رسائل الإصلاح
محمد الخضر حسين
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ رسائل الإصلاح هي رسائل إيمانية أدبية، تعبر عن هوية المسلم الحقيقية، وأخلاقه الراقية، بما تضمنته من الأدب النزيه، والمروءة السامية، والعفة الكاملة، وهي انعكاس مضيء لفكر العلامة محمد الخضر حسين، المدرس بكلية أصول الدين، وعضو مجمع اللغة العربية، ورئيس جمعية "الهداية الإسلامية"، وهو رجل جعل عبء الدعوة والإصلاح من أولويات حياته، واستمر في هذا السبيل القويم حتى آخر عمره المبارك.
ولا شك أن هذه الرسائل تستمد حيويتها من منهج الإِسلام، الذي أرشد إلى جميع الأخلاق التي تزدهر بها المدنية، وتستحكم بها عرا السيادة، فإذا ظهر المسلمون بخلق عظيم، فإنما يقتبسونه من حكمة دينهم، وسيرة عظمائهم.
يقول أحمد الشرباصي عن هذا الكتاب: (هو من أمهات الكتب الإسلامية الحديثة التي يجب على كل مسلم يريد أن يصحح عقيدته، وأن يعرف دينه على حقيقته، أن يقرأها مثنى وثلاث.. وسيرى المطالع لكتاب "رسائل الإصلاح" أنه ثمرة لجهاد علمي طويل، بذل فيه صاحبه ما بذل من وقته وجهده وتفكيره)
وكثيراً ما يستشهد المؤلف بآيات الكتاب الحكيم، وسنة النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، مع ما نظمته العرب من الشعر، وما قالته من الأمثال، وما نثرته من الخطب، وما قالته الحكماء والبلغاء من بديع الألفاظ، ومحسنات المعاني، فيضفي على الجمل إشراقات بلاغية رائعة ومثيرة.
وتقع رسائل الإصلاح -والتي بلغت خمسة وثلاثين موضوعاً - في الجزء الثامن من سلسلة الأعمال الكاملة للشيخ العلامة محمد الخضر حسين، المنشورة في مجلة (الهداية الإسلامية)، ومجلة (نور الإسلام)، وأصل هذا الكتاب ثلاثة أجزاء، جمعت فيها الموضوعات والمقالات الكثيرة للشيخ، ولكن رأى الطابع أن يجعل ببعضها تحت أبواب أخرى مناسبة لها، ونبّه على ذلك في المقدمة، وذكر المحقق عند كل مقال مجلته التي صدر فيها.
أولاً المروءة:
المروءة: صيانة النفس عن كل خلق رديء، واتصاف المرء بالسمت الحسن، وحفظ اللسان، وتجنب المجون، وفائدتها: بلوغ النفس كمال الرجولية، أو قربها منها.
* ومن صفات أهل المروءة ما يلي:
١-أن يكون ذا أناة وتؤدة، فلا يطيش في غضب، ولا يُدهش في فرح.
٢-لا يتخذ الظهور والملق والرياء سلماً للوصول إلى مبتغاه.
٣- ألا يفعل في الخفاء ما لو ظهر أمام الناس لذموه عليه، لأن عمل القبيح في السر يعني أن تجنبه في العلانية تصنُّعٌ ورياء.
٤-حفظ اللسان عن ألفاظ أهل الخلاعة والمجون، وعن سفه القول.
ثانياً: الإلحاد أسبابه، طبائعه، مفاسده، أسباب ظهوره، علاجه:
الإلحاد: هو نطق المرء بآرائه الزائعة، من الطعن في وجود الإله الحق، أو في صدق النبوة وحكمة التشريع.
ولعل أبرز الأسباب لنشأة الملحدين، هو: أن ينشأ الشخص في بيت خالٍ من آداب الإسلام، ومبادئ هدايته، ويمكن مقاومة الإلحاد عن طريق رجال الإصلاح، الذين يُبينون للناس حقيقة دينهم، ويمثلون مشعل الهداية والإصلاح في المجتمع.
* ومن أبرز صفات هؤلاء الملحدين:
فرحهم بتهمة عالم كبير بالإلحاد، واستهزاؤهم بالدين، وانهماكهم في الفسوق، وتناقضهم في الأقوال، وإنكارهم المعجزات الكونية، ودسُّهم في الشريعة ما ينافي حكمتها، وإنكارهم العمل بالحديث، وتأويلهم القرآن على حسب أهوائهم، وصداقتهم للمجاهرين بالجحود، وإلحاحُهم في الدعوة إلى حرية الرأي في الدين، وبَسْطُ ألسنتهم في رجال الدين، ودعوتهم إلى الإلحاد، واتباع الشهوات، والانطلاق في الإباحية.
ثالثاً: في مفاسد البغاء:
إن الزنا والبغاء إذا فشا في المجتمع؛ فإنه يفتك بالفضيلة، ويقتلع الحياء من منابته، فلا يبقى في نفس صاحبه ذرة من الحياء، ويلبس وجهه رقعة من الصفاقة، ومن لم يستح، هان عليه ارتكاب ما لا يليق بالإنسانية أن ترتكبه.
ولا شك أن هذه المهنة الوضيعة تذهب بكرامة الفتاة، وتكسوها عاراً لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها.
ولما يحتوي عليه الزنى من المفاسد الكبيرة، حذَّر الدين الحنيف من القرب منه، وسلك في التحذير منه طرقا حكيمة، فحزَم أموراً شأنها أن تكون ذريعة إليه؛ كالاختلاء بالأجنبية، أو النظر إليها نظر شهوة، ووضع له عقوبة رادعة في الدنيا، وتوعَّدَ فاعله بعذاب الهون في الأخرى.
رابعاً: كلمة في المسكرات:
المسكر: هو كل ما أذهب العقل، وجعل المرء تحت تصرف الخيال، فتنبعث إرادتها عن غير تعقل، وتصدر أفعالها في غير حكمة، ولا تزال تنقص من عقل المولع بها شيئاً فشيئاً، حتى يقع في خبال، أو ما يقرب من الخبال.
ومن مفاسد المسكرات: أنها تندفع بالشهوات إلى الفسوق، وهل في إمكانك أن تجد مولعاً بالخمور يحفظ فرجه عن موبقة الزنا، أو ما يشبه الزنا؟ بالإضافة إلى أنها تجعل من يتعاطى المسكر ضعيف الفكر، خفيف العقل، ولا يصل -ولو بعد صحوه -إلى ما يصل إليه أقرانه الأذكياء؛ من آراء سامية، ونتائج صادقة، وإنفاق المال في غير فائدة.
خامساً: الشجاعة:
لا بد للأمة أن تكون عزيزة الجانب، صلبة القناة، وذلك بمقارعة الباطل، ومدافعة الطغيان، وهي قسمان: شجاعة حربية، وشجاعة أدبية.
فبالشجاعة الحربية تحمي الأوطان من مهاجمة الأعداء، ويسود الأمن في البلاد، وبالشجاعة الأدبية يقيم الناس الحق، ويرجعون إلى الصواب.
سادساً: المساواة في الإسلام:
والمراد بالمساواة: أن يكون الناس في عصمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وفي التمتع بكل ما هو حق لهم، على سواء.
والواقع أن عدم المساواة في التنفيذ يعد جناية على التشريع والقضاء؛ حيث يجعلهما عملاً بلا ثمر، وحبراً على ورق، وماذا ينفع تشريع أو قضاء لا نفاذ له؟.
سابعاً: إباءة الضيم وأثرها في سيادة الأمم:
والضَّيْم: الظلم والاضطهاد، وإباءته: كراهته والنفور منه، ولهذا الخالق ارتباط وثيق بعزة النفس، والبطولة، فمن لم يغضب لوقوع الضيم، أو لم يبذل وسعه في التخلص أو الحذر منه، فهو محروم من هذا الخلق المجيد.
ثامناً: عِظَمُ الهمّة:
وإنّا لو أخذنا نبحث عن مفاخر أولئك الذين يلهج التاريخ بأسمائهم، لوجدنا معظم مفاخرهم قائمة على الهمة التي حملوها بين جوانحهم، وساروا بها بين الأنام، وكيف فتحوا لنا طرقاً قيمة للتعرف على هذا العلم، وجعلوه في تجدد ونماء.
تاسعاً: الإسلام والمدنية الحديثة.
إن الإسلام يحث أبناءه على العمل وفق القوانين الأخلاقية العالمية من عدل ووفاء وإحسان ونحو ذلك وهو ما يعرف بالمجد الأخلاقي، بينما المجد القومي فهو سيطرة واستغلال وتسخير للأمم الضعيفة لمصلحة الأمم الكبيرة، ولو اضطرها ذلك إلى إسالة الدماء البريئة، وإذلال الأعزة، ورفع شأن الأذلة، وهذا ليس من الأخلاق في شيء، والسياسي الماهر في المدنية الحديثة هو من استطاع أن يذل الأمم المحكومة ويكبت صوتها، ويعلي من شأن أمته ويظهر سيطرتها
عاشراً: صدق اللهجة
للصدق صورة واحدة، وهي أن تصوغ القول على نحو ما تعتقد، ويكون اعتقادك مطابقاً للواقع، ولا يستقيم لأحد سؤدد، أو يحرز في قلوب الناس مكانة، إلا حيث يهبه الله لساناً صادقاً.
الحادي عشر: فضيلة الإخلاص:
ومدار الإخلاص على أن يكون الباعث على العمل أولاً امتثال أمر الله، ولا حرج على من يطمح بعد هذا إلى شيء آخر، بنعيم الآخرة، أو النجاة من أليم عذابها، بل لا يذهب بالإخلاص -بعد ابتغاء وجه الله -أن يخطر في باله أن للعمل الصالح آثاراً في هذه الحياة؛ كطمأنينة النفس، وأمنها من المخاوف، وصيانتها من مواقف الهون، إلى غير هذا من الخيرات التي تعقب العمل الصالح، ويزداد به إقبال النفوس على الطاعات قوة على قوة.
الثاني عشر: الأمانة في العلم:
الأمانة زينة العلم وروحه الذي يجعله زاكي الثمر، لذيذ المطعم، وإذا قلبت النظر في تراجم رجال العلم، رأيت بين العالم الأمين وقرينه غير الأمين بونًا شاسعًا، ترى الأول في مكانة محفوفة بالوقار، وانتفاع الناس منه في ازدياد، وترى الثاني في منزلة صاغرة، ونفوس طلاب العلم منصرفة عن الأخذ عنه، أو متباطئة.
وقد تقرأ كتاباً، فتراه حافلاً بالمسائل النادرة، فيكبر صاحبه في عينك، ومتى عرفت أنه من المطعون في أمانتهم، شعرت بأن شطرًا من ذلك الإكبار قد ذهب، وخالطك الريب في صحة ما أعجبت به من المسائل الراجعة إلى الرواية.
الثالث عشر: القضاء العادل في الإسلام:
قال ابن عبد السلام يصف القضاة العادلين: "وربما كان بعضهم يحكم على من ولّاه، ولا يقبله إن شهد عنده". ومن القضاة العادلين من تطرح بين يديه قضية يدلي فيها أحد الخصمين بشهادة الخليفة نفسه، فيرد الشهادة في غير مبالاة.
الرابع عشر: الإنصاف الأدبي:
والإنصاف الأدبي من الخصال التي لا ترسخ إلا في نفس نبتت في بيئة صالحة، وارتضعت من ثدي التربية الصحيحة لبناً خالصاً، والجماعة التي تفقد هذا الخلق تفقد جانباً عظيماً من أسباب السعادة، ويدخلها الوهن بعد الوهن، حتى تتفرق أيدي سبأ.
الخامس عشر: العلماء والإصلاح:
ومن أدب العلماء: أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه، وكم من عالِم قام في وجه الباطل، فأوذي فتجلد للأذى، وأجاب داعي التقوى متأسياً بقوله - صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون".
ولا يستحق لقب عالم أو مصلح ذلك الذي يدعو الناس إلى العمل الصالح، ويقبض عنه يده، أو ينهاهم عن العمل السيئ، ولا يصرف عنه وجهه، فمن أدب العلماء: أن يسابقوا الأمة إلى اجتناب ما يُؤاخَذُ به، وعمل ما يحمد عليه؛ كأن ينفقوا في وجوه البر والمشروعات الصالحات ما ينفقه أمثالهم من المكثرين أو المقلين؛ فإن ذلك أدل على إخلاصهم، وأدعى إلى توقيرهم وقبول نصائحهم.
السادس عشر: المدنيَّة الفاضلة في الإسلام
إن الإسلام لم يدع مكرمة إلا نبه على مكانها، وندب على التجمل بحليتها، وقد عُني بمزايا هي أساس رقي الأمة وانتظام حياتها الاجتماعية؛ كالصدق والأمانة، والعفاف، والحلم، والعفو، والتراحم، والعدل، وعزة النفس والشجاعة، وحرية الضمير والإقدام على قول الحق وبذل المال في وجوه البر.
وإذا شاءت الشعوب الإسلامية أن تكون المثل الأعلى للمدنية الفاضلة، ففي استطاعتها أن تتحرى نصائح الدين الحنيف، وفي احترام رؤسائها وزعمائها لأحكام الدين ونصائحه أخْذ بالسياسة الرشيدة، وهي التصرف في شؤون الأمة على مقتضى إرادتها.
السابع عشر: أصول سعادة الأمة:
سعادة الأمة: أن تستنير عقولها، وتسمو أخلاقها، وتغتبط بالنظم التي تساس بها، وترضى عن طريق تطبيقها، وترتاح إلى تنفيذها، وتأمن أن تمتد يد غريبة إلى حق من حقوقها.
الثامن عشر: صدق العزيمة أو قوة الإرادة:
وتنشأ قوة الإرادة من كمال بعض السجايا الأخرى، وبلوغها غاية قصوى؛ كسجية إباءة الضيم تهز الضعيف، وتثير في نفسه العزم على أن يدافع القوي عن حقوقه ما استطاع دفاعه، وكذلك خُلُق الشجاعة يجعل الرجل أمضى عزماً، وأسبق إلى الحروب من الجبان الذي يتمثل له الموت في كل سبيل.
التاسع عشر: الغيرة على الحقائق والمصالح:
الغيرة على الحق من مقتضيات الإيمان به، تقوى بقوته، وتضعف بضعفه، وتفقد حيث لا يكون القلب مؤمناً؛ فلا يجتمع الإيمان بالحق مع موالاة من يحاربه في السر أو العلانية. والغيرة الصادقة: هي التي تنهض بصاحبها إلى مكافحة المبطل أو المفسد، وتقويم عوجه في تثبت وحزم.
وكذلك الغيرة على الحقائق تكون على قدر تفاضلها فيما يترتب عليها من العواقب، فالغيرة الصادقة: أن يتألم الرجل من الجهل على مقام الإلهية، أو الرسالة العظمى أشد مما يتألم للطعن في نفسه، أو في أخ له، أو صديق، ويتألم مسجد، أو إلغاء مدرسة أشد مما يتألم لهدم بيت، أو إهمال حديقة.
العشرون: الشجاعة وأثرها في عظمة الأمم:
والشجاعة، هي: الإقدام في المواطن التي ينبغي فيها الإقدام؛ كمواقف الدفاع عن النفس، أو العرض، أو الدين، أو المستضعفين من الناس. ويكفي في شجاعة الرجل أن لا يعظم في نفسه الخوف حتى يمنعه من الإقدام، أو يرجع به إلى انهزام.
الحادي والعشرون: كبر الهمّة في العلم:
كبر الهمة في العلم، هي: أن تقضي الوقت في درس أو مطالعة أو تحرير، وأن تقتحم في سبيل ذلك المصاعب، وتدافع ما يعترضك من العوائق، وأن تبسط النظر في كل مسألة تصديت لبحثها؛ حتى تنفذ إلى لبابها، وأن تضع يدك في كل علم استطعت إليه طريقاً، ثم تحط رحلك في علم تكون فيه النجم الذي يهتدي به المدلجون، والغيث الذي ينتجعه الظامئون، وكبر همتك في العلم يأبى إلا أن يكون للعلم مظهر، هو: العمل به، والسير على ما يرسمه من الخطط الصالحة في هذه الحياة.
الثاني والعشرون: الدهاء والاستقامة:
إن الغفلة وضعف الفطنة عن نواحي الشر، دينية أو دنيوية، لا تدخل في سلك الكمال، ولا تستدعي مدحًا، وإنما الكمال في اليقظة والكياسة، ولا يصح أن يكون الإيمان - الذي هو أساس استنارة الفكر - سببَ الانخداع لتمويه مبطل، أو مخاتلة ذي مأرب. ولا يعتمد رئيس القوم على القوة يستطيع أن يخمد بها كل فتنة، ويرى أنه في غير حاجة إلى أن ينظر في منابت الفتن بدهاء، فللدهاء مواضع يظهر فيها فضله على القوة، ويحتاج الحكم إلى الدهاء في استبانة الحقوق؛ حيث ترفع إليه الدعاوى مجردة من كل بينة؛ فيستطيع نقد البينات، وتمييز زائفها من صحيحها.
الثالث والعشرون: الانحراف عن الدين علله، آثاره، دواؤه:
حقّ علينا أن نبحث عن علل انحراف هذه النفوس حتى نعرف طريق علاجنا، فنزيح أو نخفف مرضًا لو خلينا سبيله، لسرى إلى نفوس كثيرة، وعاقنا أن نسير إلى السعادة كيف نشاء. وأسباب الانحراف كثيرة، وجماعها: الجهل، والدعايات الباطلة، وأما آثار هذا الانحراف أن هذا الشخص لا يمكث أن ينحط في المآثم، وينبذ الأدب الرفيع والعمل الرشيد.
الرابع والعشرون: ضلالة فصل الدّين عن السّياسة:
ومناسبة هذا المقال هو الرد على بعض العلمانيين الذين كتبوا في ذم التدين، وضرورة فصل الدين عن الدولة، يقول: ما كدنا ننتهي من إماطة أذى ذلك الذي ادعى أنه يفسر القرآن بالقرآن (وهو أبو زيد الدمنهوري)، حتى خرجت إحدى المجلات تحمل مقالاً تحت عنوان: "داء الشرق ودواؤه"، وفي هذا المقال دعاية إلى فصل الدين عن السياسة، وبلغ بكاتبه الحال أن زعم أن سبب تأخر المسلمين عدم فصلهم الدين عن السياسة.
وقد جاء الإسلام بأحكام وأصول قضائية، ووضع في فم السياسة لجاماً من الحكمة، فإنما ينكره من تجاهل القرآن والسنّة، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين؛ إذ كانوا يزنون الحوادث بقسطاس الشريعة، ويرجعون عند الاختلاف إلى كتاب الله، أو سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخامس والعشرون: سماحة الإِسلام في معاملة غير المسلمين:
المخالفون في نظر الإِسلام: محاربون، أو معاهدون، أو أهل ذمة، والمراد: ذمة الله؛ أي: عهده، فهذا الاسم يشعر بأن من مسهم بأذى، فقد خان عهد الله، وعهد دينه الحنيف. ومن رضي من المعاهدين بالإقامة تحت راية الدولة الإِسلامية، فقد قرر لهم الدين من الحقوق ما يكفل لهم حريتهم، ويجعلهم أعضاءً حية مرتبطة بسائر أعضاء الأمة المسلمة ارتباطَ ألفة وعطف وتعاون. توجد هذه الروابط في القرآن والحديث، وآثار الصحابة، وأقوال أهل العلم من بعدهم.
السادس والعشرون: العزّة والتواضع:
تمتاز عزة النفس في الأذهان عن الكبرياء امتياز الصبح من الدجى؛ إذ العزة: ارتفاع النفس عن مواضع المهانة، بينما الكبرياء: استنكاف النفس أن تأتي صالحاً، بتخيل أن ذلك العمل لا يليق بمنزلتها، أو تعظمها عن أن تجامل ذا نفس زاكية بزعم أنه غير كفء لها. ويقابل العزَّةَ: الضِّعةُ، وهي انحدار النفس في هوة المهانة، ويقابل الكبرياء: التواضع، وهو إذعانها للحق، ونظرها إلى ذي النفس الزاكية، أو المستعدة لأن تكون زاكية، نظرَ احترام، أو عطف وإشفاق.
السابع والعشرون: المداراة والمداهنة:
والمداراة ترجع إلى حسن اللقاء، ولين الكلام، وتجنب ما يشعر ببغض أو غضب أو استنكار، إلا في أحوال يكون الإشعار به خيراً من كتمانه. فالمداراة خصلة كريمة، يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء.
بينما المداهنة، إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق من قول باطل، أو عمل مكروه، وأصلها الدِّهان، وهو: الذي يظهر على الشيء، ويستر باطنه. وتضم المداهنة تحت جناحيها: الكذب، وإخلاف الوعد.
الثامن والعشرون: الرفق بالحيوان:
امتنَّ الله تعالى بالأنعام والخيل وما عطف عليها، ونبه على ما فيها من جَمال وزينة، وفي هذا ما يرشد إلى أن يكون الاستمتاع بها في رفق ورعاية؛ فإن إرهاقها، أو قلة القيام على ما تستمد منه حياتها، يجعل نفعها ضئيلًا، ويذهب بما فيها من جَمال وزينة.
التاسع والعشرون: محاكاة المسلمين للأجانب:
إن الحقيقة الماثلة اليوم هي أن الأمة إذا كانت ذات معارف وسطوة، تهافت الناس على محاكاتها في غير تدبر واحتراس، وربما سبقوا إلى ما يعدّ من سقط متاعها، ومستهجن عاداتها، فصبّوا هممهم في تقليدها فيه، فزادوا شعبهم وهناً على وهن، وكانوا كالعثرات تعترضه، فتعوقه عن السير، أو تجعل سيره في الأقل بطيئاً.
الثلاثون: الاجتماع والعزلة:
خُلق البشر لحكمة سامية، هي: عبادة مبدع الكائنات وحده، والعبادات: عقلية؛ كالإيمان بالخالق، وبدنية؛ كالصلاة، ومالية؛ كالزكاة، ومركبة من ماليّ وبدنيّ؛ كالحج والجهاد، فالعبادات لا تقام على وجهها إلا بوسائل هي: صحة الفكر، وسلامة البدن، وذات اليد، ولهذه الوسائل وسائل تسبقها؛ كالزراعة، والصناعة، والتفقه في الدين، وبعض العلوم النظرية؛ كالمنطق، أو الكونية؛ كالطب، وليس في استطاعة الفرد أو الرهط من الناس الاستقلال بهذه الوسائل، فاحتاج الناس بمقتضى فطرتهم وما خلقوا من أجله إلى التعارف والتعاون، ولا تعارف ولا تعاون إلا بالاجتماع.
الحادي والثلاثون: علّة إعراض الشبّان عن الزواج:
وإذا نظرت إلى أن حكمة الله تعالى قد اقتضت بقاء النسل؛ لإقامة الشرائع، وعمران الكون، وإصلاح الأرض، وأن النسل الصالح لا يبقى إلا بالزواج، رأيت كيف كان الزوج وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة أحبّ الله أن تكون، وحبب للناس القيام عليها.
الثاني والثلاثون: النبوغ في العلوم والفنون:
النابغة أو العبقري هو الذي يحدث علماً أو فناً من فنون الأدب لم يكن شيئاً مذكورًا؛ كما صنع الخليل بن أحمد في علم مقاييس الشعر، أو ينقله من قلة إلى كثرة؛ كما صنع عبد القاهر الجرجاني في علم البلاغة، ودون هذه الدرجة درجات، وسموّ كعب العالم أو الأديب في العبقرية على قدر ما يأتي به من أفكار مبتكرة، أو ما يستطيعه من حل المسائل المعضلة.
الثالث والثلاثون: متى تكون الصّراحة فضيلة:
والحقيقة: أن الصراحة التي تعد من خصال الحمد، واقعة بين طرفين مذمومين، فطرف التفريط فيها يرجع إلى علة الجبن، أو الطمع، أو الجهل بما تأتي به الصراحة من خير كثير. وطرف الإفراط فيها يرجع إلى علة العجلة، وقلة التروي فيما تثير بعض الأقوال الصريحة من عداوات خاصة، أو فتن عامة.
الرابع والثلاثون: رسائل الإصلاح:
يقول الكاتب أحمد الشرباصي: إنه مجموعة من المقالات الممتعة التي كان يزين بها الأستاذ الخضر جيد مجلته "الهداية الإسلامية"، والجزء الأول من الكتاب يتحدث عن مسائل الأخلاق والاجتماع، فتقرأ فيه القول الفصل، والكلام الجزل، والحديث المؤيد بكتاب الله وسنّة رسوله، وأقوال السلف الصالح، وتراه يتناول أبحاثًا لها أهميتها، فيجيد في الدراسة والعرض، والاستتتاج والحكم؛ مثل حديثه عن: العلماء والإصلاح، والإنصاف الأدبي، والدهاء والاستقامة، والرفق بالحيوان، والتعاون في الإسلام، والنبوغ في العلوم والفنون، وغير ذلك.
الخامس والثلاثون: المكتبة العربية رسائل الإصلاح:
يقول الشيخ عبد الفتاح مصطفى: زوّد السيد محمد الخضر حسين المكتبة العربية بكتابه: "رسائل الإصلاح" الذي صدر الجزء الأول والثالث منه في الأخلاق والاجتماع، تناول فيه كثيراً من المسائل الحيوية التي تتصل بحياة الإنسان اتصالًا وثيقًا، وبحثها بحثًا منطقيًا غيرَ متعصب لآراء السابقين، أو مشايم فيها جنوح المجددين المندفعين، وإنما سار فيها مستضيئاً بنور اليقين، وكتاب الله وسنّة سيد المرسلين، فجاعت البحوث آية من آيات البيان، دالّة على صدق إخلاصه لرسالته، وإيمانه بدعوته، معتمداً على الله في سبيل نجاح غايته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق