي انطلت على كثيرٍ من الناس.
وهي تشتمل على (110) أبيات مع أبيات التقيّ السُّبكي بكاملها، وهي ستة عشر بيتاً، وعقَّب عليها بردِّه المُسهب، وبدأ يُناقض قصيدة السُّبكي مُشيراً إلى كل بيتٍ منها، ففصَّل المسائل، وبيَّن قوة استدلال شيخ الإسلام عليها في ضوء الكتاب والسُّنة، وأظهر ضعف مُتمسَّك السُّبكيِّ، وقال:
نزلت حول حماه كى تنازله ... فما علوت عليه بل علوت به
وقال في أواخر القصيدة
هذا جوابك يا هذا موازنة ... بحراً وقافية في النظم والشبه
ثالثاً: وقع هاتين القصيدتين على قلوب المبتدعة ومتعصبة المذاهب:
ولا شك أن وقه هاتين القصيدتين على المبتدعة والمتعصبة كان كبيراً جداً، فأخذوا يتململون ويتولولون، ويتناقرون في الردود، ويُشغبون، وأخذوا يقعون في الناظمين لأجل تمسُّكهما بالحق، ومناقضتهما للسُّبكي في كتبه وأرجوزته. ولا ريب أن العبرة كل العبرة بالحق وأهله-الذين ينهلون من معين الكتاب والسنة، والصغار كل الصغار، والذلة كل الذلة للمبتدعة وأصحابهم، الذين ضاقت قرائحهم عن البراهين الصحيحة، والدلائل المستقيمة.