شرح حديث جبريل لابن رجب الحنبلي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا كتاب عظيم، يشتمل على شرح حديث عظيم، من إمام عظيم، وهو ابن رجب الحنبلي رحمه الله، وهذا الجزء مقتبسٌ من "فتح الباري" لابن رجب" (١/ ٢٠٨- ٢٢٢)، وتميَّز هذا الشرح بكثرة إيراد الأدلة من القرآن الكريم، والسُّنَّة النبويَّة المُطهَّرة، وأقوال السلف الصالح، وجمع الروايات والترجيح بينها، والعناية باختلاف الألفاظ، وتأييد القرآن بالسنة، وتفسير السنة للسنة، والحكم على الأحاديث صحةً وضعفاً، وهذا مختصرٌ لذلك الشرح، لكنه لا يُغني عنه، فارجع إليه، فإن فيه مزيد فائدة وترتيب.
وقد ناقش ابن رجب في كتابه هذا مسائل، منها:
١) أن الإيمان عند السلف اعتقاد وقول وعمل.
٢) وأن مراتب الإيمان بالقدر، مرتبتان: إثبات العلم، وإثبات المشيئة.
٣) وأن نُفاة القدر لا يكفرون إلا بنفيهم صفة العلم.
٤) وأن نفي الإيمان لا يقتضي الخروج من الإسلام، مع كونه مؤثراً فيه.
٥) وأشار إلى بعض الفرق التي خالفت في مسائل الإسلام، والإيمان، والكفر، والنفاق، ابتداءً من الخوارج الذين أخرجوا عصاة المؤمنين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، ثم حدث من بعدهم خلاف المعتزلة، وقولهم: بالمنزلة بين المنزلتين، ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
٦) أشار إلى بعض من صنف من أهل العلم في مسائل الإيمان، ومنهم: الإمام أحمد، وأبو عُبيد القاسم بن سلام، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن أسلم الطوسي، وغيرهم.
٧) وتحدث في كتابه عن إشارات بعض العارفين من السلف الصالح، وخاصَّة في باب الإحسان، فجعل له مقامان: (أحدهما): مقام الإخلاص، وهو منع النفس من الالتفات إلى غير الله، وإرادته بالعمل. و(الثاني): مقام المشاهدة؛ وهو أن يعمل العبد بمقتضى إيمانه بالله كأنه يُشاهده، فيصير الغيب كالعيان.
٨) وتحدَّث عن بعض آرائه الاعتقادية، فهو يُثبت الصفات على طريقة السلف رضوان الله عليهم، ويردُّ على غلاة المتصوفة القالين بالاتحاد، وعلى طوائف المُشبِّهة، فقال بعد ذكر آيات المعيَّة، والأحاديث الدالة عليها: "ومن فهم من هذه النصوص تشبيهاً أو جلولاً أو اتحاداً، فإنما أُتي من جهله، وسوء فهمه عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله بريئان من ذلك كله، فسبحان من ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.
٩) وتحدث عن بعض المسائل الفقهية، مثل: مسألة بيع أمهات الأولاد، فذكر أن بعضهم أجاز بيعهنَّ بناءً على أنهُنَّ من جملة المتاع الذي يجوز التصرف فيه، ومنع الأكثرين من بيعهنَّ؛ لأنَّها إذا ولدت للسيِّد، فقد أعتقها ولدها، ويكونُ الولدُ بمنزلة ربِّها (أي: السبب في إعتاقها).
الحديث
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن عند رسول الله ﷺ؛ إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشَّعر، لا يُرى عليه أثرُ السَّفر، ولا يعرفُه منَّا أحد، حتى جلس إلى النَّبيِّﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه.
ثُمَّ قال: يـا مُحـمَّـد أخــبــرنــي عن الإســـلام؟ فقال رسول الله ﷺ: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحمَّداً رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً"، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويُصدِّقه!. قال: فأخــبــرنــي عن الإيــمـان؟
قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت!.
قال: فأخــبــرنــي عن الإحــسـان؟ قال: "أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك". قال: فأخــبــرنــي عن الســاعـة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل!".
قال: فأخــبــرنــي عن أماراتــها؟ قال: "أن تلد الأمَةُ ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان"!. قال: ثُمَّ انطلق، فلبثتُ مليَّاً، ثم قال لي: "يا عُمر أتدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنَّه جبريل أتاكم يُعلمكم دينكم" رواه مسلم.
________________________________
قال ابن رجب: ورُويَ حديث عُمر عن النَّبيِّ ﷺ، من حديث أنس بن مالك، وجرير بن عبد الله البجلي، وغيرهما، وهو حديثٌ عظيم الشأن جداً، يشتمل على شرح الدين كله، ولهذا قال النبيُّ ﷺ، في آخره: "هذا جبريل أتاكم يُعلمكم دينكم".
قال: فشرح فيه درجة الإسلام، والإيمان، والإحسان؛ فأما الإسلام فقد فسّره النبيُّ بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل، وأول ذلك " أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحمَّداً رسول الله" وهو عمل اللسان، ثم "وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً"، وهي منقسمة إلى عمل بدني: "كالصلاة والصوم"، وإلى عمل مالي: "وهو إيتاء الزكاة"، وإلى ما هو مُركَّبٌ منهما: "كالحجِّ" بالنسبة إلى البعيد عن مكة.
وخصَّ هذه الأعمال بالذكر؛ لأنها أصول أعمال الإسلام الظاهرة، ويدخل في الإسلام غيرها من أعمال الجوارح الظاهرة، كإطعام الطعام، وإقراء السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإتمام الوضوء، وطاعة ولاة الأمر، والجهاد، وغيرها.
ويدخل في الإسلام أيضاً: أعمال الجوارح الباطنة، من إخلاص الدين لله تعالى، والنصح لعباده، وسلامة القلب لهم الغش والحسد والحقد، وتوابع ذلك من أنواع الأذى.
وأما الإيمان، فقد فسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة، فقال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره".
ويدخل في مُسمَّى الإيمان: وَجَلُ القلوب من ذكر الله، وخشوعها عند سماع ذكره، وزيادة الإيمان بذلك، وتحقيق التوكل على الله عز وجل، وخوف الله سِرَّاً وعلانيةً، والرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً، وبُغضُ الكفر، واستشعار قرب الله من العبد، وإيثار محبة الله ورسوله على محبة ما سواهما، والحب في الله، والبغض في الله، والعطاء له والمنع له، وسماحة النفس بالطاعة المالية والبدنية، والفرح بعمل الحسنة، والمساءة بعمل السيئة، وكثرة الحياة، وحُسن الخلق، ونُصرة المؤمنين، والفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم، خصوصاً الجيران.
والتحقيق في الفرق بينهما: أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته، والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهو الدين الذي سمَّى الله في كتابه الإسلام ديناً، وإذا أُفردَ كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذكر، فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قُرنَ بين الاسمين كان بينهما فرق.
وأمَّا الإحسانُ، فقال: "أن تعبد الله كأنَّك تراه "، والإحسانُ: هو أن يعبد المؤمن ربَّه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنَّه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك؛ النظر إلى وجه الله عياناً في الآخرة، لقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحُسنى وزيادة} (يونس: 26).
وقوله: "فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"، وهذا تعليلٌ للأول؛ فإن العبد أُمر بمراقبة الله تعالى في العبادة، واستحضار قربه من عبده حتى كأنَّ العبد يراه، فإنه قد يشقُّ ذلك عليه فيستعين على ذلك بإيمانه، بأن الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عيه شيءٌ من أمره، فإذا تحقق هذا المقام، سَهُل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحقيق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيته حتى كأنه يراه.
وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه هنا، ويتفاوت أهل هذه المقامات فيه بحسب قوة نفوذ البصائر وضعفها.
ومن لوازم الإحسان، استحضار القرب بين يديه، والخشية، والخوف، والهيبة منه، والتعظيم له، وبذل الجهد في تصحيح العبادة، وتحسينها وإتمامها، وإكمالها.
ثُمَّ تحدَّث عن الساعة، وبيَّن أنَّه لا يعلم وقت وقوعها، وفيه أن العالم إذا سُئل عن شيء لا يعلمه أن يقول لا أعلمه، وأن ذا لا ينقصه شيئاً، بل هو من ورعه ودينه، لأن فوق كل ذي علم عليم، وقوله: "فأخبرني عن أماراتها؟"، أي: علامات قرب وقوعها.
وقد ذكر في هذا الحديث علامتين، هما:
العلامة الأولى: أن تلد الأمة ربتها، والمراد بربتها: سيدتها ومالكتها، وفي رواية: ربَّها"، وهذه إشارة إلى فتح البلاد، وكثرة جلب الرقيق، حتى تكثر السراري، وتكثر أمهات أولادهن، فتكون الأَمَةُ رقيقةً لسيدها، وأولادها منه بمنزلته، فإن ولد السيد بمنزلة السيد، فيصير ولد الأمة بمنزلة ربها وسيدها.
والعلامة الثانية: أن ترى الحفاة العراة العالة –الفقراء- رِعاءَ الشاء يتطاولون في البنيان، والمراد: أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر أموالهم حتى يتباهوا بطول البنيان وزخرفته وإتقانه.
----------------------
الشرح التفصيلي للحديث
معنى الإسلام:
وهو حديث عظيم جداً، يشتمل على شرح الدين كله، ولهذا قال النبي ﷺ في آخره (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، بعد أن شرح درجة الإسلام، ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان فجعل ذلك كله ديناً، فأما الإسلام فقد فسره النبي ﷺ بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل، وأوّلُ ذلك شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهو عمل اللسان، ثم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
وهي منقسمة إلى عمل بدني كالصلاة والصوم، وإلى عمل مالي وهو إيتاء الزكاة، وإلى ما هو مركب منهما كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك : الاعتمار والغسل من الجنابة وإتمام الوضوء.
وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في مسمى الإسلام، وإنما ذكر ههنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني الإسلام عليها. كما سيأتي شرح ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (بُني الإسلام على خمس) في موضعه إن شاء الله تعالى
وقوله في بعض الروايات: «فإذا فعلت فأنا مسلم ؟ قال: نعم» يدل على أن من أكمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلماً حقًّا، مع أن من أقر بالشهادتين صار مسلمًا حكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام، ومن ترك الشهادتين خرج عن الإسلام. وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء. وكذلك في ترك بقية مباني الإسلام الخمس.
معنى الإيمان في القرآن والسنة:
وأما الإيمان فقد فسره النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقد ذكر الله في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع كقوله تعالى: {ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَبِكَتِهِ وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: ٢٨٥).
وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرِّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَبِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّنَ} (البقرة: ۱۷۷).
لازم الإيمان بالرسل:
والإيمان بالرسل يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من الملائكة، والأنبياء، والكتاب، والبعث والقدر، وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا وغير ذلك من صفات الله، وصفات اليوم الآخر كالميزان والصراط والجنة والنار.
وقد أدخل في الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره. أنه مستأنف لم ولأجل هذه الكلمة روى ابن عمر رضي الله عنهما هذا الحديث محتجا به على من أنكر القدر، وزعم أنَّ الأمرَ أُنف، يعني يسبق به سابق قدرٍ من الله عز وجل، وقد غلظ عبد الله بن عمر عليهم وتبرأ منهم، وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر
درجتا الإيمان بالقدر:
إحداهما: الإيمان بأن الله سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشر، وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.
والدرجة الثانية: أن الله خلق أفعال عباده كلها من الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وشاءها منهم. فهذه الدرجة يثبتها أهل السنة والجماعة ويُنكرها القدرية.
والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية، ونفاها غُلاتُهم، كمعبد الجهني الذي سئل ابن عمر عن مقالته وكعمرو بن عبيد وغيره. وأما من أنكر العلم القديم فنص الشافعي وأحمد على تكفيره، وكذلك غيرهما من أئمة الإسلام.
بين الإيمان والإسلام:
فرق النبي ﷺ في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان. وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارًا شديدًا.
وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولا محدثًا: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران وقتادة، وأيوب السختياني، والنخعي، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم.
وقال الأوزاعي: وكان من مضى من السلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل.
دخول الأعمال في الإيمان:
وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ وَايَتُهُ زَادَهُمْ إِيمَنًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْتَهُمْ يُنفِقُونَ (٣) أَوَلَتَبِك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا هُمْ دَرَجَتُ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (سورة الأنفال ٢-٤ )
وفي الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ: قال لوفد عبد القيس: (آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده، وهل تدرون ما الإيمانُ بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامُ الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاةِ، وصوم رمضان، وأن تُعْطُوا من المغنم الخُمُسَ)
وجه الجمع بين النصوص:
وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل عليه السلام- عن الإسلام والإيمان وتفريق النبي ﷺ بينهما وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه. فإذا قُرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دالا على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها. فهكذا اسم الإسلام والإيمان، إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي.
وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة: قال الإمام أبو بكر الإسماعيلي في رسالته إلى أهل الجبل قال كثير من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض الله على الإنسان أن يفعله.
وإذا ذكر كل اسم على حدته مضمومًا إلى الآخر، فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعًا مفردين، أريد بأحدهما معنى لم يرد به الآخر، وإذا ذكر أحد الاسمين على حدته شمل الكل وعمهم، وقد ذكر هذا المعنى أيضا الخطابي في كتابه معالم السنن وتبعه عليه جماعة من العلماء من بعده.
وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف ، فيقال: إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق، والتحقيق في الفرق بينهما أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته والإسلام هو استسلام العبد الله وخضوعه وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهذا لأن الأعمال تظهر علانية والتصديق في القلب لا يظهر.
لماذا قيل: كل مؤمن مسلم؟ ومن هنا قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم » فإن من حقق الإيمان، ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام كما قال : «ألا وإن في الجسدِ مُضْغَةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فَسَدَتْ فسَد الجسَدُ كله، ألا وهي القلب». فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام.
وليس كل مسلم مؤمنًا، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا فلا يتحقق مع عمل جوارحه بأعمال الإسلام، فيكون مسلماً تحققا تاما ..ه
وليس بمؤمن بالإيمان التام، كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (سورة الحجرات: ١٤).
ولم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين، وهو قول ابن عباس ،وغيره، بل كان إيمانهم ضعيفًا، ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَلِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة الحجرات: ١٤)، يعنى لا ينقصكم من أجورها، فدل على أن معهم من الإيمان ما تُقبل به أعمالهم.
وكذلك قول النبي الله السعد بن أبي وقاص لما قال له: لم تعط فلاناً وهو مؤمن؟ فقال النبي ﷺ: «أو مسلم؟» يشير إلى أنه لم يحقق مقام الإيمان وإنما هو في مقام الإسلام الظاهر.
ولا ريب متی أنه ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضًا. لكن اسم الإيمان ينفى عمن ترك شيئًا من واجباته كما في قوله : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.
وقد اختلف أهل السنة هل يسمى مؤمنًا ناقص الإيمان، أو يقال: ليس بمؤمن لكنه مسلم ؟ على قولين. وأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته، وإنما ينتفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية.
خطورة قضايا الإيمان والكفر:
وهذه المسائل، أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدا، فإن الله عز وجل علق بهذه الأسماء: السعادة والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار. والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم حدث بعد ذلك خلاف المعتزلة، وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
تفسير النبي ﷺ للإحسان:
وقوله في تفسير الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه مشيرًا إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة وهي استحضار قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف، والهيبة والتعظيم، ويوجب أيضًا النصح في العبادة و بذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها ..
وخطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف، فلم يجبه ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا.
تفسير الجملة الثانية في الوصية بالإحسان:
قوله ﷺ: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك): قيل إنه تعليل للأول، فإن العبد إذا أمر بمراقبة الله في العبادة واستحضار قربه من عبده حتى كأن العبد يراه فإنه قد يشق ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله عز وجل يراه ويطلع على سره وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره.
فإذا تحقق هذا المقام سهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيته حتى كأنه يراه. وقيل: بل هو إشارة إلى من شق عليه أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه، فليستحي من نظره إليه كما قال بعض العارفين: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك.
وقال بعضهم: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك.
وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (سورة البقرة: ١٨٦)، وقوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ (سورة الحديد: ٤).
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب، في حال العبادات، كقوله ﷺ للذين رفعوا أصواتهم بالذكر: (إنَّكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعا قريباً).
وقوله ﷺ: (يقولُ الله عز وجل: أنا مع ظن عبدي بي وأنا معه حيثُ ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسِي، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خير منهم، وإن تقرَّبَ مني شبرًا تقربْتُ منه ذراعًا، وإنْ تقرَّبَ مني ذراعًا تقربتُ منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً).
استئثار الله بعلم الساعة:
بقي الكلام على ذكر الساعة من الحديث. فقول جبريل عليه السلام: أخبرني عن الساعة ؟ فقال النبي ﷺ: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. يعني أن علم الخلق كلهم في وقت الساعة سواء. وهذا إشارة إلى أن الله تعالى استأثر بعلمها.
ولهذا جاء أن العالم إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: لا أعلمه، وأن ذا لا ينقصه شيئًا بل هو من ورعه ودينه؛ لأن فوق كل ذي علم عليم. قال الله عز و جل: {يَسْتَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا تُجَلِيهَا لِوَقِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ بَغْتَةً يَسْتَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة الأعراف: ۱۸۷).
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: مفاتيح الغيب خمس لا يعلَمُهنَّ إلا الله ثم قرأ هذه الآية: {نَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية. (سورة لقمان: ٣٤).
أمارات الساعة:
قوله ﷺ: (فأخبرني عن أماراتها) يعني عن علاماتها التي تدل على اقترابها. وقد ذكر النبي ﷺ للساعة علامتين:
الأولى: أن تلد الأمة ربتها و المراد بربتها سيدتها ومالكتها، وهذه إشارة إلى فتح البلاد، وكثرة جلب الرقيق، حتى تكثر السراري و تكثر أولادهن فتكون الأمة رقيقة لسيدها، وأولاده منها بمنزلته، فإن ولد السيد بمنزلة السيد، فيصير ولد الأمة بمنزلة ربها وسيدها
والعلامة الثانية: «أن ترى الحفاة العراة العالة» والمراد بالعالة: الفقراء كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَابِلا فَأَغْنَى} (سورة الضحى: ٨).
وقوله: (رعاء الشاء يتطاولون في البنيان).. والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول البنيان، وزخرفته، وإتقانه.
فإنه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشاء، وهم أهل الجهل والجفاء رءوس الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولوا في البنيان فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا، فإنه إذا رأس الناس من كان فقيرًا عائلاً؛ فصار ملكًا على الناس سواء كان ملكه عاماً أو خاصا في بعض الأشياء، فإنه لا يكاد يعطي الناس حقوقهم بل يستأثر عليهم بما استولى عليه من المال، فقد قال بعض السلف : لأن تمد يدك إلى فم التنين فيقضمها خير لك من أن تمدها إلى يد غني قد عالج الفقر.
وإذا كان مع هذا جاهلًا جافيًا فسد بذلك الدين؛ لأنه لا يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم بل همته في جباية المال واكتنازه ولا يبالي بما فسد من دين الناس ولا بمن ضاع من أهل حاجاتهم. وفي قوله: «يتطاولون في البنيان » دليل على ذم التباهي والتفاخر خصوصًا بالتطاول في البنيان.
ولم يكن إطالة البناء معروفًا في زمن النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم بل كان بنيانهم قصيرًا بقدر الحاجة.
عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقومُ السَّاعةُ حتى يَتَطاولَ النَّاسُ فِي البُنيانِ» (۲).
وقال حريث بن السائب عن الحسن: كنت أدخل بيوت أزواج النبي في خلافة عثمان ، فأتناول سقفها بيدي
ما يستفاد من الحديث
۱ - بيان أركان الإسلام وقواعد الإيمان وحقيقة الإحسان.
٢ - أن الساعة من الغيب الذي اختص الله بعلمه فلا يجوز الخوض فيها. ٣- ينبغي لمن يعلم شيئًا ويعتقد جهل الحاضرين به أن يسأل لتكون الإجابة تعليمًا لهم.
٤ - ينبغي للسائل أن يتأدب بآداب طالب العلم ويجلس جلسة المتلقي.
ه - ينبغي للمسئول أن يتلطف بالسائل ويترفق به ويجيبه بأمانة.
٦- بيان بعض علامات الساعة الصغرى.
٧- قدرة الملائكة على التشكل بصور حسنة.
- أن المسئول إذا لم يكن يعرف الإجابة عليه أن يوضح عدم معرفته ولا يعيبه هذا ، بل العيب والخطر أن يجيب بدون علم وكيفما اتفق. ۹- حرص جبريل عليه السلام على تعليم المسلمين أصول دينهم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق