مناقب أهل الحديث
لأبي الفيض محمد مرتضى الزبيدي (ت ١٢٠٥ هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن حب العلماء المخلصين لطلب الحديث جعلهم لا يقوون على الابتعاد عنه، أو تفويت أدنى فرصة لتحصيله، مهما كان ثمن الحصول عليه مضنياً وباهضاً، حتى رحلوا في طلبه فقطعوا الفيافي والقفار، وتكلفوا في ذلك العنت والمشقة، وكان أول من سن الرحلة في طلب الحديث: الصحابة رضوان الله عليهم، واشهر تلك الرحلات كانت رحلة الصحابي الجليل جابر بن عبدالله رضي الله عنه حيث سار شهراً ليسمع حديثاً بلغه عن رجل بالشام، سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو عبد الله بن أنيس، حيث خشي أن يدركه الموت قبل سماعه له ممن سمعه مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث واحد في وصف القصاص.
وكانت الرحلة في عـصـر التابعين أوسع، حيث إن كلَّ من أراد منهم طلب الحديث حرص على علو الإسناد، فكانوا يحرصون أن يسـمـعـــوه ممن رواه من الصحابه مباشرة إن كان راويه على قيد الحياه وكان الصحابة قد تفرقوا في الأمصار بسبب انتشار رقعة الفتح الإسلامي وذهابهم مجاهدين في سبيل الله إلى كل صقع عقد له لواء.
وقد تكون الرحلة لسماع الحديث إلى من هو أقرب إلى الصحابي راوي الحديث، طلباً لعلو الإسناد إن تعذر الوصول إلى الصحابي لموته.
وهذه أرجوزة شريفة لطيفة، قليلة الألفاظ،كثيرة المعاني، تقع في (٢١٧) مائتان وسبعة عشر بيتاً، وقد ضمنها الإمام الزبيدي مناقب السادة الأخيار الأبرار من أهل الحديث الأطهار، مع غاية البيان والإيجاز، وأتم الزبيدي هذا النظم في الثامن عشر من ربيع الأول سنة (١١٩٥ هـ).
وقد أمضى الإمام الزبيدي حياته راتعاً في رياض العلم والمعرفة، حتى برز في جوانب شتى من العلوم الإسلامية وبز فيها حتى مشايخه وأقرانه، فذاع صيته في كل صوب وسار الركبان بإنتاجه العلمي إلى كل صقع من بلاد المسلمين، فكان شاهداً حياً على سعة اطلاعه وأصالة ثقافته، وكان نبوغه -رحمه الله- في علوم الشريعة محل إعجاب من عاصره أو أتى بعده من العلماء.
وفي مقدمة النظم: يحمد الله تعالى على إنعامه وجوده وكرمه، بأبدع عبارات الحمد، وأبلغ ألفاظ الثناء، ويكسو هذه التحميدات الشمول والعموم والتمام والكمال، ثم يذكر نعمة الله عليه بالهداية إلى هذا الدين، وأن بلَّغه بفضله مراتب الفضل والفقه والتعليم، وأن جعله من آل بيت النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم أتم تسليم، ثم ثنَّى بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله الأطهار، وصحبنه النجباء الأخيار، وجعل بينه وبين حُسَّاده موعداً وهو يوم الموقف العظيم، مع توكله على الله تعالى في كل أموره.
ويرى الناظم الزبيدي -أن هذا النظم مع ما فيه من عبارات الثناء والتكريم لأهل الحديث؛ إلا أنه لم يوفيهم حقهم مما يليق بقدرهم من المدح والتعظيم، واعتبر نظمه هو أقلُّ ما يقدمه لهم اعترافاً بجليل أعمالهم، وكثرة فضلهم على أهل الإسلام، وهو يصور في هذا النظم حسن شمائلهم، ونقاء جوهرهم، وطيب سيرتهم، فرضي الله عنهم وعنا أجميعن.
وقد ضمَّن الإمام الزبيدي منظومته بعض الأحاديث النبوية الشريفة، والتي بلغت ثمانية أحاديث مرفوعة في مواضع متفرقة من النظم، بالإضافة إلى الآثار الواردة عن السلف الكرام وعلماء هذه الأمة الذين أثنوا على أهل الحديث، ومن المناقب التي ذكرها الإمام الزبيدي لأهل الحديث في أرجوته هذه:
١-أنهم أقرب الناس من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ هم أكثر الناس صلاة عليه.
٢-أن ما يشتغلون به هو أنفع العلوم وأبركها بعد كتاب الله تعالى.
٣-أن حملته هم غرس يغرسهم الله تعالى في الأمة، ويستعملهم بطاعته.
٤-أنهم خلفاء الرسول في أمته؛ لأنهم يعلمون الناس السنن والأحاديث.
٥-أنهم الشهداء العدول، الذين يشهدون للنبيّ صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله على أممهم يوم القيامة بتبليغ الرسالة.
٦-أنهم صيارفة الإسلام، حيث ينقون الأحاديث ويميزون بين صحيحها وسقيمها، كما أنهم يعرفون مراتب الرجال، وتوثيقهم أو جرحهم.
٧-أنهم الطائفة المنصورة الظاهرة، حتى قيام الساعة.
٨-أنهم أهل الهداية والعلم والمُنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
٩-أن مجالسهم يُرجى من ورائها مغفرة الذنوب، وإجابة الدعوات.
١٠-أنهم أبدال هذه الأمة، والبدل هو من بلغ كمال الديانة والعدالة.
١١-أنهم في الناس كالصحابة؛ لا يحملونه من علم وهداية وحسن خُلق.
١٢-أنهم أكثر الناس صواباً، واعتدالاً وتوسطاً.
١٣-أنهم حفظوا الدين أصوله وفروعه، ظاهره وباطنه، وحرسوه من الغلاة والمفرطين.
١٤-أنهم أئمة العرفان، ووزراء الصدق، والسالكين سنن الأنبياء والمرسلين.
١٥-أن وجوههم مضيئة، وسيرتهم مرضية، وهم منارات الخير والإحسان والفضل.
رواية هذه الأرجوزة عن الإمام الزبيدي
قلتُ (محمد حنونة): أروي هذه الأرجوزة وغيرها من مؤلفات العلامة الزبيدي: إجازة عن جمعٍ من الشيوخ، منهم الشيخ العلامة المعمر عبد الرحمن بن محمد عبد الحي الكتاني، وشيخنا العلامة محمد بن الأمين بوخبزة التطواني المغربي، وشيخنا أحمد ومحمد أبناء السيد أبوبكر بن حسين بن الحبشي (صاحب الدليل المشير)؛ كلهم عن والد الأول حافظ العصر ومسند الوقت ومحدثه العلامة أبو الأسعاد وأبو الإقبال محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المغربي الفاسي (صاحب فهرس الفهارس)، عن عبد الله السكري الدمشقي وسعيد الحبال ونصر الله الخطيب، ثلاثتهم عن حامد بن أحمد بن عبيد العطار الدمشقي، عن الإمام الزبيدي.
وبالإسناد المتقدم، عن عبد الحي الكتاني، عن عبد الله السكري الدمشقي العطار إجازة، عن عمر بن مصطفى الآمدي الدياربكري ثم الدمشقي، عن الزبيدي.
وعن الكتاني: عن عبد الله السكري والشيخ محمد سعيد الحبال؛ كلاهما، عن الوجيه الكزبري، وهو عن الزبيدي مكاتبةً.
(ح) وعن السكري، عن عبد اللطيف بن عليّ فتح الله البيروتي، عنه.
وعن الكتاني، عن الشهاب أحمد الجمال النهطيهي المصري الشافعي، عن عبد اللطيف بن عليّ فتح الله البيروتي مكاتبةً عنه.
الزَّبيدي... مولده، وكتبه، ووفاته
هو الإمام محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرازق الحسيني الزبيدي، أبو الفيض. الملقب بمرتضى. علامة باللغة والحديث والرجال والأنساب، وهو من كبار المصنفين في عصره . ولد عام (١١٤٥هـ / ۱۷۳۲م) في بلجرام وهي بلدة بالهند، ونشأ في زبيد باليمن، ورحل إلى الحجاز، وأقام
بمصر.
اشتهر فضله، وانهالت عليه الهدايا والتحف، وكاتبه ملوك الحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب الأقصى والترك والسودان والجزائر.
وزاد اعتقاد الناس فيه حتى كان في أهل المغرب كثيرون يزعمون أن من حج ولم يزر الزبيدي و يصله لم يكن حجه كاملاً.
وتوفي رحمه الله في مصر بالطاعون عام (١٢٠٥ - ١٧٩٠ م).
ومن أهم مصنفاته:
۱ - تاج العروس في شرح القاموس: وهو في عشرة مجلدات.
۲ - اتحاف السادة المتقين: وهو شرح إحياء علوم الدين للغزالي في عشرة مجلدات.
٣- أسانيد الكتب الستة.
٤-عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة: وهو مجلدان.
٥ - كشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام.
٦ - رفع الشكوى وترويح القلوب في ذكر ملوك بني أيوب.
٧-معجم شيوخه.
٨- ألفية السند: وهو في الحديث، ويحتوي على ١٥٠٠ بيت وشرحها.
٩ - مختصر العين: وهو مختصر كتاب العين المنسوب للخليل بن أحمد.
١٠- التكملة والصلة والذيل للقاموس: وهو في مجلدين ضخمين.
١١- إيضاح المدارك بالافصاح عن العواتك: وهو رسالة.
۱۲ - عقد الجمان في بيان شعب الإيمان: رسالة أيضاً.
۱۳ - تحفة القماعيل في مدح شيخ العرب إسماعيل.
١٤ - تحقيق الوسائل لمعرفة المكاتبات والرسائل.
١٥ - جذوة الاقتباس في نسب بني العباس.
١٦ - حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق.
١٧ – الروض المعطار في نسب آل جعفر الطيار.
۱۸ - مزيل نقاب الخفاء عن كني سادتنا بني الوفاء.
١٩ – بلغة الغريب في مصطلح آثار الحبيب.
٢٠ - تنبيه العارف البصير على أسرار الحزب الكبير.
٢١- سفينة النجاة المحتوية على بضاعة مزجاة من الفوائد المنتقاة.
۲۲ - غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد مسلم بن الحجاج.
۲۳ - نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح.
٢٤ - العرائس المجلوة في ذكر أولياء فوة.
٢٥ - لقط اللاليء المتناثرة في الأحاديث المتواترة. وهو هذا الكتاب.
هذا إلى جانب عدد كبير من المصنفات الأخرى، منها الرسائل ومنها الله شيخنا وأسكنه فسيح جناته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق