أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 26 أكتوبر 2020

رفع الملام عن الأئمة الأعلام -بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

رفع الملام عن الأئمة الأعلام
شيخ الإسلام ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ)

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

    تمهيد/ لقد امتنَّ الله عز وجل على هذه الأمة بعلماء أجلاء، وسادةٍ نُبلاء، حفظوا الكتاب، وتعلَّموا السُّنة، وتفقَّهوا في دين الله، وبذلوا أعمارهم رخيصةً في سبيل طلب العلم وتعليمه، وأنفقوا في سبيله نفائس أوقاتهم، وزهرة شبابهم، وسطروا صفحاتٍ ناصعة من بذل العلم والخير للناس، وخدموا هذه الشريعة ودرسوها واستنبطوا منها الأحكام، فكانوا كالنجوم المُضيئة، والشموس المُنيرة، والعافية للناس من كل فتنة، ونحن نُجلهم، وندين الله بحبهم، ونعدهم أئمة الدين، وقدوة المسلمين، والسلف الصالح لمن بعدهم.

وقد أدوا -رحمهم الله تعالى -أمانة العلم، ونصحوا الأمة لما فيه الخير والرشد، وقاموا بما أوجبه الله عليهم من النُّصح وبيان الحق، كاملاً غير منقوص، وكانوا مثالاً يُحتذى به في الورع والتقوى والعلم والعمل والإيمان والإخلاص، وهم إمام دار الهجرة: مالك بن أنس، وفقيه أهل الكوفة وعالمها الإمام أبي حنيفة، وناصر السنة والحديث مُحمد بن إدريس الشَّافعيِّ، والإمام الصابر أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنهم أجميعن.

  وأجمع المسلمون على الثناء على هؤلاء الشرفاء، والترضي عن هؤلاء النبلاء، الذين أظهروا للناس ما في الدين من أحكام، ونحن نقتفي آثارهم الحميدة في اتباع الكتاب والسنة، والاحتكام إليها حين التنازع، وتقديمها على كل قول، وعدم التعصب للرجال، ثم إننا نعتقد أن هؤلاء الفضلاء قد خدموا الدين خدمةً عظيمة، ونحن مدينون لهم في حفظ كثيرٍ من أحكام الإسلام، وفهمها، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.

 وأما من ينتقصهم ويطعن فيهم ويعيبهم ويذمهم ولا يعرف لهم قدرهم وعلمهم ومكانتهم؛ فإنه لا يُمكن أن يكون سلفياً أو مُتبعاً للسلف بحالٍ من الأحوال، لأن السلفية هي اتباع طريق السلف الصالح، وتعظيم الأئمة المجتهدين، وهؤلاء الأعلام في طليعة هؤلاء سلفنا الصالح، ومن خيارهم، ونحن أولى الناس بتقديرهم وحبهم والدفاع عنهم.

    ومع علمنا أن كثيراً من خصوم الدعوة السلفية قد افتروا على هذه الدعوة المباركة، ونقلوا للناس عنها خلاف الحق، وقالوا عنها إنها تبغض الأئمة، وتطعن فيهم، وتُسفه آراءهم، كما فعل البوطي في "اللامذهبية" وغيره في كتاب "الاجتهاد والمجتهدون"، واتخذوا من بعض المخالفات لبعض الأئمة في بعض المسائل الفقهية ذريعةً للكذب والافتراء على هذه الدعوة.

    ونحن نعلنها أن كل ما يُنقل عن السلفيين من ذلك فهو كذبٌ واختلاق، وليس له نصيبٌ من الصحة أبداً، وهو خلاف اعتقادنا في هؤلاء الأئمة الأعلام، بل ونحن بريئون منه تماماً، ولا يحسبنَّ أحدٌ أننا نقول هذ خوفاً من أحد، أو مجاملةً لأحد، فنحن ولله الحمد لا نخاف إلا الله سبحانه وتعالى، وليس من شيمتنا الخوف والتملق وإرضاء الناس، فالحق عندنا أغلى من كل أحد، وقد علمنا الإسلام الجراءة في قول الحق، والصراحة في إبداء الرأي، ونحن نتحدى كل من يدعي عليما خلاف ما ذُكر أن يأتي بشبه دليلٍ على ذلك وهيهات.

وقد وضع شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الرسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) في بيان أن الأئمة المجتهدين قد يقعون في بعض المخالفات للنصوص؛ لأسباب كثيرة، مبناها على الاجتهاد الذي لا يُقصد به مناهضة الشرع أو مخالفته، وما من إمام يجتهد إلا ويخطئ ويُصيب.

وهذا الخطأ الوارد عن المتقدمين ورد أكثر منه عند المتأخرين، ورحمة الله على شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي يقول في "مجموع الفتاوى": "ومن اجتهد في طلب الحق فعجز عنه فلا يعاقب، وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له. وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة؛ إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم. وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الصحيح أن الله قال: (قد فعلت)".

وقال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين": "ولا بُدَّ من معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يُوجب اطِّراح أقوالهم جملة وتنقّصهم والوقيعة فيهم.

فهذان طرفان جائران عن القصد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤثّم ولا نَعْصم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك بهم مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثّمونهم ولا يعصمونهم، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها. 

فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين:

* جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم.

* أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله.

ومن له علم بالشرع والواقع؛ يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهَفْوة والزَّلَّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين".

ومثل ذلك ما قاله الإمام الشاطبيُّ رحمه الله في "الموافقات": "وهذا كله وما أشبهه دليل على طلب الحذر من زلة العالم… وهو وإن كان على غير قصد ولا تعمد وصاحبه معذور ومأجور، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم، وقد قال الغزالي: "إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرة وهي في نفسها صغيرة… فهذه ذنوب يتبع العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه". وهكذا الحكم مستمر في زلته في الفتيا من باب أولى، فإنه ربما خفي على العالم بعض السنة أو بعض المقاصد العامة في خصوص مسألته، فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتقلد، وقولاً يعتبر في مسائل الخلاف، فربما رجع عنه وتبين له الحق فيفوته تدارك ما سار في البلاد عنه ويضل عنه تلافيه، فمن هنا قالوا: زلة العالم مضروب بها الطبل".

ثم قال الإمام الشاطبيُّ رحمه الله: "إذا ثبت هذا، فلا بد من النظر في أمور تنبني على هذا الأصل: منها: أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليداً له وذلك؛ لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً، فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين".

ولذلك كان واجباً على كل من كان لديه أهليةٌ للبحث والنظر ألا يأخذ قولاً إلا بعد معرفة دليله، وعليه أن لا كون إمعةً يُقلد هذا وذاك دون نظر أو دليل، وقد روي عن عبد الله بن مسعود: "اغد عالماً أو متعلماً، ولا تغد بين ذلك"، ولهذا حمل بعض السلفيين على التقليد والمقلدين الذين يستطيعون النظر والبحث وتعقُّل الأدلة، ثُم يتركون ذلك، وصرحوا بذمه وتحريمه، لأن ذلك يؤدي بصاحبه إلى الإعراض عن الكتاب والسنة في سبيل التمسك بالآراء والتقليد على غير بصيرة وهدى، حتى دعا ذلك أبا الحسن الكرخي رئيس الحنفية بالعراق، وأستاذ الكبراء منهم إلى أن يقول: "كلُّ آيةٍ تُخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة، أو منسوخة، وكل حديثٍ كذلك فهو مؤول أو منسوخ" /تاريخ التشريع، للخضري، ص 332/.

ونقل هذه الكلمة المنكرة والشنيعة صاحب كتاب "الاجتهاد والمجتهدون (ص 82) عن كتاب "تنقيح الحامدية"، وأقرها، كما نقل عن كتاب "الكشف الكبير": "أنه لا يجوز أن يُقال عن حديثٍ يُخالف مذهب أبي حنيفة: أنه لم يبلغه؟!!"، وهذه النهاية في التعصُّب؛ وكأنهم رأوا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله معصومٌ لا يمكن أن يفوته شيءٌ من الشريعة، ولا يُمكن أن يُخطئ في شيء، وهذا من الغلو المذموم.

فليت شعري ماذا تكون النتيجة إذ قال مقلدوا كل مذهب مثل ذلك، ونحن نعرف أنهم اختلفوا في كثيرٍ من المسائل؛ فإذا كانت اجتهادات كل واحدٍ منهم صواباً؛ فإن معنى ذلك أن دين الله متناقض، ومعنى ذلك أن الحق متعدد مع أن الله عز وجل بيَّن أن الاختلاف من صفة كلام البشر، وهو سبحانه منزهٌ عن ذلك، فقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء: 82)، وقال بصريح العبارة: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس: 32).

وقد عقد حافظ المغرب الإمام أبو عمر بن عبد البر المالكي في كتابه القيم "جامع بيان العلم" باباً لبيان أن الاختلاف خطأ وصواب، وليس صواباً كله، وذكر أمثلةً كثيرة مما خطَّاً فيه الصحابة والسلف بعضهم بعضاً، وأنكر بعضهم على بعض، وتباحثوا في بعض الاجتهادات، ورجع بعضهم عن رأيه؛ فقال: "هذا (أي التخطئة والرد) كثيرٌ في كتب العلماء وكذلك اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم من المخالفين وما رد فيه بعضهم على بعض لا يكاد أن يحيط به كتاب، فضلاً أن يجمع في باب، وفيما ذكرنا منه دليلٌ على ما عنه سكتنا وفي رجوع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ورد بعضهم على بعض دليلٌ واضح على أن اختلافهم عندهم خطأ وصواب، ولولا ذلك كان يقول كل واحد منهم: جائز ما قلت أنت، وجائز ما قلت أنا، وكلانا نجمٌ يُهتدى به، فلا علينا شيء من اختلافنا.

قال أبو عمر: والصواب مما اختلف فيه وتدافع وجه واحد ولو كان الصواب في وجهين متدافعين ما خطأ السلف بعضهم بعضا في اجتهادهم وقضاياهم، وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء ضده صوابا كله.

 ولقد أحسن القائل

إثبات ضدين معا في حال ... أقبح ما يأتي من المحال".

وذكر الإمام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن الإمامين مالك، والليث بن سعد، أنهما قالا في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على من زعم أن في الاختلاف رحمة وسعة للأمة؛ فقالا: ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب. و "سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة؟ فقال: لا والله حتى يصيب الحق وما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً ؟ وما الحق والصواب إلا واحد".

ونقل ابن عبد البر، عن المزني (صاحب الشافعي)، قال: "يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة؛ فقال أحدهما: حلال وقال الآخر حرام فقد أدى كل واحد منهما جهده وما كلف، وهو في اجتهاده مصيب الحق، أبأصل قلت هذا أم بقياس؟ 

فإن قال: بأصل، قيل له: كيف يكون أصلا والكتاب أصل ينفي الخلاف، وإن قال بقياس؛ قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ هذا ما لا يجوزه عاقل فضلاً عن عالم.

ويقال له: أليس إذا ثبت حديثان مختلفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى واحد؛ فأحله أحدهما وحرّمه الآخر وفي كتاب الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على إثبات أحدهما ونفي الآخر؟

أليس يثبت الذي يثبته الدليل ويبطل الآخر ويبطل الحكم به، فإن خفي الدليل على أحدهما وأشكل الأمر فيهما وجب الوقوف ؟

فإذا قال: نعم ولا بد من نعم، وإلا خالف جماعة العلماء، قيل له: فلم لا تصنع هذا برأي العالمين المختلفين؟ فتثبت منهما ما أثبته الدليل وتبطل ما أبطله الدليل؟".

فمما سبق كله تعلم خطأ تلك القولة الشنيعة التي قالها الكرخي، ورده مقلدوه أصحاب كتاب "الاجتهاد والمجتهدون" وهذه القولة التي بلغت الغاية في التعصب والجمود والضلال؛ إذ جعلت المذهب هو الأصل والكتاب والسنة هما الفرع؛ فيُعرضان على المذهب فما وافقه قُبل، وما خالفه منهما رُدَّ بأي حجة، وحمل على النسخ والتأويل، أو الترجيح ليتخلص منه، ولا يُهم بعد ذلك إن كان هناك دليلٌ على النسخ أو التأويل أو الترجيح أم لا. ولكن الذي يُهم أن يُثبت المذهب ولا يُرد بحالٍ من الأحوال، ولا بأس أبداً أن يُردّ الكتاب والسنة لأجل ذلك، وهذا يُبين لك بوضوح خطر التعصُّب المذهبي وضلال المتعصبين لها، ألا ترى أن تلك المقولة تؤدي إلى معاداة الكتاب والسنة، وردهما.

والغرض المقصود من هذه الرسالة هو التماس الأعذار للعلماء والفضلاء من هذه الأمة بما ورد عنهم من الأخطاء، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية حوالى عشرة أعذار للأئمة الأربعة فيما ورد عنهم من مخالفةٍ صريحة لصحيح السُّنة، وجماعها في ثلاثة أمور:

أحدها: عدم اعتقاده أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال شيئاً يُخالف قوله الذي اختاره لمذهبه. 

والثاني: اعتقاده أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد تلك المسألة بما قاله من التأويل والتفسير للنص.

والثالث: اعتقاده أن ذلك الحديث منسوخ لا يُعمل به.

وقد فصل رحمه الله هذه الأعذار وضرب الأمثلة عليها بما يكفي ويشفي، وننتقل للحديث أكثر عن هذه الرسالة، فنقول:

  • أهمية الرسالة:

1- بيان ما يجب على كل مسلم من موالاة المسلمين، وخاصة العلماء، وعلى رأسهم أصحاب المذاهب المتبوعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، واحمد.
2- وأنه لا يسوغ لمسلم أن يتعصب لإنسان مهما علا قدره، ومهما كانت الدواعي والأسباب، فلا يبالغ في مدحه واطرائه، ولا حتى في الاغارة عليه، والانتقاص من قدره.
3- بيان أن جميع الأئمة الاربعة متفقون على وجوب اتباع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سلم من المعارضة، وأنه لا يجوز تقديم قول أحدهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- ويجب أن نعتقد أنهم إذا خالفوا الحديث الصحيح، فإن مخالفتهم له قد يكون لسبب واضح جلي، أو لعلة غامضة خفية، لا عن هوى أو شهوة مخالفة.
4- وأنه لو ترتب على مخالفتهم تحليل حرام، او تحريم حلال، عن اجتهاد منهم، انهم لا يعاقبون على ذلك، ولا يدخلون في الوعيد من اللعنة، والغضب، والعذاب؛ لأنهم متأولون تأويلا سائغا في الجملة، بل إنهم مأجورون على اجتهادهم، مغفور لهم خطؤهم.

وقد اطال ابن تيمية النفس في الحديث عن مسألة الوعيد يثبت فيها أن "لُحُوقَ الْوَعِيدِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تحقق شُرط: (عدم العذر بالفعل)ٍ؛ وانتفاء المَوَانِع (من اجتهاد، او تأويل، او تقليد)".

5- ونحن لَا نَعْتَقِدُ فِي الأئمة المتبوعين الْعِصْمَةَ، بَلْ نُجَوِّزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ، وَنَرْجُو لَهُمْ -مَعَ ذَلِكَ- أَعْلَى الدَّرَجَاتِ؛ لِمَا اخْتَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّة، ومع ذلك فَلَيْسُوا بِأَعْلَى دَرَجَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

6- بيان أن الأولى بالمسلم أن يأخذ القول مشفوعاً بالدليل، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأنه لا عذر لمقلد في ترك النص إن تبين أنه الحق، وأن مذهبه مذهب مفتيه، وأن من أدرك شيئا من العلم فعليه العمل به.


            ● بيان اعذار الأئمة في تركهم الأخذ والعمل ببعض النصوص:

    ١) عدم بلوغهم الحديث، او عدم معرفته به؛ لقصور العقل عن الإحاطة بكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وقد وقع ذلك للصحابة وهم اقرب الناس من رسول الله ﷺ فكيف بمن جاء بعدهم ؟!.

يقول ابن تيمية: "فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحًا".

وقال: "وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ: إن الْأَحَادِيثَ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ"(ص ١٧).

٢) اعتقادهم عدم ثبوت الحديث عن النبي ﷺ، وذلك "إمَّا لِأَنَّ رجلاً من مِنْ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ، أَوْ مُتَّهَمٌ، أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ. وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مُسْنَدًا بَلْ مُنْقَطِعًا؛ أَوْ لَمْ يَضْبُطْ لَفْظَ الْحَدِيث، مع أن الحديث قد يكون ثابتاً وصحيحاً عند غيره؛ لأنه جاء من وجه آخر" (ص ٢٠).

٣) اعتقادهم ضعف الحديث باجتهاد معين؛ كالاختلاف في جرح الرواة وتعديلهم، وفي كون الراوي الثقة يخالف روايته، فلا يعمل بها، وكانوا يعدون ذلك سببا قادحا في الرواية، ومثل أن يرد الحجازي رواية الشامي والعراقي إن لم يكن لها أصل يوافقه؛ لاعتقادهم ان الحجازي ضبط السنة (ص ٢١).

٤) اختلافهم في شروط قبول خبر الواحد؛ فاشترط بعضهم أن يكون له أصل في الكتاب او السنة الصحيحة، واشترط بعضهم أن يكون الراوي فقيهاً، واشترط فريق أن تكون الرواية مشهورة، مما تعم بها البلوى. (ص ٢٢).

٥) أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ؛ وذهل عنه؛ فتركه.

٦) عَدَمُ مَعْرِفَتِهِ بِدَلَالَةِ الْحَدِيثِ؛ تَارَةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ غَرِيبًا عِنْدَهُ، مِثْلَ لَفْظِ "الْمُزَابَنَةِ"، وَ"الْمُخَابَرَةِ"، وَ"الْمُلَامَسَةِ"، وَتَارَةً لِكَوْنِ "الدَّلَالَةِ مِنْ النَّصِّ خَفِيَّةً".

٧) اعْتِقَادُهُ أَن مِنْ الْأُصُولِ مَا يَرُدُّ دلالَةَ الحديث، سَوَاءٌ كَانَ ذلك فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَوَابًا أَوْ خَطَأً، مِثْل:َ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، أَوْ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، أَوْ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ لَا عُمُومَ لَهُ.. الخ.

٨) اعْتِقَادُهُ أَنَّ دلَالَةَ الحديث قَدْ عَارَضَهَا مَا يدَلَّ عَلَى أَنَّ ذلك الحكم لَيْسْ مُرَاداً، مِثْلَ:مُعَارَضَةِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِمَا يَنْفِي الْوُجُوبَ، أَوْ الْحَقِيقَةَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَجَازِ... إلَى أَنْوَاعِ أخرى الْمُعَارَضَاتِ.

٩) اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ؛ أَوْ نَسْخِهِ؛ أَوْ تَأْوِيلهِِ، بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارَضًا بِالِاتِّفَاقِ مِثْلَ آيَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ، أَوْ مِثْلَ إجْمَاعٍ. 

١٠)  اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَوْ نَسْخِهِ أَوْ تَأْوِيلِهِ، بما لَا يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارِضًا رَاجِحًا: كَمُعَارَضَةِ الْكُوفِيِّينَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فيقدمون ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عَلَى نَصِّ الْحَدِيث؛ فيردونهِ.

● خلاصة مذهب ابن تيمية في موانع لحوق الوعيد:
يقول ابن تيمية: "وَمَوَانِعُ لُحُوقِ الْوَعِيدِ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا: التَّوْبَةُ. وَمِنْهَا: الِاسْتِغْفَارُ. وَمِنْهَا: الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ لِلسَّيِّئَاتِ. وَمِنْهَا: بَلَاءُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا. وَمِنْهَا: شَفَاعَةُ شَفِيعٍ مُطَاعٍ. وَمِنْهَا: رَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ

فَإِذَا عُدِمَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، وَلَنْ تُعْدَمَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ عَتَا وَتَمَرَّدَ وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ عَلَى أَهْلِه، فَهُنَالِكَ يَلْحَقُ الْوَعِيدُ بِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْوَعِيدِ: بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ سَبَبٌ فِي هَذَا الْعَذَابِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ. (رفع الملام، ص ٤٣)



الأحد، 25 أكتوبر 2020

الوجيز في أصول الفقه - الدكتور عبد الكريم زيدان

الوجيز في أصول الفقه

الدكتور عبد الكريم زيدان

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

تمهيد/ يعتبر علم أصول الفقه من العلوم العالية والرفيعة بالنسبة لغيره من علوم الشريعة، لأنه يحتاج إلى ذهنٍ صافي، وفكر وقَّاد، ونظرٍ مشبعٍ بالفطنة والذكاء الحاد، مع سرعة استحضارٍ للأدلة، وبه يتمكن الفقيه من فهم كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،واستنباط الأحكام من نصوصها، ومن مصادرها المعتبرة، وذلك ضمن قواعد وضوابط هذا العلم الشريف.

وعلم أصول الفقه: هو العلم الذي يبحث في أدلة الفقه الإجمالية، ويبحث عن كيفية الاستفادة منها، وكلمة (أصول) جمعٌ مفردها أصل، والأصل هو ما ينبني عليه غيره، وكلمة (الفقه) في اللغة الفهم، وفي الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبط من الأدلة التفصيلية، فـ(أصول الفقه): هي القواعد العامة من الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة والسبب والشرط والمانع والأهلية ودلالة الألفاظ، والاجتهاد.

  • وإذا أردنا الحديث عن أهمية هذا العلم ابتداءً؛ فنقول:

1-المحافظة على أحكام الشريعة الإسلامية؛ لأن علم أصول الفقه يقوم بحماية أدلة التشريع كي لا يقوم الناس بتجاوزها، كما أنه ساهم في حفظ وحماية أدلة الأحكام والمستندات الخاصة بها، بالإضافة إلى ذلك أنه قام بوضع مصادر أصلية وفرعية للتشريع، وذلك حتى يتم حفظ الشريعة بقواعدها.

2-ضبط أصول الاستدلال:حيث أن علم أصول الفقه يُميز بين الأدلة المزيفة والأدلة الصحيحة، وما يُقبل منها وما يُرد.

3-سهولة وتيسير عملية الاجتهاد: حيث أن علم أصول الفقه سهل من عملية الاجتهاد، كما أنه ساعد في إعطاء الحوادث الجديدة الأحكام المناسبة لها.

4-منع تفسير نصوص الكتاب والسنة بحسب الرأي والهوى، حيث يقوم علم أصول الفقه بضبط تفسير النصوص، ووضع معنى واضح لها، مما يمنع الناس من وضع تفسيرات أخرى غير صحيحة، أو محاولة التلاعب بالتفسير.

5-تقليل حدوث الخلافات، حيث يقوم علم أصول الفقه بوضع الرأي الحاسم في الكثير من الأمور، مما يمنع الناس من الاختلاف في الأمور الدينية، والذي ينشأ عنها الكثير من الخلافات مثل الفهم الخاطئ للقرآن الكريم والسنة النبوية.

6-بيان طرق الجميع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض.

7-العمل على صقل الملكة الفقهية، والتي تساعد الفقيه أو الطالب على الفهم الصحيح، كما تمكنه من الإدراك والفهم الكامل لأدلة الأحكام المتعلقة بالفقه، وتتيح لهم الإطلاع على مختلف طرق الاجتهاد والاستنباط.

8-يساعد علم أصول الفقه في معرفة الأسباب التي تؤدي إلى حدوث الخلافات بين المذاهب والعلماء، مما يؤدي إلى التماس الأعذار لهم.

9-يقوم علم أصول الفقه بالقضاء على الخلافات الفقهية غير المعتبرة، من خلال معرفة المردود من الأقوال وغير المردود، كما يساعد في حفظ وزن وقيمة الأقوال المعتبرة.

10-يساهم علم أصول الفقه في دعوة الناس إلى اتباع الأثر والدليل، ويبعدهم عن التقليد الأعمى والتعصب المذهبي؛ فعلم أصول الفقه يساعد في تقريب الخلاف الحادث بين المذاهب الإسلامية وبعضها البعض، كما يعمل على وضع حد للتعصب الطائفي والمذهبي، والذي ينتج عن الكثير من العوامل، وأهم هذه العوامل هو الجهل بأصول هذه المذاهب.

11-بيان الطريقة الصحيحة للاستدلال، حيث أنه ليس كل دليلٍ يكون صحيحاً يكون الاستدلال به صحيح، بالإضافة إلى تمكين الدارسين لقواعد الأصول من أجراء الكثير من الموازنات والمقارنات بين الآراء المختلفة للفقهاء المسلمين من ناحية، ومن ناحية أخرى آراء فقهاء القانون وذلك للوصول إلى قانون أكثر مناسبة، ومنع حدوث تعارض بين قوانين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية.

12-معرفة أصول وأسس جميع المذاهب الفقهية، بالإضافة إلى الوقوف على ترتيب الأدلة الخاصة بكل مذهب من المذاهب؛ حيث أن بعض المذاهب قدموا القياس على قول الصحابي، والبعض الآخر لا يعترف بذلك، وجعل العكس هو الكلام الصائب، وما إلى ذلك.

13-يقوم علم أصول الفقه بوضع وتوضيح ضوابط يجب أن تكون موجودةً في أسس فتوى، وكذلك الشروط التي يجب توافرها لدى الشخص المفتي، بالإضافة إلى آداب المفتي.

14-ضبط قواعد الخاصة بالمناظرة والحوار، وذلك يتم عن طريق الرجوع إلى الأدلة الصحيحة الموثوق بها.

15-حفظ العقيدة الإسلامية الصحيحة بحماية أصول الاستدلال، والرد على شبه المنحرفين من المبتدعة والفرق الكلامية، لا سيما نُفاة الصفات عن الرب سبحانه، حيث يمكن الاستفادة من علم الأصول.

16-الوقوف على سماحة وسهولة الشريعة الإسلامية، كما يُساعد في الإطلاع على مميزات هذا الدين، وذلك عن طريق دراسة الحكمة والعلة.

17-حماية الفقه الإسلامي من الفوضى الفقهية، كما تحميه من الجمود؛ حيث أن الفقه الإسلامي مناسبٌ لكل زمان ومكان، وفي كل العصور والمجتمعات.

  • أول من صنف في علم أصول الفقه:

وقد بدأ هذا العلم، بصورته المدونة، وليداً عل شكل قواعد متناثرة في ثنايا كلام الفقهاء وبيانهم للأحكام، فقد كان الفقيه يذكر الحكم، ودليله ووجه الاستدلال يه. كما أن الخلاف بين الفقهاء كان يعضد بقواعد أصولية يعتمد عليها كل فقيه لتقوية وجهة نظره، وتعزيز مذهبه وبيان مأخذه في الاجتهاد.، أول من دون هذا العلم، وكتب فيه بصورة مستقلة، هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة (204 هـ )، فقد ألف فيه رسالته الأصولية المشهورة. وتكلم فيها عن القرآن، وبيانه للأحكام. وبيان السنة للقرآن، والإجماع، والقياس، والناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي. والاحتجاج يخبر الواحد، ونحو ذلك من الأبحاث الأصولية. وكان نهجه في هذه الرسالة يتسم بالدقة، والعمق، واقامة الدليل على ما يقول، ومناقشة آراء المخالف بأسلوب علمي رائع رصين، ثم تتابع الأمة بعد ذلك على التأليف في أصول الفقه.

  • أهم الموضوعات التي تناولها الدكتور زيدان في كتابه باختصار:

بدأ الدكتور زيدان بالمقدمة والتي عرج فيها على أهمية علم أصول الفقه في بيان مناهج الاستنباط وقواعده، ثم ذكر تعريفه باعتباره مركباً إضافياً، وتعريفه باعتباره اسماً ولقباً لعلم مخصوص، والغرض من دراسته، ومدى الحاجة إليه في الوقت الحاضر، وجعل كتابه هذا في أربعة أبواب:


الباب الأول: في مباحث "الحكم"، "والحاكم"، "والمحكوم فيه"، "والمحكوم عليه"، وفيه بيان تعريف الحكم الشرعي، وأقسام الحكم التكليفي من: (الواجب- المندوب -المباح -المكروه -والحرام)، وما يلحق به من (العزيمة والرخصة)، وأقسام الحكم الوضعي من: (السبب والشرط والمانع)، وما يلحق به من (الصحة والبطلان)، وبين المقصود بالحاكم  وهو الله تعالى، ووسيلة التعرف على أحكام الله، ثم ذكر المحكوم فيه، وعليه، وذكر الأهلية بنوعيها (الوجوب، والأداء)، وعوارضها، وهي إما سماوية، وهي: (الجنون، والعته، والنسيان، والنوم والإغماء، والمرض، والموت)، والعوارض (المكتسبة: من الجهل، والخطأ، والهزل، والسفه، والسكر، والإكراه).


الباب الثاني: أدلة الأحكام: وتقسيماتها، وشروطها، وترتيبها، وحجيتها، وقد ذكر عشرة من الأدلة: اثنان متفق عليها: (القرآن، والسنة)، واثنان احتج بهما الجمهور: (الإجماع، والقياس)، وست أدلة مختلف فيها بين الفقهاء (الاستحسان، والمصلحة المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، قول الصحابي، وشرع من قبلنا)، ويُلحق بها (الاستصحاب)؛ لأنه دليل دفع لا إثبات.

الباب الثالث: في طرق استنباط الأحكام وقواعده، ويبحث في القواعد الأصولية اللغوية، ودلالاتها، من: (الخاص، العام، المطلق، والمقيد، الأمر، النهي، المشترك، والحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم، والخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه، وعبارة النص، وإشارة النص، ودلالة النص، واقتضاء النص، ومفهوم المخالفة)، ثم مقاصد التشريع العامة من الحفاظ على الضروريات الخمس، والناسخ والمنسوخ، والتعارض والترجيح.

 الباب الرابع: في الاجتهاد والتقليد: (تعريفه، ومن هو المجتهد؟ وشروط الاجتهاد وحكمه، وتغير الاجتهاد ونقضه، وتجزئه)، والتقليد (تعريفه، وحكمه التقليد ، وتقليد المذاهب الأربعة).

مميزات كتاب الدكتور عبد الكريم زيدان:

1-مراعاة أقوال الفقهاء المجتهدين على اختلافها وتنوعها، وايرادها بموضوعية تامة، وذكر الراجح منها، وطريقته الفريدة في الترتيب والتبويب.

2-ربط القوانين الفقهية بالقوانين الوضعية المصرية والعراقية لكونها الأشهر، مع بيان ما يُوافق وما يُخالف الشريعة الإسلامية منها.

3-اختيار التفصيل في بعض المسائل التي هي مجال بحث الفقهاء وذلك زيادةً في الإيضاح، مع كثرة ضرب الأمثلة، وقرب العبارة وسهولتها بالنسبة للدارس.


وختاماً: المذاهب الأربعة والتقليد:

أولاً:المذاهب الإسلامية مدارس فقهية لتفسير النصوص واستنباط الأحكام وليست هي شرائع قائمة بذاتها بحيث يحرم مخالفتها أو مناقشتها والإعتراض عليها.

ثانياً:الشريعة الإسلامية أوسع من أي مذهب وحجة عليه، وليس أي مذهب حجة على الشريعة الإسلامية مهما كان هذا المذهب.

ثالثاً: المسوغ لتقليد المذهب كونه مظنة تعريف المقلد بحكم الشرع.

 رابعاً:على المقلد أن يطهر نفسه من التعصب الذميم للمذهب الذي يقلده، لا سيما في الأقوال التي تُخالف الكتاب والسُّنة وإجماع السلف.

خامساً:لا إلزام على المقلد باتباع جميع أقوال مذهبه، ولهذا له أن يسأل أي عالم من غير مذهبه عن حكم الشرع في مسألة تهمه.

سادسا :لا نضيق باختلاف المذاهب، أو يكون شغلنا الشاغل دعوة الناس إلى الامتثال الحرفي لما فيها؛ فإن ذلك مذموم وقبيح.


 



شروط الأئمة الستة -ويليه شروط الأئمة الخمسة -بقلم:أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

شروط الأئمة الستة

للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي (448 - 507 هـ)

ويليه شروط الأئمة الخمسة

للحافظ أبي بكر محمد بن موسى الحازمي ( 548 -584 هـ)

بقلم:أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذا الكتاب صنفه الإمام محمد بن طاهر المقدسي الفلسطيني لبيان الشروط التي وضعها أصحاب الكتب الستة عند تصنيفهم لها، وبيَّن فيه أن لكل واحدٍ منهم شرطاً التزمه وجرى عليه في تخريج لمحفوظه من الأحاديث، ولذا قال في بيان سبب تأليفه: "وإن بعض أهل الصنعة سألني ببغداد عن شرط كل واحدٍ من هؤلاء الأئمة في كتابه، فأجبته بجواب أنا أنذكره ههنا بعينه ورمَّتِه"..

    والكتاب الثاني هو للإمام أبي بكر محمد بن موسى الحازمي، وفيه بيان شروط الأئمة الخمسة، وهم الستة عدا ابن ماجه؛ وقد قال في مقدمته: "فقد سألتني وفقك الله لاكتساب الخيرات، وجنبني وإياك موارد الهلكات أن أذكر لك شروط الأئمة الخمسة، في كتبهم المعتمدة، على نقلهم وحكمهم.. وما قصدوه من غرض كل واحدٍ منهم في تأسيس قاعدته، وتمهيد مرامه…."، ولعل كلام الحازمي أوفى وأوسع من كلام ابن طاهر، وفي كُلِّ خير.

وقد رأيتُ هنا الاقتصار على ما يحتاج إليه طالب العلم والحديث من المعاني التي ذكراها في كتابيهما، وما لم يذكراها وأرتبها بطريقة تُسهل فهمها، والرجوع إليها، فنقول وبالله التوفيق:

  • من هم الأئمة الستة؟

البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.

  • هل صرَّح هؤلاء الأئمة بشروطهم في مصنفاتهم ؟

يقول ابن طاهر: "اعلم أن البخاريَّ ومسلماً ومن ذكرنا بعدهم لم يُنقل عن واحدٍ منهم أنه قال: شرطت أن أخرج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني (يعني سوى اشتراط اللقي عند البخاري، والاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم)، وإنما يُعرف ذلك من سبر كتبهم، فيُعلم بذلك شرط كل رجلٍ منهم".

  • أولاً: الإمام أبو عبد الله البخاري:

وهو أول الأئمة الستة: وهو محمد بن إسماعيل البخاري، وكنيته أبو عبد الله، ولد ببخارى سنة (194 هـ)، ومات بخرتنك قرب سمرقند سنة (256 هـ)، ومن تصانيفه "الجامع الصحيح المختصر"، ويعتبر كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل.

وهو أول من صنف في الصحيح المجرد، وسبب تأليف ما رواه الحازمي بسنده إلى الإمام البخاريِّ، أن إسحاق بن راهويه -شيخه -قال: "لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال البخاريُّ: فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح". وقد ابتدأ تأليفه في الحرم النبويِّ الشريف، ولبث فيه ست عشرة سنة، وأتمَّه ببُخارى.

وما كان يضع فيه حديثاً إلا بعد أن يغتسل ويُصلي ركعتين، ويستخير الله في وضعه، وقد روى الفربريُّ وغيره، عن البخاري، قال: "ما أدخلتُ في الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرتُ الله تعالى، وتيقنتُ صحته"، وقد اقتصر في جامعه على الصحيح، ولم يستوعب كل الصحيح، فقد ترك منه أكثر مما أثبته؛ لئلا يطول الكتاب، وقد خرجه من مائة ألف حديث صحيح.

وجميع ما في البخاري من الأحاديث الموصولة بلا تكرير (2602) حديث، ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر من كتابه (195) حديثاً وصلها في كتب أخرى له أو وصلها من جاء بعد.

وجملة ما في الكتاب من التعاليق (1341) حديث معلق، وجملة ما في الصحيح من المتابعات (344) حديث، وعليه فجملة ما في البخاري من الأحاديث (9082) حديث. وهذا العدد لا يشتمل على ما في الكتاب من الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين؛ فمن بعدهم.

  • ماذا يعني البيهقي والبغوي بقولهما: أخرجه البخاري ؟

والجواب أنهما يعنيان أن البخاريّ أخرج أصل الحديث.

  • ثانياً: الإمام مسلم بن الحجاج:

وثانيهم -الإمام مسلم: وهو مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، وكنيته أبو الحسين، ولد بنيسابور سنة (204 هـ)، وتوفي بها سنة (261 هـ)، وله الصحيح، وهو تلميذ البخاري. 

وكتابه الصحيح هو ثاني الكتب الستة بعد صحيح البخاري، وقد اختاره مسلمٌ من ثلاثمائة ألف حديثٍ مسموعة، وعدد أحاديثه أكثر من عدد أحاديث البخاري، حيث بلغت أحاديثه (12 ألف) حديث بالمكررات، وبدون المكررات (4 آلاف) حديث، وأحاديث صحاح وليس فيها ضعيفٌ أو حسن.

وقد جعل مسلمٌ في بداية الكتاب مقدمة مهمة في "علم أصول الحديث"، مع بيان سبب التأليف، واقتصر حديثه على المرفوع ولم يذكر من الموقوف إلا نادراً، وليس فيه حديثٌ مُعلق سوى حديثٍ واحدٍ في التيمم.

  • ما هو شرط كُلٌّ من البخاريِّ ومسلم لإخراج الحديث في صحيحه؟

اشترط البخاريُّ ومسلمٌ على تخريح الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابة من غير اختلافٍ بين الثقات الأثبات، ويكون اسناده متصلاً غير مقطوع.

  واشترط البخاريُّ في "صحيحه" المُعاصرة واللُّقي، أي: أن يكون الراوي عاصر شيخة وثبت عنه سماعه منه، وشرط مسلم المعاصرة، وزاد بعضهم مع إمكان اللقي، وكلاهما اعتى بجمع الصحيح من الحديث.

  • أيهما أصحُّ شرط البُخاري أم شرط مُسلم ؟

أصحُّهما شرط البخاري؛ لأمور، منها: 

1- أن شرط البخاري أشدُّ من شرط مُسلم؛ لأنه يشترط اللقي والمعاصرة، وأما مسلم فيكتفي بالمعاصرة.

2-أن الذين انفرد بهم البخاري دون مسلم وتُكلم فيهم ثمانون رجلاً، بينما الذين انفرد بهم مسلمٌ وتُكلم فيهم مائة وستون رجلاً.

3-لم يكثر  البخاري الإخراج لمن تُكلم فيه، خلاف مسلم فإنه أكثر من الإخراج عمن تكلم فيه.

4-أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيهم أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم، وعرف أحوالهم، واطلع على حديثهم، خلاف مسلم؛ فإن أكثر من تفرد بتخرج حديثهم ممن تكلم فيهم ممن تقدم عن عصره، ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم عنهم.

5-أن البخاري يخرج عن الطبقة الأولى البالغة في الحفظ والإتقان، ويُخرج عن الطبقة الثانية التي تليها في طول الملازمة اتصالاً وتعليقاً، ومسلمٌ يخرج عن هذه الطبقة أصولاً.

  • هل كل حديث في البخاري أصحُّ من أحاديث مسلم ؟

والجواب: لا يلزم ذلك؛ وإنما أحاديث البخاري أصح من حيث الجملة، وإلا فقد توجد بعض الأحاديث في مسلم أقوى من بعض الأحاديث في البخاري.

  • هل اشترط البخاري ومسلم إخراج كل حديث صحيح ؟

والجواب: أنهما لم يشترطا إخراج كل حديث صحيح، فقد نقل أهل العلم عن البخاريِّ أنه قال: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح"، ونقلوا عنه أيضاً: "وتركتُ من الصحاح مخافة الطول"، وقد صحح البخاريُّ نفسه أحاديث لم يذكرها في صحيحه، وذلك واضحٌ بصورة كبيرة في سؤالات الترمذيِّ له، كما في "سنن الترمذي"، ونقل أهل العلم عن مسلمٍ كذلك قوله: "ليس كل شيء عندي صحيحٌ وضعته هاهنا، إنما وضعتُ ما أجمعوا عليه".

  • ما الذي تميَّز به البخاريُّ عن مسلم والعكس ؟

فاق البخاريُّ مسلم في شرط الصحة ودقة الفقه والاستنباط، بينما فاق مُسلمٌ في الصناعة الحديثية التي تتعلق بسياق الأحاديث وطرقها متتابعةً وشواهدها، ولذا قال بعضهم:

(فقلتُ لقد فاق البخاريُّ صحةً … 

كما فاق في حسن الصناعة مسلم)

  • ما هي مراتب الحديث الصحيح، وبماذا انتقدت ؟

قال جمعٌ من أهل العلم أن أعلى مراتب الصحيح (ما اتفق عليه الشيخان على صحته)، ثم (ما انفرد به البخاري)، ثم (ما انفرد به مسلم)، ثم (ما كان على شرطهما ولم يُخرجاه)، وثم (ما كان على شرط البخاري ولم يخرجه)، ثم (ما كان على شرط مسلم)، ثم (ما أخرجه الذين اشترطوا في كتبهم الصحة).

وانتقدت: بأن المتواتر أعلاهاً صحةً، ودُفع هذا الانتقاد بأن المتواتر إنما هو من مباحث المتن، وليس من مباحث الإسناد، فهو خارجٌ من البحث أصلاً، فهو صحيحٌ بلا بحث.

وانتقدت أيضاً بأن ما رواه الجماعة أعلى صحةً مما أخرجه الشيخان، ودُفع بأن من لم يشترط الصحة لإخراج الحديث لا يزيد إخراجه للحديث صحةً، ولكن الذي يظهر أ، ما أخرجه الجماعة (الستة) ينبغي أن يكون أعلى رتبةً من المتفق عليه؛ لأنه يكن متفقاً عليه وزيادة، والبخاري ومسلم يدخلان في الجماعة.

  • هل يشترط في الحديث الصحيح أن  يكون عزيزاً ؟

لا يشترط في الحديث الصحيح أن يكون له إسنادان، لأنه يوجد في الصحيحين وغيرهما أحاديث صحيحة وهي غريبة، واشترط بعض العلماء ذلك؛ كأبي علي الجبّائي من المعتزلة، وأبي عبد الله الحاكم، وقولهم هذا خلاف ما أجمعت عليه الأمة، وقد استوفى الرد عليه كلاً من الإمام ابن طاهر في (شروط الستة، ص 22 -24)، والحازمي في (شروط الخمسة، ص 33- 40).

  • ثالثاً: الإمام أبو داود السجستاني:

وثالثهم -الإمام أبو داود: وهو سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، ولد بسجستان سنة (202 هـ)، ومات بالبصرة سنة (275 هـ)، وله كتاب "السنن"، وعدد أحاديث كتابه (4800) حديث، وقد اختارها من بين (500) ألف حديث، حيث قال: "كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبتُ ما ضمنته وجمعتُ في كتابي هذا أربعة آلاف وثمانمئة حديث من الصحيح، وما يُشبهه وما يُقاربه" يعني من الحسن والضعيف المنجبر.

وقد اهتم رحمه الله بفقه الحديث أكثر من اهتمامه بالأسانيد، ويذكر في الباب أحاديث قليلة، ولا يُعيد الحديث في الباب إلا لزيادة فيه، وما كان من الأحاديث فيه وهنٌ شديد؛ فإنه يُبينه، وما سكت عنه فهو صالحٌ يعني للاحتجاج، واشتمل على كثيرٍ من المراسيل.

 وقد حدث عنه الترمذي، والنسائي، وكتب عنه أحمد حديث العتيرة، ومن أشهر رواة السنن عنه: أبو سعيد الأعرابي، وأبو علي اللؤلؤي، وأبو بكر بن داسه.

  • ما هو شرط أبو داود في سننه ؟

يشترط أبو داود في "سننه" أن يكون صالحًا للاعتبار والاحتجاج به، ويترك ما هو شديد الوهن، ولا يروي عن من اجتُمِعَ على تركه حديثه من الرجال، حيث قال: "ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض".

وكذلك يحتجُّ بالمراسيل؛ قال: "وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي حتى جاء الشافعي، فتكلم فيها وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل، وغيره. فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة".

وأما الحديث الغريب فيتركه ولو كان مرويًا من الثقات، ويستند إلى أقوال السلف في ذلك مثل قول إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون الغريب من الحديث"، وقول يزيد بن أبي حبيب: "إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة، فإن عرف وإلا فدعه".

  • رابعاً: الإمام أبو عيسى الترمذي:

ورابعهم -الإمام الترمذي: وهو محمد بن عيسى الترمذي، وكنيته أبو عيسى، ولد سنة (209 هـ) بترمذ، وبها توفي سنة (279 هـ)، ومن شيوخه البخاري، وأبو داود.

وله كتاب "السنن"، ويشتمل على (3956) حديث، قد رتبه على الأبواب مقتدياً بالبخاري ومسلم، وأبي داود، فجمع بين طرقهم، وأضاف إلى كتابه بيان مذاهب الصحابة التابعين والفقهاء، وكتابه في الجملة حسن الترتيب قليل التكرار، وليس في سنن الترمذي حديثٌ موضوع، ولا يُعتد بقول ابن الجوزي رحمه الله الذي أشار إلى وجود ثلاثة عشر حديثاً موضوعاً، وقد حكم الترمذيُّ على أحاديثه بالصحة والحسن والضعف، وبينَّت المستفيض والغريب والمُعل، وسكت على بعض الأحاديث، وقد بين منهجه في آخر كتابه الجامع عند حديث عن العلل.

  •  ما هو شرط الترمذيِّ في كتابه ؟

قال الترمذيُّ (كما قال الإمام الحازمي في كتابه الأئمة الخمسة، ص56): "ما أخرجتُ في كتابي إلا حديثاً عمل به الفقهاء"، يعني ولو واحداً.

  • خامساً: الإمام النسوي أو النسائي:

وخامسهم -الإمام النسائي: وهو أحمد بن شعيب النسائي، وكنيته أبو عبد الرحمن، ولد في نسا من نيسابور سنة (215 هـ)، ومات بالرملة سنة (303 هـ)، وله كتاب "السنن الصغير" المعروف بالمجتبى، وهو من رواية ابن السُّني، وهو المعدود في الأصول الخمسة. وأما سنن النسائي الكبير فهو من رواية ابن حيويه، وابن الأحمر، وابن قاسم، ولا يُعد من الأصول الخمسة، ومن شيوخه أبو داود والترمذي.

وأما الأصل الذي في الخمسة؛ فهو السنن الصغرى أو (المجتبى) وهو منتقى من السنن الكبرى، وقد انتقاه بناءً على طلب أمير الرملة منه، بانتقاء الصحيح من السنن الكبرى، وعدد أحاديثه بالمكرر (7275) حديث، وبحذف المكرر (4 آلاف) حديث، وهو أقل الكتب الستة بعد الصحيحين حديثاً ضعيفاً، ولذلك ذكروه بعد الصحيحين في المرتبة، وكان لا يكاد يُخرج لمن غلب عليه الوهم، ولا من كان فاحش الخطأ.

  • ما هو شرط النسائي (النسوي) في كتابه ؟

وشرط الإمام النسائي أنه لا يترك راوياً إلا إذا اجتمع الجميع على ترك حديثه، وفسر ابن حجر (الجميع) بطبقتي المتشددين والمتوسطين، فقال: إنما أراد بذلك إجماعاً خاصاً، وهو ما ذكرناه. 

ومن الأمثلة على المتشددين: شعبة، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وأبو حاتم. ومن الأمثلة على المتوسطين: سفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، والإمام البخاري.

  • ما هي طريقة عمل الإمام الترمذي في سننه ؟

ربما سلك الإمام الترمذي طريقة الإمام مسلم في بعض الأحان؛ فقد نصَّ مسلم على أنه ربما أخرج الحديث في صحيحه من طريق ضعيف لعلوه، والحديث معروفٌ عند أئمة هذا الشأن من طريق العدول، ولكن بإسنادٍ نازل. وقد أنكر أبو زرعة على مسلم إخراجه حديث أسباط بن نصر، وقطن بن نُسير، وأحمد بن عيسى المصري، فقال مسلم: إنما أدخلتُ من حديث أسباط، وقطن، وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع ويكون عندي برواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقصتر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات.

  • هل نُسَخ الترمذيِّ كلها واحدة ؟

ليست كل نسخ الترمذي واحدة؛ ففي بعضها يقول: حسن، وفي بعضها: حسن صحيح، وذلك في الحديث الواحد، ومثال ذلك حديث (الصلح جائزٌ بين المسلمين). وقال الصنعاني في "توضيح الأفكار": لم يُتبعه الترمذيُّ بتصحيحٍ ولا تحسين، وفي كثيرٍ من النُّسخ حسنٌ صحيح.

  • ماذا قال ابن حزم في الترمذي ؟

ذكر الذهبيُّ عن ابن حزمٍ أنه قال في كتابه "الإيصال" عن الترمذي: "مجهول"، وكذا ذكر ابن حجر عنه، ورد العلماء على ابن حزم قوله؛ فقالابن حجر: "أما ابن حزم فنادى على نفسه بعد الاطلاع، وذلك لما وصف الترمذي بالجهالة"، وقد أشار الشيخ أحمد شاكر في "مقدمة الترمذي" إلى أن الذهبي قد يكون وهمَ في ذلك، ونقل هذا الوهم عنه ابن حجر، فإن ابن حزم أخرج للترمذي حديثاً في المُحلى (9/ 297) ولم يذكر جرحاً ولا تضعيفاً.

  • ما هي رتبة الإمام الترمذي في التصحيح ؟

الترمذي معروف بالتساهل في التصحيح؛ فينبغي أن تتبع الأحاديث الموجودة فيه، ويُحكم عليها بما تستحق، وقد شرع في هذا الشيخ أحمد شاكر وقد عاجلته المنية رحمه الله تعالى، وحقق منه الباقي محمد فؤاد عبد الباقي، وعطوة عوض.

  • سادساً: الإمام ابن ماجه:

وسادسهم -ابن ماجه: وهو محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، وكنيته أبو عبد الله، ولد سنة (209 هـ)، وتوفي (273 هـ) صاحب "السنن" وغيره.

  وبلغت عدد أحاديث كتابه (4341) حديث، وفيه زوائد كثيرة عما ورد في الكتب الخمسة السابقة، وقد اختلف العلماء في الحكم عليها؛ فرأى المزيُّ أن "كل ما انفرد به ابن ماجه عن الخمسة ضعيف"، ولكن الحافظ ابن حجر يقول: "إنه انفرد بأحاديث كثيرة صحيحة".

وأعلى ما عنده هو الثلاثيات إلا أنها بطريق جبارة بن المغلس، وقد نظم ابن الجوزي في سلك الموضوعات من أحاديث نحو ثلاثين حديثاً، وفعل مثل ذلك مع الترمذي، إلا أن ما في ابن ماجه من الضعيف جداً والواهي يقل عن هذا المقدار إلى الثلثين، وقد اشتهر أن الرجال الذين انفرد بهم ابن ماجه ضعاف، وإن كان بين الأحاديث التي انفرد بها صحاح. 

وللحافظ الشهاب البوصيري (مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه) تكلم فيه على كل إسناد من أسانيد تلك الزوائد بما يليق بحاله من صحة وحسن وضعف.

وأول من أدخل كتاب ابن ماجه (السنن) في عداد الأصول الستة هو الحافظ أبو الفضل بن طاهر المقدسي؛ فتتابع أكثر الحفاظ على ذلك في كتبهم في الرجال والأطراف، إلا أنهم اختلفوا هل هو سادس الخمسة أم سادس الستة؟.

  • ما هو شرط ابن ماجه في "سننه" ؟

لم يتعرض الإمام ابن ماجه لذكر شرطه في الأسانيد التي أوردها في سننه، وكذا لم يكتب مقدمة يوضِّح فيها منهجه، قال ابن الملقن: "وأما سنن أبي عبد الله بن ماجه القزويني فلا أعلم له شرطاً، وهو أكثر السنن الأربعة ضعفا.."، لكن الإمام أبا زرعة الرازي قال في وصف السنن: "طالعت كتاب أبي عبد الله بن ماجه، فلم أجد فيه إلا قدراً يسيراً مما فيه شيء..".

وقد بيّن الإمام ابن ماجه بعض الأحاديث المعلولة التي أوردها في كتابه، وذلك في مواضع يسيرة جداً، ومن ذلك ما فعله بعد إيراده لحديث النهي عن الوضوء بفضل المرأة والنهي عن الاغتسال بفضلها، قال: "الصحيح هو الأول، والثاني وهمٌ".

  • اذكر مقاصد الأئمة الخمسة في تخريجهم للحديث ؟

قال الإمام الحازمي في "شروط الأئمة الخمسة": 

وأما فرق ما بين الأئمة الخمسة من القصد:

1-فغرض البخاري تخريج الأحاديث الصحيحة المتصلة واستنباط الفقه والسيرة والتفسير؛ فذكر عَرَضاً الموقوف والمُعلق وفتاوى الصحابة، والتابعين، وآراء الرجال؛ فتقطعت عليه متون الأحاديث وطرقها في أبواب كتاب.

2-وقصد مسلم تجريد الصحاح بدون تعرض للاستنباط؛ فجمع أجود ترتيب، ولم تتقطع عليه الأحاديث.

3-وهمَّةُ أبي داود جمع الأحاديث التي استدل بها فقهاء الأمصار وبنوا عليها الأحكام؛ فصنف سننه، وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح، وهو يقول: "ما ذكرتُ في كتابي حديثاً أجمع الناس على تركه، وما كان ضعيفاً صرَّح بضعفه، وما كان فيه علة بينها، وترجم على كل حديث بما قد يستنبط منه عالمٌ، وذهب إليه ذاهبٌ وما سكت عنه فهو صالحٌ، وأحوج ما يكون الفقيه إلى كتابه.

4-وملمح الترمذيِّ الجمع بين الطريقتين؛ كأنه استحسن طريقة الشيخين؛ حيث بينا وما أبهما؛ وطريقة أبي داود حيث جمع كل ماذهب إليه ذاهبٌ فجمع كلتا الطريقتين، وزاد عليهما ببيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، واختصر طرق الحديث؛ فذكر واحداً وأومأ إلأى ما عداه، وبيَّن أمر كل حديثٍ من أنه: صحيح، أو حسن، أو منكر، وبيّن وجه الضعف، أ, أنه مستفيض، أو غريب. قال الترمذيُّ: ما أخرجتُ في كتابي هذا إلا حديثاً عمل به بعض الفقهاء سوى حديث: (فإن شرب في الرباعة فاقتلوه)، وحديث: (جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوفٍ ولا سف).

تنبيهات على بعض الأخطاء اللغوية التي وقعت في هذا الكتاب، حتى لا تؤثر على فهم الطالب:

ص 18/ خ: (مثل تلك الآخر) = والصواب (مثل تلك الأخر).

ص 47/ تشكيل (موسى بن عُلي) بضم العين.

ص 49/ خ: (تفرد بالحديث أو شاذه) = والصواب (شاده) أي عضده وقواه.

ص 53/ خ: (الفاسق يخلف) = والصواب (يخاف).

ص 73/ خ: (يم الفضل الصائغ) =والصواب (ثم).

والحمد لله رب العالمين.