زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور
تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله تعالى
الرئاسة العامة للبحوث والإفتاء، الرياض -السعودية
الطبعة السابعة، 2012م م
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة
تمهيد/ إن الله عز وجل خلقنا لعبادته، وأوجدنا لطاعته، والدعاء مخُّ العبادة، والعبادة مبناها على السُّنةِ والاتباع لا على الأهواء والابتداع، وإنما يعبد الله بما شرع، ولا يعبد بالأهواء والبدع، قال جل وعلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21).
وقد علم المسلمون من فروض توحيد الله عليهم: إفراد الباري سبحانه بالدُّعاء والاستغاثة، والاستعانة، وطلب قضاء الحوائج، فلم يكن لهم أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5).. فأمروا بتوجُّه القلب والجوارح لله وحده، وتعليق قضاء الحاجات والرغبات عليه وحده دون سواه.
فلا يُشرع صرف شيءٍ من الدعاء والاستغاثة والعبادة لغير الله عز وجل، لا إلى ملكٍ مقرَّب ولا نبيٍّ مُرسل، ولا وليٍّ معلوم الصلاح، ولا من هو مستور الحال، امتثالاً لقوله جل وعلا: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31).
وقد ابتُليت البلاد الإسلامية مع بدايات القرن الرابع الهجري -وإلى يومنا هذا- بطوائف من المغترين الضالين الذين عدلوا عن قول ربهم، وسُنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، إلى بدعةٍ ما أنزل الله بها من سلطان؛ وهي بدعة الاستغاثة بالغائبين والاستنجاد بأصحاب القبور، فيقولون: يا فُلان أغثنا، ويا فلان أجرنا، ويا فلان مددك.. مما هو كفرٌ بالله العظيم، وشركٌ أكبر مخرجٌ من ملَّة الإسلام، يُضاهون بذلك دين المشركين وعُبَّاد الكواكب والأصنام والنصارى من قبلهم..
ومن ثمَّ قال كبراؤهم من المشركين: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور".. وقالوا: "قبرُ فلانٍ ترياقٌ مُجرَّب".. ونحنُ نقول: من أراد الويل والثبور، فليتوجه إلى أصحاب القبور.. ومن أراد الهلاك والدمار وحبوط العمل فليتوجه إلى أصحاب الَأضرحة والقباب..
ولا تزال هذه الطوائف الضّالة موجودةٌ أيامنا هذه في كثير من بلاد المسلمين، وقد سمعنا من بعض هؤلاء من يطلب الولد، ومن يطلب المدد، ومن يطلب الزواج، ومن يطلب المال، ولا يعلم أنه إذا قال: "مدد يا فلان" يكون قد ألغى جميع أعماله الصالحة، وأفسدها، وأنه يلزمه إعلان الإسلام من جديد..
ومن حجَّ ومارس هذه الأشياء بطل حجُّه ولا قيمة لعمله، وفي الحجيج من يطوف بالبيت ويقول: مدد يا علي، أو يا حسين، أو يا بدوي؛ فهؤلاء حجُّهم باطلٌ، ولو جاءوا بكل أركانه وسننه وواجباته..
ومن هؤلاء الذين يستنجدون بالقبور من يُزين لهم الشيطان ذلك القبر؛ فيخاف منه لأول وهلة، وترتعد فرائصه ويقع في قلبه تعظيمٌ يُضاهي تعظيم الله والعياذ بالله.
ومن أبرز هذه الفرق التي تستغيث بالأموات والغائبين:
- النصيرية (1) التي تستغيث بـ"الباب".
- والرافضة الذين يستغيثون بـ"المنتظر"، و"بالحسن"، و"بالحسين"، و"بالعباس"، و"بفاطمة الزهراء".
- والمتصوفة الذين يستغيثون بـ"الأولياء والمشايخ، وبآل البيت، وبالقطب" الذين يزعمون وجوده بمكة، وأنه يمدُّ جميع أولياء الله تعالى.
وإذا نظرنا إلى هذه الفرق وجدنا الشيء المشترك بين جميع هذه الطوائف والفرق أنهم يستغيثون ويستنجدون بالمقبورين والغائبين !!.. فهذا شيءٌ لا زال موجوداً في هذا الوقت، وليس أمراً خيالياً أو غير موجود..
وبعض هؤلاء الأقزام يجمعون إلى الشرك النفاق والكذب؛ فيخفون شركهم أمام دُعاة أهل السُّنة والتوحيد، وإذا خلوا إلى شياطينهم وشيوخهم استغاثوا بغير الله عز وجل.
ومن أبرز دعاة الشرك في زماننا المدعو علي الجفري الذي يخلط في هذه المسألة والقضية بين الشرك والتوحيد، فيقيس الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وتقبيل الحجر الأسود ورمي الجمرات على تعظيم القبور ودعاء أربابها -والعياذ بالله.
والجواب عليه أن يُقال: إنما يفعل أهل السنة هذه الأشياء امتثالاً لأمر ربهم، واقتداءً بسُنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وقياماً بواجب التوحيد لله عز وجل، وعملاً بقوله سبحانه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32)، وأما أفعال بعض المتصوفة من تقبيل الأضرحة، والطواف بها، والاستغاثة بأصحابها فهو شركٌ بالله سبحانه، واتباعٌ لسنن المشركين، الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3).
ثم إن طوافنا بالكعبة هو امتثالٌ لأمر الله عز وجل، حيث إنه أمرنا بذلك ولو لم يأمرنا بذلك ما طفنا... وكذلك السعي بين الصفا والمروة نفعله امتثالاً لأمر الله سبحانه، ولو لم يأمرنا الله سبحانه بذلك ما سعينا بينهما... ولذا فإننا لا نسعى بين جبلين آخرين غير الصفا والمروة؛ لأن القضية هي قضية امتثال وعبادة لله عز وجل... وكذلك لا نطوف حول بيتٍ آخر غير الكعبة لا قبر ولا شجر ولا حجر... كذلك تقبيلنا الحجر الأسود هو اقتداءٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أمرنا الله باتباعه، ولولا أن رسول الله قبله ما قبلناه. فلو قال قائلٌ لم لا نرمي جمرة العقبة في مكان آخر غير منى ؟! قلنا له: لأن القضية قضية عبادة.
ويذكر بعض عبدة القبور والأضرحة شبهةً يظنُّ أنها تنفعه؛ فيقول: كيف تمنعون من تقبيل الأضرحة والحيطان والقبور، وأحدكم يُقبل زوجته مائة مرة ؟!!
فالجواب: أن هذا يدلُّ على مدى الجهل الذي وصل إليه هؤلاء؛ إذ كيف تقيس الشرك المُحرَّم على الفعل المباح..
ومن ثم يستدلُّ بعض غلاة المتصوفة بقول الشاعر:
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى ......أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدار
وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي ..... وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيار
وهذين البيتين -كما هو معلوم -ليسا آيةً قرآنية، ولا حديثاً نبوياً، ولا أثراً سلفياً، وإنما هو شعرُ مجنونٍ يتغزَّلُ بامرأةً، فكيف يقيس هؤلاء الجهلة عبادة الله على شعر شاعرٍ مجنون مُتيَّم يتغزَّلُ بامرأة.
فحريٌّ بالإنسان المسلم الذي يحرص على نقاء عقيدته، ويحرص على مرضاة الله عز وجل: أن يحتاط لدينه، ويُقدِّم النجاة في أعماله وأقواله واعتقاداته، فلا يدعو الله إلا بما شرع، ويتقي ربَّه الذي خلقه؛ فلا يدعو من دون الله شيئاً: لا حجراً، ولا شجراً، ولا قبراً، ولا صنماً.
وعليك -أخي المسلم -أن تتيقَّن أن هؤلاء الموتى لا ينفعونك أبداً مهما دعوتهم ورجوتهم واستغثت بهم، والسلامة في الدين لا يعدلها شيء، وكل متبوعٍ يتبرأ من متبوعه يوم القيامة، إلا المتقين، ومن كان متبوعه كتاب الله عز وجل، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السَّلف لا يضلُّ أبداً أبداً، والخير كل الخير في اقتفاء آثار أهل القرون المفضلة، فهم الناس الذين يُقتدى بهم، وغيرهم البُعداء الجهلاء...
وهذه الرسالة العظيمة هي جزءٌ من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الواقع في المجلد (السابع والعشرين) في الصفحات ما بين (ص 64 - 105). وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عمَّا يفعله بعض الناس من الاستنجاد بالمقبورين، والاستغاثة بهم، ودعائهم من دون الله، والتعلُّق بهم، وتمريغ الوجه على ضرائحهم، وإقامة الحفلات لهم في يومٍ مُعيِّنٍ من السنة؛ فيدعوهم من دون الله، ويشدون الرحال إليهم، ويسألونهم ما لا يسأل عنه إلا الله، فيسألونهم المدد والولد والمال، أو تفريج الكربات وإقالة العثرات وإزالة الملمات، وتفريج الشدائد وغير ذلك مما قد نسمعه من عُبَّاد القبور في هذا الزمان، الذين وصلوا إلى حدٍّ يفوق ما كانت تفعله كُفّار قريش، وغيرهم من المشركين من عبادة الأصنام والأوثان.. بل قد وصلوا إلى أعمالٍ هي أكثر شراً وأعظم مما كانت تفعله كفار قريش.. وإن كان المتأخرون يقولون: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله.. أما المشركون الأولون فلم يقولوا هذه الكلمة لأنهم يعلمون أنها تُفسد معتقدهم من اتخاذ الأنداد والشركاء والوسائط من دون الله.
ولذا فإن مشركي هذا الزمان من القبوريين أكثر وأعمق شركاً من المشركين الأوائل الذين عبدوا اللات والعُزى ومناة وهُبل.. ذلك أن المشركين الأوائل لم يكونوا يسألون قضاء الحاجات ولا تفريج الكربات، وإنما يعتقدون أن هذه الأوثان هي وسائط وشفعاء تتوسط وتشفع لهم عند الله في قضاء الحاجات؛ فكانوا يُصورون تماثيل الملائكة والأنبياء والصالحين ويستشفعون بها، ويقولون: هؤلاء خواصُّ الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعبادتهم ليشفعوا لنا .. بخلاف مشركي هذا الزمان الذين يطلبون من أصحاب القبور قضاء الحاجات وتفريج الكربات..
كذلك فإن مشركو العرب كانوا لا يلجأون لهذه الأوثان إلا عند الشدائد، بينما مشركو هذا الزمان يلجأون إلى القبور في الرخاء والشدة، في الأفراح والأتراح وفي كل وقت، ويطلبون منهم ما لا يُطلب إلا من الله تعالى، وربما بنوا عليهم المساجد، ونذروا لهم النذور، وذبحوا لهم الذبائح، وأوقفوا عليهم الأموال، وربما وصل الأمر إلى تسييب السوائب كما في بعض القرى والمناطق النائية، وغير ذلك مما كانت تفعله كفار قريش، وكل هذا من الشرك الذي كانت تفعله كفار قريش، الذي يجب الحذر والتحذير منه..
بل لقد كان المشركون في جاهليتهم إذا نزلت بهم النوازل، واجتاحتهم الكروب، فإنهم يدعون الله سبحانه وحده بلا واسطة فيُجيب الله عز وجل دعاءهم: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إلَيْهِ إنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 40 -41). وأما المشركون في هذه الأمة فيُسمع استغاثاتهم بغير الله من الأموات والمقبورين حتى في أحلك الظروف..
وإذا كان هذه حالة المشركين في جاهليتهم: أفتراهم بعد إسلامهم ودخولهم في التوحيد لا يُجيب الله دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟! قال ربنا سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 2، 3).
وقد حشد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المؤلف الآيات الدالة على الربوبية والمستلزمة لتوحيد الألوهيَّة، والتي تُبين حكم من يدعو ويستغيث بغير الله عز وجل من الأموات وأهل القبور، وقد قال ربنا جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (الإسراء: 56)، فلا يملك هؤلاء المدعوون أن يحولوا داعيهم من حال الفقر إلى حال الغنى، ولا أن يغيروا حاله من المرض إلى الصحة، ولا أن ينقلوه من الكرب إلى الفرج، فكيف يتخذوهم وسائل تُقربهم إلى الله عز وجل ليكشف عنهم البلاء أو يدفع عنهم المرض، بل إنهم هؤلاء المقبورين بحاجة إلى وسيلةٍ ترفعه عند الله عز وجل، ومن المحال أن يكون هؤلاء قربةً ووسيلةً إلى الله وهم أحوج الناس إلى الوسائل..
ثم قال ربنا سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 57)، قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم" (صحيح البخاري: 4714).
قال ابن حجر: " والمراد بالوسيلة القربة. أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وأخرجه الطبري من طريق أخرى عن قتادة ومن طريق بن عباس أيضاً، وقول ابن مسعود (فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم) أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة" (فتح الباري: 8/ 397).
وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13، 14).
وهؤلاء لا يملكون من قطمير، والقطمير: هي اللفافة البيضاء الرقيقة التي على نواة التمر، فكيف يُسأل هؤلاء عما هو أعظم من ذلك وهي المغفرة والشفاعة والولد والمدد، وإذا نفى عنهم ملك أصغر الأشياء، فإنهم لا يُدعون من دون الله، وحتى إن دُعوا فإنهم لا يستجيبون؛ لأنهم موتى في قبورهم، مرتهنين بأعمالهم، وهم كذلك لا يسمعوا دعاءهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (فاطر: 22).
ويخبر سبحانه عن حال هؤلاء المدعوين إذا جاءوا يوم القيامة، وقد كانوا يدعونهم في الدُّنيا، فلا يسمعوا دعاءهم: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14)؛ فكيف تتعلق وتستغيثُ به وتتوجه إليه، وتزعم أنه القطب الأعظم، والغوث الأفخم، وما إلى ذلك من الخرافات والبدع، وكيف يرضى عبداً ارتضى بالله رباً أن يُهين نفسه لمن لا يملك له من دون الله شيئاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً…
وإن كان هؤلاء لا يفهمون الآيات والأحاديث التي تُحذر من الشرك والكفر، فارجع إلى عقلك، وحكِّم عقلك على الأقل عندما تدعو ميتاً في قبره وتظنُّ أنه يُجيبك، فهل فقدت عقلك، وأين ذهب آنذاك ؟!!
* أهمية هذا الكتاب:
1-بيان الفرق "الزيارة الشرعية" للقبور التي سنَّها لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وسار عليها خلفاء البنوة، وأئمة الهدى من بعده رضوان الله عليهم وبين "الزيارة البدعية" و"الشركية" التي يتشَبَّه أهلها بالمشركين والنصارى.
2-بيان حكم من يأتي إلى قبر نبيٍّ أو صالحٍ ويسأله ويستنجد به.
3-بيان حكم طلب الدُّعاء من الغير حيَّاً كان أو ميتاً.
4-بيان حكم التوسُّل بالجاه والحُرمة.
5-حكم من يستنجد بالشيوخ إذا أصابته جائحة أو مصيبة.
6-بيان أول ظهور الشرك في الأمم قبلنا.
7-بيان حكم التمسُّح بالقبر، وتقبيله، وتمريغ الخدِّ عليه.
8-بيان حكم وضع الرأس على الأرض عند الكبراء من الشيوخ، وتقبيل الأرض من تحت أقدامهم.
9-بيان حقيقة الغوث والقطب وحكم التسمِّي به، وحكم المنتظر عند الرافضة، والباب عند النصيرية.
10-بيان القول الفصل في وفاة الخضر عليه السلام.
نصُّ السؤال الموجَّه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
وقد: سئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية - رحمه الله تعالى -:
عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بعيره: يطلب إزالة المرض الذي بهم ويقول: يا سيدي! أنا في جيرتك، أنا في حسبك، فلان ظلمني، فلان قصد أذيتي..
ويقول: إن المقبور يكون واسطة بينه وبين الله تعالى.
وفيمن ينذر للمساجد والزوايا والمشايخ - حيهم وميتهم- الدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك يقول: إن سلم ولدي فللشيخ علي كذا وكذا، وأمثال ذلك.
وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذاك الواقع ؟
وفيمن يجيء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويمسح القبر بيديه ويمسح بهما وجهه وأمثال ذلك؟
وفيمن يقصده بحاجته ويقول: يا فلان ببركتك .
أو يقول: قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ ؟
وفيمن يعمل السماع ويجيء إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدي شيخه على الأرض ساجداً.
وفيمن قال: إن ثم قطباً غوثاً جامعاً في الوجود؟
أفتونا مأجورين وابسطوا القول في ذلك.
خلاصة الجواب:
أولاً: بصائر في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهيَّة:
1- أن الله عز وجل هو المتفرد وحده بالملك والخلق والرزق والإعانة والإغاثة، وأنه سبحانه لم يتخذ من خلقه أعواناً ولا ظهراءَ ولا شركاءَ ولا وكلاءَ ولا وزراءَ ولا نواباً ينوبون عنه في الخلق والرزق، وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن أذن له، ولمن ارتضى من خلقه، فنفى بذلك وجوه الشرك كلها.
2- وأن الشريعة السمحاء ندبت عموم المسلمين وخصوصهم -إذا وقعوا في مصيبةٍ من المصائب أو مُلمَّةٍ من المُلمات أن يلجأوا إلى الله عز وجل وحده بالدُّعاء الخالص، ويقرنوا ذلك بالعمل الصالح، ليرفع ما بهم من البلاء والشدة.
3- وأنه لم يندب نبيٌّ من الأنبياء ولا رسولٌ من الرُّسل أحداً من الناس أن يستغيثوا بمخلوقٍ من المخلوقات: لا ملكاً منزلاً، ولا نبياً مرسلاً، ولا ولياً صالحاً ولا غيرهم.. قال جلَّ جلاله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55)، فإذا ما نزلت بالإنسان نازلةٌ توجَّه من فوره إلى الله عز وجل، يطلب منه دفع البلاء، واستجابة الدُّعاء… أما الذي يدعو نبياً من الأنبياء أو ملكاً من الملائكة، أو ميتاً في قبره؛ فقد دعا المخلوق، ومن دعا المخلوق فقد أشرك بالله عز وجل شركاً أكبر.
4- ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم الناس قدراً وجاهاً عند الله عز وجل، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعلم أصحاب رسول الله عظيم قدر نبيِّهم عند الله، وكانوا أطوع الناس له، ومع ذلك فلم يكن أحدٌ منهم يأتي إلى قبره عند الفزع أو الخوف ليقول: يا سيدي يا رسول الله إني خائف، أو حزين، أو مهموم، أو مغموم، ولم يكونوا يستسقون به بعد موته... بل امتثلوا ما كان يأمرهم به من ذكر الله عز وجل، ودعائه وحده لا شريك له، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد استسقى عُمر بدعاء العباس، واستسقى مُعاوية بيزيد بن الأسود، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة استستقى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، ومن زعم ذلك فقد أعظم على الله الفرية.
ثانياً: أقسام زيارة القبور ثلاثة أنواع:
5- "زيارةٌ شرعية": جائزة؛ وهي أن يقصد الزائرُ القبر ليسلم على صاحبه ويترحم عليه، ويدعو له، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم -يعلم أصحابه إذا زارو القبور… والله تعالى يُثيب الحيَّ إذا دعا للميت المؤمن كما يثيبه إذا صلى على جنازته، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بالمنافقين.
فليس في الزيارة الشرعية حاجةُ الحيِّ إلى الميت، ولا مسألته، ولا التوسل به؛ بل إن فيها منفعةُ الحيِّ للميت؛ كالصلاة عليه، والله تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، ويثيب هذا -أي الداعي -على عمله.
والغرض من الزيارة الشرعية: هو تذكر الآخرة، والتزهيد في الدنيا، والاتعاظ بالموت، والاعتبار بحال المقبورين، فهذه هي الزيارة الشرعية، ويشترط لها:
- عدم شدِّ الرحال إليها بالسَّفر.
- ولا يسأل أهلها شيئاً من الحاجات.
- ولا يُصلي عندها، ولا يطوف بها، ولا يجلس عليها.
- وألا يتخذ قبر أحدٍ من الناس عيداً، بحيث يتردد على القبر في أوقاتٍ مُعيَّنة، فيزوره في مواسم مُعيَّنة، أو في أيام مخصوصة من السنة.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يترك أثرًا لأمته في زيارة القبور، سوى أحاديث يحث فيها المسلمين على زيارة القبور؛ من أجل تَذَكُّر الآخرة، والسلام على أهلها، والدعاء لهم.
6-وأما "الزيارة البدعية": وهي التي يُصاحبها شيءٌ من البدع، مثل: قصد القبر للدُّعاء عنده لاعتقاد أن الدعاء عند القبر أرجى قبولاً من الدعاء عند غيره، فهذا ليس شركاً، ولكنها بدعةً، وعمله هذا مردودٌ عليه. ومن هذه البدع أن يقصد القبر ليُصلي عنده، أو يذبح لله عنده، وهذه الزيارة البدعية قد تُفضي بصاحبها إلى الشرك.
7- "الزيارة الشركية": هي الزيارة التي يصحبها فعلٌ أو قولٌ شركيٌّ، وذلك يصرف عبادة من العبادات التي يُتقرب بها إلى الله عز وجل إلى صاحب ذلك القبر، مثل أن يستغيث بالمقبور، أو يذبح له، أو يطلب منه قضاء حاجة من الحاجات، أو فك كربة من الكربات، أو يطلب منه الممد أو الولد، فهذا هو الشرك الذي لا يقبل الله من صاحبه صرفاً ولا عدلاً، ومثل من يقصد القبر ليتوسَّل بصاحبه إلى الله عز وجل، أو ببركته، أو بحقِّه، ومثل دعاء الشيوخ والمقبورين كل ذلك من الشرك المُحرَّم، وكذلك التوسُّل بجاه الشيخ فلان، وحرمة علان، ومنزلة فلان فإن هذا أيضاً من الشرك المُحرَّم الذي يقدح في كمال التوحيد، قال الله عز وجل: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 80).
والزيارة الشركية من أخطر الأقسام، ولا يغفر الله من مات عليه، ولا يقبل الله من صاحبه صرفاً ولا عدلاً، ولا ينفعه في الآخرة عمله كله، وهو الذي يتعلق بالمقبور أو غير المقبور من البهائم أو الأوثان والأصنام، كمن يطلب المدد أو الغوث من الموتى.
وقد اختصر الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله -هذه المسألة؛ فقال:
أما الزيارة على أقسامِ … ثلاثةٌ يا أُمَّة الإسلام
فإن نوى الزائر فيما أضمره... في نفسه تذكرة بالآخرة
ثم الدعا له وللأموات …. بالعفو والصفح عن الزلات
وَلَمْ يَــكُنْ شَدَّ الرِّحَالِ نَحْوَها …. وَلَمْ يقُلْ هَجْراً كَقَوْلِ السُّفَهَا
فتلك سنة أتت صريحة .... في السنن المثبتة الصحيحة
---
أو قصدَ الدعاء والتوسلا ... بهم إلى الرحمن جل وعلا
فبدعةٌ محدثة ضلالة ... بعيدةٌ عن هدي ذي الرسالة
--
وإن دعا المقبور نفسه فقد ... أشرك بالله العظيم وجحد
لن يقبل الله تعالى منه ... صرفا ولا عدلا فيعفو عنه
إذ كل ذنب موشك الغفران ... إلا اتخاذ الند للرحمن (2)
ثالثاً: طلب الأشياء من المخلوقين، على قسمين:
8- ما يُشرع طلبه من المخلوق: من أن تطلب شيئاً ممن يقدر عليه، مثل أن تطلب ممن تتوسم فيه الخير والصلاح أن يدعو الله لك، أو أن تستغيث بأخيك ضد عدوٍّ هجم عليك وهو يسمعك؛ فلا بأس أن تستغيث به وهو قادرٌ على غوثك؛ فهذا جائزٌ.
9- ما لا يُشرع طلبه من المخلوق: وهو أن تطلب شيئاً ممن لا يسمعك أو لا يقدر على أن يُجيبك أو يُغيثك أو يُسعفك لكونه ميتاً أو غائباً أو لكون الأمر من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى، مثل: أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم، أو وفاء دينه، أو عافية أهله، أو رفع ما به من بلاء الدنيا والآخرة، أو تطلب منه أن يُنزِّل المطر…. وأمثال هذا فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تُطلب إلا من الله تعالى، ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبيٍّ ولا شيخ، سواءً كان حياً أو ميتاً افعل لي ذلك.
ومن سأل ذلك كان مشركاً بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه (3).
10- ثم إن هذا المدعو الذي يتوجَّه إليه الداعي من دون الله -له أحوالٌ أربعة -وكلها منتفية عن المقبورين:
1-أن يكون مالكاً لهذا الأمر الذي يُطلب منه.
2-أن يكون شريكاً للمالك في ملكه.
3-أو يكون مُعاوناً له وظهيراً له في مُلكه.
4- أو يكون شفيعاً لديه في ملكه.
وقد نفى الله ذلك، كما جاء في سورة فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13، 14).
فلا يملك هؤلاء شيئاً، وليسوا شركاء لله في ملكه، ولا ظهراء، ولا يشفع أحدٌ عند الله إلا من ارتضى له يوم القيامة؛ فلم يبق إلا أن يُقال: إن من يفعل ذلك كافرٌ مُشركٌ بالله.
فلا يملك هؤلاء شيئاً، وليسوا شركاء لله في ملكه، ولا ظهراء، ولا يشفع أحدٌ عند الله إلا من ارتضى له يوم القيامة؛ فلم يبق إلا أن يُقال: إن من يفعل ذلك كافرٌ مُشركٌ بالله.
رابعاً: مشروعية التوسُّل إلى الله تعالى بطلب الدُّعاء من الصالحين الأحياء:
11- أنه من المشروع في الدُّعاء: دعاءُ الغائب للغائب، ولهذا أمر النبيُّ بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وطلب الوسيلة له، وأخبر بما لذلك من الأجر والمثوبة، وذكر أنه من صلَّى عليه مرةً صلى الله عليه بها عشراً، وأن من سأل الله له الوسيلة حلَّت له شفاعته يوم القيامة، فكان طلبه لمنفعتنا في ذلك، وفرقٌ بين من طلب من غيره شيئاً لمنفعة المطلوب منه، ومن يسأل غيره لحاجته فقط.
12-ويُشرع للمسلم أن يطلب الدُّعاء ممن فوقه وممن هو دونه:
فقد روي طلب الدعاء من الأعلى والأدنى، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ودَّع عُمر إلى العمرة، وقال: "لا تنسنا من دعائك يا أخي".
وفي الصحيح أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر عُمر إن رأى أويساً القرني أن يطلب منه الدعاء له، وكان أبو بكر يقول لعمر: استغفر لي…
وفي المقابل نجد أن أقواماً كانوا يسترقون النبيَّ صلى الله عليه وسلم -أي يطلبون الرقية منه- فيرقيهم.
ولما أجدب الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم.
واستسقى عمر بالعباس -أي طلب منه الدعاء بالسُّقيا.
وفي السنن أن أعرابياً استسقى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال له: "فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله"؛ فسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك" /حديثٌ مشهورٌ، صححه ابن خزيمة في التوحيد: 1/ 239، وأخرجه أبو داود: 4726، وضعفه الألباني/.
فأقره على قوله نستشفع بك على الله وأنكر عليه قوله "نستشفع بالله عليك".
خامساً: حكم من يأتي إلى قبر نبيٍّ أو صالحٍ يستنجد به ويسأله:
13-وأما من يأتي إلى قبر نبيٍّ أو من يعتقد أنَّه نبيٌّ أو رجلٌ صالحٌ ومن ليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:
الأول: أن يسأله حاجته من شفاء مرضه أو قضاء دينه أو الانتقام له من عدوه، أو أنه يرزقه البنين ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل: فهذا شركٌ صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل (فيُستتاب حتى وإن كان يزعم أنه يشهد الشهادتين؛ لأنه مرتدٌّ عن دين الله عز وجل).
فإن قال: أنا أسأله وأدعوه لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه؛ فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم .
الثاني: أن يأتي القبر ويسأل الميت أن يدعو الله له، فيقول في نفسه: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته؛ فيطلب منه أن يدعو له، فهذا مشروعٌ في الحيِّ، وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا ولا اسأل لنا ربك، ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد فيه حديث، بل هو بدعةٌ مُحرَّمة، وليست شركاً، وقد تجرُّ صاحبها إلى الشرك.
الثالث: أن يتوسَّل بجاه صاحب القبر أو بحرمته أو بقدره، فيقول: اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك: افعل بي كذا وكذا.
فهذا يفعله كثير من الناس؛ لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء، وهو من البدع المُحرَّمة ونوعٌ من الشرك؛ لأنه في مقابلة النصوص الشرعية، ولأنَّه إثباتُ سببٍ لم يجعله الله سبباً شرعياً لنيل الحوائج؛ فهو تشريكٌ مع الله في قضائه وشرعه، ولم يُنقل عن أحدٍ من السلف ذلك، فكل من أثبت سبباً لم يثبت اعتباره لا في الواقع ولا في الشرع فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى، حيث جعل ما ليس سبباً سبباً.
سادساً: حكم التوسُّل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم:
14- قال شيخ الإسلام: ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام. فإنه أفتى: أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلَّ ابن عبد السلام بحديث: "اللهم: إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة. يا محمد: يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم: فشفعه فيَّ" وقال إنه يجوز ذلك في حياته وبعد مماته.
قال: وليس في التوسل به صلى الله عليه وسلم دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق، وإنما هو دعاء واستغاثة بالله؛ لكن فيه سؤال بجاهه، كما في سنن ابن ماجه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا"، قالوا: ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة، والله سبحانه جعل عليه حقوقاً (4).
والجواب: أن الحديث ضعيفٌ، ثم إن الجاه عند الله ينتفع به من له الجاه فقط، ولا ينتفع به غيره من العباد؛ لأن الله عز وجل لم يجعل جاه أحدٍ من الناس سبباً شرعياً يُتوسل به إليه، بل هو تشريكٌ مع الله في قضائه، كذلك لم يُجعل الجاه وسيلةً في الواقع؛ فلم يجز أن يُتخذ وسيلة فيحرم ذلك، والأولى من ذلك أن يسأل الله برحمته ومغفرته وعفوه، فهو أنفع للسائل من جاه فلان وعلتان.
وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه؛ بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره كما في صحيح البخاري في قصِّةِ توسل عمر رضي الله عنه بدعاء العباس (5).
سابعاً: التوسُّل المشروع بدعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حياته
15-وأما ذلك التوسل به؛ فإنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه، ويتوسلون بشفاعته ودعائه كما في الصحيح عن أنس بن مالك في قصة الأعرابي الذي استسقى به يوم الجمعة.
وما كانوا يستسقون به بعد موته، ولا في مغيبه، ولا عند قبره، ولا عند قبر غيره.
وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: "اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا".
فلذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير؛ فإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن.
ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته، ولا في مغيبه، ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ،ولا في الاستنصار، ولا غير ذلك من الأدعية.
ثامناً: الفرق بين الاستشفاع إلى الله عز وجل، والاستشفاع إلى المخلوقين
16-وقد بيَّن الرَّبُ سبحانه الفرق بينه وبين خلقه في قضية الاستشفاع إليه؛ فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته: إما رغبةً، وإما رهبةً، وإما حياءً، وإما مودةً، وإما معاوضةً، وإما غير ذلك...
والله سبحانه لا يشفع عنده أحدٌ حتى يأذن هو للشافع؛ فلا يفعل سبحانه إلا ما شاء، وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له (6).
قال سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} /الزمر: 44/. وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} /السجدة: 4/. وقال جل جلاله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ} / البقرة: 255/.
17-ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت هذا -يعني هذا الصالح أو المقبور -فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك فهذا جهل وضلال وكفر، وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟.
18-وقد استسقى عُمرُ بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون.
ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله ادع الله لنا فاستسق لنا ونحن نشكو إليك مما أصابنا ونحو ذلك.
فلم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط، بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، بل كانوا إذا جاءوا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُسلمون عليه؛ فإذا أرادوا الدعاء، لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف، بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون الله وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع.
تاسعاً: تحريم البناء على القبور والنذر لها أو الصلاة عندها،
أو تقبيلها أو التمسُّح بها
19-وقال علماؤنا: لا يجوزُ بناءُ المسجد على القبور، وقالوا: إنه لا يجوز أن يُنذَرَ لقبرٍ ولا للمجاورين عند القبر شيئاً من الأشياء، لا من درهم، ولا من زيت، ولا من شمع، ولا من حيوان، ولا غير ذلك كله؛ لأنه نذر معصية.
20- ولم يقل أحدٌ من أئمة السلف: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة، أو فيها فضيلة، ولا إن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء؛ بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور - قبور الأنبياء والصالحين - سواء سميت "مشاهد" أو لم تُسمَّى.
21-وقد ورد نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من يفعل ذلك، وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين، كما ذكره البخاري في صحيحه، والطبري وغيره في تفاسيرهم، في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23)، قالوا: هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما؟ وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها، ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ".
22- واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين - الصحابة وأهل البيت وغيرهم - أنه لا يتمسح به ولا يقبله؛ بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود.
23-ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت - اللذين يليان الحجر - ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحدٍ من الأنبياء والصالحين.
24- وتنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمَّا كان موجوداً؛ فكرهه مالكٌ وغيره؛ لأنه بدعةٌ، وذكر أن مالكاً لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم، ورخص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما فعله.
25- وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيله؛ فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسم مادة الشرك وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين.
عاشراً: الأنبياء والصالحين لا يرضون أن يُسألوا بعد وفاتهم وفي مغيبهم
26-ولا بُدَّ من التفريق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرجل الصالح في حياته، وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد بحضوره.. فإذا كان الأنبياء والصالحون أحياءً؛ فإنهم لا يتركون أحداً يُشرك بهم بحضورهم؛ بل ينهونهم عن ذلك ويعاقبونهم عليه.
ولهذا قال المسيح عليه السلام {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (المائدة: 117).
ولما قالت الجويرية: "وفينا رسول الله يعلم ما في غد". قال: (دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين).
وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله).. وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك.
حادي عشر: الطواغيت من شيوخ الطُّرق (قُطاع الطرق: الذين يقطعون على الناس طرق الهداية) هم من يرتضون سؤالهم وتعظيمهم بعد موتهم
27- وإنما يقرُّ الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علواً في الأرض وفساداً؛ كفرعون ونحوه ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد والفتنة بالأنبياء والصالحين، واتخاذهم أرباباً، والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم كما أشرك بالمسيح وعزير.
28- ولم يكن أحدٌ من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم؛ لا في مغيبهم ولا عند قبورهم، وكذلك العكوف.
29-ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائبٍ كما ذكره السائل عمن يستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم.
30- ومعلومٌ أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس بقدره وحقه هم أصحابه: ولم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك؛ لا في مغيبه ولا بعد مماته.
ثاني عشر: اجتماع الشرك والكذب، وإغواء الشياطين في هؤلاء المشركين
31- وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب؛ فإن الكذب مقرون بالشرك كما أخبر بذلك ربُّ العالمين: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (الحج: 30 -31).
32-فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رده عليه ،وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخاً !.
33-وقد تغويهم الشياطين كما تغوي عباد الأصنام كما كان يجري في العرب في أصنامهم. وعباد الكواكب وطلاسمها: من الشرك والسحر كما يجري للتتار والهند والسُّودان وغيرهم من أصناف المشركين: من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك .
34- فكثيرٌ من هؤلاء قد يجري له نوع من ذلك، لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين قد تنزل عليهم، وقد يصيبُ أحدهم كما يصيب المصروع: من الإرغاء والإزباد والصياح المنكر ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.
35-وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئاً؛ فاستغاث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع؛ فهذا من الشرك، وهو من جنس دين النصارى فإن الله هو الذي يصيب بالرحمة ويكشف الضر.
36-وأما التمسح بالقبر - أي قبر كان - وتقبيله وتمريغ الخد عليه؛ فمنهيٌّ عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء. ولم يفعل هذا أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، بل هذا من الشرك، لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به،
37-وأما وضع الرأس -على الأرض- عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم أو تقبيل الأرض -تحت أقدامهم- ونحو ذلك؛ فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهيٌّ عنه.
وقد روى أحمد في مسنده، أن معاذاً قدم الحيرة بالشام- ورأى الناس يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم؛ فقال معاذ في نفسه: نحنُ أحقُّ أن نسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما قدم عليه، وأراد أن يسجد له، نهاه عن ذلك وقال: (إنه لا يصلح السجود إلا لله).. وفي روايةٍ أنه، قال له: "أرأيت يا معاذ إن مررتَ بقبري أكنتَ ساجداً، قال: لا، قال: فلا تفعل هذا".
38-وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه عن صرف أيِّ فعلٍ من الأفعال التي تشبه تعظيم الرب جل جلاله إليه، حتى ولو كانوا في الصلاة، ففي الصحيح من حديث جابر: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان مريضاً؛ فصلى جالساً، فصلوا قياماً، فأمرهم بالجلوس وقال: (لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضاً).
39-وبالجملة؛ فالقيام والقعود والركوع والسجود حقٌّ للواحد المعبود: خالق السموات والأرض وما كان حقاً خالصاً لله لم يكن لغيره فيه نصيب: مثل الحلف بغير الله عز وجل.
ثالث عشر: حرمة قول: انقضت حاجتي ببركة الله وبركتك
40-وأما قول القائل: انقضت حاجتي ببركة الله وبركتك؛ فمنكرٌ من القول؛ فإنه لا يقرن بالله في مثل هذا غيره؛ حتى إن قائلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وشئت؛ فقال: (أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد)، وكذلك من اعتقد أن فلان صاحب بركةٍ خاصَّةٍ تُقضى بها الحاجات، وأنه يملك شيئاً من دون الله فهذا من الشرك الأكبر، أما إن اعتقد أن فلانٌ سببٌ في حصول البركة فلا بأس.
41- قوله: "انقضت حاجتي ببركة الشيخ"، قد يعني بها دعاءه، وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير، وقد يعني بها بركة معاونته له على الحق وموالاته في الدين ونحو ذلك. وهذه كلها معان صحيحة.
وقد يعني بها دعاءه للميت والغائب؛ أو للحيِّ بما هو عاجزٌ عنه أو غير قادر عليه، فهذه من البدع المنكرات ومن المعاني الباطلة.
رابع عشر: بدعة الغوث الفرد عند المتصوفة
42-وأما القطب الغوث الفرد الجامع: فهذا قد يقوله طوائف من الناس، ويفسرونه بأمورٍ باطلةٍ في دين الإسلام، فيقول بعضهم: الغوث هوالذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم! فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عيسى بن مريم، وغالية الرفض في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا كفر صريح يستتاب منه صاحبه فإن تاب وإلا قتل؛ فإنه ليس من المخلوقات أحدٌ يكون إمداد الخلائق بواسطته، وهذا كفرٌ صريح باتفاق المسلمين.
43- وكذلك من يقول إن في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا يسمونهم "النجباء" فينتقى منهم سبعون هم "النقباء" ومنهم أربعون هم "الأبدال" ومنهم سبعة هم "الأقطاب" ومنهم أربعة هم "الأوتاد" ومنهم واحد هو "الغوث" وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا نابهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وأولئك يفزعون إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الواحد! وهذا كله باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للاقتداء بهم، ومعلوم أن سيدنا رسول رب العالمين وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا - رضي الله عنهم - كانوا خير الخلق في زمنهم وكانوا بالمدينة ولم يكونوا بمكة (7).
44-وقد روى بعضهم حديثا في "هلال" غلام المغيرة بن شعبة، وأنه أحد السبعة، والحديث باطل باتفاق أهل المعرفة، وإن كان قد روى بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في "حلية الأولياء"، والشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في بعض مصنفاته؛ فلا تغتر بذلك، فإن فيه -أي الحلية -الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والمكذوب الذي لا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع، وتارة يرويه على عادة بعض أهل الحديث الذين يروون ما سمعوا ولا يميزون بين صحيحه وباطله وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث؛ لما ثبت في الصحيح: "من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".
______________________
(1) النُّصَيْرية: فرقة من فرق الشيعة الغالية، أسسها رجل ضال يقال له محمّد بن نصير النميري، الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وكان ينتمي إلى الشيعة الاثني عشرية، ثم خالفهم فأسس فرقة وحده واتخذ من مدينة سامراء مقرًا له، وظل المرجع الأعلى للمذهب النصيري إلى أن هلك سنة (260 هـ)، وكان قد ادعى النبوة، وأن الذي أرسله هو أبو الحسن علي بن أبي طالب، ويزعم أنه عاصر ثلاثة من الأئمّة الاثني عشر، وهم: علي الهادي، والحسن العسكري، ومحمّد المهدي، ثم زعم أنّه الباب إلى الإمام الحسن، والحجّة من بعده، فتبعه طائفة من الشيعة، سمّوا النُّصَيْرية، وادعى ابن نصير النبوّة والرسالة، وغلا في حقّ الأئمّة، فنسبهم إلى الألوهية (انظر: موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام، الدرر السنيَّة- الشاملة: 6/ 329).
(2) معارج القبول (1/ 35).
(3) وبعض الناس في بلاد المسلمين -وللأسف- إذا أصابته جائحة أو مصيبة يذهب إلى ما ضريح من يسمونه شيخ الطريقة، الذي قد يكون طاغوتاً من الطواغيت، أو مظلوماً مفترىً عليه لا علاقة له بما يُفعل عنده -كالشيخ عبد القادر الجيلاني، فينذر له الذبيحة، ويُقدم له النقود، أو يُهدي القماش إلى هذا القبر الذي يُعبد من دون الله، أو يُحدد له يوماً من الأيام يأتي إليه ببعض الهدايا والنذور، ويسأله ردَّ غائبه، أو حفظ مسافره، أو حفظ أمواله من البهائم أو الأموال المنقولة أو العقار، وغيرها من الأمور التي لا تُطلب إلا من الله، فهذا الفعل نظير أفعال المشركين، ونفس الصورة تتكرر في دعاء الملك، أو الجن، أو العبد الصالح، فهو من جنس من يعبد الشمس والقمر والنجوم من الصائبة، ومن يعبد اللات والعزى ومناة من مشركي العرب، وهذا الذي يدعو صاحب القبر من دون الله لم يفهم معنى لا إله إلا الله.
وربما كان الشيخ جحشاً كما فعل بعضهم في بعض القرى المصرية، دفنوا جحشاً وعبدوه من دون الله، وبنوا عليه القبة، يسترزقون من ورائه، وسموه بالشيخ "جحش"، وقد صدقوا في التسمية، ولكنهم كذبوا في عبادته من دون الله؛ لأنهم أبطلوا معنى لا إله إلا الله، التي يدعون أنهم من أهلها، وأبطلوا صلاتهم وزكاتهم وحجهم، وسائر أعمالهم بهذا الشرك.
ومعنى (لا إله إلا الله) أي لا معبود بحقٍّ إلا الله. وبعض المبتدعة من المتصوفة والرافضة لا يكتفون بالسلام المشروع على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنما يمدُّون أيهم نحو القبر ويسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم كشف الكربات وإزالة المُلمات، وغير ذلك مما لا يُطلب إلا من الله، فهذا هو الشرك بعينه الذي لا يقبل الله معه صرفاً ولا عدلاً، فلنحذر من ذلك؛ فإنه في غاية الخطورة.
وقد يقوم بعض هؤلاء برمي ورقةٍ عند زيارة القبر الشريف، وفيها من الشرك الأكبر ما الله به عليم، كأن يكون فيها: اغفر لي يا رسول الله، أو أعطني يا رسول الله أو افعل لي كذا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يُغالي بعضهم فكلما تحرك في بيته أو ناديه أو شارعه نادى وقال: يا رسول الله، أو يا فلان، أو إذا عثر قال: يا فلان، أو أراد أن يفعل أمراً قال: يا فلان، وكل هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفر الله لصاحبه إن مات عليه.
وهنا لا بُد من بيان غلط بعض الحجاج الذين يستقبلون القبر عند الدُّعاء، فإذا لم يتمكن من استقبال القبر استدبر القبلة واستقبل القبر، وأخذ يُشرك بالله ويدعو صاحب القبر، ولذا نقول: من ابتلي بعبادة القبور فعليه تجديد الإسلام، والتوبة من جديد؛ لأن من يطلب المدد والولد من غير الله عز وجل فليس بمسلم.
(4) وأما حديث: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم" وفي بعض الألفاظ: "إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم".
فهو موضوعٌ مختلق، وقد قال الألباني في التوسل (ص 115)، والسلسلة الضعيفة (ح 22): "باطلٌ لا أصل له".
وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 319): وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولاذكره أحد من أهل العلم بالحديث، هذا مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين (ولكن التوسُّل بالجاه غير مشروع).
فهو موضوعٌ مختلق، وقد قال الألباني في التوسل (ص 115)، والسلسلة الضعيفة (ح 22): "باطلٌ لا أصل له".
وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (1/ 319): وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولاذكره أحد من أهل العلم بالحديث، هذا مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين (ولكن التوسُّل بالجاه غير مشروع).
ومما يُضحك الثكلى، قول بعض المتأخرين: أن من قال إنه ليس لهذا الحديث أصلاً، فلا يُسلَّم له؛ لأنه ربما يكون من الأحاديث التي نسيها الحُفاظ من الصحابة و التابعين! وهذا من الجهل المركب الذي وصل إليه المبتدعة، الذين يصفون أنفسهم بأنهم علماء!! مع العلم أن السُّنة حُفظت كما حُفظ القرآن، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)؛ فكيف يصف حديثاً موضوعاً بأنه نسي أن يُثبته الحُفاظ، ولو سلَّمنا لهذا القول لوجدنا الملاين من الأحاديث الموضوعة يُحكم لها بالثبوت، وبالتالي إلغاء علوم المصطلح ولا يُرد من هذا الباب حديثٌ واحد، ومشكلة هؤلاء الناس الجهل؛ فلا يُفرقون بين الحديث الصحيح والضعيف والموضوع.
كذلك اخترع المتصوفة قصةً مكذوبةً لما يسمونه ابن العُتبي، وذكروا أنه نظم قصيدةً، قام النبيُّ على إثرها بإخراج يده، فقبَّلها.
وهذه قصةٌ موضوعةٌ مختلقةٌ مكذوبة، ولا تثبت بحالٍ من الأحوال، وهنا نتساءل إن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يُصافح أحداً من أصحابه بعد موته أو زوجاته ولم يصافح أم المؤمنين عائشة التي كانت تنام في تلك الغرفة التي دُفن فيها، فهل يُعقل أن نُصدق قصةً مختلقةً، وضعها بعض شياطين الإنس، واخترعوها وننسبها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهل أيترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم مصافحة الصحابة ويُصافح هذا المتأخر إن صحَّت القصة أصلاً..
وهذا مثل زعم بعضهم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يحضر الموالد، أو أنَّهم يرونه يقظةً ! أو من يزعم أنه لقيه في المنام وأخذ منه بعض الأحكام وهي معارضةٌ لهدي الكتاب والسنة، مثل صلاة الفاتح وغيرها من أمور الدجل..
(5) وجملة القول في هذه المسألة: أن المتشبثين بهذا الأمر لهم شبهتان:
الشبهة الأولى: أحاديث ضعيفةٌ أو موضوعة لا يُحتجُّ بها، ولذا يُقال لصاحبها: ثبِّت العرش ثُم انقش. ومثال ذلك حديث "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم"، وهو حديثٌ موضوع، ومثل حديث: "لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك" فهو حديث موضوع، ومثل ما يُنسب إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو مما رواه الحاكم أنه لما اقترف آدم الخطيئة قال: "أسألك اللهم بحقِّ محمد إلا غفرت لي، فقال: كيف عرفت مُحمداً ولم أخلُقْهُ، قال: رأيتُ مكتوباً على العرش لا إله إلا الله محمداً رسول الله، فعرفت أنك لا تُضيف لنفسك إلا أحبَّ الخلق إليك"، وهذا الحديث موضوع، وكل الذي فيه وضاعون، وفيه رجلٌ قال فيه شُعبة رحمه الله: لو أعطوه فلسين لوضع لهم سبعين حديثاً، وفيه عبد الرحمن الفهري وهو ضعيف، وعبد الرحمن الإفريقيُّ وهو ضعيفٌ أيضاً، وفيه جمعٌ من الضُّعفاء، وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف، فالحديث لا يثبت.
وكذا استدلَّ بعضهم بحديث: "أسألك بحقِّ السائلين عليك" وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه عطيَّة العوفي وهو ضعيفٌ جداً لا يُحتجُّ بحديثه، وهذا الحديث لو صحَّ فإن الله سبحانه هو الذي أوجب الحق على نفسه تفضُّلاً منه وإحساناً، فنحن نسأله بما أوجبه على نفسه، هذا إن صحَّ الحديث، ولكنه حديثٌ ضعيف، فلا يحتاج أن نتوقف عنده كثيراً.
الشبهة الثانية: أحاديث صحيحة يؤولونها ويُحرفونها عن مواضعها، وأشهر ما في ذلك حديثان: الأول: حديث استسقاء عُمر بالعباس. أي بدعاء العباس؛ لأنه من أفضل بيت النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع صلاحه.
ولو كان التوسل المشروع بالجاه، لكان توسل عمر به وهو في بيته ولما أمره عُمر بالخروج إلى الجابية، ولكن عمر وهو الفقيه يعلم أن المقام مقام دُعاء، ومما ورد من دعاء العباس: "اللهم إنَّ القوم استسقوا بي، اللهم إنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة" فكان يدعو والمقام مقام دعاء.
ثم إن الخلف والسلف متفقون على أن هناك مُضافاً محذوفاً وأهل السنة يقدرونه: بدعاء نبيك عندما كان حياً، وبدعاء عمِّ نبيك بعد موته، وهذا هو التفسير الصحيح لهذا الحديث عند أهل العلم الواعين الفاهمين.
ثم إن ذلك التوسل تكرر أكثر من مرة؛ فلو كان لجوءاً إلى المفضول -العباس -مع وجود الفاضل -النبيِّ لى الله عليه وسلم -لما تكرر هذا ولو مرة، ولم يُرو أنهم استسقوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
ثم أن ذلك تكرر من بعض الصحابة؛ فقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود وكان رجلاً كثير البكاء من خشية الله، وكذلك استسقى بعده الضحاك بن قيس بيزيد بن الأسود لما عُرف من صلاحه وتُقاه. ولذلك لا دلالة لهم في استسقاء عمر بالعباس رضوان الله عليهم.
أما الحديث الآخر فهو حديث الرجل الأعمى -حديث عثمان بن حنيف- وفيه: إن شئت صبرت وهو خيرٌ لك أو إن شئتَ دعوتُ لك- وعلمه الدعاء؛ وفيه: "اللهم شفِّع فيَّ نبيَّك، وشفعني فيه" وهذا الحديث بعض أهل العلم يُضعِّفه وإذا ثبت ضعفه؛ فنقول: كفى الله المؤمنين القتال، فلا نحتاج أن نُناقشه، ولكن وُجد من بعض أهل العلم من قال بتحسينه، إلا أنَّهم وجَّهوه بحوالى سبع توجيهات:
الأول: أن هذا الرجل الأعمى لم يجلس في بيته وتوسل بجاه النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل جاء إليى النبيِّ صلى الله عليه وسلم مباشرةً، وطلب منه الدُّعاء، وقال: "يا رسول الله ادعُ الله أن يُعافيني".
الثاني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خيَّره؛ فقال: "إن شئتَ صبرتَ فهو خيرٌ لك، وإن شئتَ دعوتُ الله أن يُعافيك" فالمقام مقام دعاء.
الثالث: إصرار هذا الرجل الأعمى على طلب الدُّعاء، حيثُ قال: بل ادعُه.
الرابع: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يجمع بين الدُّعاء وبين العمل الصالح؛ فتحقَّقتت له ثلاثة أسباب (دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم له -والعمل الصالح الذي وجهه النبيُّ إليه -دعاؤه لنفسه حيث قال: اللهم فشفِّعه فيَّ وشفعني فيه)، وكلها فيها تقويةٌ للطلب من الله تعالى.
الخامس: قوله: "اللهم فشفِّعه فيَّ" أي اقبل شفاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ودعاؤه لي، وهذا أمرٌ مطلوب، ونحن نقول: اللهم شفِّع فينا نبيَّك صلى الله عليه وسلم، ولا تحرمنا شفاعة نبيك.
السادس: قوله: "وشفعني فيه" أي اللهم أسألك أن تقبل دعوتي بقبول شفاعة ودعوة نبيك صلى الله عليه وسلم فيَّ، أو تشملني بشفاعة نبيِّك، وأكثر الذين يقولون بالتوسل المُحرَّم لا يُريدون هذه الرواية؛ لأنها لا توافق ترهاتم الباطلة.
السابع: أن هذا من معجزات النبيِّ صلى الله عليه وسلم وآياته، فلا يُقاس عليه ألبتة، إذ لو كان الأمر على عمومه لما وُجد أعمى على وجه الأرض إلى يوم القيامة، ولكن هذا من معجزات النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي أجراها على يديه، والتي لا يُقاس عليها.
الثامن: أننا لم نجد أحداً من السلف من يفعل هذا الأمر، فلم يتوسُّل أحدٌ منهم بجاه النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا بجاه أحدٍ أصحابه.
(6) وتتمة كلامه رحمه الله: "وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب؛ وبعضهم يقول: إن الغوث له مرتبة الخضر، وإن لكل زمان خضراً.
(7) ومن يطلب الشفاعة الآن من نبيِّ أو وليٍّ؛ فيقول: الشفاعة يا رسول الله؛ فهذا من الشرك الأكبر، والصواب أن يُقال: اللهم ارزقني شفاعة نبيِّك، اللهم لا تحرمني من شفاعة نبيِّك، أو اللهم ارزقني شفاعة رسول الله؛ لأن الله هو الذي يأذن له بالشفاعة.