تبيين كذب المفتري
فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري
لأبي القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر
(٤٩٩- ٥٧١ هـ)
بقم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ في كل مشهد يحصل فيه التنازع، تتراءى لنا وجهات النظر في تصارم وانجذام، والفرق بينها في زيادة واتساع، شأن كل افتراق يحصل، وإن بدا يسيراً في مطلعه، فإنه لا يلبث بعد طول الأمد وتوالي المسير أن يصل إلى حيث يعزُّ اللقاء وتتعذر العودة! فكيف إذا غذَّته حشائك النفوس، وأمراض القلوب من الضغينة وحب الظهور والحسد والعصبية، وفرحَ كلُّ فريقٍ بما عنده، واستخفَّ بما عليه الآخرون، كما هي عادة الناس في تصرفاتهم، وتقلبهم في هجرهم، حينها لا أمل في ألفة ولا رجاء في محبة، حيث تنزع البركة، ويجني الناس عاقبة ذلك.
وهذا الكتاب (تبيين كذب المفتري) وضعه الحافظ ابن عساكر رداً على الإمام أبي علي الأهوازي الذي ألف كتاباً في مثالب أبي الحسن الأشعري، سماه (مثالب ابن أبي بشر)، أغار فيه على الأشعري، وبيّن فساد طريقته في الاعتقاد والعلم والعمل، لكنه بالغ في وتعدى طور التقرير إلى الإساءة، فما كان من ابن عساكر إلا أن رد عليه بهذا الكتاب.
يقول ابن عساكر في "تبيينه": فأما ما ذكره ذو المعايب والمخازي أبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي فمما لا يعرج عليه لبيب، ولا يرعيه سمعه مصيب؛ لأنه رجل قد تبينت عداوته لأهل الحق وشنآنه، ويكفيك من كتابه ترجمته وعنوانه، ولو كان من ذوي الديانات لم يتفرغ لذكر المثالب، ولو أنه من أولي المروءات لاستحيا من تتبع المعايب، ولولا أنه وجدها كثيرة في نفسه لما اختلقها لمن ليس هو من أبناء جنسه اهـ.
فذكر ابن عساكر مقام أبي الحسن من العلم والورع، وبين رتبة أبي الحسن في العلماء بين الرحمة والحرمة، وبالغ في الثناء على الأشعرية، لكنه استطال وتمادى في الرد على الإمام الأهوازي، ونعته بعبارات لا تليق، وتجاوز في ذمه نقطة الحق إلى قصعة الباطل، ولم يقف الأمر عند ذلك؛ حتى تصدى للرد عليه الإمام ابن المبرّد الحنبلي في كتابه (جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر).
ولم يكتفِ الأشاعرة بالتأريخ المعارض على مقام "اليقظة والشهود"؛ حتى انتقلوا إلى الرؤى والمنامات التي ألفنا الوقوف عليها في كتب التراجم، وتواريخ المذاهب والأشخاص، وقد ذكر ابن عساكر في كتابه "التبيين" باباً عنون له بقوله (باب ذكر بعض المنامات التي تدلُّ على أن أبا الحسن من أصحاب الإمامات)، ونقل رؤىً تشيد بالمذهب الأشعري، ورؤىً أخرى تُدين أولئك الذين ثلبوا الأشعري أنهم رؤوا في أسوأ حال، منهم واحد من أصحاب ابن سمعون لم يُصرح باسمه.
وبين هذا الفريق وذاك، نقول: إن الحق والإنصاف يقضي علينا أن لا نتجاوز الحق في مدح ممدوح، ولا ذم مذموم، فلا نمدحنَّ أحداً إلا من حيث كونه ممدوحاً شرعاً، ولا نذمنَّ أحداً إلا من حيث كونه مذموماً شرعاً، وليس الأمر تصديق كل ما قالت حزام، وإنما الشأن أن نقف موقف المسلم المقسط، الذي يرى الخير فيتبعه، ويرى الشر فيجتنبه.
ونحن وإن كنا لا نوافق الأشاعرة في جملة من العقائد الدينية، ونرى أن أبا الحسن أخطأ في بعض ما ذهب إليه سيما نفي صفات الأفعال، إلا أنه خطأ مغفورٌ إن شاء الله، مع وجوب بيان ما أخطأ فيه، ومع ذلك فإننا لا نسلبه -وفضلاء الأشاعرة -فضلهم ودفاعهم عن الإسلام،وردهم على أهل البدع والزندقة.
ولنا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - في "درء التعارض": ((ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها. وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات)) اه.
ولن تخطئ العين الفاحصة في هذا الكتاب جملة الأدلة المحكمة والشواهد المستحسنة، والأشعار الجيدة، والتي لها حظٌّ من النظر، غير أن الأشعرية لها طغيانها وبغيها على نفس الحافظ ابن عساكر، فلم يخلُ الكتاب من ألفاظ قاسية تنم عن العصبية المقيتة، مع إيراده لبعض الحكايات المكذوبة، والتشنيع المبالغ فيه، الذي تطاول فيه وتمادى، وجعل الضغينة متوارثة ومتسلسلة، وكنا نُحب للحافظ أن ينأى بنفسه عن مثل هذه الأمور.
وكما أن الشذوذ هلكة فالفرقة عذاب، والأصل في الولاء أن يكون لكل مسلمٍ بحسب ما فيه من الخير والاتباع، ما لم يظهر خلاف ذلك، فلا يُعادي بالظن والتخمين، ولا يوالي لأجل الترف والهوى؛ فنسأل الله تعالى أن يرحم أبا الحسن الأشعري، وأبا علي الأهوازي، وأبا القاسم بن عساكر، وأبا الحسن بن عبد الهادي، ويرحم كل ناظرٍ إلى كتب هؤلاء بعين الاستفادة من غير إفراط ولا تفريط.
ومن كلام ابن عساكر في خاتمة كتابه: ولست أعجب منه فيما أتاه من الجهل لأنه اللائق به لسوء العقد وعدم الفضل وإنما أعجب من تيوس سمعوا منه وحكوه وجهال كتبوه عنه ورووه ولكن لكل ساقطة لاقطة وعلى قدر الوجه تكون الماشطة فهذا جملة الجواب الكافي في الرد على هذا العائب الشافي في إظهار ما فيه أنواع المعائب اه.
وتكمن أهمية هذا الكتاب في أمورٍ منها:
١-إثبات نسبة بعض الكتب إلى أبي الحسن الأشعري، والتي منها: كتاب الإبانة.
٢-كون الكتاب ترجمةً وافية للإمام أبي الحسن الأشعري، وترجمة لأصحابه الذين هم على مذهبه، وشيوخهم، وتلاميذهم الآخذين عنهم، ومناقبهم.
٣-ذكر بعض شيوخ الحافظ ابن عساكر الذين روى عنهم، وأسانيده التي فيها توثيق الأقوال والآثار والأشعار.
٤-إثبات بعض المسائل ذات الأهمية في الفرق العقدية، ومنها أن الأشاعرة لم يكونوا كثرة في الأمة، ولذلك يقول: فإن قيل: إن الجم الغفير في سائر الأزمان وأكثر العامة في جميع البلدان لا يقتدون بالأشعري ولا يقلدونه ولا يرون مذهبه ولا يعتقدونه وهم السواد الأعظم وسبيلهم السبيل الأقوم قيل لا عبرة بكثرة العوام ولا التفات إلى الجهال الغتام اه.
٥-ذكره بعض المخطوطات والرسائل التي لم نقف عليها، ومنها جواب على كتاب الأهوازي في جزء، قال ابن عساكر: وقد وجدت في جزء يخط بعض الثقات سؤالا يعتقبه ما أذكره بعد من الجوابات نقلته على نصه ونسخته ليقف عليه من ينتفع بمعرفته اه.
٦-جوابه على بعض الإشكالات في أقوال الفقهاء، والتي منها (ذم الإمام الشافعي لعلم الكلام)، وإن كانت الأجوبة عنها ضعيفة.
٧-التعرف إلى طبيعة العلاقة بين الأشاعرة وغيرهم منذ نشأتهم، والفتن المثارة في تلك الفترة سيما القرنين الخامس والسادس الهجريين بسبب هذه الفرقة.
تلخيص كتاب الإبانة للأشعري
١-وابتدأ ابن عساكر كتابه في بيان تحريم الغيبة سيما الوقوع في العلماء وأهل الفضل، ثم ذكر تسمية أبي الحسن الأشعري وصحة نسبه، وكونه معروفاً بشرف الأبوة والأصل، والأمر الذي فارق عقد أهل الاعتزال بسببه، بعد أن تساوت لديه أدلة الفريقين ولم يظهر له وجه الحق، ثم دعا الله تعالى بالهداية فوفقه إلى عقيدة الإمام أحمد.
٢-ثم تناول الحديث عن مناقبه وفضائله، والأمور التي رزقها أبو الحسن-رحمه الله -من شرف الأصل والنسب، وما ورد في الدلالة على فضله وسريان فضل قومه إليه، وافتخار بأجداده، مع كونه من خير قرون هذه الأمة، وأردف ذلك بذكر الرؤى والمنامات التي تدل على أنه من مستحقي الإمامة في الدين.
٣-وذكر من جملة مناقبه: وفور العقل والدين، والإنصاف، والنبل، وكونه من ذوي الاتباع والاستقامة، وإذعانه للحق، وما تميز به من العلم، والاجتهاد في العبادة، وما نقل عنه من التقلل من الدنيا والزهادة، وما ظهر عليه من وفور المعرفة به ومؤلفاته التي وضعها.
٤-ثم عقد باباً ذكر فيه بعض ما مدح به أبو الحسن من الأشعار، نقلاً عن بعض العلماء من أقرانه وطبقة شيوخه، ونقل فيها كونه من أهل الإجادة والتحقيق، ومكانة مؤلفاته العلمية كالإبانة وكتابه في التفسير.
٥- ثم باباً آخر ذكر فيه جماعة من أعيان مشاهير أصحابه، بلّغهم ثمانين رجلاً تقريباً، مع ذكر طرف من أخبارهم ومناقبهم، ويطيل ويُقصر الكلام عليهم بحسب تأثيرهم في المذهب الأشعري، وقسمهم على خمس طبقات بحسب وفياتهم:
(الطبقة الأولى) هم أصحابه الذين أخذوا عنه ومن أدركه ممن قال بقوله أو تعلم منه [وهي الفترة التي تمتد وفياتهم ما بين ٣٣٠ إلى ٣٦٩ هـ]، وذكر منهم ١٨ ثمانية عشر رجلاً.
(الطبقة الثانية) وهم أصحاب أصحابه ممن سلك مسلكه في الأصول وتأدب بآدابه، وذكر منهم ١٩ تسعة عشر رجلاً [وهي الفترة التي تمتد وفياتهم ما بين ٣٧٠ إلى ٤٠٩ هـ].
(الطبقة الثالثة)، وهم من لقي أصحاب أصحابه وأخذ العلم عنهم، وذكر منهم ١٨ ثمانية عشر رجلاً [هي الفترة التي تمتد وفياتهم ما بين ٤١٠-٤٥٩ هـ].
(الطبقة الرابعة)، وهم المستبصرين بتبصيره وإيضاحه في الاقتداء والمتابعة، وذكر منهم ٨ ثمانية رجال [هي الفترة التي تمتد وفياتهم ما بين ٤٦٠-٤٩٩ هـ].
(الطبقة الخامسة)، وهم الذين أدركهم الإمام ابن عساكر بعضهم بالمعاصرة وبعضهم بالرؤية والمجالسة من طبقة شيوخه، وذكر منهم ١٦ ستة عشر رجلاً، [وهي الفترة التي تمتد وفياتهم ما بين ٥٠٠ إلى ٥٣١ هـ، وهي سنة وفاة ابن عساكر].
٦- ثم أورد كلام الإمام الشافعي في ذم علم الكلام، وتأويل ذلك، ثم ذكر مدح الكلام والمتكلمين وذكر بعض من كان تعلمه من علماء المسلمين، ثم تعرض لرسالة الأهوازي ورد عليها حرفاً حرفاً (انظر ص ٣٦٤ =شاملة، فما بعده)، ثم نظم ما أورده فيه في أبيات.
وقد احتفى الأشاعرة بهذا الكتاب أيما احتفاء، فقد بالغ الإمام تاج الدين السبكي في الثناء على (التبيين)؛ فقال: "كل سُني لا يكون عنده كتاب (التبيين) لابن عساكر فليس من أمر نفسه على بصير، ولاقى الكتاب استحسان الأشاعرة؛ حتى قال قائلهم: الأشعري له فضل على كل مسلم إلا ابن عساكر فله فضل على الأشعري!
يقول ابن عساكر بأن سبب ثلب هؤلاء للأشعري هو انتقامه من أصناف أهل البدع بإيضاح الحجج والأدلة، قال: ووجدوه لدى الحجاج في تبيين الاحتجاج عليهم فيما ابتدعوه هماماً، قالوا فيه حسداً من البهتان ما لا يجوز لمسلم أن ينطق به استعظاما، وقذفوه بنحو ما قذفت به اليهود عبد الله بن سلام وأباه سلاما فلم ينقصوه بذلك عند أهل التحقيق بل زادوه بما قالوا فيه تماما
وإذا أبحنا النظر في جنس الأدلة العقلية واستعمالها من قبل أهلها المعتبرين، فإنما ذلك بشرطين، هما: أن يكون القصد منه تأييد الشرع بالعقل، وأن يعتمد المتكلم في العقائد على ما جاء في الكتاب الله، والسنة الصحيحة، أما لو فات أحد هذين الشرطين لم تكن هذه العقائد أصولاً، وإنما هي مغالطات ومهاترات لا طائل تحتها، فإن العقل هو ما يؤدي إلى قبول السُّنة، وأما إذا أدى إلى إبطالها، فهو جهلٌ لا عقل.
وإنما جُعل عل الكلام للغلبة في الجدل، وقد أغنى الله عباده في كتابه بما وضعه لهم من أدلة عقلية (وليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن) على تأويل من قال يستغني به.
وقد ادَّعى كثيرٌ من أصحاب المقالات الكلامية أن كلامه إنما هو وقاية للسنة وجُنّة لها، يُذب به عنه،ويُذاذ به عن حرمها! ولم يكن ذلك أكثر من دعوى، حتى استزلهم ذلك عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، فتاهوا في حقائقها.
وجاء في (كشف الغطاء): ثم إن بعضهم ضرب على هذه الكتابة، وكتب آخر عليها: كل ما أجاب به أبو القاسم بن عساکر وغيره هذيان بغير علم، وهذه الأخبار والحكايات قد ذكرها عدة من أهل العلم غير هذا الرجل، مثل شيخ الإسلام الأنصاري وغيره.
وقد ذكر ابن عساكر في كتابه هذا أن بعض كبراء أبي حنيفة نظر في كتب صنفها بعض المتقدمين في التوحيد؛ فإذا هي كتب فلاسفة، مثل: أبي إسحاق الكندي، والإسفرازي، وأمثالهما، وذلك كله خارجٌ عن الصراط المستقيم.
أبرز الأمور التي انتقدها الأهوازي على الأشعري:
١-أن نسبته التي اشتهرت في أهل البصرة هي إلى أبي بشر؛ فكان يُقال له: ابن أبي بشر، وكان يهودياً أسلم على يد رجل ينسب إلى الأشعريين، فانتسب إلى ذلك.
٢-رداءته في التصنيف وجمود خاطره عند الأخذ في التأليف.
٣-أن أبا الحسن إنما أظهر توبته من الاعتزال تمويهاً وغشاً لأهل السنة حتى يقبلوه، لكنه ظلَّ منبوذاً منهم إلى أن مات.
٤-أن الكلام محدث وهو بدعة ضلالة، ولم يكن الأئمة ومتقدمي أصحابهم يتكلمون بذلك، وإنما كانوا يشنعون على الكلام وأهله.
جملة الردود التي ذكرها ابن عساكر على أبي علي الأهوازي:
١-الصحيح أن أبا بشر جده اسحق كما سبق، وفي نسبة أصحابه أباه إلى أبي بشر تكذيب لأبي علي الأهوازي فيما اختلق فإنه زعم أنه غير صحيح النسب وأنه ما كنى عن اسم أبيه إلا لهذا السبب.
٢- أن البدعة لا تكون أعظم من الشرك، ومع ذلك؛ فيقبل إسلام الكتابي والمرتد والكافر الأصلي فكيف يستحيل عندكم قبول توبة المبتدع الملي.
٣-أن رداءة تواليف أبي الحسن وركاكة أسلوبه إنما كان ذلك في الابتداء -وهو على اعتزاله -لا بعد ما من الله عليه به من الاهتداء فإن تصانيفه مستحسنة مهذبة وتواليفه وعباراته مستجادة مستصوبة.
٤-أن كل بدعة لا توصف بالضلالة؛ فإن البدعة هو ما ابتدع وأحدث من الأمر حسناً كان أو قبيحا بلا خلاف عند الجمهور. وأن مناظرة أبي الحسن للمعتزلة وغيرهم إنما كان لحاجة وضرورة؛ كما أن أبا الحسن لم يحدث في دين الله حدثا ولم يأت فيه ببدعة بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في أصول الدين فنصرها بزيادة شرح وتبيين.
٥-زعمه أن أبا الحسن الأشعري من القرون الثلاثة الخيرية، فقال: ومدة القرن من الزمان مائة سنة ففي الروايتين ما يدل على منقبة لأبي الحسن حسنة فإنه ولد في القرن الثالث بعد قرن المصطفى فكان مما اختاره الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الأمور التي انتقدها الإمام ابن المبرد على ابن عساكر، وأجوبته عليها:
١-كثرة الحشو والإطالة بذكر أمور لا علاقة لها بالدفاع عن أبي الحسن الأشعري.
٢-أنه نقل عن بعض الفقهاء أن الأشعري هو مجدد المائة الثالثة، مع وجود من هو أفضل من الأشعري بمرات من المجددين.
٣-زعم ابن عساكر أن هذه الضلالات لم يتصدى أحدٌ لإبطالها حتى جاء أبو الحسن الأشعري؛ فقام بنردها، وهذا يقتضي خلو الزمان من العلماء الذين يُبينون الحق ويردون على الشبهات..
٤-زعمه انتساب كثير من الفقهاء إلى المذهب الأشعري، مع اعترافه أنهم كانوا قلة في مرحلة من المراحل.
٥-أنه ذكر جماعة من الأشاعرة وفي أهل السُّنة من أصحاب العقيدة السلفية أكثر منهم، بل إن ممن ذكرهم ابن عساكر ليسوا أشاعرة أصلاً.
يقول أبو زهرة في كتابه عن "الإمام الشافعي" (ص ٣٦٣): "الأشاعرة والماتريدية فرقتان ظهرتا في أواخر القرن الرابع الهجري، تمثلان الآراء المعارضة للمعتزلة، وتدافع عن آراء الفقهاء والمحدثين، بالأدلة العقللية على طريقة المعتزلة في الاحتجاج والجدل، والفرقة الأولى تنسب إلى أبي الحسن الأشعري، توفي سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة،وقد كان أول حياته معتزلياً، تتلمذ لشيخ المعتزلة في عصره أبي علي الجبائي، وكان لفصاحته ولسنه يولي النظر والمجادلة نائباً عن شيخه، ولكنه وجد بعد ذلك ما يبعده عن المعتزلة في تفكيرهم، وما يقرون به من آراء الفقهاء والمحدثين، فعكف في بيته مدةً، وازن فيها بين آراء الفريقين، وانقدح له رأيٌ بعد الموازنة أخرج إلى الناس وجهر به، وصار بعد ذلك عواناً على المعتزلة، وكانت حياته ونشاطه العلمي بالعراق، وهو شافعي المذهب، والماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي، نسبةً إلى قرية ماتريد من أعمال سمرقند، تفقه على مذهب أبي حنيفة، وألف في الأصول كتاب الجدل، وفي الفقه كتاب مآخذ الشريعة، ثم ذاعت شهرته في علم الكلام حتى صار له مذهب بخراسان يُقارب مذهب الأشعري الذي كان يُعاصره، وقد ذكر الأستاذ الشيخ محمد عبده في تعليقاته على العقائد العضدية أن بين الماتريدية والأشاعرة خلافاً في نحو ثلاثين مسألة، ولكنها جزئيات لفظية في نظر أكثر العلماء، وتوفي أبو منصور هذا في سنة ٣٣٢ هـ، وله كتاب الرد على الكعبي المعتزلي، وكتاب أوهام المعتزلة، وكتاب الرد على الرافضة" اه.
وهذا القدر القليل، يكفي الحذاق النبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إمام المحدثين الحافظ الرباني ابن عساكر
أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن الحسين بن عبد الله، ثقة الدين، ابن عساكر، الأشعري الشافعي الدمشقي.
اسمه ونسبه:
شيخ الإسلام، حافظ الشام، بل حافظ الدنيا، الإمام القدوة؛ قال الإمام ابن السبكي في (طبقاته): "وإنَّما هو اشتهر بذلك، ولا نعلم أحداً من جدوده يُسمَّى عساكر".
ولاسمه وكنيته خبر لطيف؛ فقد حكى الحافظ ابن عساكر نفسُهُ عن شيخه: اسمه وكنيته الإمام المحدّث النسيب أبي القاسم علي بن إبراهيم الحسيني الدمشقي أنه قال: لما ولدت سألتُ أباك ما سميتَهُ وكنيته ؟ فقال: أبا القاسم عليّاً، فقال: أخذت اسمي وكنيتي ؟!
ولادته ونشأته:
ولد الحافظ الإمام ابن عساكر في دمشق الشام، وقد أرَّخَ الحافظ القاسم بهاء الدين لولادة والده الحافظ ابن عساكر فقال (وُلد في المحرم، سنة تسع وتسعين وأربع مئة).
وقال الإمام ابن السبكي نقلاً عن ترجمة ولده له: (قال لي أبي: لما حملَتْ بي أمي رأتْ في منامها قائلاً يقول لها تلدين غلاماً يكون له شأن. فإذا ولدتيه فاحمليه إلى المغارة - يعني مغارة الدم بجبل قاسيون - يوم الأربعين من ولادته، وتصدقي بشيءٍ؛ فإنَّ الله تعالى يبارك لك وللمسلمين فيه، ففعلت ذلك كله).
وصدَّقَتِ اليقظة منامها، ونبَّهَهُ السعدُ فأسهرَهُ الليالي في طلب العلم وغيره سهرها في الشهوات أو نامها، وكان له الشأن العظيم، والشأو الذي يجلُّ عن التعظيم.
وقال الإمام ابن السبكي في (طبقاته) أيضاً: (لما حملت به أنه رأى والده في المنام: إنَّه يُولد لك ولد يحيي الله به السنة، ولعمر الله؛ هكذا كان، أحيا الله به السنةَ، وأمات به البدعة، يصدع بالحقِّ لا يخافُ في الله لومة لائم، ويسطو على أعداء الله المبتدعة ولا يبالي وإن رغمَ أنفُ الراغم، لا تأخذُهُ رأفةٌ في دين الله، ولا يقوم لغضبه أحد إذا خاص الباغي في صفات الله).
وقد نشأ هذا الإمام الأجلُّ في دمشق وحوله أعلام من أهل العلم في أسرته:
فأبوه الحسن بن هبة الله كان شيخاً صالحاً أجاز له محدث بغداد الثقة أبو الفضل ابن خيرونَ. وأخوه الأكبر الصائن هبة الله بن الحسن كان فقيهاً محدثاً ثقة مقرئاً.وأخوه محمد بن الحسن كان قاضياً، وأمه كانت من أسرة علم كذلك؛ فأبوها أبو المفضل يحيى بن علي القرشي كان قاضي دمشق وأبا قضاتها، وأخوها محمد بن يحيى القرشي كان قاضياً ذا رواية، وغيرهم من أهل العلم والفقه والفضل ضمن رحاب هذه الأسرة المباركة.
ومن عنايات أخيه المقرئ الفقيه صائن الدين هبة الله به: أَنَّه سَمَّعَهُ سنةَ خمس وخمس مئة وبعدها من الشريف أبي القاسم النسيب، وأبي القاسم قوام بن زيد، وأبي الوحش سبيع بن قيراط، وأبي طاهر محمد بن الحسين الجنائي، وأبي الحسن بن الموازيني، وأبي الفضائل الماسح، ومحمد بن علي المصيصي، ثم سمع هو بنفسه من أبي محمد ابن الأكفاني وأبي الحسن بن قبيس المالكي، وعبد الكريم بن حمزة، وطاهر بن سهل، ومن بعدهم.
وعن نشأته ومحاسن أخلاقه يقول الإمام ابن السبكي في «طبقاته»: (كان قد تفقه في حداثته بدمشق على الفقيه أبي الحسن السلمي، ولما دخل بغداد لزم بها التفقُة وسماع الدروس بالمدرسة النظامية .، وقرأ الخلاف والنحو، ولم يزل طول عمره مواظباً على صلاة الجماعة، ملازماً لقراءة القرآن، مكثراً من النوافل والأذكار والتسبيح أناء الليل وأطراف النهار، وله في العشر من شهر رمضان في كل يوم ختمةٌ، غير ما يقرؤه في الصلوات وكان يختم كلَّ جمعةٍ، ولم يُرَ إلا في اشتغال؛ يحاسب نفسه على ساعة تذهب في غير طاعة).
وزاد الحافظ الذهبي في (تاريخه) نقلاً عما ذكره ابنه في ترجمته (ويعتكف في المنارة الشرقية وكان كثير النوافل والأذكار، وكان يُحيي ليلة النصف والعيدين بالصلاة والذكر).
زوجته وأولاده:
كان رحمه الله تعالى قد تزوَّجَ ابنة خالته الكبرى عائشة بنت علي السلمية؛ وهي أم أولاده، وقد أسمعها الحديث من فاطمة بنت علي العكبرية، وأسمعت هي أولادها، وتوفيت في حياته سنة (٥٦٤ هـ) وقد رُزق من الولد عدَّةً، اشتهر منهم القاسم بهاء الدين، وأبو الفتح الحسن، وأم الحسين حليمة، وعُرف له من الأحفاد قلة، وأكثر بني عساكر من بعده كانوا من ولد أخيه محمد بن الحسن بن هبة الله، رحمهم الله تعالى أجمعين.
رحلاته في طلب العلم:
لإمامنا ابن عساكر رحلات شهيرة؛ كانت أولاها رحلته في شبابه إلى بغداد سنة (٥٢٠ هـ)، وقد أقام بها خمس سنين، وضمن هذه السنوات كان قد حج سنة (٥٢١ هـ)، وسمع من الشيوخ بمكة؛ كأبي محمد عبد الله محمد بن الغزال المصري صاحب كريمة المروزية والمدينة، وقصد الكوفة وروى عمَّن لقي فيها من الشيوخ؛ كأبي البركات عمر بن إبراهيم الزيدي العلوي، ثم عاد إلى بغداد، وبعد تمام السنوات الخمس رجع إلى موطنه دمشق سنة (٥٢٥ هـ).
ثم رحل رحلته العظيمة إلى بلاد خراسان عن طريق أذربيجان، ودخل نيسابور سنة (٥٢٩ هـ)، ودخل مرو، وبسطام، ودامغان، وسمنان والري، وزنجان، ثم نزل في طريق عودته إلى بغداد مرة أخرى سنة (٥٣٣ هـ)، وكانت مدة هذه الرحلة أربع سنوات إلى أن حطّ رحله في مسقط رأسه دمشق، ناشراً علمه ورواياته فيها، ومُؤلَّفاً لكُتبه الثرة العظيمة.
قال الحافظ السمعاني عنه رحل وتعبَ، وبالغ في الطلب ـإلى أن جمع ما لم يجمع غيره، وأربى على أقرانه.
الحافظ ابن عساكر والحافظ أبو عبد الله الفراوي:
للحافظ الإمام ابن عساكر في كتابنا (تبيين كذب المفتري) حديث مفرد رقيق الحاشية في ترجمته لشيخه أبي عبد الله محمد بن الفضل الفراوي، وفيه قال عن رحلته الثانية التي قصد بها بلاد خراسان: (وإلى الإمام محمد الفُراوي كانَتْ رحلتي الثانية؛ لأنه كان المقصود بالرحلة في تلك الناحية؛ لما اجتمع فيه مِنْ علوّ الإسناد، ووفورِ العلم، وصحة الاعتقاد، الجانب، والإقبال بكلِّيَّتِهِ على الطالب الخُلُق، ولين وحسن فأقمتُ في صحبتِه سنة كاملةً، وغنمتُ من مسموعاته فوائد حسنةً طائلة، وكان مكرماً لموردي عليه، عارفاً بحقِّ قصدي إليه، ومرض مرضةً في مدة مقامي عنده نهاه الطبيب عن التمكين مِنَ القراءة عليه فيها، وعرَّفَهُ أَنَّ ذلك ربَّما كان سبباً لزيادة تألمه، فقال لا أستجيزُ أن أمنعهم مِنَ القراءة، وربَّما أكونُ قد حُسْتُ في الدنيا لأجلهم، فكنتُ أقرأ عليه في حالة مرضه وهو مُلقى على فراشه، ثم عُوفي من تلك المرضةِ، وفارقتُهُ متوجهاً إلى هَراةَ، فقال لي حين ودَّعتُهُ - بعد أن أظهر الجزع لفراقي: ربما لا نلتقي بعد هذا، فكان كما قال.
والفراوي ألف راوي؛ كما قال فيه الحافظ عبد الرشيد بن علي الطبري، وله لطيفة مع إمامنا ابن عساكر؛ فقد قال الحافظ الذهبي في (تاريخه): (قرأت بخط ابن الحاجب قال حدثني زين الأمناء قال حدثني ابن القزويني، عن والده مدرس أبا الخير ـ قال حكى لنا أبو عبد الله الفُراوي قال: قدم أبو القاسم ابن عساكر، فقرأ عليَّ ثلاثة أيام، فأكثر وأضجرني، وآليتُ على نفسي أن أغلق الغد بابي وأمتنع فلما أصبحتُ.. قدم عليَّ شخص، فقال أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك، قلت مرحباً برسولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي امض إلى الفراوي وقل له قدم بلدكم رجلٌ من الشام أسمر اللون يطلب الحديث، فلا يأخذك منه ضجرٌ ولا ملل قال القزويني فوالله؛ ما كان الفراوي يقومُ من المجلس حتى يقوم الحافظ ابتداءً منه وبهذا تُلِمُ بأنَّ لبَّ اللُّباب من رحلة خراسان المذكورة كانت للأخذ عن الحافظ الفراوي؛ الذي نعته الإمام ابن عساكر كما رأيت بسلامة الاعتقاد وعلو الإسناد، وهذا غاية المنى).
شيوخه والرواة عنه:
من العسير ذكر شيوخ الحافظ ابن عساكر في ترجمة خاطفة تعنى برؤوس المقاطع المهمة والأخبار الرئيسة في حياته رحمه الله تعالى، وقد قال ابنه الحافظ بهاء الدين (وعِدَّةُ شيوخِهِ ألف وثلاث مئة شيخ، ومن بضع وثمانون امرأة) ! وهذا ممَّا لم يكذ يتهيَّأ لأحدٍ سبقه أو لحقه وقال أيضاً (وقال لي والدي لم أرَ بدمشق أفهم للحديث من النظامية يعني أبي محمد ابن الأكفاني، ولا ببغداد مثل أبي الفضل محمد بن ناصر وأبي عامر العبـدري وكان العبدري أحفظهما، ولم أر بخراسان مثل أبي القاسم الشَّحَّامي، ولا بأصبهان مثل أبي القاسم التيمي الحافظ وأبي نصر البوياري، فقلتُ له ما إخالُكَ إلا أفضل منهما، فسكت).
ومَن أراد الوقوف على شيوخه، والتوسُّعَ في معرفة رواياته عنهم والاطلاع على شيء من ترجماتهم.. فعليه بكتابه العظيم: "معجم الشيوخ".
أما بشأن مَن سمع منه وروى عنه: فأعلام شرَّقَتْ أسماؤها وغرَّبت؛ قال الحافظ الذهبي في «تاريخه»: (وسمع منه الكبار؛ كالحافظ أبي العلاء الهمذاني، والحافظ أبي سعد السمعاني)، وقال: (روى عنه: ابنه القاسم، وبنو أخيه فخر الدين أبو منصور، وتاج الأمناء، وزين الأمناء، وعبد الرحيم، وعز الدين النسابة ابن تاج الأمناء، والحافظ أبو المواهب بن صصرى، وأخوه أبو القاسم الحسين، والقاضي أبو القاسم بن الحرستاني، وأبو جعفر القرطبي، والحافظ عبد القادر، وأبو الوحش عبد الرحمن بن نسيم، والحسن بن علي الصيقلي، وصالح بن فلاح الزاهد، وظهير الدين عبد الواحـد بـن عبد الرحمن بن سلطان القرشي، وأبو العز مظفر بن عقيل الشيباني الصفار والد النجيب، والصائن نصر الله بن عبد الكريم بن الحرستاني، والبدر بن يونس بن محمد الفارقي الخطيب، والقاضي أبو نصر بن الشيرازي، ومحمد ابن أخي الشيخ أبي البيان، وعبد القادر بن الحسين البغدادي، ونصر الله بن فتيان، وإبراهيم وعبد العزيز ابنا الخشوعي، ويونس بن منصور السقباني، وإدريس بن الخضر السقباني، ومحمد بن رومي الحرداني، وحاطب بن عبد الكريم المزي، وذاكر بن عبد الوهاب السقباني، وذاكر الله بن أبي بكر الشعيري، ومحمد بن غسان، ومحمد بن عبد الكريــم بـن الهـادي، والمسلم بن وخلق آخرهم وفاة أبو محمد مكي بن المسلم بن علان أحمد المازني.
مؤلفاته ومخلفه العالمي:
كان الإمام ابن عساكر ممَّن أكثر من التأليف، وتراوحت مؤلفاته بين الإسهاب والبسط، والإيجاز والاختصار، وتنوّعَتْ حسب مروياته التي كانت في فنون شتّى؛ فمِنْ مطولاتِهِ التي تُعدُّ مِن مفاخرِ الأمة: كتابه العظيم: «تاريخ دمشق»، الذي ساير فيه كتاب الحافظ الخطيب البغدادي «تاريخ بغداد» ومن كتبه التي صنفها «الموافقات على شيوخ الأئمة الثقات»، والإشراف على معرفة الأطراف»، و«تهذيب الملتمس من عوالي مالك»، و«التالي لحديث مالك العالي»، و«مجموع الرغائب مما وقع أحاديث مالك الغرائب»، و«المعجم لمن سمع منه أو أجاز له»، وكتاب «معجم الشيوخ النبلاء»، و«معجم القرى والأمصار»، وكتاب «الأسماء والصفات»، وكتابنا الفريد من نوعه «تبيين كذب المفتري فيما نَسَبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري»، و«مناقب الشبان»، و«فضل أصحاب الحديث»، وغيرها الكثير من كتب فضائل البلدان، والأربعينات، والفضائل، ومنها كتب نقدية؛ ككتاب «رفع التخليط عن حديث الأطيط»، وكتاب «الجواب المبسوط لمن أنكر حديث الهبوط»، وكتب صناعية؛ ککتاب «ترتيب الصحابة في مسند أحمد»، وكتاب «ترتيب الصحابة الذي في مسند أبي يعلى»، وكتب في الترجمات؛ ككتاب «أخبار أبي عمرو الأوزاعي وفضائله»، وكتاب «أخبار أبي محمد سعيد بن عبد العزيز وعواليه»، وغيرها الكثير.
هذا بشأن تأليفه، أما بشأن تصدره للتعليم والإقراء: فيكفي لبيانه ما حكاه عنه الحافظ الرئيس أبو المواهب بن صَصَرَى لما عزمت على التحديث، والله المطلع أنه ما حملني على ذلك حبُّ الرئاسة والتقدم، بل قلتُ متى أروي كلَّ ما قد سمعتُهُ ؟! وأي فائدة في كوني فاستخرت الله، واستأذنت أعيان شيوخي ورؤساء البلد، وطفت عليهم، فكل قال: ومَن أحقُّ بهذا منك ؟! قال: فشرعتُ في ذلك سنة ثلاث وثلاثين أخلفه بعدي صحائف ؟!
مكانته في علوم الحديث، وثناءات العلماء عليه:
قال فيه قرينه وصاحبه الحافظ الكبير السمعاني صاحب «الأنساب» (كبير العلم، غزيرُ الفضل، حافظ ثقة متقِنُ، دين خير، حسنُ السَّمت، جمع بين معرفة المتون والأسانيد صحيح القراءة، متثبت محتاط، رحل وتعب، وبالغ في الطلب، إلى أن جمع ما لم يجمع غيره، وأربى على أقرانه).
وقال صنوه أيضاً أبو العلاء الهمذاني يوماً لرجل استأذنه أن يرحل؛ فقال له: (إن عرفت أستاذاً أعرف مني أو في الفضل مثلي.. فحينئذ آذن لك أن تسافر إليه، إلا أن تسافر إلى الحافظ ابن عساكر؛ فإنَّه حافظ كما يجب حافظ الشام أبو القاسم، ويسكن دمشق، وأثنى فقلت من هذا؟ فقال عليه)
وقال فيه شيخه الخطيب أبو الفضل الطوسي: (ما نعرفُ مَن يستحق هذا اللقب اليوم سواه -أراد: لقب الحافظ).
وقال الحافظ الذهبي في (تاريخه): (قرأت بخط عمر بن الحاجب؛ قال: حكى لي من أثق به أنَّ الحافظ عبد الغني قال عبد الغني قال الحافظ ابن عساکر برجال الشام أعرف من البخاري لهم، وندم على ترك السماع منه ندامة كلية).
وقال الحافظ ابن النجار: (هو إمام المحدثين في وقته، ومَن انتهت إليه الرئاسة في الحفظ والإتقان، والمعرفة التامة بعلوم الحديث، والثقة والنبل وحسن التصنيف والتجويد، و به ختم هذا الشأن).
وقال الإمام الأجلُ النووي في كتابه «بستان العارفين»: (وقد ذكره عرَضاً ومن المشهودين بكثرة التصنيف إمامنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبو الحسن الأشعري رضي الله تعالى عنهما، وقد عدد الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى مصنفاتِ الشافعي، وعدد الإمام حافظ الشام بل حافظ الدنيا أبو القاسم المعروف بابن عساكر رضي الله تعالى عنه في كتابه (تبيين كذب المفتري فيما نَسَبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري) تصانيف الأشعري؛ أنها نحو ثلاث مئة تصنيف).
وتأكيداً لهذا الخبر أذكر ما نقله عنه الإمام ابن السبكي فيه؛ حيث قال في (طبقاته) قال فيه الشيخ محيي الدين النووي - ومِن خطه نقلت: هو حافظ الشام، بل هو حافظ الدنيا؛ الإمام مطلقاً، الثقة الثبت).
وقال الحافظ الذهبي: (وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يميلُ إلى أنَّ ابنَ عساكر ما رأى حافظاً مثل نفسه).
أما مكانته عن في علوم الرواية وشدَّة استحضاره: فيدلك عليه ما حكاه الحافظ الكبير عبد العظيم المنذري؛ حيث قال: سألت شيخنا الحافظ أبا الحسن علي ابن المفضل المقدسي؛ فقلت له أربعة من الحفاظ تعاصروا، أيهم أحفظ ؟ قال: مَن هم ؟ قلتُ: الحافظ ابن عساكر، وابن ناصر؟ قال ابن عساكر أحفظ، قلتُ: الحافظ أبو العلاء وابن عساكر ؟ قال: ابن عساكر أحفظ، قلتُ: الحافظ أبو طاهر السلفي وابن عساكر؟ فقال السلفي أستاذنا، السلفي أستاذنا.
قال الإمام ابن السبكي بعد إيراد هذا الخبر قال الحافظ زكي الدين وغيره من الحفاظ الأثبات كشيخنا الذهبي وأبي العباس بن المظفر: (هذا دليل على أن عنده ابن عساكر أحفظُ، إلا أنَّه وقَرَ شيخه أن يصرح بأنَّ ابن عساكر أحفظ منه).
قال الذهبي وإلا فابن عساكر أحفظ منه، وقال: (وما أرى ابن عساكر رأى مثل نفسه).
وقال الحافظ ابن النجار: (سمعت شيخنا عبد الوهاب بن الأمين، يقول: كنت يوماً مع الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وأبي سعد بن السمعاني نمشي في طلب الحديث ولقاء الشيوخ، فلقينا شيخاً، فاستوقفه ابن السمعاني ليقرأ عليه شيئاً، وطاف على الجزء الذي هو سماعُهُ في خريطته، فلم يجده! وضاق صدره، فقال له ابن عساكر ما الجزء الذي هو سماعه؟ فقال كتاب (البعث والنشور) لابن أبي داود، سمعه من سمعه من أبي نصر الزينبي، فقال له: لا تحزن؛ وقرأ عليه مِنْ حفظه أو بعضه).
وقال الحافظ ابن كثير في (طبقات الشافعيين) فيه: (فخرُ الشافعية، وإمام أهل الحديث في زمانه، وحامل لوائهم صاحب (تاريخ دمشق): وقال الحافظ ابن كثير أيضاً في (البداية والنهاية) (أحد أكابر حفاظ الحديث، ومَن عُني به سماعاً وجمعاً، وتصنيفاً واطلاعاً، وحفظاً لأسانيده ومتونه، وإتقاناً لأساليبه وفنونه، صنف «تاريخ الشام» في ثمانين مجلدة، فهي باقية بعدَهُ مخلدة، وقد ندَرَ على مَنْ تَقَدَّمَهُ مِن المؤرخين،وأتعبَ مَن يأتي بعده من المتأخرين، فحاز فيه قصب السبق، ومن نظر فيه وتأمله رأى ما وصفه فيه وأصله، وحكم بأنَّه فريد دهره في التواريخ، وأنه الذروة العليا من الشماريخ، هذا مع ما له في علوم الحديث مِنَ الكتب المفيدة، وما هو مشتمل عليه من العبادة والطرائق الحميدة).
والكلمات البديعة اللاهجة بصدق ببعض ما بلغ إليه هذا الحافظ الجليل .. هي للإمام ابن السبكي في (طبقاته)؛ حيث قال في طالعة ترجمته (الشيخ الإمام ناصر السنة وخادمها، وقامع جند الشيطان بعساكر اجتهاده وهادمُها، إمام أهل الحديث في زمانه، وختام الجهابذة الحفاظ ولا ينكر أحدٌ منه مكانةً مكانِهِ، محطّ رحال الطالبين، وموئل ذوي الهمم من الراغبين، الواحد الذي أجمعَتِ الأمة عليه، والواصل إلى ما لم تطمح الآمال إليه، والبحر الذي لا ساحل له، والحبر الذي حمل أعباء السنَّة كاهله، قطع الليل والنهار دائبين في دأبه، وجمع: نفسه على أشتات العلوم لا يتخذُ غير العلم والعمل صاحبين وهما منتهى أربه، حِفظُ لا تغيب عنه شاردة، وضَبْطُ استوَتْ لديه الطريفة والتالدة، وإتقان ساوى به مَنْ سبقه إن لم يكن فاقهُ، وسَعَةُ علمٍ أثري بها وترك الناس كلهم بين يديه ذوي فاقة).
الحافظ ابن عساكر والملك العادل نور الدين الشهيد:
كان الحافظ أبو القاسم قد نَعِم بظل إمام عادل كُني بكنيته؛ وهو أبو القاسم، محمود بن قسيم الدولة، المعروف بـ(نور الدين بن زنكي الشهيد)، كما نَعِمَ هذا الأميرُ العادل بصحبة إمامنا ابن عساكر، وانتفع بعلمه وإرشاده، وصلاحه وتقواه، فكان يصدر عن رأيه، ويعمل بمشورته، وكذا عَرَفَ الحافظ له قدره، فكانت بينهما صداقة حميمة، تحفظ فيها الحقوق ويُرعى الود، دامت قرابة عشرين عاماً.
وسيرة هذا الإمام الشهم الهمام اعتنى بسردها الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، ومن بعده الحافظ أبو شامة في كتابه «الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية» و«ذيله»، وهي سيرة عطرة يليق بأهل الدراية والمعرفة العناية بها وبقراءتها قراءة واعية.
وما يلفت النظر في التعرف على سيرة كل من ابن عساكر ونور الدين بن زنكي . . هي وشائج القربى في المنهج الإصلاحي؛ ووحدة النظرة التي يظلُّها الرواق الشرعي، وهذا يذكّرنا بحجة الإسلام الغزالي مع الوزير السلجوقي العادل نظام الملك، وذاك حديث تتعانق فيه صهوات الخيول ومنابر العلم والوعظ، وأروقة التدبير وأروقة التعليم، في صحبة نادرة عزيزة بين والعلماء، محفوفة بالصدق والإخلاص الساسة.
يقول إمامنا ابن عساكر واصفاً للملك العادلِ نور الدين (أحسن إلى العلماء وأكرمهم، وقرَّبَ المتدينين واحترمهم، وتوخى العدل في الأحكام والقضايا، وألان كنفه وأظهر رأفتهُ بالرعايا، وبنى في أكثر مملكته آدر العذل، وأحضرها القضاة والفقهاء للفضل، وحضرها بنفسه في أكثر الأوقات، واستمعَ مِنَ المتظلمين الدعاوى والبينات؛ طلباً للإنصاف والفضل، وحرصاً على إقامة العدل).
ولم يكن نور الدين قريباً من العلماء فحسب، بل كان متلبساً بالعلم، متشبهاً بعلماء زمانه على قدر الوسع والحال، ومن تشبه بقوم فهو منهم، مع دمائة خُلُقٍ، ولين جانب، واعتقادِ حسن بأهل الولاية والصلاح، وقد أبرز هذا المعنى كله الحافظ ابن عساكر إذ قال في نعته ( جمع الله له من العقل المتين، والرأي الثاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء بسيرة مَنْ سلف منهم في حسنِ سمتهم، والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم، حتى روى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسمعه، وكان قد استجيز له ممَّن سمعه وجمعه؛ حرصاً منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحديث، ورجاء أن يكونَ ممَّنْ حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاءَ في الحديث، فمَنْ رآه شاهد جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهرُهُ، فإذا فاوضَهُ رأى مِنْ لطافتِهِ وتواضعه ما يحيّرُه، يحبُّ الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكنهم لحسن ظَنّه فيهم)
وكان من شأن هذا الملك العادل أن يحيط علماً بمجريات عصره، متعرّفاً على أسباب الضعف والخور والغلبة والنصر، تلك الأسباب التي قد تخفى عن كثير ممن يحسبُ أنَّ النصر رهين العدد والعُدَّة وقوة الأبدان، غافلاً عن السُّنَنِ الكلية التي لا تبديل لها ولا تحويل، وعلى رأسها عزيمة الإيمان وسلامة الاعتقاد، والتلبس بمرضيات الأعمال الصالحات، والتذلل لمليك الأرضين والسماوات بضراعة وإخبات، فطلب النصر فقد شَرْطه قلة حياء تورث الخزي والعار، وسوء أدب نتيجته التأديب، وإتيان للبيوت من غير أبوابها ولك الآن أن تسأل: ماذا وراء الحديث عن نور الدين ؟ وما عُلقته بكتاب التبيين؟
وتكمن الإجابة عن هذه في التعرُّف على حقيقة كتاب «التبيين»، إذ لم يكن المراد من سَطْرِ هذا الكتاب مجرَّدَ الدفاع عن الإمام الأشعري، والتعريف بأعلام مدرسته العريقة، وقطع وتر قوس الموتور الأهوازي المفتري، بل انطوتْ فيه وتجلت معالمُ أهل السنة والجماعة، وبيِّنَتْ عقائدهم الموروثة عن السلف الصالح، والمؤيدة بأدلة العقول المطهرة عن شوائب الأهواء والشكوك، مع ذكر منهجهم في لم شمل الأمة، وإيثارهم التقريب جهدهم على إقصاء المخالف، ومحاسبة المخطئ على قدر خطئه، دون خجل في جلاء الحقِّ أو شطط، وما كان للمؤلف أن يفوته ذكر المواقف والأخبار المتضمنة لصُوَرِ العبودية والإخلاص، وأحوال الأولياء العارفين مع ربّ العالمين، والتي هي سرُّ أسرار التوفيق.
هذا بعينه ما وعاه نورُ الدين وجعله نصب عينيه، وأدرك من شيخه ابن عساكر أهمية إبراز وإحياء هذا النَّهْج، فبنى له دارَ السنة المعروفة بدار الحديث النورية في دمشق؛ ليتفرغ للعلم والتعليم، وتدوين مآثر السابقين وعِبَرِ الأولين، وتكون نواة هداية ورشد، وأكثر من بناء المساجد والمدارس، والأوقاف عليها، ودور رعاية الأيتام، والثغور والأسوار .، مع تعظيمه الشديد لحملة الدين، والإحسان إليهم والإنعام عليهم، وتجاوزه عن ذوي الإساءات الذين أظهروا الندم، وكسره لشوكة أهل الكفر والعناد، وقمعه لأهل البدع بالإبعاد لهم والإرغام، في شدَّة من غير عنف، ورِفْقٍ من غير ضعف.
ولعلك أحطت علماً بكون حافظ الدنيا ابن عساكر قد انتهج في سيرته سُبُلاً، وهو يعلم أنَّ وراء هذا رضا المولى الكريم، ووراء رضاه سبحانه ما يحب قلب المؤمن ويرضى ديناً ودنيا.
وإليك ذكْرَ صورٍ مِنْ سيرة الملك العادل نور الدين في تمسكه بهذه المعالم الثلاثة، وشدَّته الممزوجة بالشفقة والرحمة في حياطتها والأخذ بها، وكونه كان مرآة مصقولة صافية لشيخه ابن عساكر.
سيرته في العقائد والأصول:
من الصُّورِ الجاذبة للانتباه في تمسك نور الدين باعتقاد الأشعريين أعلام أهل السنة وقمعه للعبثة بعقائدِ المسلمين؛ من ضعفة العقول وأدعياء المنقول .. ما نقله الحافظ أبو شامة في الروضتين» عن «الباهر» لابن الأثير: (وأما حفظ أصول الديانات: فإنَّه كان مراعياً لها، لا يهملها ولا يمكِّنُ أحداً من الناس من إظهار ما يخالف الحقِّ، ومتى أقدمَ مُقدِم على أدَّبَهُ بما يناسبُ بدعته، وكان يبالغ في ذلك -ويقولُ: نحن نحفظ الطرق من لص وقاطع طريق، والأذى الحاصل منهما قريب، أفلا نحفظ الدين ونمنع عنه ما يناقضُه وهو الأصلُ ؟!)
ومن مشاهد حفظه للاعتقاد السليم، وعدم انخداعه بزي أهل التقشف الذين انطوت بواطنهم على البدع الاعتقادية المشينة، ولا سيما في حق المولى العظيم سبحانه.. ما حكاه ابن الأثير في متابعة قولته المنصرمة؛ حيث قال: (وحكي أنَّ إنساناً بدمشقَ يُعرَفُ بيوسف بن آدم كان يظهرُ الزهد والنسك وقد كثر أتباعه .. أظهر شيئاً مِنَ التشبيه، فبلغ خبره نور الدين، فأحضرَهُ، وأركبَهُ حماراً وأمرَ بصفعه، فطيف به في البلد جميعه، ونُودي عليه: «هذا جزاء مَنْ أظهر في الدين البدع»، ثم نفاه من دمشق، فقصد حرَّان وأقام بها إلى أن مات قال: ويسوقُ الله القصار الأعمار إلى البلادِ الوَخِمَة).
وأكاد أجزم أنَّ هذا الناسك الجاهل هو من رسيس المفتري الأهوازي ومدرسته، الذي صوب الحافظ ابن عساكر إليه وإلى أتباعه نصال سهامه المحتملة في جعبة في جعبة «التبيين»، هذا مع ما عُرفَ عن نور الدين من إحياء السنة وإماتة البدعة، ونهيه عن سب السلف من الصحابة وأئمة الهدى الماضين، ونصرته للسنة الشريفة، وقد نقل الحافظ أبو شامة عن ابن الأثير قوله (وهو أوَّلُ مَنْ بنى داراً للحديث فيما علمنا).
سيرته في الفقه والفروع:
تقدَّم لنا أنَّ من ألقاب الحافظ ابن عساكر: (فخر الشافعية؛ فقد كان من أعلام الفقه الشافعي، وتُرجم له في طبقاتهم، بينما كان الملك العادل نور الدين حنفيّاً، كما قال ابن الأثير: (وكان عارفاً بالفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ليس عنده تعصُّبٌ، بل الإنصافُ سجيَّته في كل شيء )، ويجتمع الاثنان تحت مظلة التمذهب، وإقرار المذاهب الأربعة كمعالم فقهية لأهل السنة، وهذا كما يتجلى واضحاً في «التبيين» يتجلى عملاً في سيرة نور الدين؛ فمع كونه حنفي المذهب وبنائه مدارس له .. لم يتوان عن بناء زاويتين في حلب للحنابلة والمالكية، بل وعمل على نشر المذاهب الأربعة فيها بعد أفول دولة الحمدانيين، وقد أكثر من بناء مدارس للشافعية).
قال الحافظ أبو شامة في «الروضتين»: (وكان يجمع في مجلسه أفاضل الوقت من أعيان المذاهب الأربعة والنحاة وغيرهم، ويجري بحضرتهم فوائد كثيرة).
(وكان الناظر في تبثل وعبادة الملك العادل نور الدين يجزم أنها كانت تصحبها أنفاس العارفين؛ فمن صفته في هذا ما ذكره الحافظ أبو شامة حسن الخط، كثير المطالعة للكتب الدينية، متّبعاً للآثار النبوية، مواظباً على الصلوات في الجماعات، عاكفاً على تلاوة القرآن، حريصاً على فعل الخير، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق، متحرّياً في المطاعم والملابس، لم تسمع منه. كلمة فخش في رضاه ولا في ضجره، وأشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سنة يتَّبِعُها).
سيرته في السلوك ومناهج التربية:
واسمع لهذه الكلمات اللطيفة في حسن اعتقاده بالأولياء والصالحين التي نقلها الحافظ أبو شامة: (وبنى الرُّبُطَ والخانقاهات في جميع البلاد للصوفية، ووقف عليها الوقوف الكثيرة، وأدرّ عليهم الإدرارات الصالحة، وكان يحضر مشايخهم عنده، ويقربهم ويُدْنِيهم، ويبسطهم ويتواضع لهم، وإذا أقبل أحدهم إليه يقومُ له مذ تقعُ عينه عليه، ويعتنقه ويجلسه م معه على سجادته، ويقبل عليه بحديثه).
وقال أيضاً: (بنى الخانكاهات للصوفية في جميع البلاد، وتأمل شأنه مع واحد من مع واحد من أمثال هؤلاء الصالحين، وحُسن اعتذاره له مع الورع والدين؛ ففي «الروضتين»: (كان بالجزيرة رجل من الصالحين كثير العبادة والورع، شديد الانقطاع عن الناس، وكان نور الدين يكاتبه ویراسله، ويرجع إلى قوله، ويعتقد فيه اعتقاداً حسناً، فبلغه أنَّ نور الدين يد من اللعب بالكرة، فكتب إليه يقول: ما كنت أظنُّكَ تلهو وتلعب، وتعذِّبُ الخيل لغير فائدة دينية !
وقال أيضاً: (كان مع هذه العظمة وهذا الناموس القائم إذا دخل عليه الفقيه أو الصوفي أو الفقير .. يقوم له ويمشي بين يديه، ويُجلسه إلى جانبه كأنَّه أقرب الناس إليه، وكان إذا أعطى أحدهم شيئاً يقول إنَّ هؤلاء لهم في بيت المال حقٌّ، فإذا قنعوا منا ببعضه فلهم المنة علينا).
وقال المؤرخ ابن الأثير في (الكامل): (وكان يصلي كثيراً بالليل، وله فيه أوراد حسنة)، فكتب إليه نور الدين بخط يده يقول: والله؛ ما يحملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر، إنَّما نحن في ثغر، العدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت، فنركب في الطلب، ولا يمكننا أيضاً ملازمة الجهاد ليلاً ونهاراً شتاء وصيفاً؛ إذ لا بدَّ من الراحة للجند، ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماماً لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها أيضاً بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة، فنحن نركبها ونروضُها بهذا اللعب فيذهبُ جَمامُها، وتتعوَّدُ سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب . فهذا والله الذي بعثني على اللعب بالكرة).
وأعجب ما في الخبر حلفه -رضي الله عنه -لشيخه ليصدقه بتوليد هذه النية العزيزة الزكية الصالحة ويقبلها منه، والتي يقف عليها أهل الحرب، وقد تخفى عن مثل الشيخ الصالح المذكور!
بل أعجب منه أنَّ الشيخ عمر الملا - وهو أحد الصالحين في الموصل -كتب إليه يعظه في قمع الظلم إنَّ المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخ إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أُخذ مال إنسان في البرية مَنْ يجيء يشهد له ؟!
فكتب إليه نور الدين على ظهر كتابه إنَّ الله خلق الخلق، وشرع لهم شريعة.، وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أنَّ في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعَهُ الله تعالى، فَمَنْ زَادَ فقد زعم أن الشريعة ناقصةٌ، فهو يكملها بزيادته، وهذا مِنَ الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقیم.
فلما وصل الكتاب إلى هذا الشيخ جمع الناس بالموصل، وقرأ عليهم الكتاب، وجعل يقول انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملكِ إلى الزاهد!
وسيرى القارئ في (التبيين): (النقولات التي يوردها الحافظ ابن عساكر في مثل هذه البابة؛ مؤكداً تلازم أمثال هذه الرقائق واللطائف لمن زكت نفسه وجاء بقلب سليم، خالٍ من الأوهام وسوء الاعتقادات ومهالك الشكوك).
وبعد هذه التطوافة العجلة المختزلة في هذه الصحبة المباركة بين هذين العلمين الجبلين . . لعلك تدرك الحال التي وصل إليها الملك العادل نور الدين لتهون عليه ضراعته التي شقَّتِ الحُجُب، وفتحت لها أبواب الإجابة؛ حين قال مناجياً مولاه سبحانه: (اللهم؛ انصر دينك، ولا تنصر محموداً، مَنْ هو محمود الكلب حتى يُنصر ؟).
وحينما قال رحمه الله تعالى وأعلى مقامه: (اللهم؛ ارحم المكَّاس العشّار الظالم محموداً الكلب -وحاشاه رحمه الله من هذا الوصف، ولكن هانت عليه هذه الكلمات . وهو الذي هابته ملوك زمانه وخضعوا لسلطانه - لعلمه بأنه عبد لمولاه وإن عزل وولى، وأطاعته الكبراء، فكان من حُسن جزاء الله العدل أن قرن اسمه بألقاب العدل والفضل كما ترى وتسمع وصير قبره مجمعاً للمحبين والصالحين، رؤى الله ضريحه بسحائب الرضوان)
وفاته رحمه الله تعالٰی:
في حادي عشر شهر رجب الفرد، سنة إحدى وسبعين وخمس مئة وبدمشق الشام .. فاضَتْ روح حافظ الدنيا الإمام ابن عساكر إلى بارئها سبحانه، وكان قد بلغ من العمر اثنتين وسبعين سنة وستة أشهر وعشرة أيام.
وحضر جنازته الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وأهل العلم والصلاح وصلي عليه بالجامع، ثم دُفن بمقبرة باب الصغير خارج سور دمشق، وقبره إلى اليوم منارة يقصدها الزوار من أنحاء المعمورة.
قال العماد الكاتب: (وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة، فدَر وسمح عند ارتفاع نعشِه، فكأنَّ السماء بكتْ عليه بدمع وَبْلِهِ وطَشَّه).
ورثاه العلماء والأدباء، ورئيَتْ له بعد وفاته المرائي الحسنة، وسارَتْ في حياته وبعد وفاته بكتبه الركبانُ، وشَرُفَ بالرواية عنه والاتصال بأسانيده أصحاب القراطيس والمحابر، جزاه الله تعالى عن أمَّة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام خير ما جزى عالماً مِنْ أُمَّته عن أمته.
كتاب تبيين كذب المفتري
وقد عُدَّ هذا التأليف مِن مُهمَّاتِ الكتب التي بين فيها مذهب أهل السنة والجماعة، والأسس التي شادوا بها طريقتهم، مع الترجمة لإمامهم ولأبرز أعلامهم، وإزاحةِ الشُّبه التي أثيرت بشأنهم، وتوضيح ما أشكل فهمه في بعض مسالكهم في بيان العقائد، ورد الفرى التي رُمُوا بها جهلاً وحسداً مِن قبل خصومهم، حتى صار هذا الكتاب علَماً عليهم؛ ولهذا كله قال فيه الإمام ابن السبكي في «طبقاته»: (كلُّ سنيّ لا يكون عنده كتاب «التبيين» لابن عساكر .. فليس من أمر نفسِهِ على بصيرة).
الداعية لتأليف «التبيين» والحاجة إليه:
يظهرُ أنَّ جملةً مِنَ الأسباب كانت قد حرَّكت بنان الحافظ ابن عساكر لتدوين «التبيين» ستتبين لك فيما ستقرؤُهُ فيما يوجد فيه، ولعل الغيرة التي كان يجدها في نفسِهِ على أهل السنة والجماعة.. كانت الدافع الأكبر لوضع کتاب يدفع به عنهم؛ وذلك حينما رأى بعض أهل البدع الذين غلب عليهم القولُ بالتشبيه، والأخذُ بظواهر المتشابهات، واعتقاد فهومهم لهذه الظواهر مذهباً للسلف، ثم نسبتها لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، حتى التبس على العامة مَنْ هم أهل السنة والجماعة على التحقيق ؟ وأنت خبير أنَّ الأخذ بمذهب التشبيه يسير؛ إذ هو الذي تألفه النفوس بالعادة، فأهون الأشياء قياس الغائب على الشاهد، دون ضابط ولا شاهد.
وهذه أحدوثة قديمة لا تكاد تخفى، ولكن الذي قد يخفى أنَّ بني عساكر كانوا قبل «التبيين» وبعده بسنين متطاولة - أعيان الأشعرية الشافعية، حتى كأنَّ الذَّب عن أهل السنة وحياطتهم والتكلم بلسانهم .. كلُّ ذلك كان منوطاً بهم، مع مشاركة بارزة لا تخفى لجميع علماء أهل السنة . ولكن كتاب «التبيين» كان لهم.
ولعلنا لا نبالغ إن قلنا لا نكاد نعرف كتاباً وضَحَ منهج أهل السنة والجماعة، وجمع بين الطريقة الأثريَّةِ والجرأة العلميّة . . قبل كتاب «التبيين"، لا بمعنى وجود كتاب في تبيين عقائدهم؛ فهذا ملاً رحب الساحة العلمية . ولكن بمعنى إفراد كتاب خاص يفصلُ أهل السنة عن أدعياء أهل السنة.
نعم؛ إنَّ الخطر الذي تفاقم حتى وصل الحال إلى ألا يُكتفى بسب وشتم الأشعرية، بل إلى الافتراء على إمامهم وأعيان مدرسته بكذب مهين رخيص، لا حياء فيه ولا مروءة، وصل إلى حدّ جاوز بهم قنطرة الإسلام؛ فرماهم بالإلحاد والزندقة؛ فإمامُهم -كما قال المفتري الذي رُدَّ عليه في "التبيين" - متظاهر بالديانة، نشأ ملحداً، وعاش ملحداً، ومات ميتة خسيسة؛ سكران على ظهر غلام !!
أقول: هذا الخطر الذي صار نذير شؤم، وتعدَّى طور مراعاة الحقوق، وجاوز حدود التذمم .. كان مدعاة للإمام وشيخ الإسلام ابن عساكر أن يبين، ويعود بالخلافِ إلى وصفه اللائق به؛ فمخالفة بعض الحنابلة للأشاعرة ومخالفتهم لهم يعرفُها الطرفان ويعرفان أسبابها، وكلاهما عالم بمذهبه ومذهب خصمه - دع عنك هنا مَن منهما أصابَ الحقَّ . ولكن للكذب والافتراء، والنبذ بألقاب الكفر بلّة الإلحاد والزندقة؛ فهذا لا داعي وراءَه استباحة للدماء، وخراب للبلاد وهلاك للعباد.
ولا تظنُّنَّ أنَّ هذا الكلام ينطوي على مبالغات، وحسبُكَ لتطمئنَّ أن تعلم أنَّ خصوم الأشاعرة من الحنابلة لم يرضوا عن مثالب المفتري الأهوازي للأشعري، بل قرَّروا أنَّ رسالته المخزية التي كتبها في حق الإمام الأشعري لا يرتضيها أهل الديانة والحيطة والحرص على بلاد الإسلام؛ وأنها كذب لا يليق بمسلم، فضلاً عن إمام مسجد ومقرئ راو للقراءات ! وكان من هؤلاء الرافضين لها والمكذبين لقائلها الحافظ الذهبي مثلاً؛ إذ كيف يرضى عقلاء الحنابلة عن أمرٍ خَلْفَهُ فقد أمنِ التعايش بين أبناء أمة لا إله إلا الله وأهل ذمَّتِهم ؟!
ومن هنا تدرك الخطيئة التي تمرَّغَ بها ابنُ المِبْرَدِ الحنبلي حين فاته التوفيق؛ فصنعت يداه ما ظنَّهُ ردّاً على الحافظ ابن عساكر، ولم يُحِطُ خُبْراً بأنَّ سكوت أعلام الحنابلة من قبله عما في (التبيين) لم يكن عجزاً، كما أنَّه لم يكن جهلاً بما فيه، وهذا لا يعني أنَّ الحنابلة رضوا بكل ما في «التبيين»، بل هو بلا شكٍّ من الكتب التي لا يرتضون كثيراً مما فيها، ولكن مع هذا يدركون أنَّ الأهوازي الحنبلي قد جرَّ لهم البلاء في صفحاته القليلة المخزية التي رغا فيها بالكذب والافتراء، والتي عَدِمَ فيها الأدب وعفَةً اللسان، فصرح بما يبرؤون منه في وصفِ الإمام الأشعري مع شديد خصومة كثير منهم له.
ومع هذا لا بد أن تعلم أن السبب الظاهر لتأليف الكتاب: كان بسبب و واحدٍ ممَّن يحوط بالإمام المصنف يسأله بيان الحق ورد الباطل الذي طرق سمعه من كلام المفتري الأهوازي؛ حيث قال المؤلف في مقدمة كتابه: (ولولا سؤالُ مَنْ رأيتُ لحقِّ سؤاله إيَّايَ ذِماماً، فألزمتُ نفسي امتثال ما أشار به علي احتراماً .. لصدفتُ عن ذكر وقيعة ذوي الجهل في الأئمة احتشاماً، لكني اغتنمتُ الثوابَ في إيضاح الصواب في علو مرتبته اغتناماً)
ويمكن أن نتلمسَ مِنَ التاريخ أنَّ هذا الطلب وقع في صدر المؤلف موقعاً كان يتأهب للكتابة فيه، فكان الطلب تعجيلاً لزمن التأليف، وتأكيداً للحاجة إليه بعد تعين فريضة البيان بعد السؤال، وسدّاً لباب الغيبة والبهتان في حق مؤمن إمام بعد جلاء حالِهِ وأمره.
هذا كله لا بدَّ من معرفة هذا المفتري الذي أغضب قلم الحافظ العظيم ابن عساكر ليفرد فصلاً من كتابه للرد عليه، ويُومئ في عنوان هذا التأليف إليه.
من هو المفتري الذي نَسَبَ مَا نَسَبَ مِنَ الكذب والبهتان للإمام الأشعري ؟
لا تزال الأيام تذكر رجلاً بالعلم والصدق والفضل، وتدم آخر باللُّؤْمِ والكذب والجهل، وهذا هو المفتري الطاعنُ في شيخ السنة أبي الحسن الأشعري أبو علي الحسنُ بنُ علي بن إبراهيم بن يزداد بن هرمز الأهوازي يُذكرُ بألقاب التكذيب والافتراء والتجهيل، وهذا ما جنَتْ يداه عليه حينما ألَّفَ دون حياء «مثالب ابن أبي بشر»، وحشرَ فيه مِن الأكاذيب التي تأبى النفوس الكريمة سماعها، فضلاً عن الاشتغال بروايتها.
كان هذا الأهوازي قد سكن دمشق، واشتغل بالقراءاتِ وجَمْعِها، إلى أن صارَ مقرئاً لها ومؤلّفاً فيها، وكان له اشتغال برواية الآثار، ورحلة في طلبها وإكثار، ولم يكن متأهلاً لدرايتها، فلو أنَّه اكتفى بما قسم له، ولم يتعدَّ طورَه .. فلعله كان ينجو مما صار إليه من الخزي والعار، ولزمه بعد موته من الذم والشَّنار، على ألسنة أعلام أهل الجرح والتعديل، والغيرة على الدين وعلمائه.
وكان في اعتقادِهِ سالميّاً مشبّها، يثبتُ ظواهر المتشابهات في حق ذات الحق سبحانه وتعالى، ويحسب أنه يُرى في صورة آدمي، وألفَ في صفاتِهِ جلَّ وعزَّ كتاباً نصر فيه مذهبَهُ، وروى فيه مِن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دل على ضعفِ عقلِهِ وسوء عَقْده، وسماه بـ «التبيان في شرح عقود أهل الإيمان»، أخزى به أهل السنة إذ انتسب إليهم؛ حين روى أحاديث يحيلها العقل ويعارضها النقل
كتاب المفتري الأهوازي (مثالب ابن أبي بشر)
ثمَّ إنَّه رأى ما للأشاعرة من غلبة وعلوّ كلمة، وسمع دندنة لم يألفها، وضاق ذرعاً عن فهمها؛ تلك الدندنةُ تحكي الطريقة التي سلكها الأشعرية في تحطيم ما شادَه المعتزلة من صروح الباطل، وفي ردم القلم التي أحدثتها المشبهة وجهلة الوعاظ في بروج أهل السنة، ولم يكن المسكين متأهلاً لأن يكون من أهل هذه الطريقة، ولا أهلاً لأن يعارضها، فما كان منه إلا أن سلك طريق الخطابة التي تروج عند العامة، وسوقها نافقة عند أهل العلم فانتخب من الأخبار حكايا الخزي والعار التي لا تليق نسبتها لواحد من عامة المؤمنين، بل هي لائقة بالفسقة الفجرة، فرأى مُخْزِياً نفسَهُ نسبتها للإمام الأشعري؛ ذلك جملة الأكاذيب والفرى التي تلخص بهذه فكان من من الجُمَل:
١- أنَّه حسب نفسه مُتأهلاً للذب عن منهج أهل السنة والجماعة، وهو غيرُ دار أنَّه لا تصح نسبته إليهم؛ فقد نص الحنابلة أنفسهم أنَّه سالمي مشبه طعنه في نسب الإمام الأشعري، ودعواه أنَّ جده كان يهودياً فأسلم، فأبى أن يذكر الأشعري إلا باسم علي بن أبي بشر، وهو بذلك يخالفُ ما أجمعت عليه كُتب التاريخ.
٢ - ادعاؤه أنَّ الإمام الأشعري هو الذي أدخل على أهل السنة أقوال المعتزلة، بل أقوال الزنادقة والملاحدة أيضاً.
٢- انتقاؤه - إن لم يكن مفترياً كاذباً في نفسه - الأخبار وضيعة وضعها خصوم أبي الحسن الأشعري من المعتزلة وغيرهم، يبغي بذكرها شين الشيخ وتشوية صورته عند من يصغي لكلامه.
٣-كذبُهُ على لسان الإمام الأشعري أنَّه ملحد عتيد، لا يبغي الرجوع عما نشاً عليه، وجعله الأشعري بمنزلة ابن الراوندي.
٤-كذبه على لسان الشيخ الأشعري وغيره أنَّه كان ضعيف المناظرة، هزيل الحجة، عديم البيان.
٥-ادّعاؤُهُ أنَّ الشيخ الأشعري أظهر توبة اللسان، وأضمر خبيث الاعتقاد، ثم أراد أن يؤكد ذلك؛ فافترى على الشارع حين ادعى أنَّ توبة المبتدع لا تقبل عند الله تعالى.
٦- ادعاؤه أن كتاب (الإبانة) إنَّما كان وقايةً للشيخ من سطوة الحنابلة محاولته توثيق رواة أخباره وهو يريد تأكيد الطعن بالإمام الأشعري استعماله للفحش وبذاءة اللسان، والشتم واللعن، والدعاء بعدم الرحمة والمغفرة، إلى حد تنفر منه الطباع السوية السليمة.
٧ - ادعاؤُهُ أنَّ بعض أصحاب الأشعري لما عرفوا أنَّ الأشعري بزعمه لا يصلي، وإنَّما يتظاهرُ بالشريعة .. أعرضوا عنه، وحرَّقوا كُتُبَهُ أعلام أهل السنة ممَّن انتسب لطريقة الشيخ الأشعري؛ كابن مجاهد والباقلاني وابن فُورك وأبي الحسن الطبري افتراؤُه بأنَّ أقوال الأشعري أقوال مهجورة متروكة، وأنه لا نصيب له عند القراء أو المحدثين أو الفقهاء، بل هو مع من يرمى بالكفر والإلحاد، ويترك.
٨- طعنة في الكتاب والسنة.
٩- ثم ختم هذه الفرى بفرية مستشنعة مخزية؛ حيث ادعى - مخالفاً لما أجمع عليه المؤرخون - أنَّ الشيخ الأشعري مات بالأحساء، وهو سكران على ظهر غلام يفجر به وإنِّي لأعلم أنَّ بين القرّاء مَنْ قد يظنُّ ـ وهذا حقه ـ أنَّ هذه الأمور مجرد مبالغات لا سبيل إلى إثباتها، وإنَّما هي مِن باب فَل الحديد بالحديد، أو إن شئت فقل كذب يدفعُ كذباً، وهيهات هيهات ! وحاشا لحافظ الدنيا ابن عساكر، أن يسلك هذا السبيل الخاسر.
ولكي تطمئن النفوس وترتاح، ويُجلى الحق وتعلو كلمته، ويُفحم الخصوم المبرّئون للأهوازي، والطاعنون في حافظ السنة ابن عساکر، ويكتمل العمل العلمي .. آثرتُ على مضض، وأخذ ورد وشبْهِ حيرة؛ أن يُنشر كتاب «مثالب ابن أبي بشر» لأبي علي الأهوازي، وهو المفتري الأكبر المقصود من عنوان كتاب الحافظ ابن عساكر «تبيين كذب المفتري»؛ حيث إنَّ بعض الردود قد استغلق فهمُها؛ لعفّة لسان ابن عساكر في الإعراض عن نقل نص الأهوازي، والذي يظهرُ أنَّه اكتفى بذيوعِها في زمنه، ولولا ما أنبأتُكَ . لكان دفن هذه الأكاذيب والفرى أولى من نشرها، ولكن لنقطع على عابث في قادماتِ الأيام يدعي شدَّةَ الحافظ ابن عساكر أو مبالغته فيما عرى به الأهوازي المفتري، أو أننا لم نقف على مقالة الأهوازي، وليعرف الذين يصرون على تنقُص الحافظ الجبل ابن عساكر وغيره من أعلام أهل السنة . . أنَّ لهم في بذاءة اللسان - إن هم آثروها على لغةِ العلم والبيان - أجداداً من أمثال الأهوازي الكذاب، في الأخبار والسنة والكتاب.
مقالة علماء الجرح والتعديل وترجمات الرجال في أبي علي الأهوازي:
إنَّ الافتراءات الغارقة في الكذب، والتي ستقف عليها في رسالته المنشورة آخر الكتاب .. لا تدع مجالاً للشك في كذب هذا الأهوازي، ولعلك ستقف على عبارة مفادها: (أنه لم يتعمد الكذب، بل روى عن الكذابين) ! وهذا عذر قبيح، لا لكون الرواية عن الكذابين لا تقع إلا من كاذب، بل لكون هذا الانتقاء المتعمد، وجلاءِ أحوالِ الأشاعرة في زمنه، وحال اعتقاد الأهوازي .. تذهب بهذه الكلمة التي تحاول الدفاع عنه، وتجعلها خبراً بعد عين.
وقد حدَّث عن كذبه حافظ الدنيا الإمام ابن عساكر في كتابنا «التبيين»، ومن جملة ما ذكره ـ والإحالة عليها كافية: (ولا يستبعدنَّ جاهل كذب الأهوازي فيما أوردَهُ مِنْ تلك الحكايات؛ فقد كان مِنْ أكذب الناس في بعض ما يدعيه مِنَ الروايات في القراءات).
ومع هذا لنصغ منصفين لما قاله بعضُ أهل الجرح والتعديل في حق هذا المفتري الذي أخزى نفسَهُ بما سطرت يمينه، ومن هؤلاء المجرحين له مَنْ هم على مذهبه، ويكتمون في صدورهم شيئاً من اعتقاده.
وقال الحافظ الخطيب البغدادي (أبو علي الأهوازي، كذَّابٌ في القراءات والحديث جميعاً).
وقال الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: (جمع سيرةً لمعاوية وقال في «ميزان الاعتدال» (قرأ على جماعة لا يُعرفون إلا من جهته، وروى الكثير، وصنف كتاباً في ا؛ لو لم يجمعه . . لكان خيراً له؛ فإنَّه أتى فيه بموضوعات وفضائح، ومسنداً في بضعة عشر جزءاً، حشاة بالأباطيل السمجة).
والحافظ الذهبي علَتْ رواياته علَتْ رواياته في كتاب الله بروايته عن الأهوازي، ومع ذلك قال في «ميزان الاعتدال»: (ولو حابيت أحداً لحابيت أبا علي؛ لمكان علوّ روايتي في القراءات عنه).
وقال في «ميزان الاعتدال» أيضاً في ترجمة تلميذ الأهوازي المعروف بغلام الهراس (الحسن بن القاسم، أبو علي غلامُ الهراس، مقرئ أهل العراق متهم في لقاء بعض شيوخه في القراءات، وبكل حالٍ فهو أمثل حالاً من أبي علي الأهوازي).
وقال متابعاً: (البغداديون لهم فيه كلام، سمعت من أصحابنا من يقول: سمعت أبا الفضل بن خيرون، وقيل له أبو علي غلام الهراس، عن أبي علي الأهوازي، فقال مطرز معلم كذَّاب عن كذَّاب).
لا عبرة بجَرْحِ الأهوازي وأمثالِهِ للإمامِ الأشعري:
إنَّ مجرد التفكير في الطعن بإمام الهدى أبي الحسن الأشعري بعد معرفة حقيقة حاله وسديد اعتقاده . . لا يكون إلا ممَّن في قلبه مرض؛ مِن مخالفة اعتقاد، أو جهل مركب، أو حسد وحقد، فالذين جاوزوا القنطرة من أمثاله يُعد الطعن فيهم طعناً في الطاعن عند أهل الدراية.
ولهذا قال الإمام ابن السبكي مقعداً في طبقاته» في تبيين عدم إطلاق قاعدة (الجرح مقدَّم على التعديل): (الصواب عندنا أن مَن ثبَتَتْ إمامتُهُ وعدالته، وكثر مادحوه ومزكُوه، ونَدَرَ جارحُهُ، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه؛ من تعصب مذهبي أو غيره .. فإنَّا لا نلتفتُ إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هذا الباب، أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحدٌ من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون).
وقال أيضاً (ثابت العدالة لا يلتفتُ فيه إلى قول من تشهد القرائن بأنَّه متحامل عليه؛ إما لتعصب مذهبي، أو غيره).
وذكر كلمة شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد في كتابه (الاقتراح) حيث قال: (أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس المحدثون، والحكام).
وبهذا تعلم أن الطعن في الأشعري لا يمكن أن يكون قولاً يُذكر في ترجمته على سبيل التشكيك في عدالته ونزاهته وسعة علمه؛ إذ الأهوازي الطاعن فيه سالمي عتيد، ومشبة قفَّتْ من أحاديثه التي رواها في التشبيه في كتابه «البيان» شعور المشبهة فضلاً عن عموم أهل السنة كما رأيت).
ماذا في تبيين كذب المفتري؟
لم يكن المراد من تأليف كتاب (التبيين) مجرَّدَ الرد على الأهوازي كما وهم بعضهم - ولعلَّ عنوان الكتاب هو الذي أوحى بهذا الوهم ـ؛ إذ الرد عليه كان فصلاً في ذيل الكتاب لا يزيد على عُشْرِهِ، ويمكن أن تكون أهم المقاصد التي هَدَف لها الحافظ الإمام ابن عساكر في هذا التأليف تتلخص بهذه الإلماعات
١- التعريف بإمام أهل السنة والجماعة على رأس القرن الثالث أبي الحسن الأشعري:
والذي هو من خير القرون بنص الشريعة؛ نسباً ونشأة، وعلماً وفضلاً، وفي ذلك ذكرُ حاله، وتوبتِهِ وانقلابه لمذهب أهل السنة، ثم صيرورته إماماً لهم، وردُّ شُبه أثارها المفتري حول ذلك كله، وذكر شيء من فضل جده سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفضل ابنه أبي بردة وابنه بلال رحمهما الله تعالى، وله في ذاك غرض، وما ظلم من أشبه أباه)، ثم ذكر تأليفه التي ضاع جلُّها في ذبهِ المتين عن منهج أهل السنة، وبيان الخلاف الذي لا يضرُّ في الدين، وذكرُ ثناءات لأهل العلم عليه وعلى أتباع طريقته بيان معنى البدعة في الدين، وأنَّ ما جاء به الشيخ الأشعري إنما هو نصر للدين، وتأكيد لما عليه السلف الصالحون، وأنَّ المبتدعة إنما هم مخالفو أهل السنة والجماعة فيما أخطؤوا فيه؛ اعتقاداً كان ذلك أو عملاً إيراد مقطَّعاتٍ من كلام أئمة أهل الحديث والأثر وثقاتِ علماء أهل السنة في دفاعهم عن السادة الأشاعرة، والافتخار بالانتساب إلى طريقتهم مع تباين هممهم في خدمة الدين التأريخ لزمن نعتِ أهل السنة والجماعة بالأشعرية أو الأشاعرة
٢- تقرير كتاب (الإبانة) للشيخ أبي الحسن، وأن ما دونه فيه هو عين مذهب أهل السنة والجماعة، وما نقله المصنف منها يُعد أوثق قطعة منه.
٣- صنعة كتاب لم يسبق إليه؛ وهو حديثه في «التبيين» عن طبقات الأشاعرة، حتى عُرفَ الكتاب عند كثيرين بـ «طبقات الأشعرية».
٤- بيان أن أصول الدين لا تقليد فيها، وبيان نصرة الإمام الأشعري للمذاهب الفقهية الأربعة.
٥- بيانُ حُكْم فقهي فيمَن سب أو لعن الأشاعرة توجيه ذم علم الكلام عند بعض أئمة السلف، وأنَّ علمَ كلام أهل السنة من العلوم المحمودة، وتأصيله من القرآنِ والسنَّةِ
٦- رد الفرى الوضيعة التي نسبها المفتري الأهوازي للإمام الأشعري بيان ضرورة التأويل في بعض الأحايين.
٧- إنعاشه الحق وأهله، وتبرئة السلف ممَّا نَسب إليهم الجاهلون فهذه. هي أهم وأبرز المقاصد التي لأجلها دون الحافظ إمامنا ابن عساكر كتابه «التبيين»، وقبل هذا كله فضل أهل السنة عن أدعياء أهل السنة.
مكانة كتاب " تبيين كذب المفتري» عند العلماء، وأقوالهم فيه
بعد تأليف «التبيين»، ورد افتراءاتِ المخالفين، وإعادة الحق لأهله. صار هذا الكتاب مفخرة لأهل السنة، وركناً شديداً يأوون إليه، فأي عز ناله من ينتسب إلى مذهب أعلام علماء الأمة الإسلامية فقهاً ورواية يبجلونه ويفخرون بكونهم من أهله ؟!
هذا ما بيَّنَه - لا ما صنعه - الحافظ ابن عساكر، وحسبك بأسانيده الجليلة، وما انطوت عليه من أعلام نبيلة، والتي منها الإمام ابن عساكر، عن الإمام الحافظ أبي فضل الفُراوي، عن شيخ السنة أبي بكر البيهقي، عن الإمام الحاكم أبي عبد الله المعروف بابن البيع صاحب «المستدرك»، وأسانيد ملات الدنيا، وهؤلاء كلُّهم غيض من فيض أعلام محدثي الأشاعرة، ويزيدك طمأنينة الوقوف على فهرسة أعلام المنتسبين إلى الأشعري في هذا الكتاب الحاكم.
ولهذا قال العلامة اللَّبلي في «فهرسته» (ولو لم يكن للحافظ ابن عساكر من المنة على الأشعري إلا هذا الكتاب.. لكفى به؛ فإنه ملأ كتابه هذا ثناء عليه وعلى أصحابه -يعني الأشعري، وجعل أئمة الحديث الذين ذكرت قبل وغيرهم من الأئمة على مذهبه).
والكلمتان الذهبيتان في مدح هذا الكتاب أولاهما للعلامة اللبلي؛ إذ قال في «فهرسته»: (وأما الحافظ الإمام الثقة، شيخ الإسلام، محدث الشام، ناصر السنة، قامعُ البدعة؛ أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي الدمشقي المعروف بابن عساكر فإنّي أقول فيه ما قاله إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في الحافظ أبي بكر البيهقي المتقدم الذكر؛ فإنَّه قال فيه حين ذكره ما مِنْ شافعي إلا وللشافعي عليه منَّةٌ إلا الحافظ أبا بكر البيهقي؛ فإنَّ له على الشافعي منَّةً؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه وأقاويلِهِ» أو كما قال.
وكذا أقول أنا الحافظ ابن عساكر ما مِنْ أشعري إلا وللأشعري عليه منةٌ إلا الحافظ ابن عساكر؛ فإنَّ له على الأشعري منَّةً؛ لانتصاره له وردَّهِ عَلَى مَنْ خَالَفَ مَذهَبَهُ وباين اعتقاده رضي الله عنه، مع كونه إماماً مِنْ أئمة المحدثين وحافظاً مِنْ حفاظ المسلمين، فكفى الإمام أبا الحسن الأشعري فضلاً أنَّ لفضله وفضل أصحابه -وهم كما ذكرناه على مذهبه واعتقادِهِ -مثل هؤلاء الأئمة، وحسبه فخراً أن يثني عليه ويكون على مذهبه الأماثل من علماء الأمة.
والثانية للإمام ابن السبكي؛ إذ قال في (طبقاته): (ومن أراد معرفة قدره -يعني: الأشعري - وأن يمتلئ قلبُهُ مِن حبّهِ . . فعليه بكتاب «تبيين كذب المفتري فيما نَسَبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري» الذي صنفه الحافظ ابن عساكر، وهو من أجل الكتب وأعظمها فائدةً وأحسنِها، فيقالُ: كلُّ سنّي لا يكون عنده كتاب «التبيين» لابن عساكر .. فليس مِنْ أَمْرِ نفسِهِ على بصيرة، ويقال لا يكون الفقيه شافعيّاً على الحقيقة حتى يحصل كتاب (التبيين) لابن عساكر، وكان مشيختنا يأمرون الطلبة بالنظر فيه).
وقال الحافظ الذهبي في (تاريخه): ومن أراد أن يتبحر في معرفة الأشعري .. فليطالع كتاب تبيين كذب المفتري» تأليف أبي القاسم ابن عساکر.
وكان قد عقبها الإمام ابن السبكي بقوله: (وأحلناك على كتاب (التبيين) لا كإحالة الذهبي؛ إذ نحن نحيلُ إحالة طالب مُحرّض على الازدياد من عظمتِه، وذاك يحيلُ إحالةَ مُجهّل قد سئم وتبـرم بـذكـر محـامـد مـن لا يحبه).
وقال الحافظ ابن كثير في (طبقات الشافعيين): (تبيين كذب المفتري على الشيخ أبي الحسن الأشعري مجلد، ذكر ترجمة حسنةً للأشعري وطبقاتِ أصحابه إلى زمانه . . . إلى أن قال: (وبالجملة: فهو كتاب نافع، يَحتاجُ إلى الوقوف عليه كل فاضل بارع).
وقال الحافظ العلائي في «إثارة الفوائد» وهو يحدث عن الحافظ ابن عساكر: (وهو من كبار الحفَّاظ من أصحاب الأشعري رحمهم الله، وله كتاب «تبيين كذب المفتري فيما نَسَبَ إلى الإمام الأشعري» كتاب مفيد)
ومما يدلك على فضل ومكانة كتاب (التبيين) أيضاً انتشارُ نُسخِهِ بُعيد تأليفه، وشيوعه في أرجاء المعمورة، وتأمل ما حكاه الإمام ابن السبكي في طبقاته» إذ قال: (لقد كان عند الشيخ الإمام - يعني والده تقي الدين نسخة من كتاب (تبيين كذب المفتري» لا يُحسِنُ الرائي أن يقرأ منها حرفاً؛ لما هو مكتوب في حواشيها وبين أسطرها من أمور لا تتعلق بالكتاب بخطّ بعض فضلاء الحنابلة الذين يلمزون ببعض الأشاعرة، فسألتُ الشيخ الإمام ! هذه النسخة شريتها من تركةِ الحافظ سعد الدين الحارثي، وكأنهم كانوا يريدون إعدامها، ولكن كتاب (التبيين) كثير العدد في الوجود لا يستطيع الخصم أن يحصرَهُ ويعدمه، والله تعالى يتولَّى إن شاء الله حمايته فقال ورعايته).
أضف إلى هذا: عناية العلماء بالنقل عنه والإحالة عليه؛ إذ هو من الكتب المسندة التي دونت على طريقة المحدثين وثقات الأخباريين.
خصومُ الإمام الأشعري
إنَّ كتابنا (تبيين كذب المفتري) إنما وُضِعَ بملاحظة خصوم لإمام أهل السنة الأشعري، ومع هذا فلا نرى إمامنا الحافظ ابن عساكر يعتني إلا بالرد على نوع من هؤلاء الخصوم؛ وهم المستظلُّون برواق أهل السنة، وهم على التحقيق أدعياء فيهم، ولكي يتضح هذا لا بأس بحديث خاطفٍ عن مخالفي الإمام الأشعري، إذ يمكن تقسيم مخالفيه مِنَ الإسلاميين إلى نوعين رئيسين؛ وهما:
النوع الأولُ مَنْ أحاطَ بحقيقة مذهبه ووقف عليه دون لبس أو اشتباه؛ وهم على ضربين:
- الأول: رؤوسُ فِرَقِ الأهواء الإسلامية، وعلى رأس هؤلاء المعتزلة والمشبهة ومن ينطوي تحت ما ذهبوا إليه في الاعتقاد، وخصومة هؤلاء لا تخفى، وليس الأشعري وحدَهُ خصماً لهم، بل سائر السنة يشاركونه في هذه الخصومة، والأشعري لم يألُ جهداً في الردّ عليهم ودحض شُبههم؛ فنال منهم ونالوا منه، غير أنَّ الذي ندينُ الله تعالى به أنه رحمه الله كان على الحق فيما خالفوه فيه، وأنَّ أدلته في بيان مذهبه وجلاء الحق كانت جلية واضحة، لا تستعصي على العقول، وهذا الخلاف يقتضي التبديع على الجملة.
ومثال هؤلاء محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد، والحسن بن علي البربهاري، وأبو سعد بشر بن الحسين بن مسلم الشيرازي، فالظن بهؤلاء أنهم عرفوا مرادَ الشيخ الأشعري وخالفوه.
- الثاني: مخالفوهُ مِنْ أهل السنة والجماعة؛ كالسادة الماتريدية، وبعض الصوفية، وبعض الأثريين والمحدثين، وهو خلاف داخل البيت السُّنَّي، فخلافُ الماتريدية أكثرُهُ لفظي لم يُحرّر فيه موضع النزاع، وبعضُه حقيقي اجتهادي، وخلافُ بعض الصوفية وبعض المحدثين راجع على الأغلب الأعم في طريقة الاستدلال على العقائد، لا في حقائق هذه الاعتقادات، إلا في نزر يسير هو كخلاف الماتريدية، وهذا الخلاف لا يقتضي تبديعاً ولا تفسيقاً، فضلاً عن الإخراج عن الملة فهي خصومة شريفة، يحفظُ كلَّ مِنَ الطرفين لقب السنة للآخر، والكل جديرٌ به.
وهذا القسم أشهرُ مِن أن يُمثَلَ له.
النوع الثاني: مَنْ لم يُحِطّ بحقيقة مذهبه، وهؤلاء منقسمون إلى قسمين: الأول جماعة يوافقونه في كثير من اعتقاداته، غير أنه وصلهم ما يخالف هذا الاعتقاد، أو ساءَ فهمهم لمذهبه؛ فما كان منهم إلا أن ذقوه ورموه بما وصل إليهم أو فهموه.
ومثال هؤلاء العلامة ابن حزم الأندلسي؛ إذ امتدَّ به الشينُ لأئمة الهدى؛ كأبي حنيفة ومالك والشافعي، ولكن لجهله بحالهم والله أعلم؛ فهو كثيراً ما يتقوَّلُ على الأشعرية، وينسب إليهم ما يتبرؤون منه وينكرونه؛ لقصور معرفته لعلومهم، وكونه غير بصير بكلامهم؛ لأنَّه - كما قال العلامة اللبلي - (إنما قرأ كتبهم وحده على ما ذكره الإمام أبو محمد عبد الله بن طلحة في كتابه؛ حيث يقول (هكذا أرادوا)، وما هكذا أرادوا، بل يحكم عليهم بما توهم بعقله).
الثاني: جماعة لا يوافقونَهُ في الاعتقاد، ولم يتعرفوا على مذهبه، وهؤلاء وإن كان يمكن إلحاقهم بالأول من النوع الأول، إلا أنّي أفردتهم كصنف تبرئةٌ لمَنْ فهم مذهب الأشعري من فرق الأهواء وعرفه.
ورحم الله العلامة اللبلي إذ قعَّدَ في كتابه قاعدة جليلة؛ فقال: وما ينبغي لأحد أن يتكلم في مذهب أحد حتى يقرأ عليهم، ويُفسر له كلامهم؛ فالعلوم غوامض لا ينبغي لأحد أن يتجاسر عليها بعقله)
ومثال هؤلاء يحيى بن عمار السِّجْزي، وتلميذه أبو إسماعيل الهروي؛ فهما من أعلام المشبهة، ثم تراهما يردان على الإمام الأشعري وهما يحسبان أنَّهما متصلبان في السنة، وآخذان في الرد على الجهمية ! وإنَّما كسر شوكة الجهمية أبو الحسن الأشعري وأعلام مدرسته.
ومن هؤلاء المفتري أبو علي الأهوازي، وهو أشدهم عَفَناً ونَتْنا في خصومتِهِ؛ فلم يكتفِ بمخالفة الأشعري في الاعتقاد، بل عرف بعض مذهبه وجهل بعضه، فخالفه فيما عرف من الحقِّ، وافترى عليه وطول لسان الكذب فيما لم يعرف، وهو إلى هذا منتسب زوراً وبهتاناً إلى أهل السنة؛ وكان قد جعل مذهب الأشعري زندقة،وإلحاداً، ولعن كلَّ من ينتسب إليه أو يعتقده ! وللأهوازي حديث تقدم ذكره.
وبعد هذا
بقي كتاب «التبيين» تتوارثه دُورُ أهل السنة، عزيز المادة غزيرها في كشف حقيقة المذهب الأشعري، حاوياً لأهم ما امتاز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم من الفرق الإسلامية، مع كثير من الروايات الأثرية والخبرية التي لن تظفر بها في غيره؛ إذ هي من أفراد روايات الحافظ ابن عساكر، ومنها أخباره التي رواها عن معاصريه، ولولا (التبيين) لصارَتْ أثراً بعد عين.
مقدمة العلامة محمد ناهد الكوثري رحمه الله تعالى
الحالة العامة عند البعثة النبوية:
وسط عريق في الجاهلية متوغل في الوثنية، ليس لقبائله خَطوات سابقة تذكر نحو الرقي البشري كما لجيرانهم، ولا لهم عاطفة تصرفهم عن مثل وأدِ البنات، والارتزاقِ مِنَ الغارات، وما إلى ذلك مِنَ الدنايا، يعبدون ما ينحتون، ويعتقدون أنَّ الملائكة بناتُ الله، تعالى عما يأفكون !
وحول هذا الوسط نطاق مِنْ أممٍ يدينون بأديان شتى محرفة مختلقة، يجري في بلاد كل منهم مِنَ الفتن الدهياء، وظُلَمِ الظُّلم السوداء .. ما لم في التاريخ، وقد خسروا ما تتوارثه الأمم خالفاً عن سالفٍ؛ مِنْ أسباب السعادة في هذه الحياة، فضلاً عما يُسبب السعادة الأبدية . يُقيَّد مثله أُمَّةٌ تدين بالتثليث والحلول، ويبيع لهم كهنتهم بقاعاً مِنَ الجنَّة فيشترون! تخلوا عن عقولهم وهم لأربابهم مُسخَّرون.
فمنهم الذين عبدوا العجل الذهبي بمجرد أن غاب عنهم نبيهم مدَّةً يسيرة، ثم حرفوا كتابه، واعتقدوا في الله أنَّه يهبط على الصخرة ويصعد منها، وأنه استلقى بعد أن خلق السماوات لِمَا لحقهُ مِنَ النصب، تعالى الله ومنهم أهل دين عما يقولون !
ومنهم الصابئة عبدة الأجرام العلوية: كأصحاب الهياكل الذين يرون أن الشمس إله كل إله، وكالحرانية الذين يعتقدون أنَّ الخالق واحدٌ كثير؛ واحد الأصل، كثير بتكثر الأشخاص في رأي العين، وهي المديرات السبع السماوية، والأشخاص الخيّرة الأرضية؛ فإنَّهُ يظهر بها ويتشخّص بأشخاصها ولا تبطل وحدته، وذلك بحلول ذاتِهِ أو جزء مِنْ ذاته فيها، تعالى الله عمَّا يشركون ! ولهم عزائم سحرية ومخاطبات للنجوم.
ومنهم ورث غُلاةُ المتصوفة وسائل مخرفتهم الثنوية، ومجوس الفرس عبده النار، القائلون بخالقين اثنين ومنهم النور خالق الخير، والظلمة خالق الشرِّ، على اختلاف فرقهم؛ مِنْ مانوية وديصانية ومزدقية وغيرها، يرون أنَّ النور غير متناه من الجهات الخمس، ومتناه مِنْ حيث يُلاقي الظلمة، وكان ماني رأسُ المانوية راهباً بحران، ومِنْ معتقد المزدقية منهم: أنَّ المعبود قاعد على كرسيه في العالم الأعلى على هيئة قعود خسرو الملك في العالم الأسفل.
ووراء تلك الأمم أممٌ أخرى على أشكال في الغواية؛ كالدهريين والطبيعيين نفاة الصانع، وهم آفة الفضيلة والعمران في كل جيل، وكالسُّمَنِيَّة والبراهمة القائلين بنفي ما وراء الحس، والمنكرين للنبوة، ولم تزل فلسفتهم أم الهوان والمذلة.. هكذا كان الحجاز وما حوله؛ مِنْ فِلَسْطِينَ والشام، وبلاد الروم، والعراق، وأرض الفرس، والهند، وبلاد إفريقية وما والاها، حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
فانظر - يا رعاك الله - كيف قام هذا النبي الكريم بالدعوة إلى الإسلام في هذا الوسط بين تلك الملل المحيطة به! ثم كيف أقام الحُجَّة لدعوته بحيث لا يدع لمعاند عذراً، وكيف أيقظ العقول بطريقة لا تعلو عن مدارك العامة ولا يستنكرها الخاصة، فدانوا له تباعاً، وعلمهم طريق التنزيه، وما يجوز في الله وما لا يجوز، وفقههم في أبواب العمل، ودربهم على الفضيلة والسجايا الكريمة، واستنهض الجميع نحو رُقيّ مستمر في العلوم والأعمال والأخلاق وما إليها، استنهاضاً تدريجياً بعيداً عن الطَّفْرَة والمفاجأة ! ثم كيف خرق شرعُهُ هذا النطاق، وانتشر إلى جميع الآفاق، فدانت الأمم بنور هدايته في مشارق الأرض ومغاربها ! ثم كيف أفاضَتْ هذه الدعوة المباركة والنهضة الميمونة على العالمين ما لم يُعهد له مثيلٌ مِنَ الخيرات في أيسر مدةٍ !
فإذا تأملت ذلك .. تزداد يقيناً تزداد يقيناً، وترى في ثنايا تشريع هذا النبي العظيم معجزات أية معجزات، تتجدَّدُ مدى الدهر، وأمهات ما تلقَّتِ الأُمَّةُ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم هي العلم بالله وصفاته، وما إليها من المعتقدات المقصودة لذاتها، والعلم بالأحكام العمليّة مِنْ عبادات ومعاملات يدور عليها تهذيبهم النفسي، وإقامة العدل بين الخليقة، والعلم بطرق اكتساب الملكات الفاضلة، والتخلي عن الخلال الرديئة النفسيَّة؛ مما يرشد إلى وسائل تزكية النفوس وتصفية القلوب؛ حتى تصدر منها الأعمال المسعدة في النشأتين سجية لا بتكلف، فيتم لهم الكمالات العلمية والعملية.
وكان الصحابة رضي الله عنهم في غُنية عن تدوين تلك العلوم؛ لأنهم كانوا يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتبهوا في أمرٍ، فيزول الإشكال، ويحصل العلم، ويأتسون به في الأعمال، ويسعون في التخلق بخلقه العظيم، وهم أسوة لمن بعدهم؛ فلا يتنكبون العدل في شيء منها، وبه قامتِ السماوات والأرض.
وتدوينها خلفاً. وقام بعد عهد الصحابة طوائفُ مِنْ علماء الأمة بتحقيق هذه العلوم أ عن سلف في كل قرن، على حسب ما تقضي الحاجة، فكلما كان قيام العلماء بواجبهم في ذلك أكثر. ذلك أكثر . . كان أمرُ الدين أقوى وسعادة المسلمين أوفر في زمن الصديق الله عنه، ونجم وبعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدار الباقية .. ارتد من ارتد رضي دعاة تفريق شؤون الدنيا عن الدين بإغواء مَنْ بينهم من المنافقين، فامتنعوا عن أداء الزكاة، فعدَّهم الصحابة مرتدين؛ لمنافاة هذا التفريق لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقاتلوهم حتى هدأت الأحوال ولم يكن الخليفة الثاني رضي الله عنه بأقل سهراً على الفاتنين؛ فكان ينفي مَنْ يسعى لتشويش العامة بعضل المسائل من غير شبهة تكشف، والفتوح الإسلامية تجري على اتساع عظيم، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وتدين به الأقوام والملل، وتنصاع لهديه البلاد إثر البلاد
لمعة في نشأة الفرق:
ولما حدثَتِ الفتن في خلافة عثمان رضي الله عنه . . استخفَّ جانبه أعداء الدين المندشون بين المسلمين، فخَفُّوا إلى السعاية بينهم، وإثارة خواطرهم بما يمكن أن يروج عليهم؛ لسلامة صدورهم، ويُعدهم عن معرفة طرائق تمويه الفاتنين غير المتظاهرين بما يمس بالدين، يتنقلون في البلاد لهذه الغاية، ويمهدون السبيل إلى القضاء على هذا الدين ببت بزور الدمار، وما عمله أمثال عبد الله بن سبأ في ذلك العهد مشهور.
وبعد التحكيم في وقعة صفين انفض الخوارج من حول علي كرم الله وجهه، وغلوا حتى أخذوا يكفّرون مرتكب الكبيرة، ولما توفّي علي .. دام أناس على مشايعته ومشايعة آلِهِ؛ فسُمُّوا الشيعةَ، وكانت زنادقة الروافض تجد بينهم مرتعاً خصباً لزرع بُزُورهم (١) كلما تكرّر اضطهاد أهل البيت من بني أمية وغيرهم.
الثاني يردُّ على هو وحين تخلى الحسن السبط عن الخلافة لمعاوية .. اعتزل الفريقين جماعة، ولزموا مساجدهم يشتغلون بالعلم والعبادة، وكانوا قبل ذلك مع علي حيثما كان، وهم أصل المعتزلة، ويُقال إنَّ أول من قام بالاعتزال أبو هاشم عبد الله والحسنُ ابنا محمد بن الحنفية، ثم أخذ الخوارج في مسألة الإيمان مسألة الإيمان، ويقول: (الإيمان الكلمة والعقد دون الأعمال)، فسُمي هو وجماعته مرجئةً؛ لتأخيرهم العمل عن الإيمان، وحدث منهم طائفة تقول لا يضرُّ مع الإيمان معصية؛ وهم مرجئة البدعة.
وكان عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى وموابذة المجوس أظهروا الإسلام في عهد الراشدين، ثم أخذوا بعدهم في بثّ ما عندهم من الأساطير بين من تروج عليهم ممَّن لم يتهذب بالعلم من أعراب الرواة وبسطاء مواليهم.
فأَوَّلُ مَنِ انخدع بهم الشيعة، ولكن سرعان ما تراجعوا عن ذلك بمناظرة المعتزلة لهم، ولم يدم فيهم دوامه بين حشوية الرواة.
فتلقفوها منهم، ورووها لآخرين بسلامة باطن، معتقدين ما في أخبارهم في جانب الله من التجسيم والتشبيه، ومستأنسين بما كانوا عليه من الاعتقاد في جاهليتهم، وقد يرفعونها افتراء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو خطأ . فأخذ التشبيه يتسرَّبُ إلى معتقد الطوائف، ويشيع شيوع الفاحشة، ولم يكن بنو أمية كالراشدين في السهر على معتقدِ المسلمين إلا فيما يَمَسُّ بسياستهم.
وكانت البصرة بندر الآراء والنحل، وقد سمع . هناك معبد بن مَنْ يتعلل في المعصية بالقدر، فقام بالرد عليه ينفي كون القدر سالباً للاختيار في، وهو يريد الدفاع عن شرعيّة التكاليف، فضاقت عبارته، وقال: (لا قدر، والأمر أُنفٌ)، ولما بلغ ذلك ابن عمر . . تبرأ منه فسمي جماعة معبد قدريةً، ودام مذهبُهُ بين دهماء الرواة من أهل البصرة قُرُوناً، بل تطوَّر عند طائفة منهم إلى حد أن جعلوا للخالق ما ينسبه الثنوية إلى النور، وللمخلوق ما يعزونه إلى الظلمة خالد الجهني أفعال العباد.
وكان غيلان بن مسلم الدمشقي ينشرُ بدمشق رأي معبد، فطلبه عمر بن عبد العزيز، ونهاه عن ذلك، وكشف شبهته، فانتهى وقال (يا أمير المؤمنين؛ لقد جئتك ضالاً فهديتني، وأعمى فبصرتني، وجاهلاً فعلمتني والله؛ لا أتكلم في شيء من هذا الأمر أبداً).
ولما بدأ يذيع رأي معبد .. أخذ في الردّ عليه جهم بن صفوان بخراسان فوقع في الجبر، ونشأ عنه مذهب الجبرية وكان الحسن البصري من جِلَّةِ التابعين، وممن استمر سنين ينشر العلم في البصرة، ويلازم مجلسه نبلاء أهل العلم، وقد حضر مجلسه يوماً أناس من رعاع الرواة، ولما تكلموا بالسقط عنده .. قال: (رُدُّوا هؤلاء إلى حشا الحلقة) أي: جانبها، فسُمُّوا الحشويَّةَ، ومنهم أصناف المجسمة والمشبهة.
وكان واصل بن عطاء بعد أن أخذ الاعتزال عن أبي هاشم السابق ذكره يحضر في مجلس الحسن، وقد ذُكِرَتْ مسألة الإيمان في المجلس، فبادر واصل إلى القول بأنَّ الكافر المجاهر والمؤمنَ المطيع لا خلاف في تسميتهما كافراً ومؤمناً، ومرتكب الكبيرة حيث كان موضع اختلاف في إطلاق أحدهما عليه نأبى إطلاق هذا وذاك عليه، ونقول فيه إنَّه فاسق؛ أخذاً بما اتفقوا، وهَجْراً لِمَا اختلفوا، كأنه يريد التوسط بين الخلافين، واستمالة الفريقين إلى رأيه، لكنه المعنى مع الخوارج؛ لأنه يرى الخلود في النار لمرتكب الكبيرة، فلم يرتض الحسنُ كلامَهُ، فانسحب واصل من المجلس، وأخذ ينشر مذهب الاعتزال والأصول الخمسة مع صاحبيه عمرو بن عبيد وبشر بن سعيد، وعنهما أخذ بشر بن المعتمر وأبو الهذيل، وبالثاني تخرج أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم، وإبراهيم النظام، وهشام الفوطيُّ، وعلي بن محمد الشحام، وعن النظام أخذ الجاحظ وابن أبي دؤاد ولم يدرك واصلاً كما ظُنَّ، وعن الأول انتشر الاعتزال ببغداد؛ حيث أخذ منه أبو موسى بن صبيح، وعنه جعفر بن حرب وجعفر بن مبشر، محمد بن عبد الله الإسكافي، وعن الشحام أخذ الجبائي، وعنه ابنه أبو هاشم، وأخذ عن الفوطي عباد بن سليمان، فهؤلاء هم: قادة الاعبة الى في البصرة وبغداد.
وأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ بالقول بخلْقِ القرآن الجعد بن درهم بدمشق، ودان جهم أخذ ذلك القول من الجعدِ، وضمَّهُ إلى بدعِهِ التي قام بإذاعتها، ... جملتها: نفي الخلود، ولما قام الحارث بن سريج بخراسان ضد الأموية داعي إلى الكتاب والسنة . . اعتضد.
وكان مقاتل بن سليمان ينشر هناك نحلته بجهم في التجسيم، فأخذ جهم يردُّ عليه، وينفي ما يثبته مقاتل، فأفرط في النفي حتى قال (إنَّ الله لا يوصف بما يوصف به العباد)، ولم يُفرق بين الاشتراك في الاسم والاشتراك في المعنى، والممنوع هو الثاني دون الأول؛ بشرط كونه وارداً في الشرع؛ لأن العلم مثلاً ممَّا ورد وصفُ الخالق به والمخلوق، مع أنه ليس بمشترك بينهما في المعنى؛ لأن علم الله حضوري، وعلم المخلوق حُصُولي، وكذلك بقيةُ الصفات، وتُنسَبُ لجهم آراء، وليس له فرقة تنتمي إليه بعده، ونسبة غالبِ مَنْ نُسِبَ إليه من قبيل النبز بالألقاب؛ تهويلاً لسوء سُمعةِ الرجل بين الفِرَقِ، وآراؤُهُ توزعت بينهم بعد تمحيصها على حسب، لا على ما ارتآه جهم، شأن كلِّ رأي يشيع فيوبعد أن ابتدأ يطرأُ بعضُ فتور على الفتوح ازداد الناس تفرغاً لتلك الآراء المبثوثة، وتغلب على عقولهم شهوة التعمُّق فيها.
وأخذ أمثال ابن المقفع وحمَّادِ عَجْرَدٍ ويحيى بن زياد ومطيع بن إياس وعبـد الكـريـم بـن أبي العوجاء يواصلون السعي في نشر الإلحاد بين المسلمين، وترجمة كتب الملاحدة والثنوية من الفرس، حتى استفحل أمرهم، فأمر المهدي علماء الجدل من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين؛ فأقاموا البراهين، وأزالوا الشبة، وأوضحوا الحق، وخدموا الدين، وهو وكان القائمون بأعباء تلك المدافعات طائفة من المعتزلة، فأصبحوا بين عدوين؛ عدو محتال من خارج الملة له أراء وفلسفة تدرب عليها من عهد قديم، وعدو مجاف في داخل الأمة كاد السواد أن ينحاز إليه لتقشفه بعيد عن قضايا العقول، راجَتْ عليه تمويهات المضلين من اليهود والثنوية، قصارى عمله الوقيعة في أهل النظر، لا يفرّق بين العدو والحميم، ولو وكل إليه الأمر.. لما أمكن أن يدافع ساعة من نهار، فاشتغل هؤلاء النظار بالأول، وتغاضوا عن الثاني؛ حتى أتمُّوا الردَّ على الزنادقة، وكشفوا عن تمويهاتهم، ثم نقضوا كلام الحشوية، وأظهروا سخف آرائهم.
وقد علق بنفوس هؤلاء النظّار ما لا يُستهان به من أمراض عقليَّة عَدَتْ الناس إليهم من مناظريهم، وكان غالب الفقهاء وحملة السنة طول هذه المكافحات يأبون الخوض في تلك المسائل، ويجرون على ما عليه الصحابة وخيار التابعين من الاقتصار على ما ثبت من الدين بالضرورة، مع أنَّ خصماء الدين كان لهم من الأسلحة ما لا يمكنُ مقابلته إلا بمثل أسنتهم، وجروا مع المسلمين على طريق التدرج في مراحل العداء، والجمهور في غفلة من ذلك، ومشوا بهم إلى مرحلة لو تُرِكَ الأمرُ وشأنه لكاد أن تتسرب شكوتُهم إلى قلوب جماعة المسلمين، فيطم الخطب، ففي مثل هذه الظروف تولّى المأمون، وأخذ يشايع المعتزلة ويقربهم حتى حمل الناس على القول بخلق القرآن والتنزيه حسب ما يوحي إليه عقله وعقولُ خُلطائه، ودام الامتحان طول خلافة المعتصم والواثق، وزاد الأخير مسألة نفي الرؤية، فلقي خُصوم المعتزلة شدائد استمرَّتْ إلى أن رفع المتوكل المحنة، وأظهر الإمام أحمد فيها من الثبات ما رفع شأنه، ولم يكن للمتوكل ما يُحمد عليه غير رفعِهِ المحنة، ومنع الناس عن المناظرات في الآراء والمذاهب، وكان ناصبياً يبغض علياً كرَّمَ الله وجهه، وله من الأفعال ما لا يخطر بالبال.
ثم ابتدأ رد الفعل يأخذ سيره الطبيعي؛ من ارتفاع شأن الحشوية والنواصب، وانقماع أهل النظر والمعتزلة، وأهل السنـة مـن الفقهاء والمحدثين يواصلون العمل في علومهم في غير جلبة ولا ضوضاء.
والحشوية يجرون على طيشهم وعمايتهم واستتباعهم الرعاع والغوغاء، ويتقولون في الله ما لا يجوزُهُ الشرع ولا العقل؛ من إثبات الحركة له والتقلة والحد والجهة والقعود والإقعاد والاستلقاء والاستقرار! إلى نحوها مما تلقَّوه بالقبول من دجاجلة الملبسين من الثنوية وأهل الكتاب، ومما ورثوه من أممٍ قد خلت، ويؤلفون في ذلك كتباً يملؤونها بالوقيعة في الآخرين، ويخرقون حجاب الهيبة في الإكفار، متبرقعين بالسنة، ومُعتزين إلى السلف، يستغلون ما يُنقل عن بعض السلف من الأقوال المجملة التي لا حجة فيها..
نعم؛ لهم سلف، ولكن من غير هذه الأمة، وهم على سنة، ولكن على من سنها الأوزار إلى يوم القيامة، وليس هذا محل بسط مخازيهم.
وكانت المعتزلة تتغلب على عقول المفكّرين من العلماء، ويسعون في استعادة سلطانهم على الأمة، وأصناف الملاحدة والقرامطة توغلوا في الفساد، واحتلوا البلاد، حيث لم يبقَ في ثغور الدفاع عن الدين مَنْ يرابط بحجج دامغة تمحقُ مخرقتهم؛ لانشغالهم بنفوسهم بما جد من الأحوال ! ففي مثل هذه الظروف الحرجَةِ .. غار الإمام أبو الحسن الأشعري الله عنه على ما حلَّ بالمسلمين من ضروب النكال، وقام لنصرة السنة وقمع البدعة؛ فسعى أولاً للإصلاح بين الفريقين من الأمة؛ بإرجاعهما عن تطرفهما إلى الوسط العدل، قائلاً للأولين: أنتم على الحقِّ إذا كنتم تريدون بخلق القرآن اللفظ والتلاوة والرسم، وللآخرين: أنتم مصيبون إذا كان الصفة القائمة بذات الباري، غير البائنة منه كما يقول ابن المبارك؛ يعني الكلام النفسي، وليس لكم مجال أن تنكروا حدوث لفظ اللافظ وتلاوة التالي، كما أنَّه ليس للأولين نفي الصفة القائمة به تعالى من غير لفظ ولا صوت، وقائلاً للأولين أيضاً نفي المحاذاة والصورة صواب: أنه يجب عليكم الاعتراف بالتجلّي من غير كيف، وللآخرين إياكم من إثبات الصورة والمحاذاة وكلّ ما يفيد الحدوث، وأنتم على صواب إن اقتصرتم على إثبات الرؤية للمؤمنين في الآخرة من غير كيف
وهكذا حتى وفَقَهُ الله لجمْعِ كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وقمع المعاندين وكسر تطرفهم، وتواردَتْ عليه المسائل من أقطار العالم، فأجاب عنها، فطبق ذكرُهُ الآفاق، وملأ العالم بكتبه وكتب أصحابه في السنة والرد على أصحاب المبتدعة والملاحدة وأهل الكتاب، وتفرَّقَ أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب، ومضى لسبيله.
استعادَ المعتزلة بعض قُوَّتِهم في عهد بني بويه، لكن الإمام ناصر السنة أبا بكر بن الباقلاني قام في وجههم، وقمعهم بحججه، ودانت للسنة على الطريقة الأشعريَّة أهلُ البسيطة إلى أقصى بلاد إفريقية وبعد وفاته بیسیر.
وقد بعث ابنُ الباقلاني في جملة مَنْ بعث مِنْ أصحابه إلى البلاد أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن حاتم الأزدي إلى الشام، ثم إلى قيروان وبلاد المغرب، فدان له أهل العلم من أئمة المغاربة، وانتشر المذهب إلى صقلية والأندلس، ولابن أبي زيد وأبي عمران الفاسي وأبي الحسن القابسي وأبي الوليد بن الباجي وأبي بكر بن العربي وتلامذتهم .. أيادٍ بيضاء في ذلك وقام بنشر المذهب في الحجاز راوية الجامع الصحيح الحافظ أبو ذر الهروي، وأخذ عنه من ارتحل إليه من علماء الآفاق، وكان انتشاره بالشام قبل ذلك بواسطة صاحب الأشعري أبي الحسن عبد العزيز الطبري راوية (تفسير ابن جرير) عن مؤلّفه.
وكان أهل الشام يجتلبون كبار الأئمة من المذهب الأشعري حيناً بعد حين؛ كالإمام قطب الدين النيسابوري، اجتلبه نور الدين الشهيد على طلب العلماء، وكان جماعة من المقادسة الحنابلة ممَّن ورثوا بعض آراء ابن كرام الذي كان عشش بالقدس وباض، وترك أصحاباً له متقشفين، يتوارثها منهم من بعدهم. هاجروا منها لما احتلها النصارى، وحملوا بدع التشبيه إلى الشام، وكان بها شيءٌ من تلك البدع من عهد عبد الواحد الشيرازي صاحب أبي يعلى، وكان السلطان صلاح الدين الأيوبي يرعى خاطرهم؛ لكونهم مهاجرين زهاداً، ويتغاضى عن معتقدهم، ولم يكن يحمل الناس على المذهب الأشعري كما ظن، بل كان الواعظ ابنُ نُجَيَّةَ الحنبلي المشهور مُقرَّباً عنده، ومجافاته القاسية مع الإمام الشهاب الطوسي القائم بنصرة الأشعري بمصر .. تجري على منظر منه ويسكت عن ذلك !
بل كاد اله أن ينحازوا إليهم في المعتقد، لولا وقفة الإمام عزّ الدين بن عبد السلام في . المسألة وقفة عالم يقوم بواجبه، فتضاءلت أصواتهم، وانجمعوا في منه ومسمع ديورهم، واقتصروا على الروايات؟
فيظهر من جميع ذلك أنَّ انتشار المذهب الأشعري في البلاد بسلطان العلم، لا بشوكة السلاطين، وما وقع ببغداد وغيرها من بعض ا الحشوية بين حين وآخر .. فلإخلالهم الأمن وإحداثهم القلاقل التشدد على أنه وفقهاء المذاهب يتجاذبون الأشعري إلى مذاهبهم، ويترجمونه في طبقاتهم، والحنابلة أحقُّ بذلك؛ حيث يصرّحُ الأشعري في مناظراته معهم على مذهب أحمد، لكنَّهم لا يترجمونه في طبقاتهم، ولا يَعدُّونه منهم، بل يمقته الحشوية منهم فوق مقتِ المعتزلة، فالمالكية كافة وثلاثة أرباع الشافعية وثلث الحنفية وقسم من الحنابلة .. على هذه الطريقة من الكلام من عهد الباقلاني، والثلثان من الحنفية على الطريقة الماتريدية في ديار ما وراء النهر وبلاد الترك والأفغان والهند والصين وما والاها، إلا من انحاز منهم إلى الاعتزال كبعض الشافعية.
ومن خصائص مذهب عالم المدينة: كونه ينفي خبث البدع عن أهل مذهبه، فلا تجد بين المالكية بدع الاعتزال والتشبيه، ومما أفاد في ذلك على ما أحسبه منعُ مالك رواية أخبار الصفات، كما كان أحمد يمنع عن رواية أحاديث الخروج على ظلمة الولاة، فأفاده في تغاضي خلفاء بغداد عن الحنابلة مهما عملوا، بل في تقريبهم.
نعم؛ يوجد عند بعض المالكية نوع غلو في التصوف من عهد ابن تومرت وبعض الحنابلة على مسلك السلف في التفويض وترك الخوض، وبعضُهم انحاز إلى المعتزلة، وكان غالبهم على تعاقب القرون حشوية على الطريقة السالمية والكرامية، إلى أن جعل الظاهر بيبرس قضاء القضاة في المذاهب الأربعة لأوَّلِ مرَّة؛ فاتصلوا بعلماء أهل السنة يفاوضونهم في العلم، فأخذت تزول أمراضهم البدعية، وكاد ألا يبقى بينهم حشوي؛ لولا جالية حران بعد نكبة بغداد، حطوا رحلَهم بالشام، ونبغ من بينهم رجلٌ حَسُنَتْ نشأته في الطلب على ذكاء وحافظة وسمت، وتمكّن من اجتلاب ثقة شيوخ العلم إلى نفسه وثنائهم عليه، وكان واعظاً طلقَ اللسان؛ فإذا هو يجري على خطَّةٍ مدبرة في إحلال المذهب الحشوي تحت ستار مذهب السلف محل مذهب أهل السنة، ولم يعلم أنَّ مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية بلغ من التمحيص العلمي على تعاقب القرون بأيدي نوابغ أهل النظر والفقه في الدين، ممن لا يعد هذا الحشوي من صغار تلامذتهم .. إلى مستوى من قوَّة الحجج بحيث إذا حاول مثله أن يصطدم بها .. لا يقعُ إلا على أم رأسه، فيردى ولا يُودى وحيث لم يكن له شيخ يرشده في العلوم النظرية .. أصبح علمه لا يرتكن على شيء وثيق، خليطاً كثير التناقض، توزعت مواهبه في أهواء متعبة، ثم أفضى إلى ما عمل، وزالت فتنه برد العلماء عليه
ومن الجلي أنه لا دخل للعلم في نشأة الخوارج والشيعة، بل ولدتهما العاطفة السياسية، ثم اندس فيهما خصومُ الدين من الزنادقة، فتطوَّرتا أطواراً شائنة، واتجاههما الأصلي نحو خصومة الحكومة القائمة، والمرجئة وليدة من البحث العلمي، اتجاهها نحو معاكسة الخوارج في المعتقد، ثم تشعبت منها آراء بعيدة عن الدين والعلم، أورثت التهاون في العمل، والجبرية دعاة الخمود ونذيرُ الدمار، نُتِجَتْ عن بحث غير علمي علوقها من مجاورة السُّمَنِيَّةِ والبراهمة وغيرهما من فرق الإباحة والخمول، والقدرية نشأت من بحث علمي، ووجهتها نحو خصومة الكسل والتواكل، وباعتبار ما تطور إليها متأثرة ببعض آراء الثنوية عاقل، وهم غلاظ الطباع.
والحشوية أسقطها الجهل والجمود، ترتئي آراء جاهلية ورثتها من نِحَلٍ كانوا عليها قبل الإسلام، وراجت عليهم تمويهات المموهين من الثنوية وأهل الكتاب والصابئة، لهم تقشُفُ يخدعون به العامة، وجهالات لا يتصوَّرُها، قساة جفاه يتحيَّنون الفرص لإحداث القلاقل لا يظهر لهم قول إلا عند ضعف الإسلام، ويستفحل أمرُ الإلحاد مع ظهور قولهم، هكذا في جميع أدوار التاريخ؛ خصومتهم متوجهة نحو العقل والعلوم النظرية وكل فرقة قائمة.
والمعتزلة على ضدّ الحشوية بخط مستقيم، أنتجها البحث العلمي، ساقهم شَرَهُ عقولهم إلى محاولة اكتناه كل شيء، وعداؤهم الأصلي نحو الجمود، وخطَّتُهم دفع الآراء المتسربة من الخارج إلى الإسلام بحجج دامغة، وأدلَّةٍ عقلية مفحمة، ولهم مواقف شريفة في الدفاع عن الدين الإسلامي إزاء الدهريين ومنكري النبوة والثنوية والنصارى واليهود والصابئة وأصنافِ الملاحدة، وترى الذهبي يترحَمُ على الجاحظ في (سير النبلاء) حين يذكر كتابه في النبوة.
ولم نرَ ما يقاربُ كتاب " تثبيت دلائل النبوة، للقاضي عبد الجبار في قوَّة الحجاج وحسن الصياغة في دفع شكوك المشككين، وليس بجيد الإعراضُ الكليُّ عن كتبهم، وكم فيها من الفوائد التي لا تزال في أثوابها القشيبة لم تَبْلَ بكرور الزمن عليها!
وكم كان الأستاذ الإمام يجد فيها ما يدفع به خصوم العصر، ولا يتحاشى عن الأخذ به، من غير بخس لحقِّهم! إلا أنَّهم لكثرة اشتغالهم بمناظرة الأخصام عَدَتْ . إلى عقولهم آراء ابتعدوا بها عن الصواب، وانغمسوا في بدع ردَّها الأصحابُ منهم.
قال الخطابي صاحب (معالم السنن): (كانت المعتزلة في الزمان الأول على خلاف هذه الأهواء، وإنما أحدثها بعضهم في الزمان المتأخر).
والأشعرية هم العدل الوسط بين المعتزلة والحشوية، لا ابتعدوا عن النقل كما فعل المعتزلة، ولا عن العقل كعادة الحشوية، ورثوا خيرَ مَنْ تقدَّمَهم، وهجروا باطل كل فرقة، حافظوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وملؤوا العالَمَ عِلْماً، ويوجد بينهم مَنْ ينتمي إلى التصوف من مناصرة بعض الأئمة من الصوفية للسنة على الطريقة الأشعرية منذ القرن الخامس.
ولا يوجد من يوازن الأشعري بين المتكلمين بالنظر لما قام به من العمل العظيم، ومع ذلك لا تخلو آراؤُهُ من بعض ما يُؤخذ؛ كنوع ابتعاد عن العقل، وعن النقل أخرى، في حسبان الناظر في كلامه في مسائل نظرية معدودة؛ كقوله في التحسين والتقبيح، والتعليل، وما يفيده الدليل النقلي، ونحو . ذلك؛ لأنَّ مَنْ طال جداله مع أصناف المعتزلة والحشوية مثله .. لا بدَّ وأن يحصل في كلامه شيءٌ من هذا القبيل، وإنَّما لم يقع مثل ذلك في معاصره إمام الهدى أبي منصور الماتريدي شيخ السنة بما وراء النهر؛ لتغلُّبِ السنة هناك على أصناف المبتدعة تغلُّباً تاماً لا تظهرُ مشاغباتهم معه فتمكن من الجري على الاعتدال التام في أنظاره، فأعطى النقل حقَّهُ، والعقل حكمه، والماتريدية هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة، وقلما يوجد بينهم متصوّف.
فالأشعري والماتريدي هما إماما أهل السنة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها، لهم كتب لا تحصى، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل الخلافِ اللفظي، وقد دونت عدَّةُ كتب في ذلك، وقد أحسن تلخيصها البياضي في (إشارات المرام في عبارات الإمام)، ونقل نصه الزبيدي في (شرح الإحياء) على أغلاط مطبعية كثيرة، والبياضي هذا ضليع في علم الكلام وإن تأخر زمنه، حتى إنَّ المقبلي صاحب «العلم الشامخ» على جموحه وصعوبة انقياده للعلماء . . كبير العناية بـ «إشارات البياضي»؛ اعترافاً منه بسعة دائرة بحثه.
ولم نتعرض هنا إلا لأصول الفرق من أهل البدع، ولها فروع تتشعب منها على حسب ما يقعُ فيها من تداخل في الآراء، وتجدد في الأهواء، وهي لا تنتهي، خلاف مشهور، وقد قام العلماء في كل طبقة بتفصيل ما جد إلى عصرهم من من عند عدد محدود إلى انتهاء تاريخ البشر، وفي العدد المأثور للعلماء، وقد قام العلماء في كل طبقة بتفصيل ما جَدَّ إلى عصرهم، أصحاب النحل وردّ الباطل من آرائهم، ومقالات تلك الطوائف مبسوط في مقالات الإسلاميين» للأشعري، و المقالات» لأبي منصور الماتريدي، و رد أهل الأهواء والبدع» لأبي الحسين الطرائفي، و الملل والنحل» لأبي المظفر الإسفرايني" .. إلى غير ذلك مما لا يحصى
وكثيراً ما يعزى إلى الفرق أقوال لا تُوجد في كتبهم؛ إما توليداً وإلزاماً، أو نقلاً من كتب غير الثقات من الخصوم؛ كما يقع لعبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق»، و الملل والنحل ) له (۳)، وكما يفعل ابن حزم في الفصل»، ومن هذا القبيل الاعتماد على مثل أبي عيسى محمد بن هارون الوراق، وأبي محمد الحسن بن موسى النـوبـخـتـي صـاحـب «الآراء والديانات»، ومحمد بن إسحاق صاحب الفهرست»، وعلى كتب الحشوية؛ فإنَّها مملوءة بالمختلقات، فشأنُ الباحث أن يحتاط في نسبة قول إلى قائل حتى يجده في كتاب له مستفيض عنه.
وقد نبه على بعض ما تقدَّم الرازي عند ذكر كتاب الشهرستاني، ولسنا في صدد المقارنة بين كتب الملل والنحل، وفي كلام المتقدمين من المتكلمين ما يجب أن يسترشد به القائمون بالدفاع عن الدين في كل عصر، ومن البيِّنِ أنَّ طرق الدفاع عن عقائد الإسلام ووسائل الوقاية عن تسرب الفساد إلى الأخلاق والأحكام .. مما يتجدد في كل عصر بتجدد أساليب الأخصام، وهي في نفسها ثابتة عند ما حده الشرع، لا تتبدل حقائقها، فيجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم . جماعة لتتبع أنواع الآراء السائدة في طوائف البشر والعلوم المنتشرة بينهم، وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضررٌ للمسلمين، لا سيما في المعتقد الذي لا يزال ينبوع كل خير ما دام راسخاً رصيناً، ويصيرُ منشأ كل فساد إن استحال واهنا واهياً، فيدرسون هذه الآراء والعلوم دراسة أصحابها أو فـوق دراستهم؛ ليجدوا فيها ما يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء الدين بوسائط عصرية.
حتى إذا فَوَّقَ متقصد سهاماً منها نحو التعاليم الإسلامية؛ من معتقد وأحكام وأخلاق.. ردُّوها إلى نحره؛ اعتماداً على حقائق تلك العلوم وتجاربها، واستناداً على إبداء نظريات تقضي على نظريات المشككين - وجَلَّ الدين الإسلامي أن يصطدم مع حقائق العلوم - وأقاموا دون تسرب تلبيساتهم سوراً حصيناً واقياً، وعبؤوا حزب الله على أنظمةٍ يتطلبها الزمن في غير هوادة ولا توان، ودوّنوا ما استخلصوه من تلك العلوم مِنْ طرائق الدفاع في كتب خاصة بأسلوب يعلق بالخاطر، وتستسيغه العامة؛ لتكون سداً محكماً مدى الدهر، دون مفاجأة جوارف الشكوك، وإن لم يفعلوا ذلك . يسهل على الأعداء أن يجدوا سبيلاً إلى مراتع خصبة بين المسلمين، تنبت فيها بذور تلبيساتهم، بحيث يصعب اجتثاث عروقها الفوضوية، بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية تتمكَّنُ فيها، فيهلك الحرث والنسل، وقانا الله شر ذلك، وأيقظنا من رقدتنا.
وأحسن من قام بترجمة الإمام الأشعري وبتاريخ حياته العلمية، وبيان سيرته في الدفاع عن السنة، وردّ ما اختلقه خصومه عليه، مع ذكر تراجم مشاهير الأشاعرة الذين طبَّق ذكرُهم الأرضَ من قرون متطاولة على طبقاتهم .. الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي في كتابه " تبيين كذب المفتري:، فيما نَسَبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري»، فله على الأشاعرة أكبر منة بذلك، ولا يزال العلماء من سالف الدهر يشكرون له هذا العمل، وشهرة كتابه تغني عن كل وصف، ولا يُؤْخَذُ بشيء سوى إكثاره من ذكر رؤيا الصالحين في الموضوعات العلمية، فلعل الحشوية هم الذين اضطروه إلى ذلك؛ لأنَّهم إذا أعوزتهم الحجة في اليقظة .. يلجؤون إلى النوم، فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام، فيملؤون كتبهم بالرُّؤى، وكان الأجدر به ألا يعباً بهؤلاء في ذلك، وقد كفانا ما لنا من الحجج في اليقظة.
وقد ذيل عليه العلامة ابن المُعلِّم في ( نجم المهتدي ورجم المعتدي ) في القرن الثامن، بعد أن ردَّ على أهوازي عصره، وهو كتاب حافل، واختصر العفيفُ اليافعي كتاب ابن عساكر في كتابه «الشاش المعلم ذيل المرهم»، وألف بعدهم كمال الدين أبو محمد بن إمام الكاملية صاحب الشمس القاياتي تلميذ العلاء البخاري .. كتابه «طبقات الأشاعرة»، ولا أمل في استيفائهم جميعاً في كتاب؛ لكثرة القائمين بمناصرة السنَّة على طريقة الإمام الأشعري من أهل مذاهب الأئمة الفقهاء، والله الهادي.
محتوى الكتاب
فهرست الكتاب
بين يدي الكتاب ٧
إمام المحدثين الحافظ الرباني ابن عساكر ١٤
اسمه ونسبه ١٤
ولادته ونشأته ١٥
زوجته وأولاده ۱۸
رحلاته في طلب العلم ۱۸
الحافظ ابن عساكر والحافظ أبو عبد الله الفراوي ۲۰
شيوخه والرواة عنه ۲۱
مؤلفاته ومخلفه العلمي ٢٣
مكانته في علوم الحديث، وثناءات العلماء عليه ٢٤
الحافظ ابن عساكر والملك العادل نور الدين الشهيد ٢٨
سيرته في العقائد والأصول ٣٢
سيرته في الفقه والفروع ٣٣
سيرته في السلوك ومناهج التربية ٣٤
وفاته رحمه الله تعالى ٣٨
کتاب و تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري ٤٠
الداعية لتأليف التبيين والحاجة إليه ٤١
من هو المفتري الذي نسب ما نسب للإمام الأشعري؟ ٤٥
كتاب المفتري الأهوازي مثالب ابن أبي بشر ٤٧
مقالة علماء الجرح والتعديل وترجمات الرجال في أبي علي الأهوازي ٥٠
لا عبرة بجرح الأهوازي وأمثاله للإمام الأشعري ٥٢
ماذا في تبيين كذب المفتري ٥٣
مكانة كتاب تبيين كذب المفتري عند العلماء، وأقوالهم فيه ٥٦
- خصوم الإمام الأشعري ٥٩
وصف النسخ الخطية ٦٣
منهج العمل في الكتاب ۷۱
صور من المخطوطات المعتمدة في التحقيق ٧٥
مقدمة العلامة محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى ۸۹
الحالة العامة عند البعثة النبوية ۹۱
لمعة في نشأة الفرق ٩٤
تبيين كذب المفتري ۱۱۱
مقدمة المؤلف ۱۱۳
باب ذكر تسمية أبي الحسن رحمه الله ونسبه والأمر الذي فارق عقد أهل الاعتزال بسببه ۱۲۹
باب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من بشارته بقدوم أبي موسى وأهل اليمن، وإشارته إلى ما يظهر من علم أبي الحسن باب ذكر ما رزق أبو الحسن رحمه الله من شرف الأصل، وما ورد من تنبيه ١٤٥
ذوي الفهم على كبر محله في الفضل ١٦٤
طرف من فضائل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ١٨٥
طرف من فضائل أبي بردة الأشعري ٢٠٦
طرف من فضائل بلال بن أبي بردة ٢١٠
عود إلى ذكر فضل شيخ أهل السنة أبي الحسن الأشعري ٢١٤
- رسالة الإمام الحافظ أبي بكر البيهقي، لعميد الملك الكندري، في الذب عن الأشاعرة والشيخ الأشعري ٢٢٧
شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة ٢٤١
ذكر جوابات العلماء التي كتبوها بخطوطهم بشأن استفتاء حول فتنة الافتئات والتطاول على شيخ السنة الأشعري ٢٥٧
ابتداء حوار متكلمي أهل السنة لأهل الأهواء وبزوغ نجم شيخ السنة الأشعري ٢٦١
باب ذكر ما اشتهر به أبو الحسن رحمه الله من العلم، وظهر منه من وفور المعرفة به والفهم ٢٧٥
باب ذكر ما عرف من أبي الحسن رحمه الله من الاجتهاد في العبادة، ونقل عنه من التقلل من الدنيا الزهادة ٢٩٤
باب ذكر ما يسر لأبي الحسن رحمه الله من النعمة، من كونه من خير قرون هذه الأمة ٢٩٦
باب ما وصف من مجانبته لأهل البدع وجهاده وذكر ما عرف من نصيحته للأمة وصحة اعتقاده ٣٠٤
قطعة نفيسة من قبل المصنف لكتاب «الإبانة» للإمام الأشعري ٣١٠
باب ذكر بعض ما رئي من المنامات التي تدل على أن أبا الحسن من مستحقي الإمامات ٣٢٩
باب ذكر بعض ما مدح به أبو الحسن من الأشعار، على وجه الإيجاز في إيرادها والاختصار ۳۳۲
باب ذكر جماعة من أعيان مشاهير أصحابه، إذ كان فضل المقتدي يدل على فضل المقتدى به ٣٤٣
الطبقة الأولى: من طبقات الأشعرية ٣٤٣
- أبو عبد الله بن مجاهد البصري رحمه الله ٣٤٥
أبو الحسن الباهلي البصري رحمه الله ٣٤٧
أبو الحسين بندار بن الحسين الشيرازي الصوفي ٣٤٩
أبو محمد الطبري المعروف بالعراقي رحمه الله ٣٥٤
أبو بكر القفال الشاشي الفقيه رحمه الله أبو سهل الصعلوكي النيسابوري رحمه الله ٣٥٥
أبو زيد المروزي رحمه الله ٣٦٦
- أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي الصوفي رحمه الله ٣٥٨
أبو بكر الجرجاني المعروف بالإسماعيلي رحمه الله ٣٧٥
أبو الحسن عبد العزيز بن محمد بن إسحاق الطبري المعروف بالدمل رحمه الله ٣٧٨
أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري ۳۷۹
أبو جعفر السلمي البغدادي النقاش رحمه الله ٣٨١
أبو عبد الله الأصبهاني المعروف بالشافعي رحمه الله ٣٨٣
أبو محمد القرشي الزهري رحمه الله ٣٨٤
- أبو بكر البخاري المعروف بالأودني الفقيه رحمه الله ٣٨٥
- أبو منصور بن حمشاذ النيسابوري رحمه الله ٣٨٧
الشيخ أبو الحسين ابن سمعون البغدادي المذكر رحمه الله ٣٨٩
أبو عبد الرحمن الشروطي الجرجاني ۳۹۷
أبو علي الفقيه السرخسي رحمه الله ۳۹٨
الطبقة الثانية من طبقات الأشعرية: ٤٠١
أبو سعد بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني رحمه الله ٤٠٣
أبو الطيب بن أبي سهل الصعلوكي النيسابوري رحمه الله ٤٠٨
أبو الحسن بن داود المقرئ الداراني الدمشقي رحمه الله ٤١٣
القاضي أبو بكر بن الطيب بن الباقلاني البصري رحمه الله ٤١٧
أبو علي الدقاق النيسابوري ٤٢٩
الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابوري الحافظ رحمه الله ٤٣١
أبو نصر بن أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني ٤٣٨
الأستاذ أبو بكر بن فورك الأصبهاني رحمه الله ٤٣٩
أبو سعد بن أبي عثمان النيسابوري الخركوشي الزاهد رحمه الله ٤٤٢
القاضي أبو عمر محمد بن الحسين البسطامي رحمه الله ٤٤٧
أبو القاسم بن أبي عمرو البجلي البغدادي رحمه الله ٤٥٠
أبو الحسن بن ماشاذه الأصبهاني رحمه الله ٤٥٢
الشريف أبو طالب بن المهتدي الهاشمي الدمشقي رحمه الله ٤٥٤
أبو معمر بن أبي سعد بن أبي بكر الجرجاني ٤٥٥
أبو حازم العبدوي النيسابوري الحافظ رحمه الله ٤٥٧
الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني رحمه الله ٤٥٩
أبو علي بن شاذان البغدادي ٤٦٢
أبو نعيم الحافظ الأصبهاني رحمه الله ٤٦٤
أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن دلويه الأستوائي الدلوي ٤٦٦
- الطبقة الثالثة من طبقات الأشعرية: ٤٦٧
- أبو الحسن السكري البغدادي الشاعر رحمه الله ٤٦٩
- أبو منصور الأيوبي النيسابوري رحمه الله ٤٧٠
- القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي البغدادي رحمه الله ٤٧١
- أبو الحسن النعيمي البصري رحمه الله ٤٧٣
أبو طاهر بن خراشة الدمشقي المقرىء رحمه الله ٤٧٦
الأستاذ أبو منصور النيسابوري المعروف بالبغدادي رحمه الله ٤٧٧
أبو ذر الهروي الحافظ رحمه الله ٤٨٠
أبو بكر الدمشقي الزاهد المعروف بابن الجرمي رحمه الله ٤٨٢
الإمام أبو محمد الجويني والد الإمام أبي المعالي رحمه الله ٤٨٤
أبو القاسم بن أبي عثمان الهمذاني البغدادي رحمه الله ٤٨٦
أبو جعفر السمناني قاضي الموصل رحمه الله ٤٨٧
أبو حاتم الطبري المعروف بالقزويني رحمه الله ٤٨٩
أبو الحسن رشاً بن نظيف المقرئ الدمشقي رحمه الله ٤٩٠
أبو محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان رحمه الله ٤٩١
أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي رحمه الله ٤٩٣
- أبو عبد الله الخبازي المقري النيسابوري رحمه الله ٤٩٥
- أبو الفضل بن عمروس البغدادي المالكي رحمه الله ٤٩٧
- الأستاذ أبو القاسم الإسفراييني رحمه الله ٤٩٩
- أبو بكر النيسابوري البيهقي الحافظ رحمه الله ٥٠٠
- الطبقة الرابعة من طبقات الأشعرية: ٥٠٣
- أبو بكر البغدادي الحافظ المعروف بالخطيب رحمه الله ٥٠٥
- الأستاذ أبو القاسم القشيري النيسابوري الأستوائي رحمه الله ٥١٠
- أبو علي بن أبي حريصة الهمذاني الدمشقي الفقيه رحمه الله ٥١٦
- أبو المظفر الإسفرايني الفقيه رحمه الله ٥۱۷
- الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزابادي ٥۱۸
- الإمام أبو المعالي الجويني النيسابوري رحمه الله ٥٢٢
- الفقيه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي رحمه الله ٥٣٢
- أبو عبد الله الطبري نزيل مكة رحمه الله ٥٣٤
- الطبقة الخامسة من طبقات الأشعرية: ٥٣٥
- أبو المظفر الخوافي النيسابوري رحمه الله ٥۳۷
- الإمام أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا رحمه الله ٥٣٨
- الإمام أبو حامد الطوسي الغزالي رحمه الله ٥٤٢
- الإمام أبو بكر الشاشي رحمه الله ٥٦٠
- الإمام أبو القاسم الأنصاري النيسابوري رحمه الله ٥٦١
- الإمام ابن الإمام أبو نصر بن أبي القاسم القشيري رحمهما الله ٥٦٢
- محضر لأئمة العلماء في عصره في بيان سديد اعتقاده ٥٦٥
- محضر استفتاء في معتقده وبيان أنه على الحق ٥٧٣
- الإمام أبو علي الحسن بن سلمان الأصبهاني رحمه الله ٥٧٥
- الشيخ الإمام أبو سعيد أسعد بن أبي نصر بن الفضل العمري الميهني رحمه الله ٥٧٧
- الشريف الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن جني العثماني الديباجي المقدسي ٥٧٨
- القاضي الإمام أبو العباس أحمد بن سلامة المعروف بابن الرطبي رحمه الله ٥٧٩
- الإمام أبو عبد الله الفراوي النيسابوري رحمه الله ٥٨١
- الإمام أبو سعد إسماعيل بن أبي صالح النيسابوري المعروف بالكرماني ٥٨٦
- الإمام أبو الحسن السلمي الدمشقي رحمه الله ٥٨٨
- الإمام أبو منصور محمود بن أحمد بن عبد المنعم ابن ماشاذه الأصبهاني الفقيه الواعظ ٥٩٠
- الإمام أبو الفتوح محمد بن الفضل بن محمد بن المعتمد الإسفرايني رحمه الله ٥٩١
- الإمام أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي الأشعري نسباً و مذهباً ٥٩٤
- خاتمة الكلام على طبقات الأشعرية ٥٩٥
- لا عبرة بالسواد الأعظم في أصول الدين والاعتقاد ٥٩٧
- أقوال أعلام من العلماء في بيان حكم من يلعن الأشاعرة ٥٩٩
- توجيه ما ورد في ذم علم الكلام عن الأئمة الأعلام ٦٠١
- التأصيل لعلم الكلام من الكتاب والسنة، وبيان كونه بدعة حسنة ٦٣١
- نصرة الإمام الأشعري للمذاهب الأربعة وبيان أن الأخذ بطريقته ليس على سبيل التقليد ٦٣٤
- فصل: في الرد على أبي علي الأهوازي، وبيان افتراءاته على الإمام الأشعري ٦٤١
- نفع أنساب الصالحين في بعض الأحايين ٦٥٣
- إجماع أهل العلم منعقد على قبول توبة المبتدع، وبيان تفسير الآيات الموهمة بخلاف ذلك ٦٦٩
- تصحيح نسبة كتاب «الإبانة» للأشعري، واعتماده عند كل محقق سني ٦٧٥
- الصيرورة إلى التأويل عند أهل السنة للضرورة خوفاً من وقوع الجاهل في ظلم التشبيه ٦٧٦
- عود للحديث عن كتاب «الإبانة» ٦٧٧
- بيان كون الإمام عبد الله بن سعيد بن كلاب والإمام الأشعري من أعلام أهل السنة والجماعة على لسان الإمام ابن زيد القيرواني المالكي ٦٩٨
- بيان كون الأشاعرة أشد الناس تمسكاً بالكتاب والسنة وأوسعهم فهماً لهما ٧٠٣
- أئمة علماء المسلمين في سائر الأعصار وأرجاء الأقطار من السادة الأشاعرة ٧٠٤
- التأريخ لزمن اشتهار أهل السنة بلقب الأشاعرة ٧٠٥
- ذب الأشعري وأئمة طريقته عن أهل السنة وأجوبته الدامغة لشبه المبتدعة ٧٩٦
- البصرة وبغداد مغنيا الإمام الأشعري ٧٠٦
- الحديث عن قبر الإمام الأشعري، وأذيته من قبل جهلة الحنابلة ٧٠٨
- استزادة بيان في كذب الأهوازي ۷۰۹
- اللعن والسب والشتيمة من سمات السفهاء، يتنزه عنها أهل الإيمان بله العلماء ٧١٣
- عجمة المفتري الأهوازي وركاكة كلامه ۷۱۷
- في الصحابة الكرام والسلف الصالحين للأشعرية، أسوة حسنة في تحمل الأذية ٧١٨
- أجر الذاب عن عرض أخيه في مغيبه ٧٢٥
- خاتمة الكتاب ٧٣١
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق