أدب الطلب ومنتهى الأرب
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/هذا الكتاب الموسوم بـ(أدب الطلب ومنتهى الأرب)، هو أحد أهم مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني (ت ١٢٥٠ هـ)، وعلى الرغم من صغر حجمه إلا أنه – يفصح عن شخصية الإمام الشوكاني كعالم موسوعي ومجتهد مستقل، ومجدّد مبدع يتمتع بموهبة فذة، وبمقدرة كبيرة على العطاء، لأنه نابع من خلاصة تجربته الفكرية والعلمية الثرية؛ كطالب ومدرس وقاض ومجتهد، ومعبّر عن تطلعاته ونزعته التجديدية والإصلاحية.
وقد جمع الشوكاني في هذا الكتاب ما ينبغي لطالب العلم اعتماده في طلبه، في خطة دراسية متدرجة في أربعة مستويات، لأكثر من اثنين وعشرين علماً، وبين فيه ما يشرع به من العلوم ويتدرج به، حتى يبلغ مراده، على وجهٍ يجتني به الثمرة، التي أولها الفكر وآخر العمل، وقد جعله في فوائد ومطالب ومباحث يقرر فيها هذه الآداب بأسلوبه العذب الرائق.
وما ينبغي له التحلي به في أثناء دراسته، من الإخلاص، والإنصاف، والصدق، وعدم التعصب، وقد أطال الحديث عن ذم التعصب المذهبي، وضرورة التجرد والإنصاف، وعرّج على أهم الأسباب المؤدية إلى التعصب، والتي أوصلها إلى واحد وعشرين سبباً، ثم مظاهر هذا التعصب في التلاميذ والشيوخ، ونماذج عن ذلك، وختم ببعض الأمور التي أثرت في دين الإسلام، منها: تعدد المذاهب، والاعتقادات الفاسدة في الأموات، والاعتقادات الفاسدة في بعض أصحاب التصوف.
وقد صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عن مركز الدراسات والبحوث اليمنية بصنعاء عام (۱۹۹۷)، بتحقيق الأستاذ عبد الله بن محمد الحبشي، وقد حظي الكتاب بعد صدوره باهتمام الأوساط العلمية والثقافية داخل اليمن وخارجه، فقد تناول الكتاب عدد من المفكرين بالعرض والتحليل، ومن أبرزهم: الأستاذ الدكتور عبد العزيز المقالح الذي كتب عنه عدة مقالات نشرت بصحيفة (١٣ يونيو) (٢٦ سبتمبر حالياً)، وأعاد جمعها ونشرها في كتابه القيم: «قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة»، والدكتور محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة «العربي» في مقاله الافتتاحي بمجلة العربي (العدد ٢٩٥ يونيو ۱۹۸۳م) بعنوان: «الحكمة يمانية»، والدكتور سعيد إسماعيل علي بعنوان: «أدب البحث العلمي عند الإمام الشوكاني» نشرته مجلة «الأمة» الصادرة عن رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، في عددها رقم (۷۲) لشهر ١٩٨٦/٨م.
وقد أصبح هذا الكتاب منذ صدوره مصدرًا مهمًا – لا غنى عنه – للباحثين المهتمين بشخصية الإمام الشوكاني وفكره، وشكل المادة الرئيسية لدراستين علميتين عن الفكر التربوي عند الشوكاني: (الأولى) مقدمة من الدكتور عبد الغني قاسم الشرحبي لنيل درجة الدكتوراه بعنوان «الإمام الشوكاني تربوياً»، و(الثانية) مقدمة من الباحث صالح محمد صغير مقبل لنيل درجة الماجستير بعنوان: «محمد بن علي الشوكاني وجهوده التربوية».
ولكن تلك الطبعة السالفة الذكر - لهذا الكتاب «أدب الطلب ومنتهى الأرب» كانت الأسف - مليئة بالأخطاء المطبعية، بالإضافة إلى أن النسخة الرئيسية التي اعتمد عليها المحقق كانت غير دقيقة، وفيها الكثير من التصحيف والسقط (سقطت من الناسخ كلمات كثيرة وأحيانًا أسطر وفقرات بكاملها).
يقول المحقق: ((وكم كنت أتمنى - منذ قراءتي الأولى للكتاب بعد صدوره – لو أعيد النظر في تحقيق وإخراج الكتاب بصورة أفضل، تتناسب مع أهمية الكتاب وقيمته العلمية، وظلت هذه الفكرة تُلِحُ عليَّ كلما رجعت إليه للاستعانة به في بعض أبحاثي.
وقد حققت لي الأيام هذه الأمنية، وأن أتولى هذه المهمة بنفسي بعدما سمح لي زميلي وصديقي الأستاذ عبد الله بن محمد الحبشي بالقيام بهذا العبء، إذ كنت قد طرحت عليه فكرة إعادة تحقيق ونشر الكتاب، باعتباره قد حقق النشرة الأولى، فأخبرني بأنه مهتم فعلاً بذلك، وأنه ينوي القيام به منذ عدة سنوات، وخاصة بعد أن الحصول على نسخة مصورة للمخطوطة الأصلية للكتاب بقلم المصنف محمد بن علي الشوكاني نفسه، والمحفوظة بمكتبة الأوقاف بالجامع الكبير بصنعاء (انظر وصف المخطوطة في خاتمة الدراسة)، إلا أن انشغاله المستمر بالتنقيب عن التراث اليمني وتحقيق ونشر المهم منه قد حال دون ذلك.
ولهذا فقد اقترح علي بعدما لمس تحمسي للفكرة أن أتولى تنفيذها بنفسي، وزودني مشكورًا بالنسخة المصورة لمخطوطة الكتاب الأصلية، فشجعني ذلك على قبول هذا الاقتراح، فأقدمت مستعينًا بالله على خوض أول تجربة لي في ميدان التحقيق، وبذلت جهدي لكي تخرج هذه النشرة على الصورة التي أطمح إليها، وأرجو أن أكون قد وفقت إلى ذلك، أسأل الله أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل)).
________________________________________
تقدمة
بقلم: إبراهيم السامرائي
وهذا الكتاب للإمام الشوكاني قد خفي أمره وطوي خبره عن كثير من الدرس. وهو كتاب يأتي في آخر سلسلة من كتب المعرفة التربوية التاريخية التي سآتي على طرف منها في هذا الموجز.
٢- تمهيد لغوي وتاريخي عن مصطلح « أدب الطلب»:
لقد عرف أهل عصرنا عبارات جديدة مولّدة هي: «تاريخ الأدب الجاهلي»، و«تاريخ الأدب الإسلامي» و«تاريخ الأدب العباسي»، وهذا كان دأبهم حتى عصرنا هذا الذي كتب كثير في «تاريخ الأدب» الذي وصفوه بالحديث والمعاصر والقصصي ونحو هذا.
وقد تجد «تاريخ الأدب الأندلسي» منسوبًا إلى الأندلس، وكذلك نسبوا إلى الأقاليم فقالوا: «تاريخ الأدب المغربي» ومثله التونسي والمصري والشامي والعراقي.
أقول: وهذا كله مأخوذ مما وجدناه لدى الغربيين Histoire de literature. وأعود إلى «الأدب» في كتاب الإمام الشوكاني فأجده غير هذا الذي قصره أهل عصرنا على حديث الشعر والنثر وما يتصل بهما من قريب أو بعيد.
إن «الأدب» في كتاب الإمام الشوكاني قد أضيف إلى «الطلب»، و«الطلب» هنا هو «التعلم» الذي يضطلع به «طالبه»، وهو المتلقي للعلم من الشيخ المعلم هنا كان هذا كله في «الكتاب» و «الطالب» عملاً بل صنعة «تربوية».
ويكون «الأدب» في هذا: ما يلزم الطالب من مواد وطرائق يصل فيها إلى مراده، وعلى هذا فلنا أن نعدّ الأدب «الصنعة الخاصة التربوية» التي يأخذ بها من الأستاذ، ومن «الطالب» نفسه. وهذه «الصنعة الخاصة» تقتضيه نظامًا ورسومًا يلتزم بها للوصول إلى ما يريد.
فهل كان الإمام الشوكاني أوّل من بدأ هذا المصطلح الذي لا يمت بوشيجة من رحم إلى الشعر والنثر وما يتصل بهما؟ والجواب عن هذا أن الشوكاني درج على ما درج عليه المتقدمون من أهل العلم الذين ذهبوا إلى هذا المصطلح، وكأن هؤلاء جميعاً قد أفادوا من الأثر الشريف وهو قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «أدبني ربّي فأحسن تأديبي».
والفعل «أدب» ومصدره «التأديب» في قول الرسول – صلوات الله وسلامه عليه- يتجاوزان ما هو مندرج في الصنعة «التربوية إلى معنى «التهذيب»
وكأنَّ هذه الدلالة هي التي بقيت لنا نحن أهل هذا العصر، حين نقول: «إن الرجل مؤدب»، أي أنه على جانب من الخلق الكريم، وحين نقول «الآداب العامة» ونحو هذا مما يقال في عربيتنا المعاصرة وفي الألسن الدارجة.
ولم يرد شيء من مادة «أدب» في لغة التنزيل العزيز. وأعود إلى ما كان لدى المتقدمين فأجد لابن قتيبة من اللغويين السابقين كتابًا «أدب الكاتب».
و«أدب الكاتب» هذا من كتب التعليم والتقويم، وملاك الأمر فيه أن حبسه على ما يقتضي الكاتب في سلوكه لصنعة الكتاب و«التقويم» وما يكون من تقويم اللسان والقلم، ومعرفة الصحيح والصواب والمعدول عن الصحة والصواب، وتزويد طالب العلم ليصل إلى صنعة «الكتابة» بالأصول والقواعد والضبط وبسط الأمثلة والنماذج من فصيح العربية أمام هذا المتعلم الجاد.
وكأن هذا الكتاب الذي صنفه ابن قتيبة قد وجد مكانه لدى أهل العلم، ولذلك عده ابن خلدون من الكتب الأساسية في ثقافة الدارسين. وقد أشار إلى هذا في «المقدمة».
ولقد تصدى لهذا الكتاب الجليل اللغوي الأندلسي ابن السيد البطليوسي فشرحه وأضاف وضبط ما كان فيه من أقوال، فكان له «الاقتضاب في شرح أدب الكتاب».
لقد كان لعلماء العربية نصيبهم في هذه الصنعة التربوية، وكتاب «إصلاح المنطق» لابن السكيت شيء من هذا، ذلك أن «الإصلاح» يعني ما نقول في عصرنا من «تصليح»، وهو مرادف أو قريب من «تصحيح».
ولأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب كتاب «الفصيح»، وهو كتاب قصد إليه في هذه الصنعة التربوية». وكأن من خلف أبا العباس قد تصدوا لهذا الكتاب فشرحوه وبينوا ما كان لهم عليه من اعتراضات فجاء إلينا من هذا كله جملة كتب في «شرح الفصيح» لابن السيد البطليوسي ولآخرين. وكان «من الفصيح» لابن درستويه.
وأعود إلى مصطلح «الأدب» فأجد فيه مما ورثنا كتاب «أدب الدنيا والدين»، وهو في هذه الصنعة الخاصة، كما أجد كتاب «أدب العالم والمتعلم»، وهو فيما ينبغي للعالم وللمتعلم معرفته والإحاطة به.
ثم آتي إلى «أدب الكتاب» للصولي الذي حبسه على حاجة من: تصدى لصنعة الكتابة في الدواوين وغيرها، فكان له في أدوات الكتابة من القلم والدواة والقرطاس مادة مفيدة إلى غير ذلك من الفوائد التي لا غنى لطالب هذه الصنعة عنها.
وأنت واجد في كتاب «لباب الآداب» لأسامة بن منقذ فوائد تتصل بـمـا نحن فيه. على أننا لا نعدم أن نجد من استعمل «الأدب» و«الآداب» وأراد بهما صنعة الشعر والنثر والشاعر والناثر، ومن هذا كتاب «زهر الآداب» للحصري القيرواني، وكتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» لضياء الدين ابن الأثير.
على أننا نجد لابن السمعاني كتابًا في «أدب الإملاء والاستملاء»، يعرض فيه لقواعد الرواية وطرائقها وشروطها، وهذا يدخل في هذه الصنعة التعليمية.
ومن المفيد أن أشير إلى أن مادة «أدب» التي انصرفت إلى العملية التربوية وما يتصل بها من «تهذيب وتقويم»، قد احتملت شيئًا لوازم المؤدّب أن يعرف وسائل ضبط التلميذ أو الطالب بغية تقويمه، ومن هذه الوسائل العقوبة على اختلاف وجهة النظر إليها.
ومن هنا كان وما يزال معنى العقاب معروفًا في كلمة «أدب» في لغة المربين. ويحسن بي أن أشير هنا إلى مصطلح آخر أخذ من مصطلح «الأدب» بعض الشيء، وهو مصطلح «سياسة». أقول: ربما ضاق أهل هذا العصر في هذا المصطلح فقصروه على سلوك وتطبيق ولاة الأمر من الرؤساء والملوك وغيرهم في المسائل التي تخص الدول، وعلاقة الدولة بغيرها من الدول.
إن مصطلح «السياسة» قد بدأ مستعارًا من سياسة الخيل» على يد السائس المروّض إلى سياسة الصبي وتقويمه وتربيته وكان من هذا الكتاب «سياسة الصبيان» للونشريسي. على أننا لا نعدم أن نجد شيئًا من معناها المعاصر في بعض ما ورثناه من مصادر التاريخ.
أقول: هذه نبذة يسيرة دعاني إليها وحفزني كتاب «أدب الطلب» للإمام الشوكاني.
________________________________________
تقدمة المحقق
يرى المفكر والأديب العربي الأستاذ محمود محمد شاكر، أن التاريخ الحقيقي لـ «عصر النهضة أو اليقظة العربية الإسلامية»، يقع بين منتصف القرن الحادي عشر الهجري إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري (منتصف القرن السابع عشر إلى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي)، وهي المرحلة التي شهدت ظهور عدد من العلماء والمفكرين الذين أحسوا بالخطر المحدق بأمتهم وبوطأة التخلف والجمود وخطره الماحق على الأمة، فحملوا على عاتقهم مهمة إيقاظ الجماهير «المستغرقة في غفوتها، وأرادوا أن يدخلوا الأمة في عصر النهضة»، نهضة دار الإسلام من الوهن والنوم والجهالة والغفلة عن إرث أسلافهم العظام، فسعوا إلى إصلاح الخلل الواقع في دار الإسلام «خلل اللغة» و«خلل العقيدة» و«خلل علوم الدين» و«خلل علوم الحضارة».
وحدَّد الأستاذ محمود شاكر خمسة من أبرز أعلام حركة التجديد والإصلاح، وهم:
١. عبد القادر بن عمر البغدادي (١٠٣٠- ۱۰۹۳هـ) «صاحب خزانة الأدب» في مصر الذي قصد بمؤلفاته ليرد على الأمة قدرتها على التذوق، تذوق اللغة والشعر والأدب وعلوم العربية.
٢. حسن بن إبراهيم الجبرتي العقيلي «الجبرتي الكبير» (١١١٠ هـ) العالم والفقيه الحنفي البارز الذي اتجه منذ عام ( ١١٤٤ هـ إلى - ۱۱۸۸ هـ) حيث كانت سر «العلوم» التي كانت مستغلقة على أهل زمانه كالهندسة والكيمياء والفلك والصنائع الحضارية كلها، حتى النجارة والحدادة، إلخ. فجمع كتبها من كل مكان وحرص على لقاء من يعلم ألفاظها ورموزها، وعكف على دراستها عشر سنوات حتى امتلك ناصيتها، فصار إمامًا عالماً في أكثر الصناعات ولجأ إليه مهرة الصناع من كل صناعة يستفيدون من علمه، ووفد عليه الطلاب من «الإفرنج» وتعلموا منه.
٣. محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي (١١١٥ - ١٢٠٦ هـ)، في جزيرة العرب الذي هب يكافح البدع والعقائد التي تخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد.
٤. المرتضى الزبيدي «صاحب تاج العروس» (١١٤٥ ١٢٠٥ هـ) في الهند ومصر، الذي بعث التراث اللغوي والديني وعلوم العربية وعلوم الإسلام، ويُحيى ما كاد يخفى على الناس بمؤلفاته ومجالسه.
٥. محمد بن علي الشوكاني الزيدي (١١٧٣ - ١٢٥٠ هـ) في اليمن، الذي دعا إلى «الاجتهاد» وحرّم «التقليد» في الدّين، وحطّم الفرقة والتنابذ الذي أدى إليه اختلاف الفرق العصبية.
وقد أردنا باقتباس الفقرة السابقة – الطويلة نسبياً للأستاذ محمود شاکر التوصل:
أولاً إلى تحديد مرحلة عصر النهضة العربية الإسلامية، وأنها تقع (بين منتصف القرن الحادي عشر الهجري ومنتصف القرن الثالث عشر الهجري)، وموقع الشوكاني فيها.
ثانياً: ونحن نشاطر الأستاذ شاكر الرأي بأن تلك الحركة، وتلك المرحلة، تمثل مرحلة «يقظة حقيقية»، و«نهضة عربية وإسلامية صحيحة».
وفي رأينا أنه لو قُدّر لتلك الحركة التواصل والاستمرار ورافقها إصلاح وتجديد في الفكر السياسي الإسلامي ونظام الحكم لنتج عنها نهضة قوية شاملة وراسخة، وذلك لأنها كانت تهدف إلى إحياء وتجديد علم الأمة ولغتها وثقافتها التي أصيبت بالركود والشلل عقب إغلاق باب الاجتهاد، وشيوع ظاهرة الرأي الواحد، الذي أفرزته ظاهرة الحكم الفردي والاستبداد السياسي، بعد تحول الخلافة إلى ملك.
ولأنها سعت إلى تحرير العقول من أسر التقليد والجمود والمحاكاة؛ لكي يسترد العقل العربي والإسلامي مقدرته على التفكير والإبداع، ومن ثم امتلاكه القدرة على اكتشاف السنن والأسباب الكامنة وراء تقدم وازدهار الشعوب والأمم أو انحطاطها، والتعامل معها بقدر أكبر من الثقة بالنفس كأساس لاستعادة وامتلاك الأمة لأسباب حضارتها ومقومات رقيها وازدهارها.
ولأن أفكارها مستمدة من الينابيع الجوهرية والنقية للفكر العربي الإسلامي، كونها نابعة من ذات الأمة، ومرتبطة بهويتها وتراثها ومرجعيتها الفكرية والحضارية، وليست مستعارة من خارجها كما أعقبت الحملة مع التي الفرنسية على مصر عام (۱۲۱۳هـ - ۱۷۹۸م) التي مهدت لظهور تيار التغريب الداعي إلى تبني النموذج الحضاري الغربي، بدلاً من النموذج الحضاري العربي الإسلامي، ولم يكن المشروع الحضاري الغربي الذي بشر به ذلك التيار التغريبي سوى محاولة للانفصال عن الموروث، وقطع حبال التواصل الحضاري، والاستقلال عن المحيط العربي الإسلامي واستبدال النموذج الغربي بدلاً من المنابع الحضارية الإسلامية، والوطنية القطرية بدلاً من الجامعة الإسلامية، ويهدف في النهاية إلى ترسيخ التبعية والارتهان الثقافي والاستلاب الحضاري.
وإذا كان الشوكاني - كما مرَّ بنا - أحد رواد وأعلام حركة النهضة العربية الإسلامية في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، إلا أنه لم يكن هو المجدّد الوحيد الذي أنجبته اليمن خلال مرحلة «عصر النهضة» (من منتصف القرن الحادي عشر - منتصف القرن الثالث عشر الهجري)، بل كان امتدادًا لكوكبة عظيمة من المصلحين والمجددين (علماء وأدباء ومؤرخين) الذين ظهروا في اليمن خلال هذه الحقبة، وكان لهم دور كبير في إثراء الحركة الفكرية في اليمن بمؤلفاتهم الكثيرة التي تزخر بها الخزائن والمكتبات اليمنية في جميع الفنون.
وشهدت اليمن بفضل جهودهم نهضة علمية كبرى بحيث كانت هذه المرحلة «من أخصب فترات الازدهار الفكري والثقافي في اليمن. وقد كرس هؤلاء الرواد جهودهم وفكرهم من خلال التأليف، أو التدريس؛ لإشاعة هذه النزعة العلمية والتحررية في بيئتهم التي غلب عليها طابع التقليد والتعصب، إذ دعوا إلى نبذ التقليد وإلى انتهاج مبدأ الاجتهاد القائم على إعمال العقل وتمحيص الأفكار السابقة وغربلتها، وقد لقيت جهودهم وأفكارهم مقاومة شديدة من قبل أولئك المتعصبين الذي شنّوا ضدهم حملات دعائية واسعة وأذاقوهم ألوانًا من القهر والاضطهاد.
ومن أبرز أولئك العلماء والمجددين الذين نبغوا في مجال الفكر الإسلامي» بخاصة:
١- الحسن بن أحمد الجلال (ت ١٠٨٤ هـ).
٢- يحيى بن الحسين بن القاسم (ت ۱۰۹۹ هـ) تقريبًا.
٣- صالح بن مهدي المقبلي (ت ۱۱۰۸ هـ).
٤-محمد بن إسماعيل الأمير (ت ١١٨٢ هـ).
ويعد هؤلاء العلماء في طليعة المجتهدين المرحلة – الذين تحرروا من ربقة التقليد والتعصب المذهبي، وتحلو بروح الإنصاف (الموضوعية وبالمقدرة على الابتكار والتجديد وعلى إعادة صياغة الفكر الإسلامي، وتنقيته مما علق به من البدع والخرافات أثناء عصور الانحطاط)، فكانوا بأفكارهم مدرسة أو مدارس تتخطى عصر كل منهم».
كما كان لفكرهم ومنهجهم التحرري أثر واضح على شخصية الشوكاني وفكره، فقد مهدوا له الساحة بأفكارهم المستنيرة، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها أولئك المصلحون والمجددون، إلا أن أفكارهم وآراءهم التحررية والإصلاحية لم يُقدر لها أن تنتشر وتأتي بالثمار المرجوة منها، ويمكن إرجاع ذلك من وجهة نظرنا لعدة أسباب:
١. انحصار فكر أولئك الرواد، داخل اليمن وعدم انتشاره خارجها، بسبب موقع اليمن الجغرافي، وبعده عن مركز الثقل والتأثير في المحيط العربي والإسلامي، ولعزلتها الفكرية والسياسية، فظلت كتبهم حبيسة الخزائن والمكتبات اليمنية، ولم تنشر خارج اليمن وعلى نطاق واسع إلا مطلع هذا القرن على يد الشيخ محمد رشيد رضا.
٢. المقاومة العنيفة – في الداخل -التي واجهت ذلك الفكر، كما واجهت دعاته والمبشرين به من قبل المتعصبين وأنصار التقليد الذين كانت لهم سطوة ونفوذ واسع في المجتمع، ووقوف السلطة - غالبًا -إلى جانبهم، أو تحالفها معهم بهدف تأمين مصالح كلا الفريقين واستمرار سيطرتهما وسيادتهما التي لا يمكن استمرارها إلا بالإبقاء على الأوضاع السائدة (المتخلفة) وركود العلاقات الاجتماعية، فقد كانوا يرون في كل نزعة إصلاحية أو عقلية خطرا عليهم، وتهديداً لنفوذهم ومصالحهم، لذلك فقد قام المتعصبون بشن حملة دعائية مضادة لذلك الفكر الإصلاحي بهدف تشويهه في أذهان الناس وتنفيرهم عنه، وأيضًا بغية تقليصه والحد من انتشاره بفرض ما يشبه الحصار على ذلك الفكر، ورافق ذلك حملة من الإرهاب الفكري والمادي ضد هؤلاء النفر من المجتهدين.
٣. كما كان لتردي الأحوال السياسية انعكاساتها السلبية على الأوضاع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية بعامة، وعلى الحياة الفكرية بشكل خاص، فلم يتهيأ لليمن خلال هذه المرحلة – مرحلة عصر النهضة - أن تنعم بالسلام والعدل والاستقرار سوى فترات قصيرة متقطعة حتى تعود بعدها الفتن والثورات والحروب إلى الاندلاع من جديد، مع ما يترتب عليها من شيوع الاضطراب والفوضى.
وإنما كان غياب الأمن والاستقرار بفعل عوامل وأسباب كثيرة نذكر منها:
أ - الصراع على السلطة :
والصراع على السلطة بعد خروج العثمانيين من اليمن عام (١٠٤٥ هـ)، واستكمال وحدتها في عهد المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم: حكم اليمن من (١٠٥٤- ١٠٨٧هـ)، لم يستقر الوضع في اليمن بعد وفاته إلا فترة قصيرة دب بعدها التنافس والصراع على أفراد الأسرة القاسمية الحاكمة، فأدى الحال بهم إما إلى الاقتتال حتى يستسلم الضعيف للقوي، أو إلى اقتسام المناطق والمصالح مع من قد يعترفون آخر الأمر بسلطته الاسمية.
كما حدث على سبيل المثال، بعد عام ١١٢٧ هـ مع المنصور الحسين بن القاسم الشهاري (ت ۱۱۳۱ هـ)، الذي لم يبق في حوزته إلا مخلاف شهارة وكحلان والسودة والشرفين بعد أن اتفق مع أربعة من منافسيه من أبناء عمومته على تقسيم مناطق اليمن فيما بينهم.
وقد وصلت حدة التنافس والصراع داخل الأسرة الحاكمة إلى الاقتتال بين الأبناء والآباء، كما حدث من خروج المنصور الحسين بن القاسم (ت ١١٦١ هـ) على والده الإمام المتوكل، القاسم بن الحسين بن أحمد بن الحسن (ت ۱۱۳۹ هـ)، وقد سعى في الصلح بينهما محمد بن إسماعيل الأمير).
وخروج المتوكل أحمد بن علي (ت ١٢٣١هـ) على والده المنصور علي بن المهدي (ت ١٢٢٤ هـ واستأثر بالسلطة دونه، وقد تدخل في الصلح بينهما الإمام الشوكاني على أن يتسلم الابن السلطة الفعلية من أبيه.
ب -قد لا تتحقق في بعض الأئمة أهليته للحكم بحسب شروط وقواعد الإمامة في الفكر السياسي الزيدي، وغالبًا ما يكون وصول مثل هذا الشخص إلى الحكم بطريق القهر والغلبة وليس بطريق العقد والاختيار، فيسرف في الظلم والاستبداد مما يتسبب في اندلاع حركات المقاومة والثورة ضد حكمه.
ج- محاولات القوى الخارجية السيطرة على اليمن، إذا حاولت الحركة الوهابية مد نفوذها ونشر دعوتها في اليمن فاحتلت المخلاف السليماني وزبيد وحيس عام ١٢١٧ هـ، ثم واصلت زحفها حتى استولت على جزء كبير من الحديدة ، ومنذ عام ١٢٤٨ هـ فقد الأئمة سيطرتهم على عدن، واستقل بحكمها سلطان لحج، ثم احتلها الانجليز عام ١٢٥٤ هـ / ١٨٣٩م، ثم شهدت اليمن عودة الأتراك إلى السواحل اليمنية عام ١٢٦٥ هـ، وتمكنوا من الاستيلاء على صنعاء بعد عقدين من الزمان.
كما أن هناك سببًا آخر لا يقل أهمية عما سبق، وهو عدم انتشار التعليم على نطاق واسع في صفوف الشعب، وتمركزه في بعض المدن كصنعاء، وصعدة، وذمار، وشهارة، وكوكبان، وزبيد وانحصار التعليم في هذه المدن في بعض الأسر والبيوتات التي تتوارث احتكار التعليم واحتكار وظائف الدولة.
كما أن نظام التعليم في العالم الإسلامي بعد ظهور التجزئة السياسية وظهور الدويلات المتعددة قد ارتبط بالدولة، بغرض إعداد العناصر الكافية من المتعلمين لتسيير وظائف وأجهزة الدولة، وأيضا للسيطرة على مناهج التعليم بحيث تتضمن تلك المناهج، غرس الولاء والطاعة في نفوس أولئك المتعلمين لتلك الدولة والتزامهم بنهجها السياسي وفكرها المذهبي ... الخ.
ونتج عن ذلك ارتباط مصلحة «النخبة» المتعلمة بالدولة، ووفّر للسلطة فرصة استيعابهم وإخضاعهم لخدمة مقاصدها، كما سهل لها أيضًا إمكانية قمع تلك النخبة إذا تعارضت غاياتها مع غاية السلطة. مما أدى إلى عزل تلك «النخبة» وانفصالها عن الحياة العامة والواقع والمجتمع الذي تنتشر في صفوفه الأمية والجهل والخرافة، فهي أي (النخبة مشغولة إما بمصالحها الخاصة مثل تولي الوظائف العاملة في الدولة، أو التدريس أو الإفتاء .. أو بعكوفها في مجالسها الخاصة، أو مجالس العلم على البحث والنقاش في مسائل تاريخية أو أدبية، أو مقولات نظرية عقيمة لا صلة لها بالواقع ولا ينتج عنها سوى المزيد من الجدل العقيم غير المتناهي.
________________________________________
مؤلف هذا الكتاب
هو شيخ الإسلام القاضي محمد بن علي الشوكاني (۱۱۷۳ - ١٢٥٠ هـ) العالم الموسوعي المجتهد والمجدد، والمفسر والمحدث، والفقيه، والأصولي والمؤرخ، والأديب والشاعر، والمحقق والناقد والفيلسوف .. إلخ.
فهو كما نرى من الأوصاف السابقة التي أطلقها مترجموه وتؤكدها مؤلفاته الكثيرة في كل هذه الفنون أحد أعلام الفكر الإسلامي المعروفين في العصر أشهر من أن نترجم له أو نُعَرِّف به في هذه العجالة، فقد ترجم المؤلف رحمه الله – لنفسه في كتابه البدر الطالع ٢١٤/٢ - ٢٢٥ ترجمة وافية الحديث، وهو مفيدة.
كما أن كتاب البدر الطالع - بالإضافة إلى تلك الترجمة – قد حوى صورًا متعددة من حياته الشخصية وتجاربه وعلاقته الاجتماعية، ذكرها في معرض تراجمه لشيوخه وزملائه وعلماء وقادة عصره، لا تقل أهمية عما ذكره في ترجمته لنفسه.
وقد حظيت شخصية الشوكاني وأعماله - ولا تزال حتى الآن – باهتمام واسع سواء أثناء حياته أو بعد وفاته؛ فكان بذلك أول عالم يمني تحظى شخصيته بقسط وافر من التقدير والاهتمام.
كما ترجم له العديد من زملائه وتلاميذه ومعاصريه نذكر منهم: تلميذه محمد بن الحسن الشجني الزماري، الذي أفرد له كتابا مستقلاً ترجم فيه لحياته وشيوخه وتلاميذه، أسماه «التقصار في جيد زمان علامة الأقاليم والأمصار شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني»، وقد نشر الكتاب بتحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع عام ۱۹۹۰م. وترجم له تلميذه لطف الله بن أحمد جحاف في كتابه «درر نحور الحور العين ...». وترجم له الحسن بن الضمدي في كتابه «حديقة الزهر في تراجم القرن الثالث عشر»، وإبراهيم بن أحمد عاكش أحمد الحوثي في «نفحات العنبر لفضلاء اليمن في القرن الثالث عشر« وغيرهم.
كما نُشر عن الشوكاني، أو عن جوانب من شخصيته وفكره أكثر من بحث علمي ورسالة جامعية (ستأتي فيما بعد)، وأيضًا فإنه لا يخلو أي من كتبه المطبوعة كتبه المطبوعة – وخاصة المحققة منها -من ترجمة مستفيضة له، وقد انعقدت في صنعاء في الفترة من ١٧- ۱۹ فبراير ۱۹۹۰م ندوة عن الإمام الشوكاني، اشترك فيها مجموعة من الباحثين بأبحاث متعددة تناولت مختلف جوانب حياة الشوكاني وفكره.
ولذلك فإننا سنقتصر هنا على الإشارة إلى بعض ملامح شخصية الشوكاني، والتي لها علاقة مباشرة بموضوع هذا الكتاب:
-ذكاؤه وتعدد مواهبه:
أسهمت في تكوين شخصية الشوكاني وفي تكوينه النفسي والفكري عوامل عديدة، فبالإضافة إلى طموحه وحبه للعلم والجد في تحصيله بهمة عالية وعزيمة قوية؛ فقد كان من أهم تلك العوامل: ذكاؤه الحاد، وتعدد مواهبه واهتماماته، وقد تجلى ذلك في مقدرته وسرعة استيعابه للكثير من العلوم والمعارف العامة في وقت قصير وفي مرحلة مبكرة من عمره، فأثناء تلقيه لتعليمه الأول في «المكتب»: حَفِظَ إلى جانب القرآن متن الأزهار للإمام المهدي، ومختصر الفرائض للعصيفري والملحة للحريري والكافية والشافية لابن الحاجب، والتهذيب للتفتازاني، والتلخيص للقزويني، والغاية لابن الإمام، وبعض مختصر المنتهى لابن الحاجب، ومنظومة الحريري ومنظومة الجزار في العروض، وأدب البحث للعضد، ورسالة الوضع له أيضًا، وكان حفظه لهذه المختصرات قبل الشروع في الطلب وبعضها بعد ذلك.
ثم قبل شروعه في الطلب كان كثير الانشغال بمطالعة كتب التواريخ ومجاميع الأدب من أيام كونه في المكتب، فطالع كتباً عدة ومجاميع كثيرة. وهذه العلوم والمعارف كما نرى لا يتلقاها الطلاب في هذه المرحلة الدراسية المبكرة، كما أن الطالب العادي يحتاج لاستيعابها عدة سنوات بعد تجاوزه لمرحلة التعليم الأولى في المكتب.
وقد أتاح له ذكاؤه واستيعابه المبكر لهذه العلوم، وثقافته الذاتية الواسعة، أن يقوم بتدريس زملائه الذين يدرسون معه: كان يقرأ على مشايخه، فإذا فرغ من كتاب قراءة أخذه عنه تلامذته، بل ربما أجمعوا على الأخذ عنه قبل أن يفرغ من قراءة الكتاب على شيخه.
وأهلته ثقافته الواسعة تلك على البدء بتحرير أبحاثه ومؤلفاته وهو في هذه السن المبكرة مرحلة الطلب إما ليجيب بها على أسئلة واستفسارات طلابه، أو لمشاركة أهل العلم في التعقيب على آرائهم في المسائل التي كانت مدار بحثهم.
وأيضًا بدأ بإفتاء العامة من أهل صنعاء وغيرهم وكان في أيام قراءته على الشيوخ وإقرائه لتلامذته يفتي أهل صنعاء وغيرها.. من نحو العشرين من عمره فما بعد ذلك. وساعده ذكاؤه أيضًا على اختصار الوقت والجهد في إنجاز أبحاثه ومصنفاته، فقد ذكر تلميذه محمد بن الحسن الشجني عن طريقته في القراءة والبحث أنه كان -أثناء دراسته-ينظر فيها (أي في المراجع ويحفظ معانيها ويستغني بأول نظر لسبق تحقيق المعنى في فكرته، ثم يحرّر ما يراه عن عفو القريحة).
وكما دفعه حبه للعلم إلى الجد في تحصيله، فقد دفعه كذلك إلى أن يتفرغ له تفرغا كلياً، مكرساً له كل طاقته ووقته دارسًا، ومدرساً وباحثاً ومجتهداً ... ولم ينشغل بأي شيء سواه وكان منجمعًا عن بني الدنيا، لم يقف بباب أمير ولا قاض، ولا صاحب أحدًا من أهل الدنيا، ولا خضع لمطلب من مطالبها، بل كان منشغلاً أوقاته بالعلم درسًا وتدريسًا وإفتاءا وتصنيفاً، عائشاً في كنف والده، راغبا في مجالسة أهل العلم والأدب وملاقاتهم والإفادة منهم.
-تفرغه للعلم:
وساعده على ذلك تشجيع والده علي بن محمد الشوكاني (ت١٢١١ هـ) ورعايته له – كما ذكر الشوكاني سابقا - فقد هيأ له كل الوسائل اللازمة للتفرغ لطلب العلم وأعانه عليه، ووفر له ما يحتاج إليه، فجَّنبه بذلك هم التفكير والبحث عن أسباب معيشته أو الاشتغال بها.
ومما قاله المؤلف عن والده: «لقد بلغ معي إلى حد من البر والشفقة والإعانة على طلب العلم والقيام بما أحتاج إليه مبلغا عظيمًا بحيث لم يكن لي شغلة بغير الطلب، فجزاه الله خيرًا وكافأه بالحسنى ...».
وبعد أن انتهى الشوكاني من دراسته على يد شيوخه، واستوفى بذلك جميع عندهم، تفرغ للتدريس والبحث والتأليف فكان الطلبة يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة دروس في فنون متعددة، وقد أتاحت له ثقافته الموسوعية أن يدرس طلبته بالإضافة إلى العلوم المألوفة علوما أخرى لم تكن تدرّس في ذلك الوقت: «بل أخذوا في فنون دقيقة لم يقرأ في شيء منها [على شيوخه] كعلم الحكمة التي منها العلم الرياضي والطبيعي والإلهي وكعلم الهيئة، وعلم المناظر، وعلم الوضع».
ولذا كانت المرحلة الأولى من حياته حتى بلوغه السادسة والثلاثين من عمره، وهي المرحلة السابقة على توليه منصب القضاء الأكبر في أخصب في جميع المراحل في حياته وأكثرها عطاءًا، فقد استطاع خلالها استيعاب ثقافة وعلوم عصره، بل وتمكن كذلك من تجاوزها والإضافة إليها، إذ أنه «ترك التقليد واجتهد رأيه اجتهادًا مطلقا غير مقيد وهو قبل الثلاثين».
وألف في المرحلة معظم كتبه أو ابتدأ في الإعداد لها كما يتضح من الفقرة اللاحقة، ولهذا فقد جاء توليه القضاء الأكبر في اليمن عام ۱۲۰۹ هـ وهو في السادسة والثلاثين من عمره بمثابة الكارثة بالنسبة له؛ لأن أعباء منصبه قد أخذت عليه معظم وقته وشغلت فكره، وأبعدته عن المجال والمحيط الذي يحبه ويألفه كما يحكي، بل انثال عَلَيَّ الناس من كل محل، فاستغرقت في ذلك الأوقات إلا لحظات يسيرة، فقد أفرغتها للنظر في شيء من كتب العلم، أو لشيء من التحصيل وتتميم ما كنت شرعت فيه، واشتغل الذهن شغلة كبيرة، وتكدر الخاطر تكدرًا زائدا ..».
ولم تقف مسؤولياته عند القضاء فحسب، بل أضاف إليه مسؤولية الإشراف على إدارة الشؤون الخارجية لليمن، فقد كان يطلع على المراسلات الخارجية الموجهة إلى الإمام من الزعماء ورؤساء الدول، ويتولى بنفسه الرد عليها إما باسمه أو باسم الأئمة الذين عاصرهم.
وكذلك أشركه الأئمة في الإشراف على السياسة الداخلية وخاصة منذ أيام المتوكل أحمد بن علي (تولى الحكم من ١٢٢٤ - ۱۲۳۱ هـ) الذي لم يكن يصدر أي أمر من أمور مملكته حتى يرسل وزيره الفقيه علي بن إسماعيل فارع يشاور فيه شيخ الإسلام ويعمل بما يراه .... ولكن برغم انشغاله بهذه المهام والأعباء الكبيرة، فإنه لم يترك التدريس أو القراءة والتأليف ولم يدع الانشغال بالعلم وإن كان اشتغاله الآن [أي بعد توليه القضاء] بالنسبة إلى ما كان عليه ليس شيئًا.
فقد قسم وقته بحيث يلائم بين واجبات عمله وبين التدريس والبحث، كما يقول تلميذه الشجني إذ خصص أول النهار منذ انبلاج الضوء إلى ارتفاع الشمس لتدريس طلابه ويجعل بقية يومه لعمله ويخصص الشطر الأول من الليل للقراءة والتأليف .... ومع أن هذا الوقت المخصص للقراءة والبحث محدود، وقد ينشغل في أكثر الليالي بهموم عمله، إلا أنه بفضل ما حباه الله به من الموهبة والذكاء، كان ينجز في هذه الساعات القليلة من الكراريس ما يعجز الناسخ الذي يتولى تبييض مسودات تلك الأبحاث التي يحررها الشوكاني في المساء عن إتمام تبييضها بالرغم من تفرغ الناسخ لهذا العمل.
ومما يؤكد ما ذكره الشجني عن قدرات ومواهب شيخه أن الشوكاني قد جمع مادة كتابه «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع في أربعة أشهر وليال، وهو كتاب ضخم يقع في مجلدين، ترجم فيه لـ (٦١٠) شخصيات من مشاهير العلماء والسياسيين منذ بداية القرن الثامن الهجري وحتى عصره.
-قوة شخصية الشوكاني:
أشرنا فيما سبق إلى أن دعوة الشوكاني الإصلاحية –شأنه في ذلك شأن دعاة الإصلاح في كل زمان ومكان -واجهت أو لقيت مقاومة عنيفة من قبل أنصار الجمود والتقليد الذين يرون في كل دعوة إصلاحية خطرًا عليهم وتهديدًا لنفوذهم ومصالحهم، ولكنه استطاع بعزيمته وقوة شخصيته، أن يواجه كل الصعاب التي تقف في طريق دعوته.
فلم ترهبه أو تفت في عضده حملات الإرهاب المادي والمعنوي التي شنها عليه مقلدة ومتعصبو عصره، فلم تنل حملاتهم الظالمة من معنوياته أو تؤثر فيه كما أثرت على كثير من المجددين والمصلحين الذين سبقوه، فقد دفعت بالبعض منهم إلى الابتعاد عن المواجهة أو الانعزال عن المجتمع كما فعل الحسن بن أحمد الجلال (ت ١٠٨٤هـ) وصالح بن مهدي المقبلي (ت ١١٠٨ هـ) كما قال عنهما الشوكاني: «إنهما نالا من المحن والعداوة من أهل عصرهما ما حمل الأول على الاستقرار في هجرة الجراف منعزلاً عن الناس، وحمل الثاني على الارتحال إلى الحرم الشريف والاستقرار فيه حتى توفاه الله تعالى».
فقد كان لهؤلاء المقلدة سطوة كبيرة، وكانوا يتمتعون بمقدرة هائلة على التأثير في القبائل اليمنية وتهييجها وحشدها ضد من يخالفهم أدنى مخالفة، ولا أدل على ذلك من مقدرتهم كما يفيد الشوكاني - على إرغام الإمام المهدي عباس، وهو أحد حكام اليمن الأقوياء حكم اليمن من (١١٦١ هـ – ١١٨٢ هـ) على التراجع عما كان أظهره من العمل ببعض السنن في الصلاة وكاد بسببها أن يخسر ملكه (أدب الطلب ص ۲۰۰ -۲۰۲).
- دور الشوكاني في حركة الإحياء والتجديد:
كانت المهمة الكبرى أمام دعاة الإصلاح من رواد عصر النهضة، ومنهم الشوكاني هي العمل على تجديد وإحياء الفكر العربي الإسلامي، بتبنيهم الدعوة للاجتهاد وإعمال العقل وتحريره من قيود التقليد والتعصب، ليسترد العقل العربي عافيته ومقدرته على التفكير والإبداع بغية إخراج الفكر العربي والإسلامي من محنته، وتجاوز أزمته المستعصية التي ألمت به وتسببت في ركوده وجموده منذ شيوع الدعوة للتقليد وإغلاق باب الاجتهاد، وأدت إلى انتشار التواكل والاسترخاء والكسل العقلي، واكتفاء الخلف باجترار ما قرره السلف في العلوم الشرعية، وانتهت بتعطيل وظيفة العقل وشل فاعليته على التفكير الصحيح، ومن ثم عجزه عن الإضافة والتجديد، فعم التخلف والجمود كل مناحي الحياة.
فقد استأثرت هذه المسألة باهتمام الشوكاني وشغلت تفكيره وكانت بمثابة الفكرة المحوري، التي تدور حولها أكثر كتاباته وآرائه، وكرّس لها معظم فكره وجهده من خلال التأليف والتدريس، فلا يكاد يخلو كتاب من كتبه من التشنيع على التقليد والمقلدين والدعوة إلى الاجتهاد وإعمال العقل. محاولاً إزالة كل الأوهام والعقبات التي تحول دون الاجتهاد، ومناقشة كل المبررات والحجج التي يرفعها أنصار التقليد؛ ليدلل على ضعفها وتهافتها.
فبالإضافة إلى الكتب والرسائل المستقلة التي أفردها لهذا الغرض (سيأتي ذكرها)؛ فقد ألف كتابه التاريخي (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) الذي أورد فيه تراجم المشاهير من العلماء الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد في العالم الإسلامي عامة واليمن خاصة، ليدحض بذلك حجة أنصار التقليد القائلة بانحصار الاجتهاد في السلف دون الخلف، وتعذر الاجتهاد أو المجتهدين بعد القرن السادس الهجري.
قال الشوكاني بعد عرض مقولة أنصار التقليد: (حداني ذلك إلى وضع كتاب يشتمل على تراجم أكابر العلماء من أهل القرن الثامن ومن بعدهم .. إلى عصرنا هذا ليعلم صاحب تلك المقالة أن الله وله المنة قد تفضل على الخلف كما تفضل على السلف، بل ربما كان في أهل العصور المتأخرة من العلماء المحيطين بالمعارف العلمية على اختلاف أنواعها من يقل نظيره من أهل العصور المتقدمة).
أما مؤلفاته ورسائله التي خصصها للحث على الاجتهاد ونبذ التقليد فكثيرة، نذكر منها:
١- (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول).
٢-(القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد).
٣- (بغية المستفيد في الرد على من أنكر الاجتهاد من أهل التقليد).
٤- ومنها هذا الكتاب موضوع تحقيقنا «أدب الطلب».
________________________________________
هذا الكتاب
قبل أن نعرف بكتاب الشوكاني، لا بد أن نقف وقفة قصيرة، نتعرف من خلالها على الموضوع أو الفن الذي يدخل هذا الكتاب في إطاره مع الإشارة إلى نشأة هذا الفن وأهم مؤلفات ورسائل علماء الإسلام الذين سبقوا الشوكاني إلى التأليف فيه؛ لنعرف من خلالها ما أضافه الشوكاني وتفرد به عمن سبقه: فمن المعروف أن نطاق المعرفة والثقافة العربية في الفترة السابقة على ظهور الإسلام، وخاصة في أواسط الجزيرة العربية كانت محدودة ومتمثلة في الشعر، وتاريخ العرب وأيامهم ووقائعهم وأنسابهم وعاداتهم وتقاليدهم ... إلخ.
وكانت الوسيلة لتوثيق هذا التراث وتداوله عبر الزمان والمكان هو «الحفظ» و«الرواية» التي كان اعتمادهم عليها أكثر من اعتمادهم على التدوين، فقد يتخصص بعض الأشخاص في حفظ ورواية جانب معين من هذا التراث، فالذي يحفظ أنساب القبائل العربية يسمى «النسابة» والذي يحفظ شعر أحد الشعراء ويقوم برواية شعره ونشره يسمى «الرواية»، أما الذي يُعنى بحفظ أو بمعرفة تاريخ العرب وأيامهم وسير وأخبار ملوكهم وزعمائهم فيسمى «الإخباري»..
وقد استمرت هذه الوسيلة حتى ظهور الإسلام وجانباً من تاريخ صدر الإسلام، وبمجيء الإسلام الذي فتح أمام العرب والثقافة العربية آفاقا واسعة وأمدها بعلوم ومعارف متعددة، سواء ما كان منها متعلقا بالدين نفسه: كالقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وأصول الدين (علم) الكلام.. إلخ، أو المعارف والفنون الأخرى الناتجة عن الاحتكاك والتفاعل الحضاري مع حضارات الأمم والشعوب التي دخلت في الإسلام أو المجاورة له ونتيجة لهذا الاتساع والتنوع المعرفي لم تعد طريقة الحفظ والرواية كافية لاستيعاب هذا الكم الهائل من المعرفة، اتجه العرب إلى الكتابة والتدوين كأداة لتوثيق ونشر الثقافة.
بالإضافة إلى أن الإسلام نفسه قد أعلى من شأن العلم والقراءة والكتابة، إذ كان أول ما نزل من الوحي والقرآن «اقْرَأُ..»، وحثّ المسلمين كذلك على نشر الإسلام وتبليغه للناس، وشرح تعاليمه وأحكامه لهم؛ فأدى ذلك إلى ازدهار الحركة العلمية والفكرية، وازدهرت كذلك حركة «التدوين» و«التأليف» واتسع نطاقهما، وخاصة بعد منتصف القرن الثاني الهجري، مما جعل الحاجة ماسة على وضع القواعد والضوابط التي تنظم عملية التدوين والتأليف، وتنظم كذلك طريقة عمل العلماء والمشتغلين بالمجال العلمي، فظهر نوعان من تلك القواعد أو المناهج:
الأولى: «المناهج أو الأصول العلمية، وتعنى بوضع المعايير والضوابط المنظمة لعملية التوثيق والتدوين أولاً، وتضع الأصول والمناهج المنظمة لعملية البحث والنظر والاستدلال والاستنباط الاجتهاد ثانيًا، كما تعنى كذلك بضبط مصطلحات العلم وحدوده، بهدف توخي الدقة والموضوعية في عملية التأليف والاجتهاد، وكبح جماح الأهواء والعواطف الذاتية، وتجنب العلماء والباحثين، وابتدأت ملامح المنهج العلمي تتضح وتنمو شيئًا فشيئًا، حتى تكاملت وانتظمت وأصبح لكل فرع من فروع المعرفة قواعده وأصوله الخاصة به كالحديث والفقه واللغة والتفسير والفلسفة... الخ.
الثانية: «المناهج أو القواعد العلمية»، وتعنى بوضع الأسس والضوابط التي تنظم طريقة مزاولة العاملين في المجالات العلمية والعملية لعملهم، وتضع المعايير والأصول الأخلاقية التي يجب على كل منهم التحلي بها والتزامها في ممارسته لعمله، بالإضافة إلى وضع القواعد والإرشادات العملية الكفيلة بأداء وإنجاز ذلك العمل على الوجه الأكمل وبأيسر الوسائل والطرق.
وتهدف هذه المناهج والقواعد إلى إرساء وترسيخ التعاليم والقيم الحضارية في كل المجالات والتخصصات، وعدم تجاوز العاملين بها لمبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
وقام العلماء بوضع الكثير من الرسائل والمؤلفات المتضمنة لمثل هذه القواعد العملية تحت عنوان (الأدب) أو (الآداب العامة) المتضمنة لقواعد الأخلاق والسلوك مثل:
آداب الجهاد آداب القضاء، أدب الكاتب، أدب الوزير، أدب النديم والآداب السلطانية وأدب الفقيه والمتفقه وأدب المفتي والمستفتي، وأدب الجدل والمناظرة أو آداب البحث والمناظرة وآداب الدرس أو آداب العالم والمتعلم ... الخ
وهذا الكتاب «أدب الطلب...» - موضوع تحقيقنا – واحد من المؤلفات الكثيرة التي حفل بها تراثنا الإسلامي في آداب التعليم والمتعلمين»، فقد اهتم علماء المسلمين بكل ما يتعلق بالعلم والتعليم وأولوه عناية فائقة لما له الأهمية من تطور وازدهار الحياة العلمية والفكرية، وباعتباره أداة لتطور ونمو كافة العلوم والفنون، ونقلها من الخلف إلى السَلَف ووسيلة لتوسيع مدارك الإنسان وتنمية مهاراته وتكوين شخصيته .. الخ.
وقد بدأ العلماء والفلاسفة بوضع تلك القواعد العملية المتعلقة بالعلم والتعليم كمباحث أو فصول متفرقة ضمن كتب الفقه والحديث وعلم الكلام، وكتب الوعظ والإرشاد، أو ضمن مجاميع الأدب المشتملة على عدة فنون كالعقد الفريد مثلاً، وضمن كتب الآداب العامة المتعلقة بقواعد الأخلاق والسلوك، ثم أفردت لها رسائل وكتب مستقلة نشير فيما يلي إلى بعض ما نُشر منها:
١- محمد بن سحنون ت (٢٥٦هـ) آداب المتعلمين.
٢- أبو الحسن علي بن محمد القابسي (ت ٤٠٣ هـ): الرسالة المفصلة الأحوال المعلمين وأحكام المتعلمين.
٣- ابن عبد البر القرطبي (ت ٤٦٣ هـ): جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي من روايته وحمله وله أيضًا آداب المجالسة (مخطوط).
٤- أبو حامد الغزالي (ت ٥٠٥ هـ) أفرد له بابًا في كتابه إحياء علوم الدين، وهو: كتاب العلم»، ورسالة بعنوان: «أيها الولد».
٥-الزرنوجي (ت ٥٩١ هـ): تعليم المتعلم طريق التعلم (طبعت في اسطنبول - سنة ۱۱۹۲ هـ).
٦- نصير الدين الطوسي (ت٦٧٢ هـ): آداب المتعلمين.
٧- ابن جماعة (ت٧٣٣ هـ): تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم.
٨- طاش كبري زاده (أحمد مصطفى) (ت ٩٦٨هـ): خصص لهذا الموضوع المقدمات الثلاث الأولى من كتابه مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم.
٩-ابن حجر الهيتمي (ت ٩٧٤ هـ): تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاجها مربو الأطفال.
١٠- الأمير الحسين ابن الإمام القاسم بن محمد ت١٠٥٠ هـ): آداب العلماء والمتعلمين والمتعلم.
١١-وقد تناول هذا الموضوع كذلك إخوان الصفاء في رسائلهم (نشر أحمد عبد الغفور عطا ما يتعلق بالتعليم من هذه الرسائل في كتابه السالف الذكر: آداب المتعلمين).
١٢- وابن مسكويه (ت٤٢١ هـ) في كتابه تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.
١٣- وابن سينا في كتاب «السياسة».
١٤- وابن خلدون (ت۸۰۸ هـ) - في مقدمته.
وتدور معظم الأفكار في هذه المؤلفات - باستثناء آراء بعض الفلاسفة التي تبحث بجانب هذه الموضوعات موضوع نظرية العلم من الناحية الفلسفية -حول الموضوعات التالية:
١- التأكيد على أهمية العلم والتعليم.
٢- وبيان الغاية منه، والحث عليه.
٣- والاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحث على طلب العلم والمبينة لفضل العلم والعلماء والمتعلمين وشرحها.
٤- وكيفية تعامله مع التدريس.
٥-و تخصص فصلاً أو بابًا عن المعلّم تذكر الصفات العلمية والأخلاقية التي يجب توفرها فيه، بصفته مربيا وقدوة لطلابه، وتحدد له أنسب وأيسر الطرق طلابه على اختلاف مستوياتهم واستعداداتهم وأعمارهم، وكيف يحبّب العلم إليهم ويرغبهم فيه ..الخ.
٦- وتخصص فصلاً آخر للمتعلم، تبتدئ – عادة – بنصحه بوجوب إخلاص النية في طلب العلم، وتحثه على الصبر والجلد في طلبه، وتحدد له قواعد سلوكه وواجباته نحو معلميه وطريقة تعامله معهم، وواجباته نحو زملائه، وأسلوب استخدامه للكتب والمكتبات وأدبه في سكنه بالمدرسة، مع ذكر الوسائل التي تعينه على الحفظ، وأفضل الأوقات الصالحة للاستذكار والحفظ، وحتى أوقات نومه ويقظته ونوعية طعامه. .. الخ.
وتحتوي مؤلفات هؤلاء العلماء على الكثير مما يُعرف اليوم بأصول وقواعد التربية، ووسائل التنشئة الاجتماعية، وأيضًا طرق التدريس. أما الشوكاني فإنه لم يقف في كتابه هذا عند حدود تلك الموضوعات التي طرقها السابقون عليه في مجال آداب العلم والتعلم، ولم يعمل على تكرار آراء مؤلفيها، بل جاءت معظم الأفكار الرئيسية في كتابه جديدة ومبتكرة لم يسبقه إليها أحد.
ولهذا لم يكن من قبل المبالغة قول الشوكاني في نهاية عرضه للأسباب المؤدية للتعصب والمانعة من الإنصاف والموضوعية: إنه ينبغي لكل عالم ومتعلم أن تكون تلك الأسباب والعوامل نصب عينيه في إقدامه وإحجامه وما أحقها بذلك .. فإنها فوائد لا توجد في كتاب» (ص ١٤٥).
وهذا ما يشهد للشوكاني بالقدرة على الإبداع والإضافة والتجديد، فقد تجاوز آراء سابقيه وسعى إلى إصلاح وتجديد المنهجين الذين سبقت الإشارة إليهما في آن واحد (المنهج العلمي والمنهج العملي) من خلال الإسهام بتشخيص وتحليل الأسباب والعوامل الكامنة وراء الخلل الفكري ووضع الحلول الكفيلة بمعالجته وإصلاحه، كمنطلق سابق لأي محاولة تستهدف النهوض والتجديد، أو إصلاح التعليم والاستفادة من نتائجه، فإذا كان التعليم أداة فعالة للتغيير، (تغير الفكر أو السلوك)، فإنه لا يمكن الوصول إلى النتائج المرجوة منه طالما وأن تلك العوائق الفكرية ما تزال قائمة؛ إذ أن المعوقات التي تؤثر سلبًا على التعليم إنما هي مرتبطة بذلك الخلل الفكري الذي أدّى إلى جمود العقل والفكر العربي، ونتيجة له.
ولأن آراء الشوكاني في هذا الكتاب نابعة ومستمدة من تجربته الفكرية الثرية؛ كباحث ومدرس ومجتهد، فقد حاول من خلاله أن يرسم المنهج العلمي للإحياء والتجديد، وهو المنهج الذي صاغه وبشر به ودعا إليه، وأن يضع لطلابه وأبناء جيله أسس وقواعد التفكير والبحث العلمي، كأداة لتشخيص وتحديد مواطن الخلل التي تعيق النهوض أولاً، واستنباط أو اكتشاف الحلول الملائمة والكفيلة بتجاوز المجتمع لمحنته والخروج به من نفق الجمود والتخلف ثانيًا، فكان كتابه هذا أشبه ما يكون بما نسميه اليوم مناهج التفكير العلمي، أو قواعد البحث العلمي.
ولهذا فإن فائدة هذا الكتاب لن تقتصر على طلبة العلم فحسب، بل سيستفيد منه كل من له صلة أو اهتمام بالعلم والبحث كما تَصوَّر ذلك الشوكاني في مقدمة كتابه: «وإني أتصور الآن أن الكلام بمعونة الله ومشيئته لا بد أن يتعدى إلى فوائد ومطالب ينتفع بها المنتهي، كما ينتفع بها المبتدي ويحتاج إليها الكامل كما يحتاج إليها المقصر، ويعدها المحققون من أعظم الهدايا» (ص ٦٣).
وقد التزم المؤلف نفسه في عرضه لموضوعات هذا الكتاب بالمنهج العلمي الذي يدعو إليه باستثناء بعض التجاوزات أو الشطحات القليلة –سنشير إليها في خاتمة هذه الدراسة؛ فهو يشخّص المشكلة ويحددها بدقة، ثم يعمل بعد ذلك على تحديد أسبابها، وتوضيح مظاهرها وأبعادها، ثم يقدم الحلول التي يراها من وجهة نظره كفيلة بمعالجتها.
فإن كانت المشكلة متمثلة في الخلل الفكري وما ترتب عليه من جمود للفكر وإعاقة للعقل عن أداء دوره ورسالته، فإنه يُرجعُ السبب الكامن وراء هذا الخلل إلى عاملين رئيسيين:
الأول: التقليد والتعصب للأشخاص والآراء والمذاهب لأنهما (أي التقليد والتعصب) أساس المشكلة ويشكلان العقبة الكبرى في طريق العلم، فهما يشكلان حجابًا كثيفًا أمام العقل يمنعه من الاستفادة من مصادر العلم والمعرفة.
وينبع التقليد أو يبدأ من المبالغة في احترام أئمة المذاهب وتمجيد أشخاصهم، مما يؤدي إلى إضفاء هالة من القداسة على آرائهم واجتهاداتهم تدفع المقلد إلى التهيب من التعرض لتلك الأفكار، وتجعل من المستحيل مناقشتها، وتمحيصها ونقدها، مما يسبب إلى افتقاد المقلدين لملكة النقد – تدريجيا حتى تصل إلى درجة إلغاء العقل وشلّ فاعليته، وتعطيل وظيفته في النظر والتفكير واكتشاف السنن والأسباب، والعجز عن إدراك الحقائق، ومن ثم يؤدي إلى العجز عن الإبداع والابتكار اللازم للتجديد والتغيير، وكما يدفع التقليد بالمقلدين إلى التمسك الشديد بالرأي أو المذهب الذي يقلدونه ورسوخه في أذهانهم ودفاعهم عنه، وتحزبهم حوله وتعصبهم له فإنه يدفعهم كذلك إلى التسليم المطلق بصحة وصواب ذلك الرأي أو المذهب واعتقادهم باحتكارهم للحقيقة المطلقة وبأن الحق محصور بهم يعدوهم إلى غيرهم، ويسبب جمودهم عليه وعدم الالتفات إلى ما عداه، فينتهي بهم التقليد إلى الوصول إلى أقصى مراحل التعصب ،والجمود، وهي مرحلة القبول المسبق، دون تفكير لكل آراء وأفكار ،مذهبهم، وكذلك الرفض المسبق – ودون تفكير أيضًا - لكل من يخالفه (ص ۷۱ - ٧٤ ، ۹۸ - ۹۹، ۱۰۸ - ۱۰۹)
ومن أقوال الشوكاني (عن اقتران التقليد بالتعصب ومخاطرهما) إن: «الاعتقاد لمذهب نشأ عليه الإنسان وأدرك عليه أهل بلدته يوقع في التعصب وإن كان بصره صحيحًا فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، فهو يحسب أن ما نشأ عليه هو الحق، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح.. وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب.. فإنه صار بها باب الحق مرتجا، وطريق الإنصاف مستوعرة».
واستشهد على تأثير التقليد السلبي على العقل وإلغاء دوره بمقولة ابن الجوزي الشهيرة: (بأن في التقليد إبطال منفعة العقل). وعن منافاة التقليد للعلم، وأثره في الحيلولة بين المتعلم والاستفادة من عد مصادر العلم والمعرفة يقول: «إن مجرد التقليد ليس من العلم الذي ينبغي صاحبه من جملة أهل العلم لأن كل مقلد يقر على نفسه بأنه لا يعقل حجج الله ولا يفهم ما شرعه لعباده.. ص (۹۷)، وإذا سكنت نفوس المقلدين للتقليد سكوناً، وقبلته قبولاً كلياً، لم تبق فيهم بقية لفهم شيء من العلوم» (ص ۹۸).
ويصف المقلد بأنه «عامي الفهم، سيء الإدراك، عظيم البلادة، غليظ الطبع» ( ص ١٨٤)، ولا يتردد في وصفه أيضًا بأنه: «حماري الفهم، بهيمي الطبع» (ص١٠٩).
- أما العامل أو السبب الرئيسي الثاني فيتمثل في تقاعس النخبة (العلماء) وإحجامها عن أداء مهماتها ورسالتها المنوطة بها والمتمثلة في نشر الوعي والمعرفة، ومقاومة الانحراف والفساد بكل صوره وأشكاله، وقيادة عملية الإصلاح والتغيير، كونها الفئة الوحيدة القادرة على القيام بهذه المهمة والمؤهلة لها علميًا وفكريًا.
ويعزو الشوكاني السبب في ذلك:
- إلى جبن بعض العلماء، وخوفهم على حياتهم أو مصالحهم من بطش وإرهاب السلطة أو جماعة التقليد وأصحاب المصالح والنفوذ، لأن أي دعوة أو محاولة للإصلاح والتغيير لا بد أن تصطدم أو تتعارض مع مصلحة هذه الفئات، ولذلك آثرت هذه الطائفة من العلماء التحالف مع السلامة والتزمت السكوت، فأصبح دورها سلساً.
- والفئة الأخرى من العلماء قد تُغلب مصلحتها وامتيازاتها الذاتية على المصلحة العامة يطلق) الشوكاني على هذه المصالح والامتيازات: (حب الشرف والمال)، فيدفعها ذلك لا إلى السكوت فحسب، كما تفعل الفئة الأولى، وإنما إلى السلطة، لكي تحصل منها على الجاه والأموال والمناصب، وحينئذ لا يصبح دورها سلبيًا فقط، بل تصبح أكبر العوائق الفكرية والاجتماعية وأشدها خطرًا، لأن مهمتها ودورها لا يقتصر فقط على تسخير فكرها ومواهبها لخدمة السلطة، وإنما تسخر الدين كذلك للسلطة وتخضعه لهواها في هذه الفئة العلماء من سبيل إضفاء الشرعية على استبداد السلطة ومظالمها وتبرير تصرفاتها وقراراتها المخالفة للشريعة، ومادامت مصالح هذه الطائفة مرتبطة بالسلطة، ولأن استمرار مصلحة الفريقين مرهون ببقاء الوضع الراهن (المتخلف) على حاله، فإنها لا تتورع عن ممارسة الدَّجل والتضليل على العامة والوقوف ضد أي محاولة تستهدف الإصلاح والتغيير والعمل على محاربتها وإجهاضها. (انظر ص: ٨٦ -۸۹، ۹۹، ١٢٦ - ١٢٩، ١٧٤ - ١٧٦)
لذلك فالحلول التي يقترحها الشوكاني لإصلاح هذا الخلل وتجاوز هذه المعضلة تتمثل في:
- أولاً: الدعوة للاجتهاد وتحرير العقل من قيود التقليد والتعصب، فقد اتجه المؤلف منذ بداية الكتاب إلى إثارة فكر الطالب (الباحث) وتهيئة ذهنه إلى وجوب تحرير عقله وفكره من ربقة التقليد والتعصب للأشخاص أو الأفكار، وتوطين نفسه على التزام المنهج العلمي في التفكير، لكي يستفيد من نتائج التعليم أو البحث والوصول إلى المرحلة التي يكون فيها قادرًا بنفسه على الاجتهاد والتجديد (ص ٦٩).
وأول مقتضيات التفكير العلمي والموضوعية هو تجاوز هالة القداسة التي أضفاها المقلدون على أئمة ورجال مذاهبهم وإخضاع آرائهم واجتهاداتهم للنقد والتمحيص وعدم التسليم المطلق والمسبق بصوابها؛ لأن أولئك الأئمة لم يسعوا لفرض آرائهم واجتهاداتهم على الناس، ولم يهدفوا إلى اتخاذ فكرهم وسيلة لتعطيل فكر الآخرين، وإنما اجتهدوا لأنفسهم، فاجتهاداتهم لا تعتبر حجة على غيرهم ولا تلزم سواهم فإنك إن جعلت اجتهاد أي مجتهد حجة عليك وعلى سائر العباد كنت قد جعلته شارعًا لا متشرعاً، ومكلّفا لا مُكلفا» (ص ٦٧).
«بل عليك أن توطن نفسك على الجد والاجتهاد والبحث عما يدخل تحت طوقك وتحيط به قدرتك حتى تبلغ إلى ما بلغ إليه ذلك المجتهد» (ص ٦٨)، «فإذا وطنت نفسك - أيها الطالب - على الإنصاف (الموضوعية) وعدم التعصب لمذهب من المذاهب، ولا لعالم من العلماء.. فقد فزت بأعظم فوائد العلم، وربحت بأنفس فرائده، فلأمر ما جعل الرسول الله المنصف أعلم الناس وإن كان مقصرًا؛ فالإنصاف الخصلة الموجبة للأعلمية، ولم يعتبر غيرها (لأن المنصف لم يكن لديه هوى ولا حمية ولا عصبية لمذهب أو عالم من (فطرته) عن أن تتكدر بشيء من ذلك» (ص ٦٩-٧١).
وهذا ما دفع بالشوكاني إلى رصد وتحليل الأسباب الباعثة على التعصب الفكري والمذهبي بوصفه العائق الأساسي أمام العقل والمؤدي إلى الانحراف بالفكر عن مساره الصحيح وخروجه عن دائرة الإنصاف الموضوعية)، وقد بذل الشوكاني جهدًا كبيرًا في استقصاء هذه الأسباب والظواهر والاستفاضة في شرحها وتحديد أبرز مظاهرها ونتائجها، ومخاطرها على الدين والعلم والعقل .. الخ (تشكل مادة هذا الموضوع نصف حجم الكتاب تقريبًا)، مستعينًا في توضيح وشرح الموضوع – بغية تقريبه للأذهان بتجربته الشخصية كطالب ومدرس ومجتهد.
ويتجلى في هذا الفصل ملامح المنهج العلمي عند الشوكاني بوضوح، «لأن النشاط العقلي للإنسان لا يكون علميًا بالمعنى الصحيح إلا إذا استهدف معرفة الظواهر وتعليلها، ولا تكون الظاهرة مفهومة بالمعنى العلمي إلا إذا توصلنا إلى معرفة أسبابها، كما أن من المستحيل التوصل إلى النتائج دون معرفة أسباب العلل والأمراض لنتمكن من معالجتها ).
وأمراض الفكر كما يراها الشوكاني لا يمكن اجتنابها والتحرر منها إلا بعد معرفة أسبابها فإن عرف الباحث] بعد التدبر فليتجنبها كما يتجنب العليل ما ورد عليه من الأمور التي كانت سببًا لوقوعه في المرض، وإن خفيت عليه العلة التي حالت بينه وبين الحق فليسأل له ممارسة للعلم ومعرفة بأحوال أهله، كما يسأل المريض الطبيب، إذا لم يعرف علته، فقد يكون دفع العلة بمجرد تجنب الأسباب الموقعة في العلة كالحمية.. وقد يكون دفعها باستعمال الأدوية، وهكذا علة التعصب فإنه إذا عُرف سببه أمكن الخروج منه باجتنابه، وإن لم يُعرف سأل المنصفين من أهل العلم» (ص ١١٦).
كما قام المؤلف بوضع عدة معايير يمكن بواسطتها معرفة مدى التزام الباحث بالموضوعية وتحرره من التعصب، وأهم تلك المعايير: مخالفة الدليل: لأن التفكير العلمي إنما هو طريقة في النظر والبحث تعتمد أساسًا على العقل والبرهان المقنع بالتجربة أو الدليل.
يقول الشوكاني: «فالمعيار الذي لا يزيغ أن يكون طالب العلم مع الدليل في جميع موارده ،ومصادره لا يثنيه عنه شيء، ولا يحول بينه وبينه حائل، فإذا وجد في نفسه نزوعا إلى غيره وأدرك منها أي من نفسه رغبة للمخالفة وتأثيرًا لغير ما هو الحق، فليعلم أنه قد أصيب بأحد الأسباب السابقة – أي أسباب التعصب حيث لا يدري» (ص ١١٥ - ١١٦).
- عدم القبول أو الرفض المسبق لأي رأي أو فكر دون تفكير وتمحيص ونقد: «ومن حق الإنصاف ولازم الاجتهاد أن لا يحسن الظن أو يُسيئه بفرد من أفراد أهل العلم على وجه يوجب قبول ما جاء به أو رَدّه من غير إعمال فكر وإمعان نظر وكشف وبحث، فإن هذا شأن المقلدين وصنيع المتعصبين وإن غرته نفسه بأنه من المنصفين وأن لا يغتر بالكثرة، فإن المجتهد هو الذي لا ينظر إلى من قال، بل إلى ما قال، فإن وجد نفسه تنازعه إلى الدخول في قول الأكثرية والخروج عن قول الأقلية، أو إلى متابعة من له جلالة قدر ونبالة ذكر وسعة دائرة علم، لا لأمر سوى ذلك، فليعلم أنه قد بقي فيه عرق من عروق العصبية، وشعبة من التقليد، وأنه لو يوف الاجتهاد حقه» (ص ١٦٦ – ١٦٧).
ويدخل في التقليد كذلك قبول أو رفض بعض العلوم لمجرد تزكية بعض العلماء لها أو تنفيرهم عنها (ص شعب (١٠٩، ١٧٦ -١٧٧)
- اعتماد الباحث في كل علم على أهله والرجوع إلى مصادره الأساسية: فإذا واجهت الباحث مسألة متعلقة باللغة يرجع فيها إلى كتب اللغة، ويأخذ بأقوال أهلها، ولا يلتفت إلى قول غيرهم فيها (ص ١٠٠ وما بعدها)، وكذلك بقية الموضوعات المتعلقة بفنون لها مؤلفات مستقلة من قبل المتخصصين: «فإن إنصاف الرجل لا يتم حتى يأخذ كل فن على أهله كائنا ما كان» (ص ١٠٣). كما أن المجتهد على التحقيق هو من يأخذ الأدلة الشرعية من مواطنها وكأنه لم يسبقه عالم ولا تقدمه مجتهد» (ص ١٦٦).
ثانياً: وجوب التزام النخبة (العلماء) بواجبها وأدائها لرسالتها، وعدم الفصل بين العلم والعمل والتحرر من الخوف والترفع عن النزوات والمصالح الشخصية لتكون بسلوكها ومواقفها قدوة حسنة، (ص ۷۳ - ٧٤ ، ۹٤ - ۹۸، ۱۲۹ - ١٣٤ … ۱۸۸ - ۱۸۷).
ثالثاً: إصلاح وتجديد نظام التعليم يقترح المؤلف منهجا تعليميا يتناسب وحاجة كل فئة فئات المتعلمين على اختلاف مقاصدهم ومستوياتهم وميولهم واتجاهاتهم الفكرية، فقد قَسَّم المتعلمين إلى فئتين أو طبقتين بحسب تعبيره: الأولى: طلاب العلوم الشرعية الثانية: طلاب العلوم التخصصية – غير الشرعية – مثل الأدب والطب والهندسة والمحاسبة والإدارة.. الخ
رابعاً- أنها تساعد على تنمية التفكير العلمي الذي يستند على الفهم وا والنقد والتحرر من قيود التقليد وتؤهل الطالب (الباحث إلى الاعتماد على النفس في البحث والوصول إلى المعنى والاستقلال في التفكير وفي تكوين آرائه وأحكامه، والوصول إلى الإبداع الفكري والتجديد).
فكما رَكَّز الشوكاني في الفصل السابق على توضيح العوائق التي تحول بين الإنسان وبين التفكير العلمي الصحيح، وتحول أيضًا دون الاستفادة من مصادر العلم والمعرفة، فقد ركز في هذا الفصل على ضرورة امتلاك الطالب لمهارات التعليم الذاتي، فلا حاجة للمتعلم إلى تكديس وحفظ المعلومات عن أي علم بقدر ما يحتاج إلى اكتساب المهارات التي تتيح له فرصة الاستقلال بنفسه والمقدرة على مواصلة البحث والتوسع في الموضوع أو العلم الذي يريد التوسع أو البحث فيه، ويكفي الطالب للوصول إلى هذه المرحلة أن يأخذ من كل فن من فنون الاجتهاد بنصيب يعلم به ذلك الفن علما يستغني به عن الحاجة إليه أو يهتدي به إلى المكان الذي فيه ذلك البحث.
وقسم طلاب الفئة الأولى من حيث الغايات أو الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه من التعليم، إلى ثلاث فئات:
- الأولى: الراغبون في الوصول إلى مرحلة الاجتهاد المطلق، والمتطلعون إلى إفادة الآخرين من علمهم بالتدريس أو التأليف.
الثانية: الراغبون في الوصول إلى مرتبة الاجتهاد ولكنهم لا يطمحون إلى التأليف وإفادة الغير، بل ليستغنوا باجتهادهم عن غيرهم.
الثالثة: وهم الذين يهدفون من وراء التعليم إلى إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يقدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع دون قصد إلى الاستقلال بأنفسهم، بل يعولون إلى السؤال عند التعارض، أو الاحتياج للترجيح. ويقترح المؤلف لكل فئة من فئات المتعلمين المنهج التعليمي الملائم لها الذي يحقق هدفها المنشود من التعليم والتقويم.
والسّمة الأساسية التي تميز هذه المناهج التي يقترحها المؤلف على وجه يفهم به ما يقف عليه منه» (ص ۱۷۸ - ۱۷۹).
ويقول في البدر الطالع عن القدر الذي يكتفي به طالب «الطبقة المتوسطة» من العلوم التي تؤهله للوصول إلى مرحلة الاجتهاد، ففي علوم اللغة مثلاً: «يكفيه من علم مفردات اللغة علمًا متوسطا يوجب ثبوت ويقول بعد عرضه لعلوم الاجتهاد اللغة وعلم الأصول) التي ينبغي لطالب الطبقة المتوسطة أن يُلم بها: «فمن علم بهذه العلوم مطلق الملكة في كل واحد منها صار مجتهدًا مستغنيًا عن غيره...» (ص ١٧٩). مثل القاموس وليس المراد إحاطته به حفظا بل المراد الممارسة لمثل هذا الكتاب أو ما يشابهه على وجه يهتدي به إلى ما يطلبه عند الحاجة».
- كما أن هذه المناهج التي يقترحها كفيلة بتحقيق الانفتاح الفكري على كل العلوم والفنون، وعلى كافة الاتجاهات الفكرية والمذهبية السائدة في عصر الشوكاني وتساعد على تجاوز كل ألوان التعصب، وخلق الانسجام والتسامح الفكري في صفوف الأمة، إذ أن الشوكاني يريد من المتعلّم . وخاصة من كان يريد أن يصل إلى المرتبة الأولى في الاجتهاد - أن يكون واسع الأفق، غزير الاطلاع، موسوعي الثقافة، فلا يستبعد أي علم أو فن حتى وإن كان ذلك العلم بعيداً عن نطاق تخصصه، فإنه لا بد أن يستفيد منه في مجال تخصصه، لأن العلوم والمعارف متداخلة ومتكاملة فقد يتوصل من خلال معرفة أي علم إلى معرفة فن آخر من فنون العلم، ويؤكد على أن العلوم غير الدينية كالأدب والمنطق وعلوم الفلسفة والكلام لا تتعارض مع الشريعة (ص ۱۸۳).
ولهذا يحثّ الطالب/ الباحث على ألا يستبعد أي علم أو فن، ولا يُصغي أو يلتفت إلى أي نقد أو تشنيع من أي عالم على أي علم من العلوم، فعن علم الكلام يقول : (وإيَّاك أن يثنيك عن الانشغال بهذا الفن ما تسمعه كلمات بعض أهل العلم في التنفير عنه والتزهيد فيه، والتقليل لفائدته، فإنك إن عملت ذلك وقبلت ما يُقال لك كنت مقلدا.. بل اعرفه حق معرفته، وأنت بذلك مفوض فيما يقوله من قدح أو مدح) (ص ١٥٩).
ويقول عن بقية العلوم غير الشرعية: (وبالجملة فالعلم بكل فن خير من الجهل به، ولاسيما من رشح نفسه للطبقة العلية..ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات، فإنها شعبة من التقليد، وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم غير محكوم عليك، واختر لنفسك ما يحلو، وليس يخشى على من ثبت قدمه في علم الشرع من شيء.. فاشتغل بما شئت واستكثر من الفنون ما أردت وتبحر في الدقائق ما استطعت ..) (ص ١٦٧ – ١٦٨).
ويؤكد أن معاداة السابقين لبعض العلوم وتنفير الناس عنها صادرة عن جهل لتلك العلوم، لأن من جهل شيئًا عاداه: «وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم ويجري على لسانه الطعن في أي علم من العلوم، لا يدري به ولا يعرفه ولا يعرف موضوعه.. وقد رأينا كثيرًا ممن عاصرنا ورأيناه يشتغل بالعلم ويصنّف في مسائل الشرع، فإذا سمـع مسألة عن فن من الفنون التي لا يعرفها كعلم المنطق والكلام والهيئة ونحو ذلك نفر منه ونفّر . عنه غيره..) (ص ١٦٨).
ويضيف، بأن فائدة العلوم غير الشرعية لا تقتصر على فائدتها العلمية، بل تتعدى فوائدها إلى المتعلم نفسه، فهي تساعد على تكوين شخصيته وصقل مواهبه، وتنمي لديه ملكة الفهم والاستيعاب، وتشحذ الذهن وتوسع مدارك العقل.. الخ. فالشعر يفيد قوة إدراك، وصحة فهم، وسيلان ذهن ص ١٦٧)، والأدب والنحو يساهم في تهذيب فهمه وتلقيح فكره ص ١٨٤)، والعلوم الطبيعية والتطبيقية كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب هي من أعظم ما يصقل الأفكار ويصفي القرائح ويزيد القلب سرورًا والنفس انشراحاً» (ص ١٦٧).
ومن ناحية ثانية يحث الشوكاني طلبة العلم على ألا يتقوقعوا على مذاهبهم ويقتصروا في دراستهم واطلاعهم عليه فقط، بل يجب عليهم الانفتاح والاطلاع على كل ما لدى الآخرين من أصحاب المذاهب الأخرى، سواء أكان ذلك في علم الأصول (علم الكلام)، أو الفروع الفقه، ولا يكتفي بالاطلاع على كتب المشهورين منهم «لأن الباحث قد يتحصل على فوائد عند من كان أقل علمًا أو أقل شهرة لا توجد في مؤلفات المشهورين» (ص ١٦٥ – ١٦٦).
وينصح الباحث بضرورة الاطلاع على آراء كافة الفرق والمذاهب، ومعرفة وجهة نظرها وفكرها الحقيقي من مصادرها هي لا من مصادر غيرها (ص ١٥٩ –١٦٠).
والخلاصة: فإن هذه النظرة الانفتاحية التي تميز فكر الشوكاني بخاصة، والمذهب الزيدي بعامة هي من الأهمية بمكان، سواء أكان ذلك في عصر الشوكاني أم في عصرنا، لأن الجمود والتخلف الذي لحق بالمسلمين منذ عدة قرون ولا نزال نعاني الآن، يرجع قسم كبير منه إلى قصر النظر وضيق الأفق الذي أفرزه التقليد والتعصب المذهبي، فقد ابتدأت أوائل مظاهر هذا الضيق في القرنين الثالث والرابع الهجري والحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها عندما بدأ الصراع والتنافس بين التيارين الفكريين الرئيسين «أهل الأثر» و«أهل الرأي»، ولجوء «أهل الأثر» والمتمثل في تيار السلف وأصحاب الحديث إلى تنفير الناس من علوم الرأي وخاصة علم الكلام والتشديد في الإنكار على من يتعلمه أو ينظر فيه).
وتلى ذلك في مرحلة لاحقة، وهي مرحلة تبلور الفرق والمذاهب الإسلامية واشتداد الصراع فيما بينهما، وادعاء كل فرقة بأن رأيها أو اجتهادها هو الصواب، وأنها هي الفرقة الناجية، بأن قامت كل فرقة بحثّ أو إلزام أتباعها على الاقتصار على دراسة كتب الفرقة نفسها وتنفيرهم عن الاطلاع على أي من كتب أو آراء الفرق الأخرى المنافسة أو المخالفة لها، التي تصفها بالابتداع والضلال. كما شهدت مرحلة التراجع الحضاري بعد غلق باب الاجتهاد وتوقف الإبداع تصاعد الدعوات المنفرة من العلوم غير الشرعية، وحث الناس على الاقتصار على علوم الشرع دون غيرها، وكان شعارهم في تلك المرحلة:
العلم قال الله قال رسوله .. قال الصحابة هم أولو العرفان
فقد كان لهذه الأفكار والنظرة الضيقة آثارها السيئة في تشكيل وعي واتجاهات الأجيال اللاحقة، وفي التهيئة للكسل العقلي والجمود الفكري. فالمعروف أنه بعد إغلاق باب الاجتهاد ورسوخ التقليد المذهبي لم تعد مهمة العلماء والمفكرين مقتصرة على الاهتمام بالقرآن والسنة، واستنباط الأحكام منهما كما يفترض من تلك الادعاءات، بل انشغل المتعلمون بحفظ المتون والمختصرات والشروح التي ألفها فقهاء مذاهبهم، واقتصرت مهمة القادرين على التأليف على اجترار ومحاكاة أسلافهم، إما على اختصار تلك المطولات، أو شرح المختصرات ووضع الحواشي على تلك الشروح.. الخ، حتى نسي الناس عبد الواحد المراكشي -النظر في الكتاب والسنة، وتعذر عليهم فهمهما واستنباط الأحكام منهما، وأصبحت القراءة فيهما على سبيل التعبد والتبرك فقط (ص ۱۰۸ -۱۰۹).
رابعاً: دعوة الإمام الشوكاني لإعادة النظر في القواعد الأصولية: وقد دعم المؤلف حلوله ومقترحاته بالدعوة إلى إعادة النظر في المناهج والقواعد الأصولية (أصول الفقه باعتبارها الأداة أو المنهج الرئيسي للاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية وقد أشرنا فيما سبق إلى بداية نشأة وتطور هذه المناهج وأنها قد استمرت في النمو والتطور خلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية لتلائم وتستوعب المتغيرات والمستجدات الناجمة عن تطور حياة المسلمين، وتنوع بيئاتهم ومشاكلهم.
وكان من المفروض أن يستمر نموها واتساعها لتواكب أي تغيير، إلا أنها تجمدت مع توقف حركة الاجتهاد، وأصبحت بالتالي غير قادرة على مسايرة تطورات الحياة، فكان لزاماً إذا ما أريد فتح باب الاجتهاد من جديد أن يُعاد النظر في تلك المناهج من جديد، وهو ما حاول الشوكاني فعله، فإنه لم يكتف فقط بالدعوة للاجتهاد وإنما سعى قواعد ومناهج الاجتهاد نفسها، أو على الأقل حاول أن يخطو الخطوات الأولى في كذلك لإصلاح هذا السبيل:
فقد شكك الشوكاني، أو أنكر حجية بعض القواعد الأصولية، كالإجماع والقياس والاستحسان، (ص ۱۹۹ - ٢٠٦) واعتبرها قيداً على حرية الاجتهاد، أو وسيلة للتعمية لا الاكتشاف وأنكر كذلك إسراف الفقهاء في استخدام «المجاز»، لأنه أصبح – من وجهة نظره عند المقلدين والمتعصبين للمذاهب من الوسائل التي يقومون عن طريقها بردّ أدلة الكتاب والسنة إذا تعارضت مع مذاهبهم، بدعوى أن تلك النصوص «مجازية»، ونبَّه طلابه إلى أهمية التعرف على «الحيل الفقهية» وضرورة اجتنابها إذ أن كثيرًا من الفقهاء قد توسعوا فيها واتخذوا منها أداة للتحلل من بعض التكاليف الشرعية ( ص ١٩١ وما بعدها).
وفي مقابل ذلك كرر المؤلف التأكيد على سهولة خلال قواعد أكثر وضوحًا ومرونة ومقدرة على استيعاب كل القضايا والمصالح المتجددة مثل «مقاصد الشريعة»، لأن بناء الشريعة إنما هو على أساس جلب المصالح ودفع المفاسد (ص ١٨٥)؛ ولأن الشريعة الإسلامية، نظرًا لخلودها واستمراريتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان قد ركزت على المبادئ العامة، واتخذت من بيانها للأحكام المنهج «الكلي لا التفصيلي» أو الجزئي، وتركت مهمة التفاصيل المتغيرة بتغير الزمان والمكان لجهود العلماء والمجتهدين. ولهذا دعا الشوكاني إلى استخلاص تلك المبادئ العامة والقواعد الكلية والتي يمكن من خلالها وباستخدام قواعد «الاستدلال» معالجة ووضع الحلول للكثير من الوقائع والمستجدات (الجزئيات).
من هذا سیلاحظ القارئ في ثنايا هذا الكتاب نقد الشوكاني لمقلدي الزيدية وذمهم، بل وتهجمه الشديد عليهم ونبزهم بـ «الروافض»، وقد يتبادر إلى ذهن البعض وخاصة غير المطلع منهم على تراث الشوكاني - أن هذا النقد موجه للزيدية وللمذهب الزيدي بشكل عام، وهذا غير صحيح، فالفئة التي يقصدها المؤلف بنقده في هذا الكتاب إنما هي مجموعة أدعياء العلم ظهرت في عصر الشوكاني، وفي بعض المراحل السابقة لعصره، وسلكت طريقًا مغايرا لمنهج الزيدية (سنشير إلى بعض خصائص الزيدية بعد قليل)، وحاولت فرض التقليد وإشاعة الغلو في التشيع، واتخذت من التعصب والإرهاب سلاحًا ضد كل من يخالفها في الرأي أو في النهج.
وقبل أن نختم هذه الدراسة نحب أن نوضح بعض القضايا التي وردت في كتاب الشوكاني هذا (أدب الطلب)، ومنها:
أولاً: علاقة الشوكاني بالزيدية وموقفه منها:
أما موقف الشوكاني الحقيقي من الزيدية وعلاقته بها، فهو وإن كنا لا نميل إلى تصنيف الشوكاني ضمن أي مذهب فقهي أو كلامي (أصولي)، إلا أننا نود التأكيد على أمرين:
الأول: إن أقرب تصنيف للشوكاني - من وجهة نظرنا – أنه مجتهد متحرر من أي نزعة مذهبية، فالإسلام هو المذهب الذي ينتمي إليه، ويستقي معارفه وأفكاره من ينابيعه الأولى الكتاب والسنة بعيدا عن أي تعصب مسبق لأي مذهب من المذاهب ولا ضده.
الثاني: إن الشوكاني ظل الابن البار والوفي للزيدية التي أنجبته واكتسب منها عقلانيته ونضجه الفكري وإيمانه بحرية الرأي والاجتهاد حتى وصل إلى ما وصل إليه.
ولهذا حرص المؤلف على المحافظة على أصالة المذهب الزيدي، واستمراره في صورته الناصعة والبعيدة عن مظاهر التقليد والتعصب، والاهتمام بإزالة كل ما علق به من الشوائب في رحلته الطويلة خلال تعاقب القرون والأجيال.
ولا أدل على تقدير الشوكاني للمذهب الزيدي واهتمامه به من قيامه بشرح الكتب الرئيسية للمذهب: كالأزهار، وشفاء الأوام. أو الدفاع عن وجهة نظر المذهب في مسألة الصحابة في كتابه إرشاد الغبي، كما أنه لا يخلو أي كتاب من كتبه من الإشادة بالمذهب وأئمته ومجتهديه.
وقد خصص كتابه «البدر الطالع» لتراجم هؤلاء المجتهدين والأئمة، والدفاع عنهم، لأنهم لم ينالوا أي عناية أو اهتمام من المذاهب الأخرى خارج اليمن بسبب نظرة أولئك العلماء الغير صحيحة عن المذهب الزيدي وعلمائه التي تقوم على التقليد، كما يقول الشوكاني: «ولا ريب إن علماء الطوائف لا يكثرون العناية بأهل هذه الديار لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطلع على الأحوال، فإن في ديارنا الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عدد يتجاوز الوصف يتقيدون بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صح من الأمهات الحديثية وما يلتحق بها من دواوين الإسلام المشتملة على سنة سيّد الأنام، ولا يعرفون إلى التقليد رأسًا، لا يشوبون دينهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهل مذهب من المذاهب من شيء منها، بل هم على نمط السلف الصالح من العمل بما يدل عليه كتاب الله وما صح من سنة رسول الله.. ولو لم يكن لهم من المزية إلا التقيد بنصوص الكتاب والسنة وطرح التقليد، فإن هذه خصيصة خص الله بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا توجد في غيرهم إلا نادراً …
ولهذا فإن نقد الشوكاني لتلك الفئة من الزيدية لم يأت من موقع معادٍ للزيدية، وإنما من موقف المحب لها والغيور عليها، لأن الزيدية التي اتسمت بالعقلانية وبفتحها الطريق واسعًا أمام العقل كأداة للتفكير والاختيار لا للتسليم والقبول، وتشجيعها للاجتهاد، قد طبع فكرها بالمرونة والتفتح، واتساع الأفق والبراءة من التعصب وفي المقابل، فقد اتسمت كذلك برفض التقليد وانتقاص المقلدين والازدراء بكل عالم لا يضيف جديداً.
وأيضًا فقد تميز فكر الزيدية ومنهجها بالاعتدال والتوسط والابتعاد عن الغلو والتفريط في كل القضايا الفكرية، سواء في الأصول أو الفروع، ومن تلك القضايا مسألة التشيع، وهذا ما ميز الزيدية عن معظم فرق الشيعة (الغالية)، بالرغم من التقائها مع تلك الفرق على تفضيل الإمام علي على بقية الصحابة، وجعل مسألة «الإمامة» من مسائل الأصول، وحصرها في أبناء الإمام علي من (فاطمة)، إلا أنهم يختلفون عنهم في مسائل كثيرة من أهمها: نفيهم لعصمة الأئمة، والحلولية والعلم اللدني، وينكرون الرجعة..الخ.
وهذا أبعدهم عن تقديس وتأليه أئمة أهل البيت كما أن عدم ذهابهم إلى القول بالنص «الجلي» عن إمامة الإمام علي، وإقرارهم بإمامة المفضول مع وجود الفاضل جعلهم يعترفون بشرعية الخلفاء السابقين للإمام علي وجنبهم الخوض في تكفير الصحابة الذين خالفوا عليّا، أو قدموا عليه الثلاثة ومن هنا فإن أي تجاوز لذلك النهج الذي يُميز الزيدية (العقلانية الاعتدال حرية الاجتهاد والفكر، ونبذ التقليد) والميل إلى التقليد أو التعصب أو الغلو في التشيع، إنما هو خروج عن الزيدية نفسها، وأي فرد أو جماعة تتجاوز هذا النهج، قد يطلق عليها صفة أو لقب التيار الفكري الذي تميل إليه).
وكان حدوث مثل هذا الأمر (التقليد أو الغلو في التشيع إنما هو بمثابة أمر طارئ على الفكر الزيدي، وكان محل نقد واستهجان من كافة العلماء والمجتهدين في اليمن ومنهم الشوكاني وغالبًا ما كان ظهور مثل تلك الحالات، وفي فترات متقطعة من تاريخ الفكر الزيدي، مرتبطا بأحد العاملين التاليين (أو كليهما):
١- قد يحدث التقليد والتعصب نتيجة أو انعكاسا لتردي الأوضاع السياسية وخاصة عندما تنحرف السلطة السياسية عن قواعد ومبادئ الزيدية في الحكم القائم على إشاعة العدل واحترام الحريات، ومقاومة الظلم والاستبداد، فتجنح تلك السلطة إلى الطغيان والاستبداد فينعكس ذلك على البنى الاجتماعية والفكرية، ويصيبها بالتشوه، ويغلب عليها التقليد والتعصب وضيق الأفق والاستبداد بالرأي لأن الفكر لا يمكن أن يزدهر أو ينمو نموًا صحيحًا خاليا من التشوهات والانحرافات الفكرية إلا في ظل مناخات وأنظمة سياسية توفر العدل وترعى الحريات ولا تضيق بالمعارضة أو النقد.
٢- كما أن ظهور التطرف والمغالاة في التشيع كما هو الحال في أيامنا هذه قد لا يخلو من تأثير خارجي (التشيع الصفوي)، إذ كان يفد إلى اليمن بعض الأفراد أو الجماعات من فارس (إيران)، إما لغرض السياحة أو العمل والتجارة، ويعمدون أثناء إقامتهم باليمن إلى بث ونشر مذهبهم «الإمامي» في أوساط العامة، ومن أبرز أولئك الأشخاص وأكثرهم تأثيرًا يوسف العجمي، الذي قدم إلى اليمن عام ١١٦٠ هـ، وقد تمكن من الاتصال بالإمام المنصور الحسين بن القاسم حكم اليمن من سنة (١١٣٩ - ١١٦١ هـ)، فأعجب به المنصور وحظي عنده، وبالغ في إكرامه وتعظيمه، وكلّفه بالتدريس في فضائل الإمام علي بالجامع الكبير بصنعاء، وقراءة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد في مجلس المنصور بحضور العلماء.
أما الدرس الذي كان يلقيه في الجامع الكبير بين العشائين فقد كان يتم في جو من المهابة، إذ أمر المنصور أن له كرسي في المسجد، وأن تسرج الشموع الكثيرة بين يديه، وكلف الشَّوش من أهل الدولة بمرافقته فاستغل يوسف مكانته لدى المنصور، وحُب اليمنية للإمام علي وأهل البيت لنشر مذهبه في التشيع الصفوي في أوساط العامة، وخاصة في دروسه التي يلقيها بالجامع تدريجيًا حتى لم يبق مذهب من مذاهب العجم - كما يقول زبارة - إلاّ في ذلك، فعظم الخطب حتى وصل الأمر إلى سب كبار الصحابة واستمر على ذلك إلى أن طرد من اليمن عام ١١٦٦ هـ، عندما طرده المهدي عباس بن الحسين حكم من سنة (١١٦١ هـ – ۱۱۸۹ هـ)، بعدما تبين له مسؤوليته عن إثارة الفتنة وتهييج العامة ضد العالم الكبير محمد إسماعيل الأمير التي استهدفت قتله بتهمة النصب ومعاداة أهل البيت.
ثانياً: أما المسألة الثانية التي نريد التنبيه عليها في ما يتعلق ببعض الهفوات دسه التي وقع فيها الإمام الشوكاني في هذا الكتاب: بما أنه لا عصمة لأحد من البشر سوى الأنبياء، فإن أي إنسان يظل عرضة الكمال والعلم، وهذا من أعظم العبر، وقد تكون الأخطاء التي يقع فيها العلماء هي في الأمور التي لا يجهلون خطأها، وقد يكون سبق لهم أن نبهوا الآخرين – سلفًا – إلى عدم الانزلاق إليها، وهذا ما حصل بالفعل لكبار أعلام الفكر الإسلامي، وخاصة المكثرين منهم في التصنيف، كابن حزم الأندلسي، وأبي حامد الغزالي، وأبي الفرج ابن الجوزي وابن تيمية والسيوطي..الخ.
ونفس الشيء حدث للشوكاني. وإن كانت أخطاؤه أقل ممّن ذكرناهم بسبب منهجه العلمي وبعده عن أي تعصب مذهبي – فإنا نلاحظ عليه، أنه قد يبتعد قليلاً عن المنهج العلمي الذي رسمه للباحثين في هذا الكتاب، فيقع في الأخطاء التي حذرهم من الوقوع فيها، فإما أن يقع في التقليد دون أن يشعر، أو ينساق وراء عواطفه وانفعالاته، فتأتي آراؤه وأحكامه بعيدة عن الإنصاف والموضوعية، وسنعرض هنا لمسألتين وقع منه الخطأ فيهما:
۱ - مطالبته بإنزال عقوبة الإعدام على بعض المقلدين بتهمة الكفر والزندقة: لاحظنا فيما سبق وجود بعض المقلدة في أوساط الزيدية، ونقد الشوكاني العنيف لهم، ولكن البعض من هؤلاء المقلدة - كما يفهم من كلام الشوكاني – قد أدى بهم الإفراط في التقليد والغلو في التشيع إلى تجاوز الحد في التطرف والتعصب لوجهة نظرهم، فأصبحوا لا يتورعون - أثناء دفاعهم - عن وجهة نظرهم تلك، في أبحاثهم أو مناقشتهم عن التطاول على كبار الصحابة والعلماء الذين يخالفون وجهة نظرهم وسبهم وسلب أعراضهم، بل وصل بهم الأمر كما يقول الشوكاني «إلى التهاون بالشريعة والتلاعب بالدين والطعن على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، فضلاً عن غيرهم من المتمسكين بالشرع، وكل عارف إذا سمع كلامهم وتدبر أبحاثهم يتضوع له منها روائح الزندقة، بل قد يقف منها على صريح ا الكفر...» (ص ۱۷۰).
ولذلك طلب الشوكاني بتطبيق حكم الإعدام ضد هؤلاء بتهمة الكفر والزندقة. مستدلاً بأحكام القضاة في غير (اليمن ضد أمثال هؤلاء وناعيًا على اليمنيين عدم تطبيق مثل هذه الأحكام: ولقد كان القضاة من أهل المذاهب في البلاد الشامية والمصرية والرومية (أي العثمانية.. يحكمون بإراقة دم من ظهر منه دون ما يظهر من هؤلاء حسبما تحكيه كتب التواريخ، وقد أصابوا أصاب الله بهم» (ص ۱۷۰ – ۱۷۱).
ولكن من حسن حظ اليمن واليمنيين، وحظ الشوكاني أيضًا، أن هذه الفكرة لم تصل إلى مرحلة التطبيق العملي، لأن الظروف لم تكن مهيأة لذلك (راجع ص ۱۷۲-۱۷۱) وإلا لما كان هناك أي فارق بين دعوته الفكرية القائمة على الإقناع بالحوار والحجة والبرهان وبين الدعوات المعاصرة له أو السابقة على ذلك التي انتشرت بحد السيف وبقهر السلطة.
ولذلك آثر الشوكاني التريث في تبني إخراج تلك الفكرة إلى حيز التنفيذ العملي، حتى تحين الظروف المناسبة مع إصراره على التمسك بصواب فكرته والتحسر على عدم تنفيذها، فيقول: وبعد فإني أرجو الله أن يمكن منهم فتجري عليهم الأحكام الشرعية، وينفذ فيهم ما يقتضيه مُرَّ الحق ونص الدليل، وقد علم الله أني أجد من الحشرة والتلهف ما لا يقادر قدره، ولا يمكن التعبير عنه لأنه ليس بتغاض عن متبدع ولا ولا بمجرد سكوت عن انتهاك حرمة من حرمات الشرع، بل هو سكوت عن الكفر..» (ص ۱۷۱).
ويضيف: «فبهذه الأسباب علمت أن قيامي عليهم لا يجدي إلا ثوران فتنة وظهور محنة، .. اللهم إني أشهدك وأنت خير الشاهدين أني أول حاكم بسفك دم من صدر منه ذلك، وأول مُفت بقتل من فعل شيئًا منه أو قال به عند أول بارقة من بوارق العدل...» (ص ۱۷۱).
فنحن نجد أن أقواله هذه التي لا تخلو من الشطط وحدة العاطفة» كما يقول الدكتور إبراهيم رفيدة) قد جاءت مخالفة لدعوته في هذا الكتاب للعلماء لاستعمال الرفق والتلطف عند قيامهم بمهمة الإصلاح والتغيير، واعتماد أسلوب الحوار والإقناع في التعامل مع المخالفين والمتعصبين، وأن يتعاملوا مع الناس على قدر عقولهم واستعدادهم وينصحهم اليأس إلى نفوسهم، وينصحهم بالتحلي بالصبر، فلا بد أن يعثروا على الوسيلة المناسبة لنشر العلم وتغيير الأفكار والعادات البعيدة أو المخالفة للإسلام وأن أقل شيء يستطيع العالم أن يفعله مع أشد الناس تعصبًا أن يقلل من درجة ،تعصبه إذا لم يتمكن من إصلاحه (انظر ص بالاً يتسرب (۹۲ - ۹۸، ۱۲۹ -۱۳٤)
كما أن رأيه هذا جاء متعارضًا كذلك آرائه في مسألة تكفير الخصوم والمخالفين من أهل القبلة، التي ضمنها معظم كتبه، وأوضح فيها مخاطر التكفير وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع وعلى الإسلام.
ونجد أن موقف الشوكاني تجاه هؤلاء المقلدين وأسباب حدته عليهم، متشابه إلى حد كبير، مع ظروف ومواقف ابن حزم الأندلسي تجاه هذه الفئة، إذ يعلل الأستاذ المكي إقلايينة لمواقف ابن حزم تجاه المقلدين ونقده العنيف لهم أنها ترجع إلى كراهيته للتقليد - فالتقليد غير مقبول عنده - أما السبب المباشر فيرجع إلى تهجمهم عليه وكيدهم له.
وكذلك الشوكاني، فهو بالإضافة إلى تحريمه للتقليد ونقده للمقلدة، قد تعرض للمضايقة والأذى من هؤلاء المقلدين وكتابه هذا (أدب الطلب) طافح بالمرارة والشكوى منهم ومما ألحقوه به من ألوان العنت والأذى، ولهذا جاء موقفه الأخير اتهامه لهم بالكفر والزندقة أقرب ما يكون إلى العاطفة وردود الفعل منه إلى الحياد والموضوعية، فانسياقه وراء هذه العواطف والانفعالات جعلته يبتعد عن منهجه ومواقفه السابقة من التكفير – كما أشرنا - ودفعته إلى تصويب أحكام الإعدام التي أصدرها القضاة خارج اليمن ضد المخالفين في الرأي، وقبوله لها دون أن يخضعها للتمحيص والنقد، إذ لو فعل ذلك ودرس حالة المحكوم عليهم بتلك الأحكام لتبين له الدوافع الحقيقة لإعدام معظم من اتهم بالزندقة، ابتداءً من إعدام الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي مرورًا بابن المقفع وأحمد بن نصر الخزاعي وحتى عصر المؤلف، كانت ذات دوافع سياسية أكثر منها دينية.
٢- أما الخطأ الثاني الذي وقع فيه الشوكاني في هذا الكتاب، فيتعلق بالشروط والمواصفات الأساسية التي ينبغي توفرها في طلب العلم: يرى الشوكاني أن الشرط الأساسي في المتعلّم أن يكون من ذوي «الحسب والنسب»، فيقول: «فإن قلت: وما هذه الأهلية التي يكون صاحبها محلاً لوضع العلم فيه وتعليمه إياه؟ قلتُ: هي شرف المَحْتَد وكرم النَّجَار، وظهور الحسب، أو كون في سلف الطالب من له تعلق بالعلم والصلاح ومعالي الأمور ورفيع الرتب..» (ص ۱۷۲).
أما غيرها من فئات فهذه الطبقة الاجتماعية هي التي يراها أهلاً للعلم، وطبقات المجتمع - وخاصة تلك التي تزاول الأعمال والمهن الإنتاجية أو الحرف والأعمال اليدوية - فلا يراهم أهلاً لتلقي العلم بل ويوصي بإبعادهم وطردهم من مجالس العلم... وإلزامهم بممارسة مهن آبائهم لأن تعليمهم إنما هو بمثابة وضع العلم في غير أهله (ص) (۱۷۷).
ويؤكد رأيه بأن هذه الفئات لا تصلح للعلم نهائيا، وإن وُجد منهم أفراد قلائل فإنما يعود ذلك إلى النسب الرفيع الذي قد يكون غير معلوم في سلفهم ومن أنكر هذا فعليه بالاستقراء والتتبع، فإنه سيجد ما وجدناه ويقف على ما حكيناه، ولا يخرج من هؤلاء إلا النادر القليل، ولا يكون ذلك إلا لعرق ينزعه إلى الشرف ويجلبه إلى الخير في سلفه القديم وإن جهله من لم يعرفه..» (ص ١٧٤).
فهذه النظرة والحكم الجائر من الشوكاني رحمه الله – لا تتعارض مع منهجه وآرائه في معظم كتبه). ولا مع إنصافه وتسامحه فحسب، ولكنها تتعارض مع جوهر الدين الإسلامي الذي يرفض التمييز بين أتباعه، بل يرفض التمييز بين البشر، فكلهم لآدم وآدم من تراب والأكرم عند الله هو الأتقى.
وهذه الهفوة من المؤلف، يمكن إرجاعها كسابقتها إلى التقليد والانسياق وراء العواطف. فموقف الشوكاني من هذه الفئة الاجتماعية ونظرته إليها مستمدة من النظرة الاجتماعية السائدة في عصره : إذا كانت النظرة الاجتماعية آنذاك - وما تزال بعض رواسبها قائمة حتى الآن – إلى أصحاب الحرف والمهن اليدوية والإنتاجية نظرة دونية ويتم تصنيفهم ضمن الطبقات والفئات الدنيا في المجتمع، وكذلك التقاليد الاجتماعية تقتضي بوجوب توارث الأبناء لتلك الحرف عن الآباء كما يرثون عنهم نفس الوضع والمكانة الاجتماعية.
ويبدو أن اشتراك بعض المتعلمين من هذه الفئة الاجتماعية في الحملات المتكررة التي شنها عليه المقلدون ،والمتعصبون قد أسهم في تعزيز وجهة نظر المؤلف السيئة نحو هذه الفئة.
وإثبات خطأ وجهة نظر المؤلف في هذه المسألة لا يحتاج إلى المزيد من الأدلة، فقد بين الشوكاني نفسه في ثنايا هذا الكتاب عدم التلازم بين العملية التعليمية والوضع الاجتماعي للمتعلم، كما وضح كذلك العوامل المؤثرة في التعليم:
أن المعارف ليست حكرًا على طبقة أو فئة الناس مهما علت منزلتها، ولا يقتصر فهمها واستيعابها على أبناء جيل دون جيل، بل هي من أقبل عليها، فلا مدخل في العلم لعصبية ولا مجال عنده لحمية (انظر ص ۱۳۲).
كما أكّد على أن الاختلاف بين الناس في مدى استفادتهم من العلم والتعليم إنما يرجع إلى اختلافهم في القدرات والميول والمواهب والاستعدادات الفطرية (الذكاء)، وليس بحسب اختلاف أنسابهم ويختلف الانتفاع بالعلوم، باختلاف القرائح والفهوم، فقد ينتفع من هو كامل الذكاء، صادق الفهم، سوي الإدراك بالقليل ما لا يقدر على الانتفاع بما هو أكثر منه كثير من جامدي الفهم وراكدي فهو يرى من متاحة لكل الفطنة» (ص ۱۸۰).
ويتأثر مستوى التحصيل العلمي كذلك باختلاف الرغبات والدوافع والجهد الهمم)، واختلاف الأهداف المتوخاة من وراء العملية التعليمية: «إنه لما كانت تتفاوت المطالب في هذا الشأن (أي شأن طلب العلم، وتتباين المقاصد بتفاوت همم الطالبين وأغراض القاصدين، فقد ترتفع همة البعض منهم، فيقصد البلوغ إلى مرتبة في الطلب العلم الشرع، ومقدماته يكون عند تحصيلها إمامًا مرجوعاً إليه..
وقد تقتصر همته عن هذه الغاية فيكون غاية مقصده أن يعرف ما طلب منه الشرع..» (ص ١٤٥)؛ فالعملية التعليمية تتوقف على الدوافع التي تدفع إليها، فالذي لديه رغبة في التعليم يتعلم أسرع من المجبر عليه ويلاحظ أن قوة الدوافع للعلم عند أبناء الطبقات الفقيرة أو الدنيا في المجتمع بشكل يفوق مثيله عند أبناء الطبقات العليا أو المترفة في المجتمع نفسه، ويدل على ذلك كثرة العلماء الذين برزوا من أبناء الفقراء، أو أبناء الطبقات المضطهدة كالموالي مثلاً، لأن الطالب المنتمي إلى هذه الفئة يحاول أن يكمل بالعلم ما بدا فيه من نقص، ويعوض به ما افتقده من الجاه أو الحسب، أما بعض الطلاب الذين ينتمون إلى فئة أرقى من هذه الفئة، فقد يقتصر هدفهم من التعليم على المحافظة على الوضع الاجتماعي أو الوظيفي لسلفه، وفي ذلك يقول الشوكاني عن فئة من الطلاب من أبناء الأسر العريقة في النسب الذي تقتصر دوافعهم على إدراك منصب من مناصب أسلافهم ونيل رئاسة من الرئاسات التي كانت لهم، كما نشاهده في أغلب البيوتات المعمورة بالقضاء أو الإفتاء أو الخطابة أو «الكتابة فهذا الطالب يكون ذهنه كليلاً، وفهمه عليلاً، ونفسه خائرة، ونيته خاسرة، بل غاية تصوره ومعظم فكرته في اقتناص المنصب والوصول إليه...» (ص ١٧٥).
ويبدو أننا قد أسهبنا في تناول هذه الأخطاء أو الهفوات – القليلة – الواردة في هذا الكتاب، وليس ذلك منا إلا من قبيل الوفاء للشوكاني ولمنهجه العلمي الذي رسمه للباحثين في كتابه هذا، والذي من أهم مقتضياته إعمال العقل وطرح التقليد، والتخلص من هالة القداسة نحو الأشخاص والأفكار.
وبالرغم من وجود مثل هذه الهفوات أو الزلات في هذا الكتاب، والتي نتمنى – كما تمنى قبلنا الدكتور عبد العزيز المقالح - لو خلا الكتاب منها إلا أن ذلك لا يقلل من شأن الكتاب وأهميته، بل ربما كان وجودها أكثر فائدة وأبلغ أثرا، لتقدم الدليل والعبرة من خلال الشوكاني نفسه على مساوئ التقليد والابتعاد عن قواعد المنهج العلمي
________________________________________
وفيما يلي بعض الأبحاث المتعلقة بالإمام الشوكاني
١-إبراهيم توفيق أبو بكر الديب: الشوكاني المفسر (رسالة دكتوراه)، جامعة الأزهر (١٩٧٧م).
۲- محمد حسن الغماري: الإمام الشوكاني مفسرًا (رسالة دكتوراه جامعة أم القرى) (۱۹۸۱م ).
٣- أحمد حافظ الحكمي: الإمام محمد بن علي الشوكاني أديبا وشاعرا؛ الرياض: المطابع الأهلية (د. ت).
٤- قاسم غالب محمود زايد من أعلام اليمن شيخ الإسلام محمد بن علي الشوكاني، القاهرة: مطابع الأهرام التجارية (١٩٦٩).
٥- عبد الغني قاسم الأراء التربوية لمحمد بن علي الشوكاني (رسالة دكتوراه): وقد نُشرت هذه الرسالة تحت عنوان: الإمام الشوكاني، حياته وفكره صنعاء: مكتبة الجيل (۱۹۸۸).
٦- إبراهيم هلال الإمام الشوكاني والاجتهاد والتقليد القاهرة: دار النهضة العربية .(۱۹۷۹).
٧- وللدكتور حسين العمري كتاب تحت الطبع بعنوان: «الإمام الشوكاني، فقهه وفكره» ذكره في كتابه المؤرخون اليمنيون في العصر الحديث (ص ٦٩ هامش رقم ٢). قلت: صدر كتاب الدكتور العمري بعنوان: «الإمام الشوكاني رائد عصره: دراسة في فقهه وفكره»، ولم أطلع عليه إلا بعد تقديم هذا الكتاب للطبع، فلم أتمكن من الإفادة منه.
٨-وقدم باحث عراقي: علاء الدين القيسي رسالة ماجستير إلى كلية العلوم الإسلامية- جامعة بغداد - بعنوان: الشوكاني ومنهجه في التفسير.
٩- ويُعد حاليا باحث أمريكي من أصل لبناني: برنار هيكل رسالة علمية عن فكر الشوكاني. وأثناء إعداد هذا الكتاب للطبع نُوقشت بجامعة صنعاء في ٩٤/٧/٢٠ رسالة تقدم بها الأستاذ منصور بعنوان: الشوكاني فقيهاً. قلت: وبعد صدور الطبعة الثانية من أدب الطلب (سنة ١٩٩٤ م) نوقشت مجموعة من رسائل الماجستير والدكتوراه عن الإمام الشوكاني بلغت أكثر من ثلاثين رسالة، وفي قاعدة بيانات الرسائل الجامعية بموقع مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية بالرياض على شبكة الإنترتيت: (http://www.kfcris.com/folders) ثبت بهذه الرسائل، ومن أهمها:
١٠- توظيف الشوكاني شاهد النحو الشعري لتوجيه المعنى في تفسيره / صالح علي بن زابن السريحي السلمي (رسالة ماجستير).
١١- معالم تجديد المنهج الفقهي: الشوكاني نموذجا حليمة بو كروشة (رسالة ماجستير).
١٢- دراسات في مختلف الأنواع التأويلية للقرآن الكريم وأثرها في توجيه قضايا الفكر الإسلامي: الشوكاني نموذجاً محمد عبادي (رسالة دكتوراه).
١٣-- الإمام الشوكاني ومنهجه في الفقه الإسلامي من خلال كتابه السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار / سمير حسني حسين أبو سيف (رسالة ماجستير).
١٤-الدرس الأصولي وأثره في فقه الحديث النبوي: كتاب نيل الأوطار نموذجا/ الطيب كريبان (رسالة ماجستير).
١٥-جهود الإمام الشوكاني رحمه الله في الدعوة والاحتساب/ خالد بن راشد العبدان (رسالة دكتوراه).
_______________________________________
تلخيص موضوعات الكتاب:
المطلب الأول: واجبات طالب العلم:
١-إخلاص النية لله: فعلى الطالب أن يخلص النية لله تعالى في طلبه وقصده، ولا يجمع إلى نيته طلب الدنيا، أو الركون إليها.
٢-قصد تحصيل علم الدين: فتكون غايته العلم بما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.
٣-تجنب التحيز والعصبية: فيتحرى الحق عند كل أحد من العلماء المجتهدين، والأئمة الثقات، بل وكل من ينتمي إلى هذه الشريعة، لأن الكل محكوم عليه لا حاكم، ولأن الكل متشرع لا مُشرّع.
٤-تحري الإنصاف: والإنصاف هو الخصلة الوحيدة الموجبة للأعلمية، لأنه عند ذلك سيوازن بين الآراء والاجتهادات، ويمعن النظر في الأقوال، حتى يقف على ما يرتضيه ضميره من مقاصد الشرع.
٥-توطين النفس على البحث والاجتهاد وترك التقليد، ولا شك أن ترك التقليد تنفعل له طبائع الناس وتقبله، دون أدنى معارضة.
________________________________
المطلب الثاني:الأسباب التي تؤدي إلى البعد عن الحق والعصبية:
١-النشوء في بلد متمذهب بمذهب معين: بمعنى تأثير البيئة والتنشئة الاجتماعية وقصور العلماء عن أداء رسالتهم.
٢-تزلف بعض العلماء بعض العلماء للسلطة، وإخضاع الدين طمعاً في المال والنصاب.
٣- حب الشرف والمال: وقد جرت عادة الله في عباده، أنه لا ينال الدين بالدنيا.
٤-الجدال والمراء وحب الظهور.
٥-حب القرابة والتعصب للآباء والأجداد.
٦- أثر الدولة في فرض المذهب الذي يخدم مصلحتها، ويدعم شرعيتها.
٧-صعوبة الرجوع إلى الحق لقوله بخلافه: ويعني إصرار البعض على التمسك بالخطأ وعدم التراجع عنه بعد معرفة الحق والصواب.
[ويرجع ذلك إلى عدة أسباب]:
الخوف على سمعته ومكانته العلمية.
الكبر، خصوصاً إذا كان المتكلم بالحق أصغر منه سناً أو أقل شهرة.
ما يقع في مجالس العلم من الطلاب أو الشيوخ من المجاملة.
٨-ضرورة معرفة طالب العلم للأسباب الباعثة على التعصب لتفاديها.
٩--الاستناد إلى قواعد ظنية
١٠-عدم الموضوعية في عرض حجج الخصوم
١١-الحسد والمنافسة بين الأقران
١٢-التباس ما هو من الرأي والبحث بشيء من العلوم التي هي مواد الاجتهاد
١٣-النشوء في بلد متمذهب بمذهب معين
١٤-حب الشرف والمال
١٥-الجدال والمراء وحب الانتصار والظهور
١٦-حب القرابة والتعصب للأجداد
١٧-صعوبة الرجوع إلى الحق الذي قال بخلافه
١٨-أن يكون المنافس المتكلم بالحق صغير السن أو الشأن
١٩-عدم الموضوعية في عرض حجج الخصوم
٢٠-تقليد المتعصبين من علماء الجرح والتعديل
٢١-المنافسة بين الأقران بلا تبصر
________________________________
المطلب الثالث: كيفية الوصول إلى مراتب العلم المختلفة:
* طبقات طلاب العلم:
* كيفية الوصول إلى المرتبة الأولى للعلم؟
١-علم النحو:
٢-علم الصرف
٣-علم المعاني والبيان
٤-فن الوضع والمناظرة
٥-المؤلفات المشتملة على بيان مفردات اللغة عموماً وخصوصاً.
٦-علم المنطق
٧-فن أصول الفقه
٨-علم الكلام أو أصول الدين
٩-علم التفسير
١٠-علم السنة
١١-علم مصطلح الحديث
١٢-علم التاريخ
١٣-مؤشر الوصول إلى المرتبة الأولى
١٤-علم الفقه
١٥-من لوازم الإنصاف والاجتهاد
١٦-أهمية الاطلاع على أشعار المبدعين
١٧-النظر في بلاغات مبدعي الإنشاء
١٨-علم العروض والقوافي
١٩-أهمية الاطلاع على العلوم الفلسفية
٢٠-أنصاف المثقفين في زمن الشوكاني
٢١-المؤهلون لتلقي العلم
* كيفية الوصول إلى المرتبة الثانية؟
١-علم النحو
٢-علم الصرف
٣-علم المعاني والبيان
٤-علم أصول الفقه
٥-علم التفسير
٦-علم الحديث
٧-علوم أخرى
٨-مؤشر الوصول إلى المرتبة الثانية
٩-تولي أهل العلم للمناصب
* كيفية الوصول إلى المرتبة الثالثة؟
١-علم الإعراب
٢-علم مصطلح الحديث
٣-علم السنة
٤-علم التفسير
٥-ماذا يفعل الطالب عند حدوث إشكال أو صعوبة
* كيفية الوصول إلى المرتبة الرابعة؟
١-كيف تصبح شاعراً
٢-كيف تصبح منشئاً
٣-كيف تصبح محاسبا
٤-كيف تصبح عالماً بالفلسفة
٥-كيف تصبح طبيباً
٦-كيف تكون عالما بمذهب من المذاهب
٧-مباحث ضرورية لطالب الحق
٨-جلب المصالح ودفع المفاسد
٩-الدلائل العامة والكليات
١٠-أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة أو قرينة
١١-التحايل على أحكام الشريعة
١٢-الإجماع القياس
١٣-الاجتهاد الاستحسان
١٤-مفاسد أصابت دين الإسلام
١٥-الاعتقادات الفاسدة في بعض الأموات
١٦-تعدد المذاهب
١٧-مفاسد بعض أدعياء التصوف
١٨-جلب المصالح ودفع المفاسد
١٩-الدلائل العامة والكليات
٢٠-أصالة المعنى الحقيقي وعدم جواز الانتقال عنه إلا لعلاقة أو قرابة
٢١-التحايل على أحكام الشريعة
٢٢-عدم الاغترار بمجرد الاسم دون النظر في معاني المسميات وحقائقها
٢٣-الإجماع والقياس والاجتهاد والاستحسان
أ-الإجماع
ب-القياس
ج-الاستحسان
د-الاجتهاد
* مفاسد أصابت دين الإسلام
١-تعدد المذاهب
٢-الاعتقادات الفاسدة في بعض الأموات
٣-مفاسد بعض أدعياء التصوف
-كيفية الوصول إلى مراتب العلم المختلفة
-آفات الشيوخ والتلاميذ
-العواقب الوخيمة للتعصب والبعد عن الحق
-من آفات الشيخ والتلميذ
-علاج التعصب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق