(قاعدة: 3)
(أمرُّوها كما جاءت)
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السّلام حنُّونة
غزَّة -فلسطين
تُعدُّ هذه القاعدة (أمروها كما جاءت)، أو (قراءتها تفسيرها) من الأصول المعرفية الهامة "للعقيدة السلفية" في باب الأسماء والصفات، ومعناها: لا تتعرضوا لها بالتحريف أو بالتأويل أو التكييف أو التعطيل، فأمروها على المعنى المراد بها في أصل اللغة دون تغيير، ذلك أن ألفاظ الصفات بيِّنةٌ بنفسها، على ما يقتضيه وضع الخطاب العربي، كما قال الله عزَّوجل: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (الفرقان: 33).
وعلى حدِّ تعبير ابن الوزير اليماني (ت 840 هـ): "لا أوضح من نصِّ القُرآن إذا أُجير من التأويل بغير بُرهان!"، ومثل ذلك يُقال في السُّنة النبوية؛ فإنها والكتاب صنوان يصدران عن مشكاةٍ واحدة.
فالسلف رحمهم الله تعالى -لم يزيلوا لفظ الخبر والصفة عما تعرفه العرب، بل أجروه على ظاهر معناه في اللغة، وبذلك نطق مالك، والأوزاعي والليث بن سعد، وسفيان الثوري، وابن عُيينة، والزهري، ومكحول، وربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك، وعبد اللَّه بن المبارك، وأبو حنيفة، وصاحباه: مُحمد بن الحسن، وأبو يُوسف القاضي، والإمام الشَّافعيُّ، والمُزني، والربيعان صاحباه، والإمام أحمد، وابنه وأتباعهم، وغيرهم من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
والزهري ومكحول أعلم التابعين في زمانهم، والثوريُّ ومالك، والليث، والأوزاعي أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهما؛ وكلهم يثبت صفات الباري سبحانه على ظاهرها.
وأما الخَلَفُ من متكلمي الأشاعرة والماتريدية فأزالوا الخبر عن ظاهره؛ وسلكوا فيه مسلك "التأويل" وهو الشائع لديهم، بينما سلك الآخرون مسلك "التفويض" فآمنوا باللفظ المُجرد من غير فهم معناه؛ وكلا المسلكين بدعةٌ مُحدثةٌ في دين الله، بل هما باطلين مردودين: تمجُّهما الطباع السليمة، والفِطر القويمة، ولا تُساعد فيهما اللغة، ولا أتى بهما الشرع.
ولو كان السَّلف يقصدون أن دلالة هذه الأخبار والصفات منتفية لكان الواجب أن يقولوا: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد!
أو: أمرّوا لفظها مع اعتقاد أنَّ الله لا يوصف بما دلّت عليه حقيقةً !
وهذا لم يقل به أحدٌ من سلف هذه الأمة، ولا نطق به أحدٌ من خيارها المُقتدى بهم، وأقل أحوال هؤلاء المُتكلمة هو جرأتهم في القول على الله بلا علم؛ وقد قال جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33).
وإذا أردنا التعبير عن هذه القاعدة بمعناها اللازم لها؛ قلنا كما قال الإمام الطَّحاويُّ في "عقيدته": "ولا تثبت قَدَمُ الإِسلام لا على قنطرة التسليم"، فلا نتدخل في هذه الأخبار متأويلين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، كما يفعل الجهمية ومن تتلمذ على أيديهم؛ فإذا فهمنا ذلك: نكون قد طبقنا هذه القاعدة (أمروها كما جاءت).
وكما قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله (ت 204 هـ) في "الأم": "وما لم يعرض له الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان خاصٍّ في شأنه؛ فهو بيِّنٌ في التنزيل، مُستغني عن التأويل"، وهو تفسيرٌ واضحٌ جداً للعبارة السلفيَّة الشهيرة (تفسيرها قراءتها).
وقال الشَّافعيُّ رحمه الله في "الأمِّ": "ومتى اختُلف في معاني شيءٍ منه، فالواجب التمسُّك بظاهر النص، فهو العصمة، والمرجع عند الخلاف، حتى تأتي بيِّنةٌ على تأويله.
ويقول الإمام الشَّافعيُّ -أيضاً: "والقرآن على ظاهره، حتى تأتي دلالةٌ منه أو سُنَّةٌ أو إجماعٌ بأنه على باطنٍ دون ظاهر".
ويكرر الإمام الشَّافعيُّ نفس الفكرة في كتابه "جماع العلم"؛ فيقول: "فإذا تفرقوا فهو على الظاهر"، وهذه القاعدة في الحديث، شأنها شأن القرآن العربي المُبين.
وقد توارد على إطلاق هذه القاعدة الأصيلة: (من إثبات الظواهر من غير تفسير يخرج الألفاظ عن ظاهرها): أئمة السلف الكبار، والأئمة الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية، وحفلت بها مصنفاتهم وكتبهم، وجعلوها ركيزةً مُهمة في "فهم الصِّفات، ورواية أحاديثها.
ونصوص الشافعية والحنابلة زاخرةٌ جداً بهذا المعنى، وبذلك ندرك توارد التراث الحنبلي مع التراث الشافعي، بالإضافة إلى المالكي والحنفي في باب الاعتقاد السَّلفيّ الصحيح بصفة عامة.
وفي هذا ردٌّ على المُعطلة الذين يتكلمون في تأويل نصوص الصفات برأيهم؛ كالجهمية الذين أنكروا هذه الروايات، وتأولوها على غير ما فسَّره أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آددم بيده، وإنما اليد هنا القوة!!
وهذا كما يقول الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) -صاحب أبي حنيفة -مُفارقةٌ للجماعة، ووصفٌ لله بصفة لا شيء، كما نقله عنه الإمام اللالكائي، وبهذا نعلم أن مذهب السَّلف رضوان الله عليهم، هو: (إثبات الصفة لله حقيقةً على ظاهرها)، وأن (تفسيرها قراءتها) كما هي.
ويُفسر لنا الإمام الشافعيُّ (ت 204 هـ) المقصود من قولنا (المعنى الظاهر)؛ حيث يقول في "الرسالة": وهذا المعنى، هو الذي إذا وُجه رجلٌ مُخاطباً به، كان هو الذي يَسبقُ إليه، وما كان له هكذا، فهو الذي يُقال له: أظهر المعاني، وأعمها، وأغلبها، والذي لو احتملت الآية معنىً سواه، كان هو المعنى الذي يلزم أهل العلم القول به؛ إلا أن تأتي سُنَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تدلُّ على معنى غيره، مما تحتمله الآية، فيُقال فيه، هذا معنى ما أراد الله تبارك وتعالى.
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله في "الرسالة": "فكل كلامٍ كان عاماً ظاهراً في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه حتى يُعلم حديثٌ ثابتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي يدلُّ على أنه إنما أُريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض".
وهذا هو أحد الأدلة المُهمَّة على فهم مقالة (لا نُفسرها) أو (تفسيرها قراءتها) وأشباهها، وأن مُراد السلف بذلك ترك التعرُّض للكيفية، أو الكلام في حقيقة الصفة.
وهذه المقولة تداولها التراث السلفي بعامة، في مقاماتٍ شتى من أمور الغيب، الذي غابت عنا حقيقته ووجب علينا اعتقاده؛ فنؤمن بالملائكة وأنها أجسامٌ نورانية، وأن لها أجنحة وإن لم نرها، ونؤمن بالجنة ونعيمها، وبالنار وعذابها، ونؤمن بالصراط وكونه أحدُّ من السيف وأدقُّ من الشعرة، وبالميزان وأن له كفتان ولسان: كل ذلك على ظاهره المفهوم من لغة العرب، ولم يجعل السلف ذلك المجهول من الحقائق سبباً في ردِّ النص الشرعي، أو هدر دلالته، بل آمنوا به على ظاهر معناه، وصدَّقوا به، وفوَّضوا العلم بالكيفية إلى الله عز وجل، من غير خوضٍ فيها.
فلا يلزم من الجهل بالحقيقة والكيفية جهل المعنى المفهوم من لغة العرب التي خوطبوا بها، كما لا يلزم من المعرفة بالمعنى: إثبات كيفيةٍ خاصة؛ لأنه ليس مما يحتاج إليه العباد في دينهم، ولا مما يتوقف عليه جانب البيان التشريعي، ولم يأمرهم الشارع أن يتكلفوا ما لا سبيل إلى معرفته من الغيوب!.
وكذلك ما ذُكر عن الإمام الشَّافعيِّ رحمه الله، أنه قال: "آمنتُ بالله، وبما جاء عن الله، على مُراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مُراد رسول الله"؛ فهذا إن ثبت عنه، يؤدي نفس الموقف المنهجي العام الذي سبق تقريره لأئمة السلف والفقهاء، وهو الذي قرَّر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد "بيَّن عن الله عز وجل معنى ما أراده"، وبهذا تمَّت رحمته سبحانه بعباده، بكل ما أنزله، وقامته عليهم به الحجة.
ويُقرر هذ المعنى أيضاً أحد أئمة المُحدثين: الإمام أبو حاتم بن حبان (ت 354 هـ) في "صحيحه"؛ فيقول: "... مذهبنا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يتكلم قط إلا بفائدة، ولا من سننه شيءٌ لا يُعلم معناه".
وليس من المنطقي هنا: أن تُفهم هذه القاعدة خارج سياقها السَّلفيِّ الأصيل، بل لا بُدَّ من فهم هذه المقولة السَّلفيَّة (أمروها، أقروها: كما جاءت) في ضوء سياقها "التطبيقي" على النصوص التي تضمنت الصفات الإلهية.
فإن أحداً من السلف لم يخرق ذلك السياج، ولم يقرب من ذلك الجناب المنيع، وما كان له أن يفعل، وهو مؤمنٌ، يعيش بين ظهراني كبار علماء الأمة، وأعظم أسلافها.
حتى جاء الأشاعرة (نُفاة الصفات الخبرية) بعد القرون الثلاثة المفضلة؛ فأزالوا معاني هذه الصفات عن ظاهرها، وأخرجوها إلى حيِّز التأويل والتحريف، فلا هُم أقرُّوا النصوص على ظاهرها، ولا هم أمرُّوها كما جاءت!! بل مدُّوا أيديهم بالتحريف والتأويل الباطل، وهذا أحد المسلكين.
أما المسلك الثاني للأشاعرة؛ فهو (تفويض معنى النص!) وترك القطع في تأويله بشيء، هذا بعد القطع بأن ظاهره غير مُراد، وهو مذهبٌ تلفيقي للجمع بين طريقي التأويل والأخذ بالظاهر، وبين مدرستي التعطيل والإثبات.
وقد ظهر مذهب التفويض مُبكراً جداً في الوسط الكلامي، ويبدو أن بداياته كان على يد علي بن مهدي الطبري (ت 380 هـ) أحد تلاميذ الأشعري (ت 324 هـ) ثم انتشر هذا المسلك فيما بعد في التراث الكلامي، وقد نسبه أبو يعلى في "إبطال التأويلات" إلى ابن فورك، وأبو علي بن شاذان، وغيرهم.
واستمر تداوله حتى زمن إمام الحرمين "الجويني" (ت 478 هـ)، الذي قطع مذهب التفويض، وتمسَّك بمذهب التأويل وتوسَّع فيه جداً، ولكنه يعود مرَّةً أخرى إلى مذهب التفويض كما في رسالته "النظامية"؛ ويحكي أن مذهب أئمة السلف الكف عن التأويل، وتفويض المعاني إلى الرب تعالى!
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا هو آخر ما ذهب إليه الإمام أبو المعالي الجويني من تفويض المعنى والكيف، وإثبات الصفات على ظاهرها، كما في "درء التعارض"، وغيره، ولكن لا نقطع بذلك؛ لأنه ألَّف "الغياثي" بعد النظامية، والتأويل فيه صارخٌ جداً.
ومن العجيب نسبتهم هذا التفويض إلى السَّلف! وعليها أجروا مقوله: (أمروها كما جاءت) وقرنوها بها. وإن أردنا وصفاً يليق بهذا الفعل؛ فهو الوأد الخفي للنصوص، والكذب الجلي على السَّلف؛ فظنوا أن هذه هي طريقة السَّلف، وهم بمنزلة من يسمع آيات الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفهم معناه!
ولا غرو أن تأثُّر الأشعرية بالاعتزال ظاهرٌ فيما ذهبوا إليه من التفويض؛ فهم في الحقيقة أظهروا الرد على المعتزلة، وهم قائلون بقولهم!
ومن ثمَّ يلزم هؤلاء المتكلمين -من الأشاعرة والماتريدية -ما التزموه حينما أثبتوا الصفات السبعة على المعهود في كلام العرب، فعليهم أن يطردوا الباب في غيرها من الصفات الخبرية؛ فيحملوها أيضاً على المعهود من كلام العرب؛ إذا (القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر)، كما قررناه في قاعدة سابقة.
ويروي الإمام أبو الحسن الدارقطني (ت 385 هـ) في كتابه "الصفات"، قال: حدثنا محمد بن مخلد، ثنا العباس بن محمد الدوري، قال: "سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ)، وذكر الباب الذي، يروي فيه الرؤية والكرسي وموضع القدمين، وضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، وأين كان ربنا قبل أن يخلق السماء، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك عز وجل قدمه فيها فتقول: قط قط، وأشباه هذه الأحاديث، فقال: هذه الأحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه وكيف ضحك؟ قلنا لا يفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره".
والحقُّ أن هذ الأثر عن أبي عُبيد من أظهر الأدلة على أن مُراد السلف والأئمة بالتفسير المنفي في هذا الباب هو تفسير الكيفية، وأنه ليس على ما يظنُّه مَن توهَّم فيه مذهب التفويض، أو احتجَّ له بهذا الكلام، ومثل هذا الكلام يُقال في غيرها من الروايات عن السلف والأئمة.
وأصرح من هذا ما نقله الإمام الذهبيُّ الشَّافعيُّ (ت 748 هـ) في كتابه "العرش"؛ عن القاسم بن سلام -عند ذكر هذه الصفات؛ قال: "هذه أحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حقٌّ لا شك فيها، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه ؟ وكيف ضحك ؟ قلنا: لا يُفسر هذا، ولا سمعنا أحداً يُفسره"؛ فالكيف الذي يجهله الناس، ولا يعقلونه، هو ذلك المعنى الذي لا يُفسَّر، ولا يُتكلم فيه بشيء؛ فالبنسبة إلى الوضع اللغوي فإنه يُمكن تفسيره، وشرحه، وهو من الواضح المعلوم بأصل وضعه اللغوي، بينما المنفيُّ هو تفسير حقيقته أو كيفيته، وقد فسَّر أبا عُبيد "حديث: (كان الله في عماء) فقال: العماء: السحاء، ولا ندري كيف".
ومثله الإمام اللُّغويّ، والأديب الشَّافعي: أبو منصور الأزهريّ الهروي (ت 370 هـ)، يحتفي بهذه القاعدة السلفية في حدود الحقل اللغوي، فيقول في "تهذيب اللغة" عند تفسير قوله سبحانه: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} "يأتي الله عز وجل يوم القيامة في ظلل منه، فنحن نؤمن به، ولا نُكيف صفته، وكذلك: سائر صفات الله جل وعز".
وكذلك ينقل الإمام أبو منصور الأزهري في "تهذيب اللغة" مقولة أبي عُبيد السابقة: "وأخبرني محمد بن إسحاق السعدي، عن العباس الدوري: أنه سأل أبا عُبيد عن تفسيره (يعني حديث: أن جهنم لا تمتلئ حتى يضع الله فيها قدمه) وتفسير غيره من حديث النزول، والرؤية؛ فقال: هذه أحاديث: رواها لنا الثقات عن الثقات، حتى رفعوها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وما رأينا أحداً يُفسرها، فنحنُ نؤمن بها، على ما جاءت ولا نُفسرها".
ثُمَّ يُعلق الأزهري على ذلك بقوله: "أراد: أنها تُترك على ظاهرها، كما جاءت".
ويشرح لنا شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ) في "الفتاوى" هذا المأخذ في فهم كلام أبي عُبيد وغيره من السلف، بقوله: "أبو عُبيدٍ أحد الأئمة الأربعة، الذين هم الشافعيُّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو عُبيد، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل، ما هو أشهر من أن يُوصف، وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، وقد أخبر أنه ما أدرك أحداً من العلماء يُفسرها، أي: تفسير الجهمية".
وعوداً على بدء؛ فإن قاعدة (أمروها كما جاءت) قال بها كثيرٌ من السلف كما تقدَّم؛ وفيما يلي ذكر بعض من نقل ذلك من الأئمة الكبار:
قال الإمام أبو عيسى الترمذيُّ رحمه الله (ت 279 هـ) في "سننه" عند ذكر حديث "الرؤية": "وقد رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم رواياتٌ كثيرة، مثل هذا: ما يُذكر فيه أمر الرؤية، أن الناس يرون ربهم، وذِكْرُ القدم، وما أشبه هذه الأشياء، والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة، مثل: سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وابن المبارك، وابن عُيينة، ووكيع، وغيرهم: أنهم رروا هذه الأشياء، ثم قالوا: تُروى هذه الأحاديث، ونؤمن بها، ولا يُقال: كيف ؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث، أن تُروى هذه الأشياء كما جاءت، ولا تُفسَّر، ولا تُتوهَّم، ولا يُقال كيف، وهذا أمر أهل العلم، الذين اختاروه، وذهبوا إليه".
ويروي لنا الإمام أبو الحسن الدراقطني (ت 385 هـ) في كتابه "الصفات" عدة آثار في هذا المعنى، ويجعلها كالخاتمة لكتاب "الصفات"، وقد قررها كمنهج عامٍ يسيرُ عليه فيه؛ فقال: "قال الوليد بن مسلم: سألتُ الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية، فقالوا: أمضها بلا كيف".
وينسبها الإمام المُحدِّث الفقيه مُحيي السُّنة البغوي الشَّافعيّ (ت 516 هـ) في "تفسيره" إلى: "ابن المبارك، وسفيان بن عُيينة، وإسحاق…" سوى من مرَّ ذكرهم.
وعبَّر عن ذلك الإمام مفتي خراسان أبو المُظفَّر السمعاني الشَّافعي (ت 507 هـ) أحد أئمة الشافعية؛ فقال حين سُئل عن أخاديث الصِّفات؛ فقال: تُقرُّ وتُمرُّ. (انظر: سير أعلام النبلاء).
ويظهر معنى هذه القاعدة على ما قررناه عند الإمام المُحدِّث: عثمان بن سعيد الدارمي الشَّافعيِّ (ت 280 هـ) في نقاشه مع النُّفاة الذين تأولوا نصوص اليدين بـ(النعمة)؛ فيقول: "ووجدنا أهل العلم ممن مضى، يتأولونها خلاف ما تأولتم، ومحجتهم أرضى، وقولهم أشفى، وأسند عن عكرمة: أن لله يدان مبسوطتان، وعن ابن ابن أبي مُليكة: أنهما اثنتان، وعن عاصم الجحدري: أن الله خلق آدم بيديه -ثم قال: فمن يلتفت بعد هذا إلى تأويل هذا المريسي، ويدع تأويلات هؤلاء الأئمة".
ومن الواضح أن تأويلات الأئمة في كلام الإمام الدارمي ليس فيها شيءٌ من التفسير، أو الشرح اللغوي لمعاني هذه المفردات؛ فما حاجة الواضح إلى إيضاح؟ أو البيِّن إلى بيان ؟ وإنما فيها تأكيد لمسلك (الإقرار)، و(الإمرار)، وإيضاحٌ لمرامه: أنه إقرارٌ على المعنى الظاهر من غير خروجٍ به عن موضوعه اللغوي.
ويُفرق الإمام الدارمي (ت 280 هـ) بين إطلاق اللفظ الوارد في النص في مقام الإثبات، وإجراؤه على ظاهره المفهوم منه في لغة العرب، والذي فقه معناه السَّلف، وكان مسلكاً لهم، وبين مسلك المفوضة أو المؤولة الذين يقفون عند مجرد إطلاق اللفظ دون إقرار بمعناه المفهو في لغة العرب، فيقول: "فادعت هذه العصابة أنهم يؤمنون بالعرش، ويقرون به؛ لأنه مذكور في القرآن، فقلت لبعضهم ما إيمانكم به إلا كإيمان {الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} (المائدة: 41) … أتقرون أن لله عرشاً معلوماً موصوفاً فوق السماء السابعة تحمله الملائكة، والله فوق؛ كما وصف نفسه، بائن من خلقه؟ فأبى أن يقر به كذلك، وتردد في الجواب، وخلط، ولم يصرح !".
ويذكر الإمام السَّلفيّ مُحمد بن إسحاق بن خزيمة الشَّافعيّ (ت 311 هـ) في كتابه "التوحيد" تراجم لصفة اليدين الثابتة لله عز وجل؛ فيقول: " فاسمع الدليل على معنى هذا الخبر أن الله تعالى يبسط يده على لفظ الخبر، ليعلم ويتيقن أن عمل الليل يرفع إلى الله قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل…".
ثُمَّ يقول بعد كلامٍ طويل: "وافهم ما أقول من جهة اللغة تفهم وتستيقن أن الجهمية مبدلة لكتاب الله، لا متأولة قوله، بل يداه مبسوطتان، لو كان معنى اليد النعمة كما ادعت الجهمية لقرئت: بل يداه مبسوطة، أو منبسطة، لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ومحال أن تكون نعمة نعمتين لا أكثر فلما قال الله عز وجل: {بل يداه مبسوطتان} (المائدة: 64).
ويقول في إثبات أن الله عز وجل على عرشه فوق سمائه: "وقال الله عز وجل: {بل رفعه الله إليه} (النساء: 158)، ومحال أن يهبط الإنسان من ظهر الأرض إلى بطنها، أو إلى موضع أخفض منه وأسفل، فيقال: رفعه الله إليه، لأن الرفعة في لغة العرب،الذين بلغتهم خوطبنا لا تكون إلا من أسفل إلى أعلى وفوق، ألم تسمعوا قول خالقنا جل وعلا يصف نفسه: {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام: 18)... ثم يقول:
ألم تسمعوا قول خالقنا: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} (السجدة: 5)، أليس معلوما في اللغة السائرة بين العرب، التي خوطبنا بها، وبلسانهم نزل الكتاب، أن تدبير الأمر من السماء إلى الأرض، إنما يدبره المدبر، وهو في السماء لا في الأرض، كذلك مفهوم عندهم: أن المعارج: المصاعد قال الله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} (المعارج: 4)، وإنما يعرج الشيء من أسفل إلى أعلى وفوق، لا من أعلى إلى دون وأسفل، فتفهموا لغة العرب لا تغالطوا وقال جل وعلا: {سبح اسم ربك الأعلى} (الأعلى: 1) فالأعلى: مفهوم في اللغة: أنه أعلى شيء، وفوق كل شيء.
والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله ووحيه، أعلمنا أنه العلي العظيم، أفليس العلي يا ذوي الحجا ما يكون عليا، لا كما تزعم المعطلة الجهمية أنه أعلى وأسفل، ووسط، ومع كل شيء، وفي كل موضع من أرض وسماء، وفي أجواف جميع الحيوان ولو تدبروا آية من كتاب الله ووفقهم الله لفهمها: لعقلوا أنهم جهال، لا يفهمون ما يقولون، وبأن لهم جهل أنفسهم، وخطأ مقالتهم".
وإذا انتقلنا إلى تراث الحنابلة رحمهم الله تعالى، نجد الإمام المُحدث الكبير، والمشتغل بالجدل الكلامي في عصره محمد بن إسحاق بن منده الحنبلي (ت 395 هـ) يقول في كتابه "الرد على الجهمية": "باب ذكر قول الله عز وجل {ما منعك أن تسجد لما خلقتَُ بيدّيّ}، ثُم يُتبعه بقوله: "ذكر ما يُستدل به من كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أن الله جل وعز خلق آدم صلى الله عليه وسلم بيدين حقيقية".
وأما في كتاب "التوحيد" له؛ فيرى: "أن هذا المعنى الحقيقي، هو من بيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم"، ويذكر بعد ذلك ترجمة جامعة لأصله في باب الصفات؛ فيقول: "ذكر معرفة صفات الله عز وجل، التي وصف بها نفسه، وأنزل بها كتابه، وأخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، على سبيل الوصف لربِّه؛ مُبيناً ذلك لأمته".
وقال في كتاب "التوحيد": "نقول، وبالله التوفيق: إن الأخبار في صفات الله عز وجل: جاءت متواترة، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، موافقةً لكتاب الله عز وجل، نقلها الخلف عن السلف، قرناً بعد قرن، من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا ها، على سبيل إثبات الصفات لله عز وجل، والمعرفة والإيمان به، والتسليم لنا أخبر الله عز وجل في تنزيله، وسنة الرسول عن كتابه، مع اجتناب التأويل والجحود، وترك التمثيل والتكييف…".
ومن الأئمة الحنفيَّة، يقول الإمام أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجزي (ت 444 هـ) في رسالته "الرد على من أنكر الحرف والصوت" مُقرراً وشارحاً لهذا الأصل المُقرر في الوسط السلفي، مُبيناً طريقة أهل الحديث في الرد على الأشعرية ومقالاتهم: "إن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفةٍ هي معقولة عند العرب، والخطاب ورد بها عليهم بما يتعارفون بينهم، ولم يُبين سبحانه أنها بخلاف ما يعقلونه، ولا فسرها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بتفسيرٍ يُخالف الظاهر؛ فهم على ما يعقلونه".
ومن الأئمة الشَّافعيَّة النبلاء؛ يقول الإمام أبو عثمان الصابوني (ت 449 هـ) في كتابه "عقيدة السلف أصحاب الحديث": "ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله".
وهذا يندرج في إطار البحث السلفي لهذه القاعدة، فلو كان معنى الخبر مجهولاً، لما كان لقولهم (أمروها كما جاءت)، أو (أمروا الخبر على ظاهره) أيَّ معنى في المُحصلة، وهذا ما نلمسه في موضع آخر من كلام الصابوني، حينما يتحدث عن صفة "المجيء لله سبحانه"؛ فيقول: "وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز اسمه في كتابه، من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة}، وقوله عز اسمه: {وجاء ربك والملك صفا صفا}".
ويشرح لنا الإمام أبو عثمان الصَّابوني هذه القاعدة بكل وضوح؛ فيقول في كتابه "هقيدة السلف أصحاب الحديث": "وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة، والعزة والعظمة والإرادة، والمشيئة والقول والكلام، والرضا والسخط والحياة، واليقظة والفرح والضحك وغرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا. وما يذكر إلا أولو الألباب} (آل عمران: 7)".
ويحتفي التراث الحنبلي بما قرَّرناه في هذه القاعدة؛ فيقول شيخ الإسلام الهروي الحنبلي (ت 481 هـ) في كتابه "ذم الكلام": "التفسير أن يُقال: وجهٌ، ثُم يُقال: كيف؟ وليس (كيفٌ) في فهذا الباب من مقال المسلمين".
ويُتبع هذا التقرير بأول نقل سلفي في إثبات هذه القاعدة، وهو لأحد أئمة السلف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (ت 371 هـ)؛ حيث يقول: "وقرأت في رسالة الشيخ أبي بكر الإسماعيلي إلى أهل جيلان أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام}، وقال: {وجاء ربك والملك صفا صفا} ونؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف، فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل، فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه إذ كنا قد أمرنا به في قوله عز وجل: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}". ونلاحظ هنا التشابه الكبير في منهجية إثبات الصفات لدى ُلٍّ من الإمام أبي عثمان الصابوني، والإمام أبي بكر الإسماعيلي.
ثم تتابع بعد ذلك النصوص والآثار السلفية في تقرير هذا المعنى؛ فيروي على ترتيب ذكر الآثار عن إسحاق بن راهويه (ت 230 هـ): "لا يُقال لأمر الرب: كيف!!".
وعن عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ): "... ينزل كيف شاء"، "إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخضع له".
وبعد ذلك يروي آثاراً عن الإمام أبي حنيفة (ت 150 هـ)، ثم عن ابن خزيمة ( 311 هـ)، كلهم يُثبت النزول، ويتركون القول في الكيفية.
ثم عاد بعد ذلك ليُقرر صفة النُّزول، والآثار الوارد فيه، فيقول: "فلما صحَّ خبر النزول أقرَّ به أهل السُّنة …".
ثُمَّ يختم الإمام أبو عثمان الصابوني الفصل كله بنصٍّ مُهمٍّ للغاية يردُّ به جدل النُّفاة، وذلك من التراث الحنفي؛ فيثول: "وقرأت لأبي عبد الله بن أبي حفص البُخاري (ت 264 هـ)، ...عن محمد بن الحسن الشيباني يقول: قال حماد بن أبي حنيفة (ت 176 هـ): أرأيتم قول الله عز وجل {وجاء ربك والملك صفا صفا}؟ قالوا: أما الملائكة فيجيئون صفاً صفاً، وأما الرب تعالى فإنا لا ندري ما عنى بذاك، ولا ندري كيفية مجيئه؟! فقلت لهم: إنا لم نكلفكم أن تعلموا كيف مجيئه، ولكنا نكلفكم أن تؤمنوا بمجيئه، أرأيت من أنكر أن الملك يجيء صفاً صفاً ما هو عندكم؟ قالوا: كافر مكذب. قلت: فكذلك إن أنكر أن الله سبحانه لا يجيء فهو كافر مكذب !!".
قال: "قال أبو عبد الله بن أبي حفص البخاري أيضاً في كتابه: ذكر إبراهيم عن الأشعث قال سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا قال لك الجهمي: إنا لا نؤمن برب ينزل عن مكانه. فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء".
ويقول أبو المُظفَّر السَّمعاني (ت 489 هـ) في "تفسيره": "وَقد ذكر الله تَعَالَى الْوَجْه فِي كِتَابه فِي أحد عشر موضعا، وَهُوَ صفة لله تَعَالَى وَتَفْسِيره: قِرَاءَته وَالْإِيمَان بِهِ".
وقال أيضاً في تفسير قوله {يُريدون وجهه}: "وَالْوَجْه صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ؛ وَجه لَا كالوجوه".
وأما قوام السُّنة الأصبهاني الشَّافعيّ (ت 535 هـ) فكانت بحوثه وتقريراته أكثر وضوحاً، وتصريحاً بفقه هذه المقولة، فقرَّر أن مُراد السلف هو الإبقاء على المعنى الظاهر، في مقابلة التأويل الكلامي، فيقول رحمه الله وقد سئل عن صفات الرب تعالى: "مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه، أن صفات الله التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله، من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه، إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيه، ولا تشبيه ولا تأويل، قال سفيان بن عُيينة: كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره".
ويُعنى قوام السُّنة بتحرير الأصل المنهجي العام في هذا الباب، وبيَّن أن التفسير المُمتنع هنا هو تفسير أهل الأهواء من كانوا! فيقول في كتابه "الحجة في بيان المحجة": "ومن مذهب أهل السنة: إن كل ما سمعه المرء من الآثار مما لم يبلغه عقله نحو حديث النبي - صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم على صورته) وأشباه ذلك فعليه التسليم والتصديق، والتفويض والرضا، ولا يتصرف في شيء منها برأيه وهواه من فسر من ذلك شيئاً برأيه وهواه أخطأ وضل".
وحتى نتحقق الفرق؛ فقد تحدث "قوام السُّنة الأصبهاني" عن تفسيرات أهل التكييف والتشبيه والتعطيل؛ فيقول: "وكان أبو أحمد ابن أبي أسامة القرشي الهروي من أفاضل من بخراسان من العلماء والفقهاء أملى اعتقاداً له قال: وينبغي لمن من الله بعلم الهداية والكرامة بالسنة ممن بقي من الخلف القدوة ممن مضى من السلف، وأن مذهبنا ومذهب أئمتنا من أهل الأثر: أن نقول إن الله عز وجل أحد لا شريك له، ولا ضد له ولا ند ولا شبيه له… قال:
ونؤمن بصفاته أنه كما وصف نفسه في كتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ونؤمن بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفاته جل جلاله بنقل العدول، بالأسانيد المتصلة التي اجتمع عليها أهل المعرفة بالنقل أنها صحيحة ثابتة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، ونطلقها بألفاظها كما أطلقها، وتعتقد عليها ضمائرنا بصدق وإخلاص أنها كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولا نكيف صفات الله عز وجل، ولا نفسرها تفسير أهل التكييف والتشبيه، ولا نضرب لها الأمثال، بل نتلقاها بحسن القبول تصديقاً، ونطلق ألفاظها تصريحاً كما قال الله عز وجل في كتابه، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم… والكيف عن صفات الله مرفوع.
ونقول: كما قال السلف من أهل الزهري وغيره: على الله البيان وعلى رسول الله البلاغ، وعلينا التسليم.
ونؤدي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سمعنا، ولا نقول في صفات الله كما قالت الجهمية والمعطلة، بل نثبت صفات الله تعالى بإيمان وتصديق. قال الأوزاعي: اقروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمروها كما جاءت".
ويخصُّ قوام السُّنة (ت 535 هـ) التأويلات الأشعرية بفصلٍ خاص، فيقول: "روي عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والجحود به كفر.
وهذا يمنع تأويله، وحمله على الاستيلاء.
ودليلٌ آخر: أن المتكلمين مثل: الباقلاني وابن فورك وغيرهما قد أثبتوا صفات ولم يعقلوا معناها، ولم يحملوا الوجه على الذات واليدين على النعمتين، بل أثبتوها صفات ذات لورود الشرع بها.
ودليل آخر: أن من حمل اللفظ على ظاهره، وعلى مقتضى اللغة حمله على حقيقته، ومن تأويله عدل به عن الحقيقة إلى المجاز، ولا يجوز إضافة المجاز إلى صفات الله وتعالى.
قال: وفي رواية المروذي: وقد سأل أحمد عن عبد الله التيمي فقال: صدوق لكن حكي عنه أنه ذكر حديث الضحك، فقال: مثل الزرع (يعني تأول صفة الضحك على المجاز، مثل ضحك الزرع)، وهذا كلام الجهمية".
ومع أن في ثبوت ذلك الأثر عن أم سلمة نظر؛ لكن هذا القول محفوظٌ عن جماعة من السلف؛ كربيعة الرأي، والإمام مالك، وأبي جعفر الترمذي، قال الذهبيُّ في "العلو": فأما عن أم سلمة فلا يصح؛ لأن أبا كنانة ليس بثقة، وأبو عُمير، وهما راوياه: لا أعرف".
ومن الغريب حقاً -أن يجعل هؤلاء المتكلمون هذه الصفات بمثابة الحروف المقطعة التي لا يُدرى معناها، مع علمهم أن لهذه الألفاظ معانيها، ودلالاتها اللغوية المعروفة، فليس فيها شيءٌ من غريب لغة العرب، أو شوارد ألفاظها، بحيث تحتاج إلى تعنِّي في فهم معانيها؛ فإذا ذكرت هذه الألفاظ (الوجه، اليد، الساق، النزول، الضحك…) لم يشكل معناها، ولم يلتبس وضعها اللغوي على أهل اللسان.
قال قوام السُّنة في كتابه "الحجة في بيان المحجة": "اجتمع الأئمة على أن تفسيرها قراءتها، قالوا: " أمروها كما جاءت"، وما ذكر الله في القرآن مثل قوله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام} وقوله عز وجل: {وجاء ربك والملك صفا صفا} . كل ذلك بلا كيف ولا تأويل نؤمن بها إيمان أهل السلامة والتسليم لأهل السنة".
ويقول في موضعٍ آخر: "كذلك قال علماء السلف في أخبار الصفات: أمروها كما جاءت. فإن قيل فكيف يصح الإيمان بما لا يحيط علمنا بحقيقته؟ أو كيف يتعاطى وصف شيء لا درك له في عقولنا؟ فالجواب أن إيماننا صحيح بحق ما كلفنا منها، وعلمنا محيط بالأمر الذي ألزمناه فيها وإن لم نعرف لما تحتها حقيقة كافية كما قد أمرنا أن نؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجنة، ونعيمها، والنار أليم عذابها، ومعلوم أنا لا نحيط علماً بكل شيء منها على التفصيل، وإنما كلفنا الإيمان بها جملة واحدة، ألا ترى أنا لا نعرف أسماء عدة من الأنبياء وكثير من الملائكة، ولا يمكننا أن نحصي عددهم، ولا أن نحيط بصفاتهم، ولا نعلم خواص معانيهم، ثم لم يكن ذلك قادحا في إيماننا بما أمرنا أن نؤمن به من أمرهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الجنة: (يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)".
وهذه الفكرة بعينها نجدها أيضاً عند محيي السُّنة البغوي (ت 516 هـ) فقد رُوي في الحديث عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق، كتب كتاباً؛ فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي)، ثم نقل عن الإمام الخطابي في شرحه؛ فقال: "معنى قوله (فهو عندي): أي فذكره عندي فوق العرش، قال: قلتُ: الأولى فيه بالمرء وفي أمثالها إمرارها على ظاهرها، كما جاء من غير أن يُتصرَّف فيها".
وهو نفس المعنى الذي نجده، عند شيخ الشافعية في اليمن، الإمام أبو الخير يحيى بن سالم العمراني (ت 558 هـ)؛ حيثُ يُصرِّحُ بأن هذا التفسير خروجٌ عن طريق السلف؛ فيقول: "وأما إثبات الوجه واليدين فإنه إثبات صفة لا إثبات جارحة له كما أثبتته المجسمة، ولا نفسر ذلك كما فسرته الأشعرية، ولا ننفي ذلك كما نفته القدرية".
وقال الإمام الحافظ المؤرخ أبو عبد الله الذهبي الشَّافعي (ت 748 هـ) في كتابه "العلو للعلي الغفار": "المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة ما علمت أحداً سبقهم بها، قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تأول مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد!!؛ فتفرع من هذا أن الظاهر يعني به أمران:
أحدهما: أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب كما قال السلف الاستواء معلوم، وكما قال سفيان وغيره قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف، وهذا هو مذهب السلف مع اتفاقهم أيضاً أنها لا تشبه صفات البشر بوجهٍ؛ إذ الباري لا مثل له لا في ذاته ولا في صفاته.
الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة كما يتشكل في الذهن من وصف البشر؛ فهذا غير مراد؛ فإن الله تعالى فرد صمد ليس له نظير … فمن ذا الذي عاينه ونَعَتَه لنا ؟!
ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا كيف يسمع كلامه؟!
والله إنا لعاجزون كالون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا… وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله، وكيف حياة النبيين الآن؟!
وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره قائماً، ثم رآه في السماء السادسة وحاوره وأشار عليه بمراجعة رب العالمين وطلب التخفيف منه على أمته…؟!
وكذلك نعجز عن وصف هيئاتنا في الجنة ووصف الحور العين فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني؟!!
فالله أعلى وأعظم وله المثل الأعلى والكمال المطلق ولا مثل له أصلاً {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}.