تعظيم الفتيا
تأليف الشيخ الإمام جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن علي
الشهير بابن الجوزي (٥١٠ - ٥٩٧ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ اعتنى العلماء من قديم بموضوع الفتوى: أهميتها، وعظيم خطرها، وآدابها، وصفتها، ولا يخلو كتاب من كتب أصول الفقه من هذا المبحث الخطير، الذي توقف فيه السلف، وعدوُّه من أعلى وظائف الدين وأخطر أبوابه، إذ أن هذا المنصب تولاه الله تعالى بنفسه، وأسندها إلى ذاته المقدسة، كما في قوله {يستفتونك قل الله يُفتيكم..}(١٧٦) في موضعين من سورة النساء.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائماً بهذه الوظيفة أتم القيام؛ لأنها نوعٌ من البيان والتبليغ عن الله سبحانه، كما قال الله: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّلَ إليهم} (النحل: ٤٤)، ثم خلفه في ذلك الصحابة، وتتابع الكبار والأخيار الذين أوتوا العلم والإيمان على هذه المهمة العظيمة.
ولذا قد عَنِي به كبار أئمة هذا الشأن في تصنيف الكتب في الفتيا وآدابها من أمثال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه الفذ "إعلام الموقعين"، والإمام الخطيب البغدادي في كتابه "الفقيه والمتفقه"، وغيرهم في مسألة "أدب القضاء والفتوى".
وقد كان علماء السلف لا ينصبون أنفسهم للفتوى إلا بعد استكمال شروطها، فكانوا يحفظون القرآن، ويوغلون في علومه ويحفظون اللغة العربية، والأحاديث المروية؛ فيميزون صحيحها من سقيمها، ويوغلون في علومٍ لا تلزم لخوف أن تتعلق بما يلزم.
وقد أفرد الكثيرون هذا المبحث بالتأليف مفرداً، وبينوا الخصائص اللازمة للمفتي الصالح، وقد ذكر الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان في مقدمة هذا الكتاب ستاً وثلاثين مُصنفاً في أدب الفتوى والقضاء،
وينبغي ألا يلج هذا الباب إلا عالمٌ شبعان ريان من الفقه والأحاديث والآثار، ومعرفة القواعد والمقاصد.
ولعل القارئ لهذا الجزء يستشعر خطورة الفتوى، فيرعوي عنها، أو يتأني فيها -إن كان من أهلها!- على عادة الأسلاف، وإلا فعلى نفسها تجني براقش!.
ونعوذُ بالله من جهل الجاهلين، الذين يُفتنون الناس بفتاوهم، فيُضلون ويَضلون، فهؤلاء يُقال لهم: "إن هذا ليس بعُشِّكَ، فادْرُجْ إلى حُشِّك"، وأنشد بعض الأعلام في ذلك بقوله:
إذا استَفيتَ عمّا … فيه تحريمٌ وإحلالُ
فلا تعجل ففي …فتواك أخطارٌ وأهوالُ
فإن أخطأتَ في الفتوى … فبِئسَ الأمرُ والحالُ
إن أحسنتَ لا … يغرُركَ إعجابٌ وإذلالُ
- أهمية هذا الجزء:
١- بيان خطر الفتوى، وعظيم موقعها من الدين، وأنها بمثابة التوقيع عن رب العالمين.
٢- تحذير المفتونين الذين يُقررون الأحكام على ما تسنح به خواطرهم، وتميل له أهواءهم، دون الرجوع إلى مناهج الأئمة الراسخين في العلم والفتوى.
٣- ذم التسرع في الفتيا، سيما ما يتوقف فيه شيوخ الإسلام، وأئمته الأعلام.
٤- بان رهبة السلف من الفتوى، وأنهم كانت إذا عرضت على أحدهم المسألة ردَّها إلى صاحبه.
٥- أن العبرة في الفتوى بالدليل، لا المألوف، ولا العادات، ولا التقاليد، ولا المناصب، ولا الولايات، ولا يُقدم قول قائلٍ على قول المعصوم إن صح.
٦- أن كل من أفتى بقولٍ، يعلم أنه مُخالفٌ للدليل، أو أن الدليل خلافه، وقد ترجح عنده الدليل، فقد خان أمانة العلم والدين.
٧- وأن عمل المفتي لا يقتصر على مجرد نقل معاني النصوص، وإنما يتجاوز ذلك إلى النظر في حال المستفتي، وصورة النازلة، فيوقع عليها الحكم عند تحقيق مناطه فيها.
٨- بيان كراهة السلف السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، وكانوا لا يجيبون عن المسألة حتى تقع.
٩- بناء المفتي فتواه على ما صح دليله، دون ما لم يصح دليله، ولو كان مخالفاً لمذهبه المتبوع.
المؤلفات في باب الفتيا
وقد أفردها الكثيرون منهم بالتأليف، منهم:
١- "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي" لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي (ت ٦٩٥ هـ).
٢- "أدب المفتي والمستفتي"؛ للإمام أبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح (ت ٦٤٣ هـ)، وقد لخَّصه الإمام النووي في مباحث حسنة في أوائل كتابه "المجموع".
٣- "رسالة في الفُتيا" لأبي القاسم عبد الواحد بن حسين الصَّيمريُّ الشافعي (ت بعد ٣٨٦ هـ)، وهو كتاب صغير الحجم، كثير النفع، وقد أكثر ابن الصلاح النقل عنه في كتابه المتقدم.
٤- "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام"؛ لأبي العباس أحمد بن إدريس المعروف بالقُرافِي المالكي (ت ٦٨٤ هـ).
٥- "أصول الفتيا على مذهب مالك"؛ لمحمد بن الحارث الخشني (ت ٣٦١ هـ).
٥- "انتهاز الفُرص فيمن أفتى بالرُّخَص"؛ لجمال الدين ابن الصيرفي، والمعروف بابن الحبيشي (ت ٦٧٨ هـ).
٧- "أدبُ الفُتيا" لجلال الدين السَّيوطي (ت ٩١١ هـ).
٨- "تنبيه الأصدقاء في بيان التقليد والاجتهاد والاستفتاء"؛ للشيخ عبد الرحمن القرادغي البغدادي.
٩- "بُوطَـليـحِـيَّـة" منظومة في أصول الفتيا وكتبها عند المالكية، للشيخ محمد النابغة الفلاوي الشنقيطي (ت ١٢٤٥ هـ/ ١٨٢٩ م)، وطبعت تحت عنوان "أرجوزة فيما يجب به الفتيا، وما يعتمد عليه من الكتب".
١٠- "نور البصر في شرح المختصر" وهو مختصر خليل، لم يشرح فيه إلا المقدمة؛ للشيخ أحمد بن عبد العزيز السلجماسي الهلالي (ت ١١٧٥ هـ)، وتضمن فوائد، وضوابط، وأصول فقهية، وعرج على قواعد في الفتوى، وسمى الكتب المعتمدة وغير المعتمدة في كتب المالكية، وطبقات المفتين، واعتمد الفلاوي صاحب الأرجوزة السابق. على هذا الكتاب اعتماداً كلياً، ولذا قال في البيت السابع والثامن من "البُوطَـليـحِـيَّـة":
وآذنت براعة استهلالِ . .. بعقد ما نشرهُ الهلالي
وهو بسبقٍ حائزٌ تفضيلا … مستوجبٌ ثنائي الجميلا
وقال في البيت السابع عشر:
وكل ما أطلقتُ عزوه انحصر … من سائر الكلام في "نور البصر"
١١- "عقود رسم المفتي" منظومة في أصول الفُتيا وكُتبها عند الحنفية، للعلامة محمد أمين عابدين، وقد شرحها ضمن رسائله المُسماة "رسائل ابن عابدين".
١٢ و ١٣- "صلاح العالم بإفتاء العالِم"، و"أدب المُفتي" للشيخ حامد بن علي العمادي، الأول مطبوع، والثاني مخطوط.
١٤- "منار أصول الفتوى وقواعد الإفتاء بالأقوى" للشيخ إبراهيم اللقاني (ت ١٤٠١ هـ)، وهو مخطوط.
١٥- "أدب الإفتاء" لفضل الله بن محمد بن محمد النجدي، وهو مخطوط.
١٦- "دأب المفتي" لحسن بن منصور بن محمد قاضي خان (ت ٥٩٢ هـ) مخطوط.
١٧- "الجامع في الاجتهاد والفتوى والتقليد" لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت ٤٧٨ هـ) مخطوط.
١٨- "جواز الإفتاء بقول كل من المتأخرين من العلماء" للشيخ محمد بن سليمان الكردي (ت ١١٩٤ هـ).
١٩- "زهور الكمائم في آداب المفتي والحاكم"، منظومة للشيخ محمد بن أحمد بن جار الله المعروف بـ(مَشْحم) (ت ١١٨١ هـ).
٢٠- "شرائط المفتي" لإسماعيل بن محمد المازندراني (ت ١١٧٣ هـ).
٢١- "ذخر المُحتي في آداب المفتي" لصديق حسن خان.
٢٢- " آداب المفتين".
٢٣- "آداب المفتين والمستفتين".
٢٤- "أحكام المفتي".
٢٥- "أرجوزة في الفتوى".
٢٦- "الزفاف في علم الفتوى".
أما المعاصرون، فلهم جهود مشكورة في هذا الباب، ومن أهم كتبهم:
٢٧- "الفتوى في الإسلام" لجمال الدين القاسمي.
٢٨- "تقييد متعلق بالفتوى والشهادة والقضاء" للشيخ محمد التهامي بن المدني كنون (ت ١٣٣١ هـ/ ١٩١٣ م).
٢٩- "تغليظ الملام على المتسرعين إلى الفتيا وتغيير الأحكام" لمحمود التويجري.
٣٠- "الفتيا ومناهج الإفتاء"، للشيخ محمد سليمان الأشقر.
٣١- "مباحث في أحكام الفتوى" لعامر بن سعيد الزيباري.
٣٢- "أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي" للدكتور محمد رياض في المغرب.
٣٣- "ناظم الفتوى في الشريعة والفقه" للشيخ محمد المكي الناصري- المغرب.
٣٤- "معيار التحقيق في مبنى الفتاوى والتوثيق"، لحمادي جيرو أبو الفضل- الدار البيضاء.
٣٥- "الفتوى بين الانضباط والتسيب"، ليوسف القرضاوي -مصر.
٣٥- "أصول الفتوى وتطبيق الأحكام الشرعية في بلاد غير المسلمين" لعلي بن عباس الحكمي.
المُقدِّمة
١- قال الإمام الشافعيُّ رحمه الله: الأصل: القرآن والسنة، فان لم يكن، فقياسٌ عليهما، والإجماع.
٢- وكان أحمد بن حنبل رضي الله عنه: إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ لم يأخذ فيها بقول أحدٍٍٍ من الصحابة، ولا من بعده خلافه، وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف تخير من أقاويلهم ولم يخرج عن أقاويلهم إلى قول من بعدهم، وإذا لم يكن فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه قول تخير من أقاويل التابعين، وربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده شيء فيأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، وربما أخذ بـالحديث المرسل ما لم يجئ خلافه.
٣- وقال أحمد بن علي بن ثابت الخطيب رحمه الله: أصول الأحكام في الشرع أربعة: (الأول): العلم بكتاب الله عز وجل وما تضمنه من الأحكام محكماً ومتشابهاً، وعموماً وخصوصاً، ومجملاً ومفسراً، وناسخاً ومنسوخاً. (والثاني): العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرقها في التواتر والآحاد، والصحة والفساد، وما كان منها على سببٍ وإطلاقٍ. (والثالث): العلم بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه، ليتبع الإجماع ويجتهد في الرأي مع الاختلاف. (والرابع): العلم بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد المفتي طريقاً إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل، فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه ولا يجوز له الإخلال بشيء منه.
٤- قال حذيفة: لا يفتي الناس إلا ثلاثة: رجل قد عرف ناسخ القرآن ومنسوخه، أو أميرٌ لا يجد بدًا، أو أحمق متكلفٌ.
* فائدة/ قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (٢/ ٦٦): ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة -وهو اصطلاح المتأخرين-، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما: بتخصيص، أو تقييد، أو حَمْل مُطْلق على مُقَيد، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم ليسمون الاستثناء، والشرط والصفة نسخًا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومَنْ تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حملُ كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر.
٥- قال الشافعي رحمه الله: لا يحل لأحدٍ يفتي في دين الله عز وجل إلا رجلاً: عارفاً بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل. ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن. ويستعمل مع هذه الإنصاف، وقلة الكلام ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا . وإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم، ويفتي في الحلال والحرام. وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم و لا يفتي.
٦- قال الإمام أحمد بن حنبل: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بالسنن، عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفته بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها.
٧- وقيل لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟. يكفيه مئة ألف؟ قال لا. قيل: مئتا ألف؟ قال: لا. قيل: ثلاث مئة ألف؟ قال: لا. قيل: أربع مئة ألف؟ قال: لا. قيل: خمس مئة ألف؟ قال: أرجو.
****
فصلٌ:
وقد كان علماء السلف رضي الله عنهم مع أنهم
قد جمعوا العلوم المشروطة في الفتيا، يمتنعون تورعاً.
٨- عن البراء بن عازب، قال: لقد رأيت ثلاث مئة من أهل بدرٍ ما منهم من أحدٍ إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى.
٩-عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين ومئةً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه.
١٠- عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة، فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول.
١١- عن عبد العزيز بن عبد الغفور الواسطي، عن أبيه -وكانت له صحبة- قال: قال لي أبي: يا بني: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه محزونين كأنهم قوم أغمار لا يحسنون شيئاً، فإذا سئلوا عن شيء أحال بعضهم على بعضٍ، فإياك -يا بني- أن تقول بغير علمٍ فتخرج من الدين. [إسناده ضعيفٌ جداً].
١٢- عن عمير بن سعد، قال: سألت علقمة عن مسألة، فقال: ائت عبيدة فسله، فأتيت عبيدة، فقال: ائت علقمة، فقلت: علقمة أرسلني إليك. فقال: ائت مسروقاً فسله، فأتيت مسروقاً، فقال: ائت علقمة فسله، فقلت: علقمة أرسلني إلى عبيدة، وعبيدة أرسلني إليك، قال: فأت عبد الرحمن بن أبي ليلى، فأتيته، فسألته، فكرهه، ثم رجعت إلى علقمة فأخبرته، فقال: كان يقال: أجرأ القوم على الفتوى أدناهم علماً.
١٣- عن سفيان الثوري، قال: أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، ولا يفتون حتى لا يجدوا بدًّا من أن يفتوا. وقال المعافى بن عمران: قال سفيان: أدركت الناس ممن أدركت من العلماء والفقهاء وهم يترادون المسائل يكرهون أن يجيبوا فيها، فإذا أعفوا منها كان ذلك أحب إليهم.
١٤- وعن يونس بن عبد الأعلى، قال: سمعت الشافعي رحمه الله، يقول: ما رأيتُ أحداً -جمع الله فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة- أسكتَ عن الفتيا منه.
١٥- قال ابن عيينة: أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها، وأجهل الناس بالفتوى أنطقهم فيها.
١٦-عن عطاء بن السائب، قال: أدركت أقواماً، إن كان أحدهم ليُسأل عن الشيء، فيتكلم وإنه ليُرعَد.
١٧- عن محمد بن سيرين، أنه كان إذا سئل عن شيء من الفقه الحلال والحرام تغير لونه وتبدل، حتى كأنه ليس بالذي كان.
١٨- وعن أبي الصلت، قال: حدثني شيخ -بقرب المدينة- قال: والله إن كان مالك رضي الله عنه إذا سئل عن مسألةٍٍ كأنه واقفٌ بين الجنة والنار.
١٩- وعن أبي بكر الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد تجيء الضرورة.
قال الحسن: إن تركناهم وكلناهم إلى عيٍّ شديد، فإنما تكلم القوم على هذا (أي بسببه)، كان قوم يرون أنهم أكثر من غيرهم (يعني في العلم)، فتكلموا.
قيل لأبي عبد الله: فأيما أفضل، الكلام أو الإمساك؟ قال: الإمساك أحب إلي، لا شك الإمساك أسلم. قيل له: فإذا كانت الضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة الضرورة.
****
فصلٌ: وكان علماء السلف رضي الله عنهم لشدة ورعهم
إذا سئلوا عن الشيء يقولون: أوقع هذا؟
فإن لم يكن وقع، قالوا: دعونا حتى يقع.
٢٠- عن مسروقٍ، قال: سألت أبي بن كعبٍ عن شيء، فقال: إن كان بعد؟ قلت: لا، قال: فأجمَّنا(أنظرنا) حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا.
٢١- عن خارجة بن زيد، قال: كان زيد بن ثابتٍ إذا سئل عن الشيء، يقول: كان هذا؟ فإن قالوا: لا، قال: دعوه حتى يكون.
قال الخطيب عقبه، وعقب الذي قبله في الفقيه والمتفقه (٢/ ٢٢): "وقد روي عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وغيرهما من الصحابة أنهم تكملوا في أحكام الحوادث قبل نزولها، وتناظروا في علم الفرائض والمواريث، وتبعهم على هذه السبيل التابعون، ومن بعدهم من فقهاء الأمصار، فكان ذلك إجماعاً منهم على أنه جائز غير مكروه، ومباح غير محظور. وأما حديث زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعمار بن ياسر، فإنه محمول على أنهم توقوا القول برأيهم خوفا من الزلل، وهيبة لما في الاجتهاد من الخطر، ورأوا أن لهم عن ذلك مندوحة فيما لم يحدث: من النوازل، وأن كلامهم فيها إذا حدثت تدعوا إليه الحاجة، فيوفق الله في تلك الحال من قصد إصابة الحق.
****
فصلٌ:
وكانوا رضي الله عنهم يكثرون من قول: لا أدري
كيف! وقد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٢٢- عن محمد بن جُبير عن أبيه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي البلدان شر؟ قال: لا أدري. فلما أتاه جبريل، قال: أي البلدان شرٌ؟ قال: لا أدري. فانطلق جبريل، ثم جاء فقال: إني سألت ربي -تعالى- فقلت: أي البلدان شر؟ فقال: أسواقها. [صحيح الجامع: ١٦٧].
٢٣- عن أبي البختري سعيد بن فيروز الطائي، قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: وابردها على الكبد! إذا سُئل أحدكم عن ما لا يعلم، أن يقول: لا أعلم. [إسناده ضعيف، والأثر صحيح].
٢٤- عن خالد بن أسلم، قال: خرجنا مع ابن عمر، فلحقنا أعرابيٌ، فقال: أنت ابن عمر؟ قال: نعم. قال: أترث العمة؟ فقال: لا أدري، اذهب إلى العلماء بالمدينة فسلهم. فلما أدبر قبَّل ابن عمر يديه، ثم قال: نِعم ما قال أبو عبد الرحمن، سُئِلَ عما لا يدري فقال: لا أدري.
٢٥- عن عقبة بن مسلم، قال: صحبت ابن عمر أربعةً وثلاثين شهراً، وكان كثيراً ما يُسئَلُ، فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إليَّ، فيقول: هل تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسراً إلى جهنم.
٢٦- عن مجالدٍ، قال: سئل الشعبي عن شيء، فقال: لا أدري. فقيل له: أما أن تستحيي من قولك لا أدري وأنت فقيه أهل العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالت: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا}/البقرة: ٣٢/.
٢٧- وعن مالك بن أنس رحمه الله، قال: كنا جلوساً عند أيوب، فسأله عمر بن نافع عن شيء، فلم يجبه أيوب، فقال له عمر: لا أراك فهمت. قال: بلى، قال: فما لك لا تجيبني؟ قال: لا أعلم. قال مالك -ونحن نتكلم-.
٢٨- وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: كان أبي يستفتى، فيكثر أن يقول: لا أدري.
٢٩- وعن عبد الرحمن بن مهديٍ، قال: سأل رجلٌ مالك بن أنس (رضي الله عنه) عن مسألة، فقال: إني لا أحسنها. فقال الرجل: إني ضربت إليك من كذا وكذا لأسألك عنها. فقال له مالك: فإذا رجعت إلى موضعك فأخبرهم أني قلت لك: إني لا أحسنها.
٣٠- وكان أبو نعيم يقول: ما رأيت عالما ًقط أكثر قولاً لا أدري من مالك بن أنسٍ (رضي الله عنه).
٣١- عن محمد بن عجلان، قال: لا أدري جُنة العالم، فإذا أغفلها أوشك أن تصاب مقاتله.
٣٢- وكان أبو الذيال (زُهير بن هُنيد العًدوي) يقول، تعلم لا أدري، فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت: أدري، سألوك حتى لا تدري.
٣٣- وقال رجلٌ لشريك (بن عبد الله): حلفتُ ولست أدري كيف حلفت ! فقال له شريك: ليت إذا دريتَ أنت كيف حلفت دريتُ أنا كيف أفتيك.
****
فصلٌ:
وقد كان في السلف (قدس الله أرواحهم) من إذا عرف أنه قد أخطأ
لم يستقر حتى يُظِهرَ خطأه ويُعْلِمُ من أفتاه بذلك.
[قال القاضي أبو يعلى في كفايته: من أفتى بالإجتهاد، ثم تغير اجتهاده، لم يلزمه إعلام المستفتي بذلك، إن كان قد عمل به، وإلا أعلمه. والصواب التفصيل، فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعاً، لكونه خالف نصَّ الكتاب أو السنة التي لا مُعارض لها أو خالف إجماع الأمة، فعليه إعلام المستفتي، وإن كات إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه، أو نص إمامه، لم يجب عليه إعلام المستفتي].
٣٤- واستفتي الحسن بن زيادٍ اللؤلؤي في مسألة فأخطأ، فلم يعرف الذي أفتاه، فاكترى منادياً فنادى: أن الحسن بن زياد أستفتي يوم كذا وكذا في مسألة كذا فأخطأ، فمن كان أفتاه بشيء فليرجع إليه، فمكث أياماً لا يفتي حتى وجد صاحب الفتوى، فأعلمه أنه قد أخطأ، وأن الصواب كذا وكذا .
قال الشيخ أبو الفرج [هو المصنف]: وبلغني نحو هذا عن بعض مشايخنا أنه أفتى رجلاً من قريةٍ بينه وبينها أربعة فراسخ، فلما ذهب الرجل، تفكَّرَ، فعلم أنه أخطأ، فمشى إليه، فأعلمه أنه أخطأ، فكان بعد ذلك إذا سئل عن مسألة توقف، وقال: ما فيَّ قوةً أمشي أربعة فراسخ؟!.
****
فصلٌ:
فلما انقضى ذلك الشِّربُ، وذهب الذين كانوا كاملين في العلوم، قد حَصّلوا شروط الاجتهاد، جاء بعدهم قوم من الفقهاء، فقلدوا القدماء في تصحيح حديث يحتجون به، وعولوا على الكتب التي وضعها أولئك: كـ ((المسانيد)) و((السنن))، إن كان في تلك الكتب ما لا يجوز تقليده، ثم جاء بعدهم أقوامٌ قَصُرَت هممهم عن مطالعة الكتب التي جمعها أولئك، فصاروا يقلدون التعاليق في باب الأحاديث، وذلك لا يكفي، فرُبَّ حديثٍ في التعاليق لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بل رُبَّ حديثٍ منقول في ((السنن)) بإسنادٍ لا يجوز التعويل عليه، مثل:
٣٥-ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة -وقد أسخنت ماءً في الشمس- (لا تفعلي، وأنه يورث البرص). وهذا يرويه وهب القاص [هو ابن وهب بن كبير]، وخالد بن إسماعيل [المخزومي]، وكانا كذابين. قال أبو جعفر العقيلي (في الضعفاء الكبير) الحافظ: لا يصح في الماء المشمس مسندٌ.
[وهذا الحديث واهٍ جداً، وله ستُّ طرق:
الأول: من طريق خالد بن إسماعيل المخزومي، قال الدارقطني: خالدٌ هذا متروك، وقال ابن عدي: يضع الحديث على ثقات المسلمين، وقال أبو حاتم بن حبان: لا يجوز الاحتجاج به بحال.
الثاني: من طريق عمرو بن محمد الأعسم، قال الدارقطني: وهو منكر الحديث، ولم يروه عن فليح غيره، ولا يصح عن الزهري. وقال أبو حاتم بن حبان: عمرو هذا يروي عن الثقات المناكير، وعن الضعفاء الأشياء التي لا تعرف من حديثهم، لا يجوز الاحتجاج به.
الثالث: من طريق وهب بن وهب بن كبير أبو البَخْتري، وهو من رؤساء الكذابين، قال أحمد: كان كذاباً يضع الحديث، وقال أبو بكر بن عياش، وابن المديني، والرازي: كان كذاباً، وقال يحيى بن معين: كذاب خبيث، كان عامة الليل يضع الحديث، وقال عثمان بن أبي شيبة: ذاك دجالٌ، وقال مسلم والنسائي: متروك الحديث.
الرابع: من طريق الهيثم بن عدي الطائي، أحد الهلكى، قال بحيى: كان يكذب، وقال علي: لا أرضاه في شيء، وقال أبو داود: كذاب، وقال النسائي، والرازي، والأزدي: متروك الحديث.
الخامس: من طريق ابن وهب، عن مالك، ولم يصح، وقد بينه الدارقطني في كتابه غرائب أحاديث مالك، وقال: هذا باطلٌ عن ابن وهب، وعن مالكٍ أيضاًن وإنما رواه خالد بن إسماعيل المخزومي، وهو متروك، عن هشام، ومن دون ابن وهب في الإسناد ضعفاء. وقد اشتد انكار البيهقي على أبي محمد الجويني في رسالته له، في عزوه هذا الحديث لرواية مالك.
السادس: نبه عليه الحافظ الزيعلي في نصب الراية: من طريق محمد بن مروان السُّدي، عن هشام بن عروة، وقال: أخرجه الطبراني في الأوسط، وقال: لم يروه عن هشام إلا محمد بن مروان، وقال الإمام الزيعلي: ووهم في ذلك يعني الطبراني.
٣٦- ومثل ما روي: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثاً فريضة)) ، يرويه: بركة بن محمد (عن يوسف بن أسباط، عن سفيان، عن خالد الحذاء)، وكان (يعني بركة) كذاباً، وما يقول به أحد من الفقهاء.
[أخرجه الدارقطني في السنن، وقال: هذا باطلٌ، ولم يُحدث به غير بركة هذا، وهو يضع الحديث، وقال الحاكم في المدخل إلى الصحيح: بركة بن محمد الحلبي، يروي عن يوسف بن أسباط أحاديث موضوعة. ثم ذكر الدارقطني أن بركة لم يتفرد بالحديث، فقال: تابعه سليمان بن الربيع النهدي، عن همام بن مسلم عن الثوري، قال: وكلاهما: أي سليمان النهدي وهمام متروك، وهو وهمٌ والصواب ما رواه وكيع وغيره عن الثوري، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين مرسلاً، أن النبي سنَّ في الاستنشاق في الجنابة ثلاثاً، وبركة متروك.].
[وقد بين ابن الجوزي أن هذا الحديث خلاف إجماع الفقهاء، فإن منهم من يوجب المضمضة والاستنشاق، ومنهم من يوجب الاستنشاق وحده، ومنهم من يراهما سنة، ومنهم من أوجب مرة لا ثلاثاً قال أبو عُبيدة مشهور آل سلمان: إذن مراده ما يقولُ أحدٌ بالوجوب ثلاثاً، وإلا فمذهب أبي حنيفة وأحمد وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل].
٣٧- ومثل: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم)) . وهذا قد رواه نوح بن أبي مريم.
قال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال الدارقطني: متروك. وقد رواه روح بن غطيفٍ وليس بثقة، قال البخاري: هذا الحديث باطل. وقال أبو حاتم بن حبان: هذا حديث موضوع لا شك فيه، ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٣٨- ومثل: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا مهر دون عشرة دراهم)).
يرويه مبشر بن عبيدٍ وكان كذاباً. وقال أحمد: روى عنه بقية وأبو المغيرة أحاديث موضوعة كذب، وقال مرة أخرى: ليس بشيء يضع الحديث، وقال الدارقطني: متروك يضع الأحاديث ويكذب.
٣٩- قال أحمد بن حنبل: لقن غياث بن إبراهيم داود الأودي، عن الشعبي، عن علي: لا يكون مهر أقل من عشرة دراهم. فصار حديثاً.
وقال ابن القيم في الإعلام: "أجمعوا على ضعفه، بل بطلانه".
٤٠- ومثل ما روى الدارقطني في ((السنن)) من حديث ابن عباس: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فرض صدقة الفطر على كل صغير وكبير، يهودي أو نصراني. وهذا تفرد به سلام الطويل.
قال يحيى بن معينٍ: لا يكتب حديثه. وقال النسائي: متروك.
٤١- ومثل ما روى يحيى بن عنبسة عن أبي حنيفة، عن حمادٍ، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع على مؤمنٍ خراجٌ وعشر)) . وهذا مما وضعه يحيى، لا يرويه غيره.
قال أبو حاتم بن حبان الحافظ: ليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث، لا تحل الرواية عنه.
وكذلك قال الدارقطني: هو دجالٌ يضع الحديث. قال: وهو كَذِبٌ على أبي حنيفة ومن بعده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا يطول.
وقد ذكروا كثيراً منه في التعاليق، وقد ذكرت أحاديث التعاليق ذكر منصفٍ، وبيَّنت صحيحها من سقيمها (يعني: في كتابه التحقيق في مسائل الخلاف).
****
فصلٌ:
وما زالت الهمم تتقاصر، وآل الأمر إلى خلفٍ هم بئس الخلف، فمات العلم.
٤٢- عن عبد الله بن عمروٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) . أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين.
٤٣- قال ابن عباس: أتدرون ما ذهاب العلم من الأرض؟ قلنا: لا. قال أن يذهب العلماء.
٤٤- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرج في آخر الزمان قومٌ جهالٌ يفتون الناس فيضلون ويضلون)) .
[أخرجه أبو البختري في جزء من حديثه، والخطيب في الفقيه والمتفقه من طريق المصنف، وإسناده ضعيفٌ جداً، فيه: يحيى بن عبيد الله التيمي: متروك، وأفحش الحاكم، فرماه بالوضع].
٤٥- عن ابن عباس في قوله تعالى: {نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} (الرعد: 41)، قال: ذهاب فقهائها، وخيار أهلها.
٤٦- وعن مالك، قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة وهو يبكي، فارتاع لبكائه، وقال: ما يبكيك، أدخلت عليك مصيبةٌ ؟!. فقال: لا، ولكن أُستفتي من لا علم له وظهر في الإسلام أمرٌ عظيم.
قلتُ (ابن الجوزي): هذا قول ربيعة والتابعون متوافرون، فكيف لو عاين زماننا هذا؟ وإنما يتجرأ على الفتوى من ليس بعالمٍ لقلة دينه.
٤٧- عن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا العلم دين، فلينظر أحدكم ممن يأخذ دينه)) . هكذا رواه مرفوعاً، والصواب أنه من قول التابعين، فقد رويناه عن ابن سيرين وابن عونٍ..
وقال الألباني في تعليقه على صفة المفتي والمستفتي (ص ٧): "لا يصحُّ مرفوعاً، والصحيح أنه من قول محمد بن سيرين، كما رواه مسلم في مقدمة صحيحه".
٤٨- عن ابن عون، قال: سأل الحسن عن رجل، فقال رجل: يا أبا سعيد الرجل الفقيه، فقال: وهل رأيت بعينيك فقيهاً قط؟ إنما الفقيه الذي يخشى الله عز وجل.
٤٩- وعن أبي مصعب أحمد بن أبي بكرٍ يقول: سمعت مالك بن أنس (رحمه الله) يقول: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون -يعني من أهل المدينة- أني أهلٌ لذلك.
٥٠- قال الخطيب عن خلف بن عمر -صديقٌ كان لمالكٍ- قال: سمعت مالك بن أنس (رضي الله عنه) يقول: ما أجبت في الفتوى حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل يراني موضعاً لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد فأمراني بذلك، فقلت له: يا أبا عبد الله! لو نهوك؟ قال: كنت أنتهي، لا ينبغي لرجلٍ أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه.
٥١- قال الخطيب (رحمه الله): ويحق للمفتي أن يكون كذلك، لأن السائل جعله الحجة له عند الله وقلده فيما قال، وصار إلى فتواه من غير مطالبة ببرهانٍ فهو مقام خطر.
٥٢- وقال الخطيب: عن محمد بن المنكدر قال: إن العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل عليهم.
٥٣- قال: وعن سيار أبي الحكم قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: إنكم تستفتوننا استفتاءَ قومٍ كأنا لا نُسأل عما نفتيكم به. [إسناده ضعيف].
٥٤- عن أبي يوسف يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: من تكلم في شيء من العلم وتقلده، وهو يظن أن الله عز وجل لا يسأله عنه: كيف أفتيت في دين الله؟! فقد سهلت عليه نفسه ودينه.
[وعن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول: ولولا الفرق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً، يكون لهم المهنأ، ولهم الوزر!!].
٥٥- عن محمد بن واسعٍ، قال: أول من يدعى إلى الحساب يوم القيامة: الفقهاء. [إسناده واهٍ جداً].
٥٦- عن مالك بن أنس، قال: حدثني ربيعة، قال: قال لي ابن خلدة -وكان نعم القاضي-: يا ربيعة! أراك تفتي الناس، فإذا جاءك رجل يسألك فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همك أن تتخلص مما سألك عنه.
٥٧- عن القاسم بن محمد، قال: لأن يعيش الرجل جاهلاً خيرٌ له من أن يفتي بما لا يعلم.
****
فصلٌ:
وقد جاء الوعيد الشديد لمن يفتي وليس من أهل الفتوى
٥٨- وعن محمد بن جعفر بن محمد قال: حدثني أبي عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء، وملائكة الأرض)).
[إسناده واهٍ جداً، ومع ذلك فقد حكم عليه شيخنا في (ضعيف الجامع: ٥٤٥٩) بالضعف فقط!! قال ابن عساكر: أبو القاسم الطائي: ضعيف، وقال الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي، عن أبيه، عن علي الرضا، عن آبائه بتلك النسخة الموضوعة الباطلة ما ينفك عن وضعه أو وضع أبيه].
****
فصلٌ:
فليسمع هذه النصيحة من يخاف على دينه، ويعرض على طلب الرئاسة في غير وقتها، فقد قال الحكماء: من تصدر وهو صغير فاته علم كثير.
٥٩- يزيد بن هارون يقول: من طلب الرئاسة في غير أوانها حرمه الله إياها في أوانها. وليعلم المؤمن أن الرئاسة على الحقيقة هي تقوى الله عز وجل.
وقد قيل للإمام أحمد رحمه الله: إن معروفا الكرخي قليل العلم، فقال: ((وهل يراد العلم إلا لما وصل إليه معروفٌ؟)) .
نسأل الله عز وجل إيمانا صادقاً يقبل بقلوبنا إلى طلب الآخرة ويعرض بها عن زخارف الدنيا الفانية، وأن يجعل اعتمادنا على العمل بمقتضى العلم، وينجينا من الرياء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه لم يرح رائحة الجنة)) [صحيح أبي داود].
٦٠- وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: ((إن أول الناس يقضى فيه يوم القيامة، ثلاثة: رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ فقال: قاتلت فيك حتى قتلت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال هو جرئٌ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت القرآن. فقال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، فقد قيل، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ فقال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا نفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) أخرجه مسلم في الصحيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق