أدب المفتي والمستفتي
للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الكتاب هو ذكر لآداب الفتوى والمفتي للإمام النووي -على ما ذكره الإمام محمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت ٩٠٢ هـ ) في كتابه (الاهتمام بترجمة الإمام النووي شيخ الإسلام)، وقد لخّص فيه الإمام النووي هذه الآداب من ثلاثة كتب يجْمَعُها موضوع واحد؛ وهو: أدب الفتوى والمفتي والمستفتي، وضمَّ إليها نفائس من درر وفوائد الأصحاب.
أما الكتب التي اعتمد عليها الإمام النووي؛ فهي: كتاب أبي القاسم الصيمري. وكتاب أبي بكر الخطيب البغدادي، وكتاب أبي عمرو ابن الصلاح. وقد حفظ لنا النّوويّ باختصاره هذه الكتب الثلاثة مضمون كتابين، أحدهما لا يعرف له في عصرنا نسخة وهو كتاب الصيمري، وإن عرفه السابقون.
أما الآخر، وهو كتاب الخطيب البغدادي؛ فقد عرفه القلة من القدماء والذي منهم الإمام النووي رحمه الله؛ فكان احتمال وجوده في عصرنا أقل من سابقه.
وقد تضمن الكتاب الحديث عن أهمية الإفتاء وعظم خطره، وعموم حاجة الناس إليه، وفضله، ثم أتبع ذلك بفصول ثلاثة عن معرفة من يصلح للفتوى وطريق ذلك سؤال علماء الوقت، واشتهاره بالفتوى بين الناس.
وتحدث عن وجوب وزع المفتي وديانته، وشروط المفتي: من أن يكون مسلماً، بالغاً، عاقلاً، ثقةً، مأموناً، لا يتصف بخوارم المروءة، ولا بالفسق، فقيه النفس، سليم الذهن، صحيح التصرف. ولا يشترط فيه: الحرية، والبصر، والعدالة الباطنية في الأصح، والنطق إذا فهمت إشارة الأخرس. ولا تصح فتوى الفاسق بالإجماع.
ثم ذكر الفرق بين القاضي والمفتي، أو حكم المفتي غير ملزم، بينما حكم القاضي ملزم، وأن الفتوى كالشهادة لا تُقبل ضد من عاداه المفتي لوجد الخصومة بينهما، وأن فتاوى أهل البع والأهواء تصحُّ لبعضهم ما لم يكفر ببدعته، ولا يصحُّ قضاؤهم.
ثم عقد المؤلف فصلاً عن أقسام وأحوال المفتين: المستقل وغير المستقل؛ فأما المفتي المستقل المطلق؛ فهو المجتهد المطلق في جميع أبواب الفقه، فيشترط فيه: حفظ معظم مسائل الفقه، متمكناً من إدراك الباقي عن قرب، وقد يكون المفتي مجتهداً في باب مستقل من الفقه، بينما المفتي غير المستقل، له أحوال أربعة:
الحالة الأولى: المنتسب إلى طريقة الإمام في الاجتهاد، وهو كالمفتي المستقل في الرتبة.
الحالة الثانية: المنتسب المقرر لأصول إمامه بالأدلة، ويستنبط منها الأحكام، ويخرِّج عن نص إمامه تارةً، ويُخرّج لى أصله هو بعد أن وجد دليلاً يشهد لهذا الأصل على شرط إمامه.
الحالة الثالثة: المنتسب الحافظ للمذهب، مع قدرته على تقرير الأدلة وتحرير الأقيسة، لكنه لا يستطيع أن يجتهد؛ فهذا فقيه النفس، ويحق له الإفتاء فيما علمه.
الحالة الرابعة: المنتسب الحافظ للمذهب؛ ولكن عنده ضعف في تقرير الأدلة وتحرير الأقيسة؛ فهذا مقلد لا يحق له الفتوى إلا ناقلاً.
ثم تكلم في فصل عن بعض مسائل أهلية المفتي. ثم جمع مسائل مختلفة تحت ثلاثة عناوين:
١ - أحكام المفتين.
٢ - أدب الفتوى.
٣- آداب المستفتي وصفته وأحكامه.
وتكلم عن بعض المسائل الهامة في ذلك، منها:
١-إذا اجتمع أكثر من مُفتٍ في ناحية.
٢-إذا أفتى بشيء ورجع عنه.
٣-حكم التساهل في الفتوى.
٤-استحباب التبرع بالفتوى، وحكم أخذ الأجر عليها.
٥-الخبرة بالألفاظ الشائعة في بلد المستفتي والسؤال عن القصد في المحتلمة منها.
٦-اعتماد كتاب موثوق في الفتوى إن كان ينقل عنه.
٧-إذا أفتى في مسألة، وظهر له دليل أقوى، أو اجتهاد جديد فيها.
٨-بيان المفتي الجواب بطريقة واضحة وشافية ومختصرة.
٩-كيف يتعامل المفتي مع الرقاع والفتاوى المكتوبة.
١٠-الفتوى في مسائل علم الكلام حكمها وضوابطها.
١١-الفتوى في التفسير وعلوم القرآن.
١٢-من يستفتي من أهل العلم، ومن هو المؤهل للإفتاء؟
١٤-بحث العامي عن المفتي الثقة الذي يطمئن إلى دينه.
١٥-إذا اختلفت على المستفتي الفتوى، أيهما يختار؟
١٦- طلب المستفتي الفتوى مشفوعةً بالدليل.
حسب هذا الترتيب أقام النووي مختصره؛ ويكون بذلك قد خالف ترتيب أصوله، يتبين ذلك بمراجعة كتاب ابن الصلاح ومقارنته مع مختصر النووي، حيث تجد أنَّ النووي استَوْعَبَ كلّ محتويات كتاب ابن الصلاح لكن بقالب وترتيب جديد.
وإليك تراجم هؤلاء الأعلام الثلاثة:
أولاً: ترجمة الصيمَري:
هو: عبد الواحد بن الحسين بن محمد القاضي، أبو القاسم الصيمري أحد أئمة الشَّافعيّة وشيوخهم وعلمائهم؛ من أصحاب الوجوه. كان حافظاً للمذهب، حسن التصانيف. والصيمري بفتح الميم، وهو منسوب إلى صَيْمَرَ: بنهرٌمن أنهار البصرة، عليه عدة قرى.
نزل الصيمري البصرة، وتفقه بأبي حامد أحمد بن بشر بن عامر العامري المروروذي المتوفى سنة ٣٦٢ هـ = ٩٧٣م؛ وبأبي الفياض محمد بن الحسن بن المنتصر البصري، تلميذ أبي حامد المروروذي، والمتوفى في حدود سنة ٣٨٥ هـ.
وعلى الصيمري تفقه أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي المتوفى سنة ٤٥٠ هـ. للصيمري عدة كتب منها:
۱ - « أدب المفتي والمستفتي» وهو كتاب صغير كما يقول السبكي.
٢ - «الإيضاح في المذهب» يقول عنه النووي: وهو كتاب نفيس كثير الفوائد، قليل الوجود. وقال الذهبي: إنه في سبع مجلدات .
٣- كتاب في الشروط.
٤- كتاب «الكفاية» وذكر الإسْنَوي أنَّه شَرَحَها أيضاً، ونقل ذلك عن صاحب الاستقصاء وابن الصلاح.
٥- كتاب في القياس والعلل.
قال السبكي: توفي الصَّيْمَري بعد سنة ست وثمانين وثلاث مئة.
وقال الذَّهَبِي في «سير أعلام النبلاء»: وقد حدث ببعض كتبه في سنة سبع وثمانين وثلاث مئة.
ثم قال في الجزء نفسه عقب ترجمة الحاكم أبي عبد الله المتوفى سنة خمس وأربع مئة هجرية: وفيها توفي شيخ الشافعية في البصرة: أبو القاسم عبد الوحد بن الحسين الصَّيْمَري.
بينما نقل الإسنوي عن الذهبي قوله: كان موجوداً في السنة الخامسة بعد الأربعمائة، فقط.
ثانياً: ترجمة الخطيب البغدادي:
هو أبو بكر أحمد بن أبي الحسن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي.
ولد يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة، سنة ٣٩٢ هـ = ١٠٠٢ م، ونشأ في درزيجان، قرية كبيرة على نهر دجلة جنوب غربي بغداد؛ حيث كان أبوه يتولى الخطابة والإمامة في جامعها لمدة عشرين عاماً.
لقي الخطيب البغدادي منذ صغره عناية وتوجيهاً من أبيه، فعهد بـه إلى العلماء، فأقرؤوه وتعلم منهم.
وفي الحادية عشرة من عمره سمع الحديث في بغداد، فاستفاد من أهلها وعلمائها والواردين عليها. ارتحل إلى البَصْرَة وهو ابن عشرين سنة، وإلى نيسابور وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وإلى الشام وهو كهل، وإلى مكة وغير ذلك.
قال الذهبي: كتب الكثير وجَمَعَ وصَنَّفَ وصَحْحَ وعَلَّل وجَرَّح وعدل وأرخ وأوضَحَ ، وصار أحفظ أهل عصره على الإطلاق.
زادت مؤلّفاته على الستين ذكرها أكثر مترجميه، لكن كتابه في «آداب الفتوى والمفتي والمستفتي» غاب عن أكثرهم.
توفي الخطيب رحمه الله في يوم الاثنين سابع ذي الحجة سنة ٤٦٣ هـ، ودفن في مقبرة باب حرب ببغداد في جوار بشر الحافي.
ثالثاً: ترجمة أبو عمرو ابن الصلاح:
هو أبو عمرو تقي الدين عثمان بن صلاح الدين بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكُرْدِي السَّهْرَزُورِي الشَّرَخَانِي الْمَوْصِلِي الشَّافعي، المحدث الحجة الفقيه الأصولي، البارع في أصناف العلوم.
ولد سنة ٥٧٧ هـ = ۱۱۸۱م في شَرَخان: قرية قريبة من شَهْرَزُور التابعة لإربل، شمالي العراق، وإليها ينسب، لكن اشتهرت نسبته إلى شهرزور، ونسبته إلى أبيه أشهر، أي ابن الصلاح.
تفقه ونشأ بشَهْرَزور، ثم بالْمَوْصل، ثم رحل إلى البلاد الإسلامية لطلب العلم ، فرحل إلى بغداد وبلاد خُراسان وبلاد الشام حيث أقام بدمشق. فدرس بالرُّوَاحِيّة وبدار الحديث النورية والشامية الجوانية.
يقول عنه تلميذه ابن خلكان: كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسددة.
توفي ابن الصلاح سنة ٦٤٣ هـ = ١٢٤٥ م ، ودُفن بمقابر الصوفية ، حيث قبره ما زال قائماً إلى الآن، ضمن مباني الجامعة السورية.
وكتابه في «أدب المفتي والمستفتي» مطبوع، حققه أولاً الدكتور محي الدين السَّرْحان بالعراق، ثم عبد المعطي القلعجي في مصر.
مقدمة في الفتوى
عن كتاب (المذهب الشافعي وأهم مصطلحاته)
محمد طارق هشام مغربية
الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع فتاوى وفتاوي؛ بكسر الواو وفتحها.
ويقال: أفتيته فتوى وفتيا إذا أجبته عن مسألته.
والاستفتاء لغة: طلب الجواب عن الأمر المشكل، ومنه قوله تعالى: {فلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف: ۲۲). وقد يكون بمعنى مجرد سؤال.
والمفتي لغة: اسم فاعل من أفتى فمن أفتى مرة فهو مفت.
والفتوى في الاصطلاح: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه.
والمفتي في المعنى الشرعي أخص منه في اللغوي.
قال الزركشي رحمه الله : المفتي من كان عالماً الأحكام الشرعية بالقوة القريبة من الفعل والمستفتي من لا يعرف جميعها.
وتختلف الفتوى عن القضاء بأنها غير ملزمة ولا ترفع الخلاف، أما حكم القاضي فهو ملزم لمن احتكم إليه، رافع للخلاف في ما اختلف فيه.
كما أن كل ما يدخله الحكم تدخله الفتوى ولا عكس، فالمفتي يجيب السائل في كل أحكام الفقه أما القاضي فلا يحكم إلا فيما تدخله المنازعة من أحكام المعاملات وما أشبهها. فالفتوى أعم، والقضاء ألزم.
وتواجد من يقوم بالفتوى فرض كفاية على مجموع المسلمين، إذ لا أن يخلو مكان أو زمان من مفت يبين للناس أمر دينهم. وكما يجب نصب مفت ؛ يجب على المكلفين الاستفتاء إذا خفي عليهم شيء من أمر دينهم.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها ، فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام.
والإفتاء في الدين من أعلى المقامات وأسماها، لا جرم خص الله تعالى به أنبياءه صلوات الله عليهم وسلامه حال حياتهم الشريفة.
فلما اختارهم لجواره قام بذلك العلماء العاملون الربانيون، فكانوا كالموقعين عن رب العالمين. ورحم الله تعالى ابن القيم إذ يقول: إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات.
والفتوى تمر بمراحل أربع - كما وضحها فضيلة الدكتور علي جمعة - أبينها ليتوضح المقصود بالإفتاء:
فأول هذه المراحل: (التصوير):
وفيها يتم تصوير المسألة التي أثيرت والتصوير الصحيح شرط أساسي لصدور الفتوى المطابقة للواقع.
لكن ينبغي على المفتي أن يتحرى بواسطة السؤال عن الجهات الأربع التي تختلف الأحكام باختلافها وهي: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.
وقد يكون التصوير لما وقع فعلاً، وقد يكون لما سيقع؛ فلا بد حينها من مراعاة المآلات والعلاقات البينية.
وبقدر ما عند المفتي من قدرة على التصوير بقدر ما تكون الفتوى أقرب إلى المقاصد الشرعية وتحقيق المصالح.
المرحلة الثانية : التكييف:
وهو إلحاق الصورة المسؤول عنها بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله، والتكييف مناط اختلاف العلماء مما يوجب تغير الفتوى تبعاً لاختلافهم في إلحاق المسألة بهذا الباب أو ذاك؛ كما مر في اختلاف وجوه الأصحاب.
والترجيح بين المختلفين يرجع إلى قوة دليل أي منهم، وموافقته روح الشرع ومقاصده العامة من رفع الحرج وتحقيق المصالح ودرء المفاسد.
المرحلة الثالثة: بيان الحكم في المسألة:
والحكم الشرعي كما عرف في أصول الفقه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، ويؤخذ من الأدلة الشرعية المتفق عليها أو المختلف فيها، ويتم إظهاره بالقياس أو الاستدلال.
لذا كان على المتصدي لمقام الفتوى أن يكون عارفاً بالأدلة الشرعية، بصيراً بكيفية إنتاج الأحكام، ولا يكون هذا إلا للمتبحر في علوم الأمة من قرآن وتفسير وحديث وفقه وعربية، وآلاتها كالأصول والنحو والبلاغة وغيرها، مع أهمية صحبة العلماء الفحول لتحصيل الملكة الراسخة في النفس، والفتوى عن تقوى وبصيرة.
ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي: الإفتاء:
أو تنزيل الحكم الذي ترجح للمفتي موافقته للواقعة المطروحة، وهنا لا بد من تأكد المفتي أن الحكم الذي توصل إليه لا يرجع على المقصد العام للشرع بالبطلان، ولا يخالف نصاً قطعياً أو إجماعاً متفقاً عليه ولا قاعدة مستقرة.
هذه المراحل التي تمر بها الفتوى، وجدير بالذكر أن الفتوى ربما تغيرت باختلاف الأماكن والأزمنة والأحوال والأشخاص.
قال العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى: اعلم أن المسائل الفقهية إما أن تكون ثابتة بصريح اللفظ وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي وكثير منها يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه، بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قال أولاً.
ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم عنه المشقة والضرر بالناس ولو خالف قواعد الشرع المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام.
ويحسن بالمفتي التحلي بالصبر والرفق بالناس، ومراعاة أحوالهم، والاطلاع على أعراف المكان وعلوم الزمان لتوافق فتواه الواقع.
ولينتبه قبل كل شيء أنه ناقل حكم الله تعالى، موقع عن رب العزة يستحضر خوف الله وتقواه والله يعينه ويتولاه. وانتقل بعد هذه المقدمة لبيان طبقات المفتين في المذهب، ثم بيان ما يقدم عند التعارض.
طبقات المفتين والمجتهدين في المذهب الشافعي
عقد الإمام الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح الشهرزوري رحمه الله تعالى فصلاً في أنواع المفتين وشروطهم في كتابه القيم: (أدب الفتوى وصفة المفتي والمستفتي). قال رحمه الله تعالى: أما شروطه وصفاته فهي أن يكون مكلفاً مسلماً ثقة مأموناً، متنزهاً من أسباب الفسق ومسقطات المروءة، لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح الاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد، ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر صحيح التصرف والاستنباط، متيقظاً.
ثم تنقسم وراء هذا إلى قسمين: مستقل، وغير مستقل.
القسم الأول: المفتي المستقل.
وشرطه: أن يكون مع ما ذكرناه قيماً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل، عالماً بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها وبكيفية اقتباس الأحكام منها، عارفاً من علم القرآن والحديث وعلم الناسخ والمنسوخ وعلمي النحو واللغة واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربة و ارتياض في استعمال ذلك، عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها، فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية، ولا يكون إلا مجتهداً مستقلاً.
واستشكل بعض الأئمة كونه عارفاً بمسائل الفقه نظراً أنه ليس شرطاً لمنصب الاجتهاد. فاشتراط ذلك في صفة المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح، وإن لم يكن كذلك في صفة المجتهد المستقل على تجرده؛ لأن حال المفتي يقتضي اشتراط كونه على صفة يسهل عليه معها إدراك أحكام الوقائع على القرب من غير تعب كبير، وهذا لا يحصل لأحد من الخلف إلا بحفظ أبواب الفقه ومسائله.
أما المفتي في باب خاص من العلم: نحو علم المناسك، أو علم الفرائض أو غيرهما فلا يشترط فيه جميع ذلك. ومن الجائز أن ينال إنسان منصب الفتوى والاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض، فمن عرف القياس وطرقه وليس عالماً بالحديث فله أن يفتي في مسائل قياسية يعلم أنه لا تعلق لها بالحديث، ومن قال: ومنذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق والمجتهد المستقل، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة.
وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:
الأولى أن لا يكون مقلداً لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لكونه قد الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل، وإنما ينسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله.
وقد صرح بهذه الرتبة عدد كبير من فقهاء الشافعية المتقدمين؛ بأنهم لم يقلدوا الشافعي رحمه الله لكنهم لما وجدوا طريقه في الاجتهاد أسد الطرق تابعوه في طريقة اجتهاده.
قال ابن الصلاح وهذا واقع على وفق ما رسمه لهم الشافعي، ثم المزني في أول مختصره وفي غيره.
وذكر الشيخ أبو علي السنجي شبيهاً؛ فقال: اتبعنا قول الشافعي دون غيره من الأئمة لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه في قوله. وكذلك ما روي عن إمام الأئمة محمد بن خزيمة: ما قلدت أحداً منذ بلغت ست عشرة سنة.
إذا عرفت هذا؛ ففتوى المنتسبين في هذه الحالة في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق، يعمل بها ويعتد بها في الإجماع والخلاف. وهذه طبقة الإمام المزني والمحمدين الأربعة وأبي ثور، فهم وإن ذكرت فتاواهم واجتهاداتهم في كتب المذهب إلا أنهم من أهل الاجتهاد المطلق.
الحالة الثانية: أن يكون في مذهب إمامه مجتهداً مقيداً، فيستقل بتقرير مذهبه بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده.
ومن شأنه أن يكون عالماً بالفقه خبيراً بأصول الفقه، عارفاً بأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط، قيماً بإلحاق ما ليس بمنصوص عليه في مذهب إمامه بأصول مذهبه وقواعده.
ولا يعرى من شوب التقليد لإخلاله بأصول الاجتهاد كمعرفة الحديث والعربية.
ويتخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها نحو ما يفعله المستقل بنصوص الشارع.
وهذه صفة أصحاب الوجوه والطرق في المذهب، وعلى هذه الصفة كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم.
ومن كان هذا شأنه فالعامل بفتياه مقلد لإمامه لا له، لأن معوله على صحة إضافة ما يقوله إلى إمامه لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع.
وهذا القسم يجوز أن يفتي في ما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصاً عليه لإمامه بما يخرجه على مذهبه.
وتخريجه تارة يكون من نص معين لإمامه، في مسألة معينة، وتارة لا يجد لإمامه نصاً معيناً يخرج منه، فيخرج على وفق أصوله بأن يجد دليلاً من جنس ما يحتج به إمامه وعلى شرطه فيفتي بموجبه.
ثم إن وقع النوع الأول من التخريج في صورة فيها نص لإمامه، مخرجاً خلاف نصه فيها من نص آخر في صورة أخرى سمي قولاً مخرجاً. وإذا وقع النوع الثاني في صورة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك سمي ذلك وجهاً.
الحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق غير أنه فقيه النفس، حافظ لمذهب إمامه عارف أدلته قائم بتقريرها وبنصرته، ويصور ويحرر، ويمهد ويقرر ويزيف ويرجح لكنه قصر عن درجة أولئك؛ إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لأنه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياضهم؛ وإما لكونه غير متبحر في علم أصول الفقه، على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه أدلته على أطراف من قواعد أصول الفقه؛ وإما لكونه مقصراً في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق.
وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المئة الخامسة من الهجرة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه تصانيف بها معظم اشتغال الناس اليوم .
ولم يلحقوا بأرباب الحالة الثانية في تخريج الوجوه وتمهيد الطرق في المذهب، وأما فتاويهم فقد كانوا يتبسطون فيها كتبسط أولئك أو قريباً منه، ويقيسون غير المنقول والمسطور في المذهب غير مقتصرين في ذلك على القياس الجلي وقياس لا فارق) الذي هو نحو قياس الأمة على العبد في إعتاق الشريك، وقياس المرأة على الرجل في رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن.
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب في نقله وفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أن عنده ضعفاً في تقرير أدلته وتحرير أقيسته.
فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم.
وأما ما لا يجده منقولاً في مذهبه فإن وجد في المنقول ما هذا في معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما، كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك جاز له إلحاقه به والفتوى به. وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب.
هذا يقع نادراً -وما لم يكن كذلك فعليه الإمساك عن الفتيا فيه، ومثل حق مثل الفقيه المذكور؛ إذ يبعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب، ولاهي في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابط المذهب المحررة فيه. ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس؛ لأن تصوير المسائل على وجهها ثم نقل أحكامها بعد استتمام تصويرها؛ جلياتها وخفياتها لا يقوم به إلا فقيه النفس ذو حظ من الفقه.
هذه أصناف المفتين وشروطهم وهي خمسة وما من صنف منها إلا ويشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس وذلك فيما عدا الصنف الأخير.
فمن انتصب في منصب الفتيا وتصدى لها وليس على صفة واحدة من هذه الأصناف الخمسة فقد باء بأمر عظيم {أَلَا يَظُنُّ أُوْلَيْكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ليوم عظيم} (المطففين). ومن أراد التصدي للفتيا ظاناً كونه من أهلها فليتهم نفسه، وليتق ربه تبارك وتعالى، ولا يخدعن عن الأخذ بالوثيقة لنفسه، والنظر لها.
يظهر جلياً عدم وضوح الفرق بين الحالة الثانية والثالثة، فصفاتهما متقاربة إلا أن الثالثة تنقص عن الثانية في الشروط، حتى أن ابن الصلاح لم يمثل لهما لعسر التفريق، والله أعلم.
تعارض الأقوال والترجيح في الفتوى
قد يكون الترجيح بين قولين للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وربما كان القولان في الجديد أو كان أحدهما قديماً والثاني جديداً، أو يكون الترجيح بين وجوه الأصحاب، وسأحاول في هذا الفصل بيان القول الراجح والمعمول به في الفتوى:
الترجيح بين القديم والجديد:
القديم هو ما قاله الإمام قبل دخول مصر والجديد ما قاله بعد دخولها، ونقل عن الشافعي في حق القديم قوله: لا أجعل في حل من رواه عني، وقوله: ورواة القديم عن الشافعي ببغداد أربعة: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبو ثور، والإمام الحسين بن علي بن يزيد أبو علي الكرابيسي، والإمام الحسن بن الصباح أبو علي الزعفراني رحمهم الله تعالى -لا يحل عد القديم من المذهب.
(۲) والزعفراني أثبت رواة القديم، والكتاب العراقي منسوب إليه، وقد سمع بقراءته الكتب على الشافعي: أحمد وأبو ثور والكرابيسي والكتاب القديم يسمى «الحجة»، وكان متداولاً بين أهل العلم، ويقول الإمام الأسنوي عند ذكر ما اعتمد عليه في تصنيف «المهمات»: وكتاب القديم
الذي رواه الكرابيسي عن الشافعي، وهو مجلد ضخم ظفرت بنسخة عتيقة منه وعليها خط ابن الصلاح بغرابته والثناء عليه.
وقال الماوردي في أثناء كتاب الصداق غير الشافعي جميع كتبه القديمة إلا الصداق فإنه ضرب على مواضع منه وزاد مواضع. وهذا يدل أن الكتاب الجديد لا علاقة له بالقديم. ومن أمثلة اجتهادات الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في القديم: ما نقله الإمام العمراني رحمه الله في «البيان» فقال:
مسألة: روى الزعفراني: أن الشافعي قال في العراق: (يجوز المسح على الخفين من غير توقيت. ثم قال الزعفراني: ورجع الشافعي عن هذا قبل رحلته من عندنا إلى مصر، وقال: (يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن).
وقد اختلف كلام الأئمة في عد القديم من مذهب الشافعي: فقال الإمام في مسألة التباعد ومما بلغنا ثلاث مسائل في كل منها قولان، والقديم منهما أصح من الجديد.
وقال الإمام عند الكلام في سبق الحدث: إن الشافعي إذا نص في القديم على شيء، وجزم في الجديد ،بخلافه، فمذهبه الجديد، وليس القديم معدوداً من المذهب، لكن أئمة المذهب يعتادون توجيه الأقوال القديمة.
وقد أعاد مثل هذا القول - أو قريباً منه ـ عند الكلام في جلد الميتة إذا دبغ، وحكى القاضي حسين والصيدلاني وغيرهما خلافاً عن الأصحاب في أن الشافعي إذا قال في القديم شيئاً، ونص في الجديد على خلافه، هل يكون رجوعاً عن القديم له أم لا؟.
وبالجملة فمن قال شيئاً ثم قال بخلافه فلا وجه لمقلده إلا العمل بالمتأخر والله أعلم
وقال في باب العاقلة: وقد ذكرت مراراً: أنه لا يحل عد القديم من مذهب الشافعي مع رجوعه عنه.
فإذا كان في المسألة قولان قديم وجديد ؛ فالفتوى بالقول الجديد إلا في مواضع صحح الأصحاب فيها العمل بالقديم، قال في «الفوائد المكية»: لايلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي، وحينئذ فمن ليس أهلاً للتخريج تعين عليه العمل والفتوى بالجديد، ومن كان أهلاً للتخريج والاجتهاد في المذهب يلزمه اتباع الدليل في العمل والفتوى مبيناً أن هذا رأيه، وأن مذهب الشافعي كذا وكذا، وهذا كله في قديم لم يعضده حديث لا معارض له، فإن اعتضد بذلك فهو مذهب الشافعي؛ فقد أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي .
وقال ابن الصلاح فيكون اختيار القديم فيها من قبيل اختياره مذهب غير الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه فإنه إن كان ذا اجتهاد اتبع اجتهاده، وإن كان اجتهاده مشوباً بتقليد نقله عن ذلك الإمام، وإذا أفتى فيقول: مذهب الشافعي كذا، ولكني أقول بمذهب أبي حنيفة وهو كذا.
وقال العلامة أحمد ميقري شميلة الأهدل -رحمه الله: المذهب القديم ليس مذهباً للشافعي، لأن المقلد مع المجتهد كالمجتهد مع الرسول ﷺ، فكما أن الحادث من أدلة الشرع ناسخ للمتقدم منها إجماعاً حتى يجب على المجتهد الأخذ به، كذلك المقلد مع المجتهد.
وأما المسائل التي عدوها وجعلوها مما يفتى به على القديم... فسببها أن جماعة من المجتهدين في مذهبه لاح لهم في بعض المسائل أن القديم أظهر دليلاً فأفتوا به غير ناسبين ذلك إلى الشافعي، فمن بلغ رتبة الترجيح ولاح له الدليل أفتى بها، وإلا فلا وجه لعلمه وفتواه على أن المسائل التي عددها أكثرها فيه قول جديد، فتكون الفتوى به.
ونظم بعض العلماء المسائل التي الفتوى بقول يفتى بها في القديم؛ فقال:
المسائل التي يفتى بها بالأقدم .. .هي للإمـام الـشـافـعـي الأعـظـم
الطهر لم ينقض بلمس المحرم .. . للصفحتين ولو تلوث بالدم
ثوب بصـبـح والـعـشــاء فـقـدم .. . والاقتداء يجوز بــعــد تـحـرم
والخط بين يدي مصـل علـم .. . وكذا الركاز نـصــابـه لــم يـلـزم
ويجوز شرط تحلل للـمـحـرم .. . وعلى عمارة كل ما لم يقسم
فضمان یـد حـكـمـه فـي الـمـغـرم .. . والحد في وطء الـرقـيـق الـمـحـرم
قال في الفوائد المدنية: ولو تتبعت كلام أئمتنا لزادت المسائل على الثلاثين بكثير.
وألف الشيخ شمس الدين السلمي المناوي كتاباً سماه: «فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد بين فيه أن هذه المسائل يفتى فيها بالجديد وأن الشافعي له فيها قولان في الجديد وقول القديم فاختار الأصحاب منها أحد القولين الجديدين وهو موافق للقديم.
وقد ذكر هذه الأقوال في كتابه وأجاب عنها بما يبين نسبتها للجديد.
تعارض قولين جديدين:
إذا تعارض قولان جديدان للإمام رحمه الله فقد وضع الأئمة ضوابط لمعرفة القول الراجح؛ فمن ذلك:
١ - كون أحد القولين متقدماً والآخر متأخراً عنه، فيفتون بالمتأخر لترجح أنه اختاره وارتضاه، فيعمل به وجوباً.
٢- أن يقولهما معاً، ويرجح أحدهما فيعمل بالراجح.
٣- أن يقولهما معاً وهو متردد فيهما دون ترجيح، ولم يحصل هذا إلا في بضع عشرة مسألة، وقد اختلف فيه أئمة المذهب على ثلاثة أقوال:
ما وافق أبا حنيفة رحمه الله أو غيره من الفقهاء أولى لتعدد قائله وقد اختاره النووي رحمه الله. . ما خالف أبا حنيفة أولى لأن الشافعي إنما خالفه عن دليل، وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني.
يرجح بينهما بالنظر، وقد اعتمده السبكي في جمع الجوامع ووافقه عليه شراحه.
٤- أن يجهل أي القولين قبل الآخر فيتوجب عليه البحث عن الأرجح، فإن كان أهلاً استقل بالترجيح، وإلا فيبحث عمن نقل الترجيح بينهما، ويقدم الأعلم ثم الأورع فإن وجده عمل به وإلا توقف.
٥- ومنها ما إذا ذكر في المسألة قولين ثم أعاد المسألة وذكر فيها أحد القولين أو فرع على أحدهما فيكون ذلك اختياراً للقول المعاد والقول المفرع عليه.
٦- ومنها ما ذكره الإمام النووي -رحمه الله تعالى -في المجموع (١/ ٦٩): ومما ينبغي أن يرجح به أحد قولين... أن يكون الشافعي ذكره في بابه ومظنته وذكر الآخر في غير بابه، بأن جرى بحث وكلام جر إلى ذكره، فالذي ذكره في بابه أقوى لأنه أتى به مقصوداً وقرره في موضعه بعد فكر طويل؛ بخلاف ما ذكره في غير بابه استطراداً فلا يعتني به اعتناءه بالأول.
والمسألة ليست سهلة، فمن لم يكن متبحراً بمذهب إمام ظن ما ليس مذهباً مذهباً له، لقصور فهمه وقلة اطلاعه على مظان المسألة، واختلاف نصوص المجتهد والمتأخر منها والراجح وغير ذلك، لا سيما مذهب الشافعي رحمه الله الذي لا يكاد يعرف ما يفتى به منه إلا أفراد، لكثرة انتشاره واختلاف ناقليه في النقل والترجيح. كما نبه النووي رحمه الله في زيادات الروضة أوائل باب القضاء.
مثال عن تعارض قولين جديدين:
ما قاله الإمام الشيرازي في كتاب الرهن من «المهذب»: وإن مات أحد المتراهنين فقد قال في الرهن إذا مات المرتهن لم ينفسخ، وقال في التفليس: إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن.
فمن أصحابنا من جعل ما قال في التفليس قولاً آخر، أن الرهن ينفسخ بموت الراهن ونقل جوابه فيه إلى المرتهن وجوابه في المرتهن إليه، وجعلهما على قولين:
أحدهما: ينفسخ بموتهما، لأنه عقد لا يلزم بحال، فانفسخ بموت العاقد، كالوكالة، والشركة.
والثاني: لا ينفسخ ؛ لأنه عقد يؤول إلى اللزوم، فلم ينفسخ بالموت كالبيع في مدة الخيار.
ومنهم من قال يبطل بموت الراهن، ولا يبطل بموت المرتهن، لأن بموت الراهن يحل الدين ويتعلق بالتركة، فلا حاجة إلى بقاء الرهن، وبموت المرتهن لا يحل الدين فالحاجة باقية إلى بقاء الرهن.
ومنهم من قال: لا يبطل بموت واحد منهما قولاً واحداً، لأنه إذا لم يبطل بموت المرتهن على ما نص عليه والعقد غير لازم في حقه بحال، فلأن لا يبطل بموت الراهن والعقد لازم له بعد القبض أولى وما قال في التفليس لا حجة فيه، لأنه لم يرد أن الرهن ينفسخ، وإنما أراد أنه إذا مات الراهن لم يكن للمرتهن قبض الرهن من غير إذن الورثة.
فالقول الذي ذكره الإمام رحمه الله في الرهن هو ما رجحه الأصحاب، وأجابوا عن الذي في التفليس فبينوا مراد الإمام منه. ومن ضوابط الترجيح أن يتضمن الطريق المنقول عن الإمام قولين ويكون في مقابله طريق فيه الجزم بحكم واحد. و هنا اختلفت أنظار الأئمة؛ فالإمام الأسنوي -رحمه الله تعالى -يرى أرجحية طريقة القطع، وهاك نص كلامه كاملاً ليتبين مراده، و يتضح استعجال من حكم عليه بالخطأ.
قال -رحمه الله تعالى -في كتاب طراز المحافل في ألغاز المسائل:
مسألة: امرأة زوجها وليها بغير كفء برضاها دون رضاء باقي الأولياء الذين في درجته ومع ذلك يصح النكاح.
وصورته: فيما إذا رضي الجميع بتزويجها به ثم خالعها الزوج، ثم زوجها أحدهم به برضاها دون إذن الباقين ففيه طريقان:
أحدهما: القطع بصحته، لأنهم رضوا به أولاً.
الثاني: أنه على الخلاف، لأنه عقد جديد، كذا نقله الرافعي في أواخر الباب الرابع عن البغوي، ولم يذكر غير ما قلناه.
والغالب في المسألة ذات الطريقين أن يكون الصحيح من حيث الجملة ما يوافق طريقة القطع.
قال الإمام الشارح المحلي في شرح المنهاج عند قول النووي -رحمه الله تعالى -: (وحيث أقول المذهب فمن الطريقين أو الطرق وهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب كأن يحكي بعضهم في المسألة قولين أو وجهين لمن تقدم ويقطع بعضهم بأحدهما، ثم الراجح الذي عبر عنه بالمذهب إما طريق القطع أو الموافق لها كما سيظهر في المسائل، وما قيل من أن مراده الأول وأنه الأغلب ممنوع).
وقال محشيه الشيخ القليوبي -رحمه الله: وقوله: (وما قيل) أي: عن الأسنوي كما ذكره بعضهم والمراد بالأول طريقة القطع.
فالإمام الإسنوي -رحمه الله تعالى -كما يظهر من كلامه يستعمل كلمة الغالب، ثم يتحرز فيقول بعدها : من حيث الجملة فلا معنى لتخطئته في ضابط أغلبي ارتاه، والله تعالى أعلم.
مثال لطريقة القولين وطريقة القطع:
قال النووي رحمه الله تعالى في المنهاج: (الثالث - أي من فرائض الوضوء - غسل يديه مع مرفقيه، فإن قطع بعضه، وجب ما بقي، أو من مرافقه، فرأس عظم العضد على المشهور. قال شارحه الدميري رحمه الله: على المشهور لأنه محل الفرض.
والثاني: لاي يجب، لأن غسل المرفق ليس مقصوداً لنفسه، بل للاستيعاب، والمصنف اقتصر على طريقة القولين تبعاً «للمحرر» و«الشرح الصغير»، ورجح في «الروضة» طريقة القطع ، وليس في «الكبير» ترجيح لواحدة منهما.
قال في الروضة»: وإن قطع من مفصل المرفق، وجب غسل رأس العظم الباقي على المذهب، وقيل: فيه قولان.
هنا جرى النووي في المنهاج على طريقة القولين فذكر القول المشهور ومقابله، وفي «الروضة» أخذ بطريقة القطع وذكر القول الآخر بلفظ: قيل.
مثال آخر:
بيع العرايا هل يجوز للفقراء فقط أم للفقراء والأغنياء؟ يجوز في المسألة طريقان، والقول الأصح القطع بعموم الرخصة للفقراء والأغنياء، وهو قول جمهور الأصحاب، والظاهر من كلام الشافعي وقطع به، وفي الطريقة الثانية قولان والقول الثاني يجوز وهو ظاهر المذهب، والمنصوص في «الأم».
في هذه المسألة نرى الإمام النووي رحمه الله تعالى يرجح طريقة القطع، كما سبق من كلام الإمام الأسنوي.
وقد نبه الإمام الزركشي على مسألة؛ وهي: إذا قال الشافعي غي موضع بقول ثم قال : ولو قال قائل كذا وكذا كان مذهباً. لم يجز أن يجعل ذلك قولاً له على الأصح. عند الشيخ أبي إسحاق وابن السمعاني، لأنه إخبار عن احتمال في المسألة ووجه من وجوه الاجتهاد.
التعارض والترجيح بعد الإمام الشافعي
دار التدريس والفتوى عند الشافعية على كتب خمسة؛ هي : مختصر المزني»، و«المهذب للشيرازي والتنبيه للشيرازي، و«الوسيط» للغزالي، والوجيز» للغزالي.
وقال الإمام النووي إن هذه الخمسة مشهورة بين أصحابنا، يتداولونها أكثر تداول، وهي سائرة في كل الأمصار مشهورة للخواص والمبتدئين في كل الأقطار، مع عدم تصنيف مفيد يستوعبها.
ولابد من وقفة أمام هذه الكتب؛ فمختصر الإمام المزني حاو لنصوص الشافعي رحمه الله، أما كتب الإمام الشيرازي والإمام الغزالي فقد جمعت أصول مدرسة العراقيين والخراسانيين، فالغزالي رحمه الله في كتابيه لخص كتاب شيخه إمام الحرمين الجويني مع ما أضاف إلى وسيطه من حسن ترتيب وبيان استفاده من «الإبانة» للفوراني وما رمز في «وجيزه» للخلاف مع أبي حنيفة ومالك والمزني رحمهم الله والتنبيه على وجوه الأصحاب.
أما الإمام الشيرازي رحمه الله فقد لخص في «مهذبه» «تعليقة» شيخه أبي علي الطبري أحد أئمة العراقيين، كما أجمل في التنبيه» مذهب الشافعي رحمه الله وأجمل الخلاف بأخصر عبارة دون ترجيح.
فأكب أهل العلم على هذه الكتب ما بين مدرس وشارح وناظم ومختصر. فمنهم من يرجح فيتابعه طلابه في كتبهم وحلقات درسهم.
كما تجدر الإشارة إلى نشوء مدرستي العراقيين والخراسانيين، وقيام كل مدرسة بنصرة آراء أئمتها.
وتدرج الأمر على ما قلناه من تعدد المدارس الفقهية ضمن المذهب، وليس هذا بدعاً في الفقه الشافعي، فقد تعددت مدارس المالكية ضامة المدرسة العراقية والمصرية والمغربية والأندلسية، وكذلك الحال للحنفية فنجد فقهاء ما وراء النهر وفقهاء العراق.
وهذا أمر طبيعي، فالفقه في هذا الدور شأنه شأن جوانب الحياة المختلفة في بلاد الإسلام كان مواراً بالحركة والتجدد والمسلمون في تفاعل مستمر مع محيطهم والوقائع تتجدد، فلما خفت هذه الحركة في القرن السادس الهجري، بدأت مرحلة الاستقرار والترجيح ضمن المذاهب المختلفة.
حتى أتى الإمام أبو القاسم الرافعي رحمه الله تعالى، ذو الصلاح الظاهر والعبادة والزهد والعلم الجم بالمذهب والأدب مع المخالف والتحري في النقل وشدة الاحتراز في الترجيح، فلا يطلق نقلاً عن أحد غالباً إلا إذا رآه في كلامه، فإن لم يقف عليه فيه عبر بقوله: وعن فلان كذا.
فسارت كتبه وتناقلها أهل العلم سيما شرحه الكبير» على «الوجيز» للغزالي المسمى «العزيز بشرح الوجيز». قال ابن قاضي شهبة في «طبقاته»: لم يشرح الوجيز» بمثله.
فيصفه الإمام السبكي في طبقاته فيقول: كتابنا. والإمام النووي رحمه الله قال في مقدمة روضة الطالبين وهي مختصر الشرح الكبير.
واعلم أنه لم يصنف في مذهب الشافعي الله له ما يحصل لك مجموع ما ذكرته أكمل من كتاب الرافعي ذي التحقيقات، بل اعتقادي واعتقاد كل مصنف أنه لم يوجد مثله في الكتب السابقات ولا المتأخرات فيما ذكرته من المقاصد «المهمات».
ولما وصل الكتاب إلى مصر سارع العلماء لاقتنائه، حتى إن الإمام ابن دقيق العيد اشتراه بألفي درهم وأكب على قراءته، بل ترك لأجله صلوات النوافل.
واستمداد شرحه بعد كتب الغزالي من ستة كتب: «النهاية» لإمام الحرمين، و«التتمة» للمتولي، و «التهذيب» للبغوي، و «الشامل» لابن الصباغ، و «أمالي» السرخسي، و«تجريد» ابن گج.
.ومن كتبه الأخرى الشرح الصغير على الوجيز، ولم يقف عليه النووي؛ فكثير مما صححه أو استدركه على الرافعي موجود فيه، و «شرح مسند الإمام الشافعي» برواية الأصم ؛ قال فيه الإمام الذهبي رحمه الله: ويظهر عليه اعتناء قوي في الحديث وفنونه في شرح، ثم بدا للرافعي رحمه الله تعالى أن يضع مختصراً في الفقه يقتصر فيه على الراجح ليكون عمدة للدارسين، فصنف رحمه الله كتابه : «المحرر». فعكف عليه الدارسون والشراح. وقد ذكر بعض أهل العلم أنه مختصر «الوجيز»، لكن الظاهر من لغته أنه تأليف برأسه.
وبعد الرافعي ظهر الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي شيخ المذهب وعمدته ومنقحه فأكب على العلم والتحصيل والتنقيح بما لا مزيد عليه، مع ملازمة العبادة والزهد والانجماع عن أهل الدنيا ووعظ أولي الأمر والنصيحة للمسلمين.
وأكب على التصنيف؛ فحصل له من المصنفات ما لم يحصل لمن سبق.
والسبب في ذلك ما أوضحه الإمام الأسنوي في مقدمة «مهماته»: وذلك أنه لما تأهل للنظر والتحصيل رأى المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلاً وتحصيله تصنيفاً.. ولولا ذلك لم يتيسر له من التصانيف ما تيسر فمن مصنفاته : «روضة الطالبين» وهو مختصر الشرح الكبير أجاد فيه، و«المنثورات» وهي فتاويه في أمور شتى رتبها تلميذه علاء الدين العطار، و «رؤوس المسائل» وهو فوائد وضوابط وأحكام مستغربة.
و«منهاج الطالبين» و«عمدة المفتين» وهو مختصر «المحرر» للرافعي مع زيادات وضوابط وتصحيح وهو الكتاب الذي صار عمدة التدريس والفتوى إلى يومنا هذا، والفتوى تكون بترجيحه أو بما رجحه شارحوه من أهل الترجيح كالإمام ابن حجر رحمه الله والإمام الرملي رحمه الله تعالى.
و«الإيضاح في المناسك» وقد صنف رحمه الله ستة مناسك هذا أشهرها، و«تصحيح التنبيه» و«تحرير التنبيه» وهو في لغات التنبيه ولا يخلو من فوائد وأحكام، و التبيان في آداب حملة «القرآن» ونكت المنهاج سماها «دقائق المنهاج» وهي تعليقات وتوضيحات على «منهاج الطالبين»، و«شرح مسلم»، وغيرها كثير.
أما كتبه التي لم تكمل فكثيرة ؛ فأجلها وأعظمها «المجموع في شرح المهذب»، بل لو كمل لكان من أعظم كتب الإسلام وصل فيه إلى أثناء كتاب البيع، و«التحقيق» وهو مختصر جليل وصل فيه إلى صلاة المسافر؛ ذكر فيه غالب ما في شرح المهذب على سبيل الاختصار.
ومنها «نكت على الوسيط»، وشرح على التنبيه وصل فيه إلى الصلاة سماه تحفة الطالب النبيه»، وشرح على الوسيط سماه التنقيح وصل فيه إلى كتاب شروط الصلاة، ومنها «الأصول والضوابط» وهو مشتمل على كثير من قواعد الفقه وضوابطه يذكر العقود اللازمة ،والجائزة وما هو تقريب وتحديد ونحو ذلك؛ والذي كتبه منه أوراق قلائل.
ومنها كتاب على «الروضة» كالدقائق على المنهاج سماه: «الإرشادات إلى ما وقع الروضة من المعاني والأسماء واللغات» وهو كثير الفوائد وصل فيه إلى أثناء الصلاة، و«تهذيب الأسماء واللغات» وهو شرح للغات والأعلام التي وردت في مختصر المزني ووسيط» و«وجيز» الغزالي، و«مهذب» و «تنبيه» الشيرازي، و«روضة الطالبين» من تصنيفه.
والفتوى تكون بقول الشيخين الرافعي والنووي فإن تعارضا فالفتوى بقول النووي، فإن تعارض ترجيح النووي -رحمه الله تعالى -فالمقدم كما نص عليه ابن تجر الهيتمي رحمه الله: «التحقيق»، «فالمجموع»، «فالتنقيح»، «فالروضة» والمنهاج» ونحو «فتاواه» «فشرح مسلم» «فتصحيح التنبيه».
ثم قال ابن حجر: وهذا تقريب؛ وإلا فالواجب في الحقيقة عند تعارض هذه الكتب مراجعة كلام معتمدي المتأخرين واتباع ما رجحوه منها، وقال في «حاشية الإيضاح»: ما اتفق عليه أكثر كتب النووي مقدم على ما اتفق عليه الأقل منها غالباً، وما كان في بابه مقدم على ما في غيره . ره غالباً. مع التنبيه أن علماء المذهب لم يعتبروا اختيارات النووي التي صرح فيها بالخروج على المذهب، وعدوها مذهباً له.
ولعل هذا ما حدا بالإمام الأسنوي أن يقول في مقدمة «المهمات»: وأما ما اختلف فيه الإمامان فالترجيح بينهما سهل، وذلك لأن النووي إن خالف معتمداً على الأحاديث ونحوها كانتقاض الوضوء بأكل لحم الإبل وصوم الولي عن الميت ونحوها ، فالعمل بتصحيح الرافعي قطعاً لأنه مذهب الشافعي. ثم عاد فقال : وإن اعتمد النووي على غير ذلك تعين الأخذ بما قاله؛ لأن المعترض بالمنقول لا سيما من عنده ورع لا يقدم على الاعتراض إلا بكتب وزيادة اطلاع، خصوصاً أن الرافعي لم يلتزم في الشرحين (طريقة المعظم) فيظهر مما ذكره رحمه الله أن قول النووي هو المقدم بشرط ألا بخروجه عن المذهب، فيكون اختياره مذهباً له؛ لا مذهباً للشافعي.
مثال في ترجيح قول الإمام النووي على قول الإمام الرافعي رحمهما الله تعالى. قال الإمام الحصني رحمه الله تعالى: إذا مسح إحدى رجليه في الحضر، ثم سافر ومسح الأخرى في السفر، هل يمسح مسح مقيم أو مسافر؟ والذي جزم به الرافعي أنه يمسح مسح مسافر ، قال : لأن الاعتبار بتمام المسح، وقد وقع في السفر، وقال النووي : الصحيح المختار : أنه يمسح مسح مقيم، لتلبسه بالعبادة في الحضر.
وقال الإمام شمس الدين محمد المناوي السلمي رحمه الله تعالى: وقد أولع الناس بترجيح ما رجحه الإمام الجليل أبو القاسم الرافعي رحمه الله وجزاه الخير، معتمدين على أنه رجح ما عليه الأكثر، وهو لم يلتزم ذلك في الشرح، ثم إننا نجد من تقدمه من نقلة المذهب وأئمة الأصحاب ينقلون في مسائل كثيرة أن المعظم على شيء ورجح الرافعي خلافه، منه صاحب «البحر والماوردي ومن تقدمهما؛ فإذا كان كذلك، كان ما نقله أولئك المرجح فإنهم أعلم بما قالوه، ثم رأينا النووي رحمه الله قد خالفه في مواضع وابن الرفعة قد خالفهما في مواضع ورجح هو خلاف ما رجحاه.
وينبغي الانتباه أن الراجح هو ما اتفق عليه الرافعي والنووي -رحمهما الله تعالى، ثم لم يخل ذلك عن تعقب من بعدهما، فيكون قولهما موافقاً للراجح من المذهب غالباً، ثم ما استدرك عليهما فحول المتأخرين وشراح المنهاج، والله أعلم.
وفي فتاوى ابن رحمه الله تعالى : كيف خالف الشيخان نص الإمام؟
الجواب: أما عن الأول: فذاك إنما هو في حق العوام كما صرحوا به، أما المتبحر في المذهب كأصحاب الوجوه فله رتبة الاجتهاد المقيد، ومن شأن هذا أنه إذا رأى نصاً خرج عن قاعدة الإمام الشافعي رده إليها إن أمكن، وإلا عمل بمقتضاها دونه، ولا يقال: لعلهم لم يروه، فإن ذلك ترج لا يفيد، على أنه شهادة نفي، بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها وصرفوها عن ظاهرها بالدليل، ولا يخرجون بذلك عن متابعة الشافعي؛ بل ما فعلوه هو على متابعته، فإنه له نهى مقلديه أي المجتهدين عن محض اتباعه من غير نظر في الدليل، وكما أن الشافعي لم يخرج عن متابعته بتأويل الأحاديث أو ردها لأحاديث أخر، فكذلك الأصحاب مع الشافعي له، مع أنه في حقهم كنص الشارع في حق المجتهد؟ ولم عول أهل العصر ومن قبلهم على كلام الشيخين ثم النووي؟
وأما الثاني: فالشيخان لما اجتهدا في تحرير المذهب غاية الاجتهاد مع حسن النية وإخلاص الطوية، الموجب لاعتقاد أنهما لم يخالفا نصاً، إلا لموجب من نحو ضعفه أو تفريعه على ضعيف كان عنايات العلماء العاملين ومن سبقنا وسبق مشايخنا من الأئمة المحققين متوجهة إلى تلقي ما صححاه فالنووي بالقبول، ثمة كان بعض مشايخنا لا يجيز أحداً بالإفتاء إلا شرط عليه ألا يخرج عما صححاه فالنووي، ويقول: إن مشايخه شرطوا عليه ذلك، وكذا مشايخهم، وهلم جراً، والله أعلم.
أما إذا لـم يـوجـد ترجيح في كلام الشيخين، وخصوصاً في «منهاج» النووي؛ فقد اتفق المتأخرون أنه يقدم عند التعارض ما اتفق عليه شيخا المتأخرين: الإمام شهاب الدين أحمد ابن حجر الهيتمي المصري ثم المكي في كتابه «تحفة المحتاج بشرح المنهاج»، والإمام جمال الدين الرملي في كتابه «نهاية المحتاج بشرح المنهاج».
فإن اختلفا فجمهور علماء الحجاز واليمن والشام والأكراد يقدمون لما عرف من علمه «التحفة» لابن حجر ودينه وتحريه.
أما علماء مصر فيقدمون (النهاية) لأنها قرئت على مؤلفها في أربعمائة من الفقهاء بمصر فنقدوها وصححوها. وإن كان بعض أئمة المصريين يقدمون «التحفة» كالشيخ القليوبي.
وأهل الحرمين كانوا يقدمون «التحفة» كما قلنا فلما ورد عليهم المشايخ المصريون وصاروا يقررون معتمد الجمال الرملي فشا ذلك فيهم، وصاروا يقررون القولين دون ترجيح بينهما.
وقد أفتى الشيخ سعيد سنبل المكي رحمه الله بأن المفتي يتخير بينهما، إذا لم يكن أهلاً للترجيح وإن كان أهلاً للترجيح فيفتي بالراجح منهما. وفي فتوى أخرى نقل الاتفاق على ذلك وعبارته: اعلم أن أئمة المذهب قد اتفقوا على أن المعول عليه والمأخوذ به كلام ابن حجر والرملي في و«النهاية» إذا اتفقا فإن اختلفا فيجوز للمفتي الأخذ بأحدهما على سبيل التخيير، إلا إذا كان فيه أهلية الترجيح وظهر له ترجيح أحدهما بطريق من الطرق، كأن كان عليه أكثر الأصحاب، أو الأحاديث الصحيحة تدل عليه، أو نحو ذلك من المرجحات فلا يفتى إلا به، وإن لم يظهر له شيء يتخير.
وترتيب كتب الشيخ ابن حجر إذا اختلفت؛ «التحفة» أولاً ثم «فتح الجواد» ثم «الإمداد» ثم «شرح الحضرمية» ثم «الفتاوى» و«شرح العباب»، و«التحفة». قال في «الفوائد المكية»:
وشاع ترجیح مقال ابن حجر .. . في يمن وفي الحجاز فاشتهر
وفي اختلاف كتبه في الرُّجح الأخذ بالتحفة» ثم «الفتح» فاصله لا شـرحـه الـعـبابا إذ رام فيه الجمع و الإيعابا» ويقصد بالفتح : «فتح الجواد»، وبأصله «الإمداد». فإن لم يوجد لهم ترجيح أو إفتاء فيفتى بقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري؛ وقال الشيخ سعيد سنبل أن كلامه في منهجه لا يعدو كلامهما.
ثم الخطيب الشربيني وله من الكتب: مغني المحتاج بشرح المنهاج، والإقناع بحل ألفاظ أبي شجاع ؛ وهما في غاية النفاسة. وهو غالباً يمشي مع ترجيح شيخه الرملي أو كلام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري وله شرح كبير على «التنبيه» لم يطبع.
ثم حاشية الزيادي ثم ابن قاسم العبادي، ثم بكلام الشيخ عميرة، ثم بحاشية الحلبي على شرح المنهج»، ثم بحاشية الشوبري على فتح الوهاب بشرح تنقيح اللباب، وحاشيته على شرح المنهج»، ثم بكلام العناني في حاشية عمدة الرابح في معرفة الطريق الواضح للشمس الرملي مالم يخالفوا المذهب فإن كان الناظر في أقوالهم أهلاً أخذ بالراجح، وإلا فيختار فيها فكلها معتمدة عند التحقيق.
قال العلامة أحمد شميلة الأهدل: والذي يتعين اعتماده أن هؤلاء الأئمة المذكورين من أرباب الشروح والحواشي كلهم إمام في المذهب يستمد بعضهم من بعض، فيجوز العمل والإفتاء والقضاء بقول كل منهم وإن خالف من سواه ما لم يكن سهواً أو غلطاً أو ضعيفاً ظاهر الضعف.
وقد نظمها بعضهم فقال:
وحيث كان الشيخ زكريا … خالف ذا أو خالف الرمليا
أو الخطيب قدم الشيخ أبو … يحيى لفضل فيه يوجب
محمد الرملي يكافي ابن حجر .. . فاختر إذا تـخـالـفـا بـلا حـذر
وإن يك الشيخ أو الخطيب .. . مع واحد فكلهم مصيب
ولا ترجح بابن قاسم أحد .. .كما سبره أكابر عمد
وعقب الشيخ البكري صاحب «إعانة الطالبين» فقال :
وشــرحــه مــســائل التعليم .. . أولى من الإيـعـاب بـالـتـقـديـم
ومثل الإيعاب الفتاوى ذكرت.. . كما بخط العلماء نقلت
مسألة:
إذا اختلف كلام الإمام في تصنيفه وفتاويه فقد مال أغلب العلماء إلى تقديم ما في التصنيف على ما في الفتاوي باعتبار أنه وقت التصنيف مستجمع لأطراف المسألة وأشتاتها فيكون كلامه فيها دقيقاً. لكن نقل الشيخ عمر ابن القره داغي رحمه الله عن شرح «خطبة العباب» لابن حجر أن الغالب تقديم ما في فتاوى الشخص على ما في سائر تصانيفه ؛ لأنه بين فيه الراجح عنده وفي الفتاوي بين الراجح في المذاهب، أي وإن احتمل أن يكون هذا من غير الغالب، لكن في شرح الروض» في باب التيمم: أنه إذا تعارض كلام شخص في إفتاء وتصنيف كان الأخذ بما في التصنيف أولى.
فالحاصل في المسألة أن المؤلف في التصنيف يذكر الراجح من مذهبه؛ أما عند الاستفتاء فيفتي بما ترجح عنده أنه الصواب. هذا إذا لم يكن متقدم ومتأخر ؛ وإلا فالمتأخر هو المعتبر كما أفهمه كلامهم.
آدَابُ الفَتْوَى والمفتي والمستفتي
اعْلَم أَن هَذَا البابَ مهمٌّ جدًّا؛ فأحببتُ تَقْدِيمه لعمومِ الْحَاجة إِلَيْهِ، وَقد صنَّف فِي هَذَا جمَاعَة من أَصْحَابنَا مِنْهُم: أَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ -شيخ صَاحب الْحَاوِي- ثمَّ الْخَطِيب أَبُو بكر الْحَافِظ الْبَغْدَادِيّ، ثمَّ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح، وكل مِنْهُم ذكرَ نفائس لم يذكرهَا الْآخرَانِ، وَقد طالعت كتب الثَّلَاثَة، ولخصت مِنْهَا جملَة مختصرة مستوعبة لكل مَا ذَكرُوهُ من المهم وضممت إِلَيْهَا نفائس من متفرقات كَلَام الْأَصْحَاب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق .
مُقَدّمَة فِي أهمية الْإِفْتَاء وَعظم خطره وفضله
اعْلَم أَن الْإِفْتَاء عَظِيم الْخطر، كَبِير الْموقع كثير الْفضل؛ لِأَن الْمُفْتِي وَارِث الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم وقائم بِفَرْض الْكِفَايَة، لكنه معرض للخطأ، وَلِهَذَا قَالُوا الْمُفْتِي موقع عَن الله تَعَالَى.
وروينا عَن ابْن المُنكدر، قَالَ: الْعَالم بَين الله تَعَالَى وخلقه، فَلْينْظر كَيفَ يدْخل بَينهم.
وروينا عَن السّلف وفضلاء الْخلف من التَّوَقُّف عَن الْفتيا أَشْيَاء كَثِيرَة مَعْرُوفَة، نذْكر مِنْهَا أحرفاً تبركاً.
روينا عَن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى، قَالَ: أدركتُ عشْرين ومئة من الْأَنْصَار من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُسأل أحدهم عَن الْمَسْأَلَة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا، وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى ترجع إِلَى الأول.
وَفِي رِوَايَة: مَا مِنْهُم من يحدث بِحَدِيث إِلَّا ود أَن أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاه، وَلَا يستفتى عَن شَيْء إِلَّا ود أَن أَخَاهُ كَفاهُ الْفتيا.
وَعَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس -رَضِي الله عَنْهُم: مَنْ أفتى فِي كلِّ مَا يسْأَل فَهُوَ مَجْنُون.
وَعَن الشّعبِيّ، وَالْحسن، وَأبي حَصِين -بِفَتْح الْحَاء -التابعيين، قَالُوا، إِن أحدَكَم ليفتي فِي الْمَسْأَلَة وَلَو وَرَدَتْ على عُمَر بن الْخطاب -رَضِي الله عَنهُ -لجمع لَهَا أهل بدر.
وَعَن عَطاء بن السَّائِب -التَّابِعِيّ: أدركتُ أَقْوَامًا يسْأَل أحدهم عَن الشَّيْء فيتكلم وَهُوَ يرعد.
وَعَن ابْن عَبَّاس، وَمُحَمّد بن عجلَان: إِذا أغفل الْعَالم لَا أَدْرِي أُصِيبت مقاتله.
وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَسَحْنُون: أجسر النَّاس على الْفتيا أقلهم علماً.
وَعَن الشَّافِعِي -وَقد سُئِلَ عَن مسألةٍ فَلم يجب -فَقيل لَهُ؛ فَقَالَ: حَتَّى أَدْرِي أَن الْفضل فِي السُّكُوت أَو فِي الْجَواب.
وَعَن الْأَثْرَم: سمعتُ أَحْمد بن حَنْبَل يكثر أَن يَقُول: لَا أَدْرِي، وَذَلِكَ فِيمَا عرف الْأَقَاوِيل فِيهِ.
وَعَن الْهَيْثَم بن جميل: شَهِدْتُ مَالِكًا سُئِلَ عَن ثَمَان وَأَرْبَعين مَسْأَلَة؛ فَقَالَ فِي ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي.
وَعَن مَالك أَيْضا، أَنه: رُبمَا كَانَ يسْأَل عَن خمسين مَسْأَلَة فَلَا يُجيب فِي وَاحِدَة مِنْهَا، وَكَانَ يَقُول: من أجَاب فِي مَسْأَلَة فَيَنْبَغِي قبل الْجَواب أَن يعرض نَفسه على الْجنَّة وَالنَّار، وَكَيف خلاصه ثمَّ يُجيب.
وسُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَقَالَ لَا أَدْرِي، فَقيل: هِيَ مَسْأَلَة خَفِيفَة سهلة فَغَضب، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْعلم شَيْء خَفِيف.
وَقَالَ الشَّافِعِي: مَا رأيتُ أحداً جمع الله تَعَالَى فِيهِ من آلَة الْفتيا مَا جمع فِي ابْن عُيَيْنَة أسكت مِنْهُ على الْفتيا.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَوْلَا الفَرَقُ من الله تَعَالَى أَن يضيع الْعلم مَا أفتيتُ، يكون لَهُم المهنأ وَعلي الْوزر. وأقوالهم فِي هَذَا كَثِيرَة مَعْرُوفَة.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ والخطيب: وَقلَّ من حرص على الْفتيا وسابق إِلَيْهَا وثابر عَلَيْهَا إِلَّا قلَّ توفيقُه واضطرب فِي أمره، وَإِن كَانَ كَارِهًا لذَلِك غير موثر لَهُ مَا وجد عَنهُ مندوحة وأحال الْأَمر فِيهِ على غَيره كَانَت المعونة لَهُ من الله أَكثر، وَالصَّلَاح فِي جَوَابه أغلب.
واستَدَلاَّ بقوله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (لَا تسْأَل الْإِمَارَة فَإنَّك إِن أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة أَوكلت إِلَيْهَا وَإِن أعطتها عَن غير مَسْأَلَة أُعِنتَ عَلَيْهَا).
فصل فِي معرفَة من يصلح للْفَتْوَى
قَالَ الْخَطِيب: يَنْبَغِي للْإِمَام أَن يتصفح أَحْوَال الْمُفْتِينَ، فمَنْ صَلحَ للفتيا أقرَّه، وَمن لَا يصلح مَنعه وَنَهَاهُ أَن يعود، وتواعده بالعقوبة إِن عَاد. وَطَرِيق الإِمَام إِلَى معرفَة من يصلح الْفتيا أَن يسْأَل عُلَمَاء وقته، ويعتمد أَخْبَار الموثوق بهم.
ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ عَن مَالك -رَحمَه الله -قَالَ: مَا أفتيتُ حَتَّى شهد لي سَبْعُونَ أَنِّي أهل لذَلِك وَفِي رِوَايَة: مَا أَفْتيت حَتَّى سألتُ من هُوَ أعلم مني، هَل يراني موضعا لذَلِك.
قَالَ مَالك: وَلَا يَنْبَغِي لرجل أَن يرى نَفسه أَهلا لشَيْء حَتَّى يسْأَل من هُوَ أعلم مِنْهُ.
فصل فِي وجوب ورع الْمُفْتِي وديانته
قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَن يكون الْمُفْتِي ظَاهر الْوَرع، مَشْهُورا بالديانة الظَّاهِرَة والصيانة الباهرة.
وَكَانَ مَالك -رَحمَه الله -يعْمل بِمَا لَا يلْزمه النَّاس؛ وَيَقُول: لَا يكون عَالما حَتَّى يعْمل فِي خاصَّةِ نَفسه بِمَا لَا يلْزمه النَّاس، مِمَّا لَو تَركه لم يَأْثَم، وَكَانَ يَحْكِي نَحوه عَن شَيْخه ربيعَة.
فصل فِي شُرُوط الْمُفْتِي
شَرط الْمُفْتِي كَونه: مُكَلّفا، مُسلما، ثِقَة، مَأْمُونا، متنزِّهاً عَن أَسبَاب الْفسق وخوارم الْمُرُوءَة، فقيهَ النَّفس، سليمَ الذِّهْن، رصينَ الفِكر، صَحِيح التَّصَرُّف والاستنباط، متيقظاً، سواءٌ فِيهِ الحرُّ وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَالْأَعْمَى والأخرس إِذا كتبَ أَو فهمت إِشَارَته.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح: وَيَنْبَغِي أَن يكون كالراوي فِي أَنه لَا يُؤثر فِيهِ قرَابَة وعداوة، وجرّ نفع وَدفع ضرّ؛ لِأَن الْمُفْتِي فِي حكم مخبرٌ عَن الشَّرْع بِمَا لَا اخْتِصَاص لَهُ بشخص، فَكَانَ كالراوي لَا كالشاهد، وفتواه لَا يرتبط بهَا إِلْزَام بِخِلَاف حكم القَاضِي.
قَالَ: وَذكر صَاحب الْحَاوِي أَن الْمُفْتِي إِذا نابذ فِي فتواه شخصاً معيناً، صَار خصماً حكماً معانداً؛ فتُردُّ فتواه على من عَادَاهُ كَمَا ترد شَهَادَته عَلَيْهِ. وَاتَّفَقُوا على أَن الْفَاسِق لَا تصح فتواه وَنقل الْخَطِيب فِيهِ إِجْمَاع الْمُسلمين.
وَيجب عَلَيْهِ إِذا وَقعت لَهُ وَاقعَة أَن يعْمل بِاجْتِهَاد نَفسه.
وَأما المستور وَهُوَ الَّذِي ظَاهره الْعَدَالَة وَلم تختبر عَدَالَته بَاطِنا فَفِيهِ وَجْهَان: أصَحهمَا جَوَاز فتواه؛ لأنَّ الْعَدَالَة الْبَاطِنَة يعسر مَعْرفَتهَا على غير الْقُضَاة، وَالثَّانِي لَا يجوز كَالشَّهَادَةِ، وَالْخلاف كالخلاف فِي صِحَة النِّكَاح بِحُضُور المستورين.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَتَصِح فَتَاوَى أهل الْأَهْوَاء والخوارج وَمن لَا نكفره ببدعته وَلَا نفسقه.
وَنقل الْخَطِيب هَذَا، ثمَّ قَالَ: وَأما الشراة والرافضة الَّذين يسبون السّلف الصَّالح ففتاويهم مَرْدُودَة وأقوالهم سَاقِطَة.
وَالْقَاضِي الْمَاوَرْدِيّ كَغَيْرِهِ فِي جَوَاز الْفتيا -بِلَا كَرَاهَة -هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور من مَذْهَبنَا -قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح: وَرَأَيْت فِي بعض تعاليق الشَّيْخ أبي حَامِد الأسفراييني أنَّ لَهُ الْفَتْوَى فِي الْعِبَادَات وَمَا لَا يتَعَلَّق بِالْقضَاءِ وَفِي الْقَضَاء وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا: أَحدهمَا الْجَوَاز لِأَنَّهُ أهل، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُ مَوضِع تُهْمَة.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: تكره للقضاة الْفَتْوَى فِي مسَائِل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة.
وَقَالَ شُرَيْح: أَنا أَقْْضِي وَلَا أُفْتِي.
فصل فِي أَقسَام الْمُفْتِينَ
قَالَ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح: الْمفْتُون قِسْمَانِ: مُسْتَقل وَغَيره. فالمستقل شرطُه مَعَ مَا ذكرنَا أَن يكون قيمًا بِمَعْرِِفَة أَدِلَّة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس وَمَا الْتحق بهَا على التَّفْصِيل، وَقد فُصِّلَت فِي كتب الْفِقْه فتيسرت -وَللَّه الْحَمد- وَأَن يكون عَالما بِمَا يشْتَرط فِي الْأَدِلَّة ووجوه دلالتها وبكيفية اقتباس الْأَحْكَام مِنْهَا.
وَهَذَا يُسْتَفَاد من أصُول الْفِقْه -عَارِفًا من عُلُوم الْقُرْآن والْحَدِيث والناسخ والمنسوخ والنحو واللغة والتصريف وَاخْتِلَاف الْعلمَاء واتفاقهم بِالْقدرِ الَّذِي يتَمَكَّن مَعَه من الْوَفَاء بِشُرُوط الْأَدِلَّة، والاقتباس مِنْهَا، ذَا دربة وارتياض فِي اسْتِعْمَال ذَلِك، عَالما بالفقه ضابطاً لأمهات مسَائِله وتفاريعه.
فَمن جمع هَذِه الْأَوْصَاف فَهُوَ الْمُفْتِي الْمُطلق المستقل الَّذِي يتَأَذَّى بِهِ فرض الْكِفَايَة -وَهُوَ الْمُجْتَهد الْمُطلق المستقل- لِأَنَّهُ يسْتَقلّ بالأدلة بِغَيْر تَقْلِيد وتقيد بِمذهب أحد.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَمَا شرطناه من حفظه لمسائل الْفِقْه، لم يشْتَرط فِي كثير من الْكتب الْمَشْهُورَة؛ لكَونه لَيْسَ شرطاً لمنصب الِاجْتِهَاد؛ لِأَن الْفِقْه ثَمَرَته فَيتَأَخَّر عَنهُ، وَشرط الشَّيْء لَا يتَأَخَّر عَنهُ وشَرَطَه الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الإِسْفِرَايِينِيّ وَصَاحبه أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَغَيرهمَا.
واشتراطه فِي الْمُفْتِي الَّذِي يتَأَدَّى بِهِ فرض الْكِفَايَة -هُوَ الصَّحِيح -وَإِن لم يكن كَذَلِك فِي الْمُجْتَهد المستقل. ثمَّ لَا يشْتَرط أَن تكون جَمِيع الْأَحْكَام على ذهنه، بل يَكْفِيهِ كَونه حَافِظًا الْمُعظم مُتَمَكنًا من إِدْرَاك الْبَاقِي على قرب.
وَهل يشْتَرط أَن يعرف من الْحساب مَا يصحح بِهِ الْمسَائِل الحسابية الْفِقْهِيَّة.
حكى أَبُو إِسْحَاق وَأَبُو مَنْصُور فِيهِ خلافًا لِأَصْحَابِنَا وَالأَصَح اشْتِرَاطه.
ثمَّ إِنَّمَا يشْتَرط اجْتِمَاع الْعُلُوم الْمَذْكُورَة فِي مُفتٍ مُطلق فِي جَمِيع أَبْوَاب الشَّرْع.
فَأَما مُفتٍ فِي بَاب خَاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفَة ذَلِك الْبَاب -كَذَا قَطَعَ بِهِ الْغَزالِيّ وَصَاحبه ابْن بَرهان -بِفَتْح الْبَاء وَغَيرهمَا -وَمِنْهُم من مَنعه مُطلقًا، وَأَجَازَهُ ابْن الصّباغ فِي الْفَرَائِض خَاصَّة -والأصحُّ جَوَازه مُطلقًا.
الْقسم الثَّانِي: الْمُفْتِي الَّذِي لَيْسَ بمستقل، وَمن دهر طَوِيل عُدِم الْمُفْتِي المستقل، وصَارت الْفَتْوَى إِلَى المنتسبين إِلَى أَئِمَّة الْمذَاهب المتبوعة.
وللمفتي المنتسب أَرْبَعَة أَحْوَال:
أَحدهَا: أَن لَا يكون مُقَلدًا لإمامه لَا فِي الْمَذْهَب وَلَا فِي دَلِيله، لاتصافه بِصفة المستقل، وَإِنَّمَا ينْسب إِلَيْهِ لسلوكه طَرِيقه فِي الِاجْتِهَاد.
وَادّعى الْأُسْتَاذ أَبُو إِسْحَاق الأسفراييني هَذِه الصّفة لِأَصْحَابِنَا؛ فحَكَى عَن أَصْحَاب مَالك -رَحمَه الله -وَأحمد وَدَاوُد وَأكْثر الْحَنَفِيَّة أَنهم صَارُوا إِلَى مَذَاهِب أئمتهم تقليداً لَهُم.
ثمَّ قَالَ: وَالصَّحِيح الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ -مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا -وَهُوَ أَنهم صَارُوا إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي لَا تقليداً لَهُ، بل لما وجدوا طرقه فِي الِاجْتِهَاد والفتاوى أَسد الطّرق، وَلم يكن لَهُم بُد من الِاجْتِهَاد سلكوا طَرِيقه فطلبوا معرفَة الْأَحْكَام بطرِيق الشَّافِعِي.
وَذكر أَبُو عَليّ السنجي- بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة -نَحْو هَذَا، فَقَالَ: اتَّبعنَا الشَّافِعِي دون غَيره؛ لأَنا وجدنَا قَوْله أرجح الْأَقْوَال وأعدلها، لَا أَنا قلدناه.
قلتُ: هَذَا الَّذِي ذكرَاهُ مُوَافق لما أَمرهم بِهِ الشَّافِعِي، ثمَّ الْمُزنِيّ فِي أول مُخْتَصره وَغَيره، بقوله، مَعَ إعلامية نَهْيه عَن تَقْلِيده وتقليد غَيره.
قَالَ أَبُو عَمرو: دَعْوَى انْتِفَاء التَّقْلِيد عَنْهُم مُطلقًا لَا يَسْتَقِيم، وَلَا يلائم الْمَعْلُوم من حَالهم أَو حَال أَكْثَرهم، وحَكَى بعض أَصْحَاب الْأُصُول مِنَّا أَنه لم يُوجد بعد عصر الشَّافِعِي مجتهدٌ مُسْتَقل.
ثمَّ فَتْوَى الْمُفْتِي فِي هَذِه الْحَالة -كفتوى المستقل فِي الْعَمَل بهَا، والاعتداد بهَا فِي الْإِجْمَاع وَالْخلاف.
الْحَالة الثَّانِيَة: أَن يكون مُجْتَهدا مقيَّداً فِي مَذْهَب إِمَامه، مُسْتقِلّا بتقرير أُصُوله بِالدَّلِيلِ، غير أَنه لَا يتَجَاوَز فِي أدلته أصُول إِمَامه وقواعده.
وَشَرطه كَونه: عَالما بالفقه وأصوله وأدلة الْأَحْكَام تَفْصِيلًا، بَصيرًا بمسالك الأقيسة والمعاني، تَامّ الارتياض فِي التَّخْرِيج والاستنباط، قيمًا بإلحاق مَا لَيْسَ مَنْصُوصاً عَلَيْهِ لإمامه بأصوله وَلَا يعرى عَن شوب تَقْلِيد لَهُ؛ لإخلاله بِبَعْض أدوات المستقل، بِأَن يُخلَّ بِالْحَدِيثِ أَو الْعَرَبيَّة. وَكَثِيرًا مَا أخل بهما المقيَّد، ثمَّ يتَّخذ نُصُوص إِمَامه أصولاً يستنبط مِنْهَا كَفعل المستقل بنصوص الشَّرْع وَرُبمَا اكْتفى فِي الحكم بِدَلِيل إِمَامه وَلَا يبْحَث عَن معَارض كَفعل المستقل فِي النُّصُوص.
وَهَذِه صفة أَصْحَابنَا -أَصْحَاب الْوُجُوه -وَعَلَيْهَا كَانَ أَئِمَّة أَصْحَابنَا أَو أَكْثَرهم وَالْعَامِل بفتوى هَذَا مقلد لإمامه لَا لَهُ.
ثمَّ ظَاهر كَلَام الْأَصْحَاب أنَّ من هَذَا حَاله -لَا يتأدَّى بِهِ فرض الْكِفَايَة.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَيظْهر تأدي الْفَرْض بِهِ فِي الْفَتْوَى -وَإِن لم يتأدَّ فِي إحْيَاء الْعُلُوم الَّتِي مِنْهَا استمداد الْفَتْوَى؛ لأنَّه قَامَ مقَام إِمَامه المستقل تَفْرِيعا على الصَّحِيح وَهُوَ جَوَاز تَقْلِيد الْمَيِّت.
ثمَّ قد يسْتَقلّ الْمُقَيد فِي مَسْأَلَة أَو بَاب خَاص كَمَا تقدم.
وَله أَن يُفْتِي فِيمَا لَا نصَّ فِيهِ لإمامه بِمَا يُخرجهُ على أُصُوله هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل وَإِلَيْهِ مفزع الْمُفْتِينَ من مُدَدٍ طَوِيلَة ثمَّ إِذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لَا لَهُ هَكَذَا قطع بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابه الغياثي وَمَا أَكثر فَوَائده.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو: وَيَنْبَغِي أَن يخرج هَذَا على خلاف حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيره: أَن مَا يُخرجهُ أَصْحَابنَا هَل تجوز نسبته إِلَى الشَّافِعِي، وَالأَصَح أَنه لَا ينْسب إِلَيْهِ.
ثمَّ تَارَة يخرِّج من نَص معِين لإمامه، وَتارَة لَا يجده فيخرّج على أُصُوله، بِأَن يجد دَلِيلا على شَرط مَا يحْتَج بِهِ إِمَامه فيفتي بِمُوجبِه.
فَإِن نصَّ إِمَامه على شَيْء وَنَصّ فِي مَسْأَلَة تشبهها على خِلَافه فَخرج من أَحدهمَا إِلَى الآخر سمي قولا مخرجاً.
وَشرط هَذَا التَّخْرِيج: أَن لَا يجد بَين نصيه فرقاً، فَإِن وجده وَجب تقريرهما على ظاهرهما، ويختلفون كثيراً فِي القَوْل بالتخريج فِي مثل ذَلِك -لاختلافهم فِي إِمْكَان الْفرق.
قلتُ: وَأكْثر ذَلِك يُمكن فِيهِ الفرقُ، وَقد ذَكرُوهُ.
الْحَالة الثَّالِثَة: أَن لَا يبلغ رُتْبَة أَصْحَاب الْوُجُوه؛ لكنه فَقِيه النَّفس، حَافظ مَذْهَب إِمَامه، عَارِف بأدلته، قَائِم بتقريرها، يصوّر ويحرّر ويقرّر ويمهد ويزيف ويرجح، لكنَّه قصر عَن أُولَئِكَ لقصوره عَنْهُم فِي حفظ الْمَذْهَب، أَو الارتياض فِي الاستنباط، أَو معرفَة الْأُصُول وَنَحْوهَا من أدواتهم وَهَذِه صفةُ كثيرٍ من الْمُتَأَخِّرين -إِلَى أَوَاخِر المئة الرَّابِعَة -المصنفين الَّذين رتبوا الْمَذْهَب وحرروه وصنَّفوا فِيهِ تصانيف، فِيهَا مُعظم اشْتِغَال النَّاس الْيَوْم، وَلم يلْحقُوا الَّذين قبلهم فِي التَّخْرِيج.
وَأما فتاويهم؛ فَكَانُوا يتبسطون فِيهَا تبسط أُولَئِكَ أَو قَرِيبا مِنْهُ ويقيسون غير الْمَنْقُول عَلَيْهِ غير مقتصرين على الْقيَاس الْجَلِيّ، وَمِنْهُم من جُمِعَت فَتَاوِيهِ وَلَا تبلغ فِي التحاقها بِالْمذهبِ مبلغَ فَتَاوَى أَصْحَاب الْوُجُوه.
الْحَالة الرَّابِعَة: أَن يقوم بِحِفْظ الْمَذْهَب وَنَقله وفهمه فِي الواضحات والمشكلات وَلَكِن عِنْده ضعف فِي تَقْرِير أدلته وتحرير أقيسته فَهَذَا يعْتَمد نَقله، وفتواه بِهِ فِيمَا يحكيه من مسطورات مذْهبه من نُصُوص إِمَامه وتفريع الْمُجْتَهدين فِي مذْهبه، وَمَا لَا يجده مَنْقُولًا إِن وجد فِي الْمَنْقُول مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يدْرك بِغَيْر كَبِير فكر أنَّه لَا فرق بَينهمَا جَازَ إِلْحَاقه بِهِ، وَالْفَتْوَى بِهِ وَكَذَا مَا يعلم اندراجه تَحت ضَابِط ممهد فِي الْمَذْهَب.
وَمَا لَيْسَ كَذَلِك يجب إِمْسَاكه عَن الْفَتْوَى فِيهِ وَمثل هَذَا يَقع نَادرا فِي حق الْمَذْكُور؛ إِذْ يبعد -كَمَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ -أَن تقع مَسْأَلَة لم ينص عَلَيْهَا فِي الْمَذْهَب، وَلَا هِيَ فِي معنى الْمَنْصُوص وَلَا مندرجة تَحت ضَابِط.
وَشَرطه: كَونه فَقِيه النَّفس، ذَا حَظّ وافر من الْفِقْه؛ قَالَ أَبُو عَمْرو وَأَن يَكْتَفِي فِي حفظ الْمَذْهَب فِي هَذِه الْحَالة وَالَّتِي قبلهَا بِكَوْن الْمُعظم على ذهنه، ويتمكن لدربته من الْوُقُوف على الْبَاقِي على قرب.
فصل فِي بعض مسَائِل أَهْلِيَّة الْمُفْتِي
هَذِه أَصْنَاف الْمُفْتِينَ وَهِي خمسةٌ وكلُّ صنف مِنْهَا يُشترط فِيهِ حفظ الْمَذْهَب، وَفقه النَّفس؛ فَمن تصدى للفتيا، وَلَيْسَ بِهَذِهِ الصّفة فقد بَاء بِأَمْر عَظِيم.
وَلَقَد قطع إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره -بِأَن الأصولي الماهر الْمُتَصَرف فِي الْفِقْه لَا يحلُّ لَهُ الْفَتْوَى بِمُجَرَّد ذَلِك، وَلَو وَقعت لَهُ وَاقعَة لزمَه أَن يسْأَل عَنْهَا، ويلتحق بِهِ الْمُتَصَرف النظَّار البحاث من أَئِمَّة الْخلاف وفحول المناظرين؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلاً لإدراك حكم الْوَاقِعَة اسْتِقْلَالا لقُصُور آلَته وَلَا من مَذْهَب إِمَام لعدم حفظه لَهُ على الْوَجْه الْمُعْتَبر.
فَإِن قيل: من حفظ كتاباً أَو أَكثر فِي الْمَذْهَب وَهُوَ قَاصِر لم يَتَّصِف بِصفة أحد مِمَّن سبق وَلم يجد الْعَاميّ فِي بَلَده غَيره -هَل لَهُ الرُّجُوع إِلَى قَوْله ؟
فَالْجَوَاب: إِن كَانَ فِي غير بَلَده مُفتٍ يجد السَّبِيل إِلَيْهِ وَجب التَّوَصُّل إِلَيْهِ بِحَسب إِمْكَانه؛ فَإِن تعذر ذكر مَسْأَلته للقاصر، فَإِن وجدهَا بِعَينهَا فِي كتاب موثوق بِصِحَّتِهِ -وَهُوَ مِمَّن يُقبل خَبره -نقل لَهُ حكمهَا بنصه، وَكَانَ الْعَاميّ فِيهَا مقلِّداً صَاحب الْمَذْهَب.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَهَذَا وجدتُّه فِي ضمن كَلَام بَعضهم -وَالدَّلِيل يعضده، وَإِن لم يجدهَا مسطورة بِعَينهَا لم يقسها على مسطور عِنْده وَإِن اعتقده من قِيَاس لَا فَارق؛ لِأَنَّهُ قد يتَوَهَّم ذَلِك فِي غير مَوْضِعه.
فَإِن قيل: هَل لمقلِّدٍ أَن يُفْتِي بِمَا هُوَ مقلدٌ فِيهِ؟
قُلْنَا: قطع أَبُو عبد الله الحَلِيمي وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَأَبُو المحاسن الرّوياني وَغَيرهم بِتَحْرِيمِهِ وَقَالَ الْقفال الْمروزِي: يجوز.
قَالَ أَبُو عَمْرو: قولُ من مَنعه مَعْنَاهُ لَا يذكرهُ على صُورَة من يَقُوله من عِنْد نَفسه، بل يضيفه إِلَى إِمَامه الَّذِي قلَّده، فعلى هَذَا من عددناه من الْمُفْتِينَ المقلدين لَيْسُوا مفتين حَقِيقَة، لَكِن لما قَامُوا مقامهم وأدوا عَنْهُم عدوا مَعَهم. وسبيلهم أَن يَقُولُوا مثلاً: مَذْهَب الشَّافِعِي كَذَا أَو نَحْو هَذَا، وَمن ترك مِنْهُم الْإِضَافَة فَهُوَ اكْتِفَاء بالمعلوم من الْحَال عَن التَّصْرِيح بِهِ، وَلَا بَأْس بذلك.
وَذكر صَاحب الْحَاوِي -فِي الْعَاميّ إِذا عرف حكم حَادِثَة بِنَاء على دليلها ـ ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: يجوز أَن يُفْتِي بِهِ وَيجوز تَقْلِيده؛ لِأَنَّهُ وصل إِلَى علمه كوصول الْعَالم.
وَالثَّانِي: يجوز إِن كَانَ دليلها كتاباً أَو سنةً وَلَا يجوز إِن كَانَ غَيرهمَا.
وَالثَّالِث: لَا يجوز مُطلقًا وَهُوَ الْأَصَح -وَالله أعلم
فصل فِي أَحْكَام الْمُفْتِينَ
فِيهِ مسَائِل:
إِحْدَاهَا: الْإِفْتَاء فرض كِفَايَة؛ فَإِذا استفتي وَلَيْسَ فِي النَّاحِيَة غَيره تعيَّن عَلَيْهِ الْجَواب، فَإِن كَانَ فِيهَا غَيره وَحضر فَالْجَوَاب فِي حَقّهمَا فرض كِفَايَة، وَإِن لم يحضرهُ غَيره فَوَجْهَانِ: أصَحهمَا لَا يتَعَيَّن لما سبق عَن ابْن أبي ليلى، وَالثَّانِي يتَعَيَّن، وهما كالوجهين فِي مثله فِي الشَّهَادَة، وَلَو سَأَلَ عَامي عَمَّا يَقع لم يجب جَوَابه.
الثَّانِيَة: إِذا أفتى بِشَيْء ثمَّ رَجَعَ عَنهُ؛ فَإِن علم المستفتي بِرُجُوعِهِ وَلم يكن عمل بِالْأولِ لم يجز الْعَمَل بِهِ، وَكَذَا إِن نكح بفتواه وَاسْتمرّ على نِكَاح بفتواه ثمَّ رَجَعَ لزمَه مفارقتها، كَمَا لَو تغير اجْتِهَاد من قلَّده فِي الْقبْلَة فِي أثْنَاء صلَاته وَإِن كَانَ عمل قبل رُجُوعه؛ فَإِن خَالف دَلِيلاً قَاطعا لزم المستفتي نقض عمله ذَلِك، وَإِن كَانَ فِي مَحل اجْتِهَاد لم يلْزمه نقضه؛ لِأَن الِاجْتِهَاد لَا ينْقض بِالِاجْتِهَادِ وَهَذَا التَّفْصِيل ذكره الصَّيْمَرِيّ والخطيب وَأَبُو عَمْرو وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَلَا أعلم خِلَافه، وَمَا ذكره الْغَزالِيّ والرازي لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِخِلَافِهِ.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَإِذا كَانَ يُفتي على مَذْهَب إمامٍ فَرجع لكَونه بَان لَهُ قطعاً مُخَالفَة نَص مَذْهَب إِمَامه وَجب نقضه وَإِن كَانَ فِي مَحل الِاجْتِهَاد لأنَّ نَص مَذْهَب إِمَامه فِي حَقه كنص الشَّارِع فِي حق الْمُجْتَهد المستقل.
أما إِذا لم يعلم المستفتي بِرُجُوع الْمُفْتِي؛ فحال المستفتي فِي علمه كَمَا قبل الرُّجُوع، وَيلْزم الْمُفْتِي إِعْلَامه قبل الْعَمَل، وَكَذَا بعده حَيْثُ يجب النَّقْض.
وَإِذا عمل بفتواه فِي إِتْلَاف فَبَان خطأه وَأَنه خَالف الْقَاطِع؛ فَعَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الأسفراييني أَنه يضمن إِن كَانَ أَهلا للْفَتْوَى وَلَا يضمن إِن لم يكن أَهلاً؛ لِأَن المستفتي قصًَّر كَذَا حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح وَسكت عَلَيْهِ -وَهُوَ مُشكِلٌ -وَيَنْبَغِي أَن يخرج الضَّمَان على قولي الْغرُور المعروفين فِي بَابي الْغَصْب وَالنِّكَاح وَغَيرهمَا أَو يقطع بِعَدَمِ الضَّمَان؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْفَتْوَى إِلْزَام وَلَا إلجاء.
الثَّالِثَة: يحرم التساهل فِي الْفَتْوَى وَمن عرف بِهِ حرم استفتاؤه؛ فَمن التساهل أَن لَا يتثبت ويُسرِع بالفتوى قبل اسْتِيفَاء حقِّها من النّظر والفكر؛ فَإِن تقدّمت مَعْرفَته بالمسؤول عَنهُ فَلَا بَأْس بالمبادرة وعَلى هَذَا يحمل مَا نقل عَن الماضين من مبادرة وَمن التساهل أَن تحمله الْأَغْرَاض الْفَاسِدَة على تتبع الْحِيَل المحرَّمة أَو الْمَكْرُوهَة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نَفعه أَو التَّغْلِيظ على من يُرِيد ضره.
وَأما -مَنْ صَحَّ قَصده -فاحتسب فِي طَلَبِ حيلةٍ لَا شُبْهَة فِيهَا لتخليص من ورطة يَمِين وَنَحْوهَا فَذَلِك حسن جميل، وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ عَن بعض السّلف- من نَحْو هَذَا -كَقَوْل سُفْيَان: إنمَّا الْعلم عندنَا الرُّخْصَة من ثِقَة؛ فَأَما التَّشْدِيد فيحسنه كل أحد. وَمن الْحِيَل الَّتِي فِيهَا شُبْهَة ويذم فاعلها الْحِيلَة السُّريجية فِي سدِّ بَاب الطَّلَاق.
الرَّابِعَة: يَنْبَغِي أَن لَا يُفْتِي فِي حَال تغيُّر خُلُقه، وتشغل قلبه وتمنعه التَّأَمُّل؛ كغضب وجوع وعطش وحزن وَفَرح غَالب ونعاس أَو ملل أَو حرٍّ مزعج أَو مرض مؤلم أَو مدافعة حَدَث، وكل حَال يشْتَغل فِيهِ قلبه، وَيخرج عَن حد الِاعْتِدَال؛ فَإِن أفتى فِي بعض الْأَحْوَال، وَهُوَ يَرَى أَنه لم يخرج عَن الصَّوَاب جَازَ، وَإِن كَانَ مخاطراً بهَا.
الْخَامِسَة: الْمُخْتَار للمتصدِّي للْفَتْوَى أَن يتبرعَ بذلك، وَيجوز أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ رزقا من بَيت المَال إِلَّا أيتعين عَلَيْهِ وَله كِفَايَة فَيحرم على الصَّحِيح، ثمَّ إِن كَانَ لَهُ رزقٌ لم يجز أَخذ أُجْرَة أصلاً. وَإِن لم يكن لَهُ رزق فَلَيْسَ لَهُ أَخذ أُجْرَة من أَعْيَان مَنْ يفتيه على الْأَصَح كالحاكم.
واحتال الشَّيْخ أَبُو حَاتِم الْقزْوِينِي -من أَصْحَابنَا؛ فَقَالَ لَهُ أَن يَقُول يلْزَمنِي أَن أفيتك قولاً وَأما كِتَابَة الْخط فَلَا، فَإِذا اسْتَأْجرهُ على كِتَابَة الْخط جَازَ.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ والخطيب: لَو اتّفق أهل الْبَلَد فَجعلُوا لَهُ رزقا من أَمْوَالهم على أَن يتَفَرَّع لفتاويهم جَازَ، أما الْهَدِيَّة؛ فَقَالَ أَبُو مظفر السَّمعاني: لَهُ قبُولهَا بِخِلَاف الْحَاكِم فَإِنَّهُ يلْزم حكمهَا.
قَالَ أَبُو عَمْرو: يَنْبَغِي أَن يحرم قبُولهَا إِن كَانَ رشوة على أَن يفتيه بِمَا يُرِيد كَمَا فِي الْحَاكِم وَسَائِر مَا لَا يُقَابل بعوض
قَالَ الْخَطِيب: وعَلى الإِمَام أَن يفْرض لمن نصب نَفسه لتدريس الْفِقْه وَالْفَتْوَى فِي الْأَحْكَام مَا يُغْنِيه عَن الاحتراف، وَيكون ذَلِك من بَيت المَال، ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ أَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: أعْطى كلَّ رجلٍ مِمَّن هَذِه صفته مئة دِينَار فِي السّنة.
السَّادِسَة: لَا يجوز أَن يُفْتِي فِي الْأَيْمَان وَالْإِقْرَار وَنَحْوهمَا مِمَّا يتَعَلَّق بالألفاظ إِلَّا أَن يكون من أهل بلد اللافظ أَو متنَزِّلاً مَنْزِلَتهمْ فِي الْخِبْرَة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فِيهَا.
السَّابِعَة: لَا يجوز لمن كَانَت فتواه نقلا لمَذْهَب إِمَام إِذا اعْتمد الْكتب أَن يعْتَمد إِلَّا على كتاب موثوقٍ بِصِحَّتِهِ وَبِأَنَّهُ مَذْهَب ذَلِك الإِمَام فَإِن وثق بِأَن أصل التصنيف بِهَذِهِ الصّفة لَكِن لم تكن هَذِه النُّسْخَة مُعْتَمدَة فليستظهر بنسخ مِنْهُ متَّفقة وَقد تحصل لَهُ الثِّقَة من نُسْخَة غير موثوق بهَا فِي بعض الْمسَائِل إِذا رأى الْكَلَام منتظماً، وَهُوَ خَبِير فَطِن لَا يخفى عَلَيْهِ لدربته مَوضِع الْإِسْقَاط والتغيير.
فَإِن لم يجده إِلَّا فِي نُسْخَة غير موثوق بهَا؛ فَقَالَ أَبُو عَمْرو: ينظر فَإِن وجده مُوَافقا لأصول الْمَذْهَب وَهُوَ أهل لتخريج مثله فِي الْمَذْهَب لَو لم يجده مَنْقُولًا، فَلهُ أَن يُفْتِي بِهِ.
فَإِن أَرَادَ حكايته عَن قَائِله، فَلَا يقل قَالَ الشَّافِعِي مثلاً كَذَا، وَليقل وَجدتُّ عَن الشَّافِعِي كَذَا أَو بَلغنِي عَنهُ وَنَحْو هَذَا.
وَإِن لم يكن أَهلاً لتخريج مثله -لم يجز لَهُ ذَلِك فَإِن سَبيله النَّقْل الْمَحْض وَلم يحصل مَا يجوز لَهُ ذَلِك، وَله أَن يذكرهُ لَا على سَبِيل الْفَتْوَى مُفصِحاً بِحَالهِ؛ فَيَقُول: وجدته فِي نُسْخَة من الْكتاب الْفُلَانِيّ وَنَحْوه
قلتُ: لَا يجوز لمفتٍ على مَذْهَب الشَّافِعِي إِذا اعْتمد النَّقْل أَن يَكْتَفِي بمصنَّفٍ ومصنفين وَنَحْوهمَا من كتب الْمُتَقَدِّمين وَأكْثر الْمُتَأَخِّرين لِكَثْرَة الِاخْتِلَاف بَينهم فِي الْجَزْم وَالتَّرْجِيح؛ لِأَن هَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُور إِنَّمَا ينْقل مَذْهَب الشَّافِعِي وَلَا يحصل لَهُ وثوق بِأَن مَا فِي المصنفين الْمَذْكُورين وَنَحْوهمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي أَو الرَّاجِح مِنْهُ لما فِيهَا من الِاخْتِلَاف، وَهَذَا مِمَّا لَا يتشكك فِيهِ من لَهُ أدنى أنس بِالْمذهبِ، بل قد يجْزم نَحْو عشرَة من المصنفين بِشَيْء، وَهُوَ شاذٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاجِح فِي الْمَذْهَب، ومخالفٌ لما عَلَيْهِ الْجُمْهُور، وَرُبمَا خَالف نصَّ الشَّافِعِي أَو نصوصاً لَهُ.
وسترى فِي هَذَا الشَّرْح -إِن شَاءَ الله تَعَالَى -أَمْثِلَة ذَلِك وَأَرْجُو إِن تمّ هَذَا الْكتاب أَنه يسْتَغْنى بِهِ عَن كل مصنّف وَيعلم بِهِ مَذْهَب الشَّافِعِي علما قَطْعِيا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
الثَّامِنَة: إِذا أفتى فِي حَادِثَة ثمَّ حدثت مثلهَا؛ فَإِن ذكر الْفَتْوَى الأولى ودليلها بِالنِّسْبَةِ إِلَى أصل الشَّرْع إِن كَانَ مُسْتَقْبلا أَو إِلَى مذْهبه إِن كَانَ منتسباً أفتى بذلك بِلَا نظر، وَإِن ذكرهَا وَلم يذكر دليلها وَلَا طَرَأَ مايوجب رُجُوعه؛ فَقيل: لَهُ أَن يُفْتِي بذلك وَالأَصَح وجوب تَجْدِيد النّظر.
وَمثله القَاضِي إِذا حكم بِالِاجْتِهَادِ، ثمَّ وَقعت الْمَسْأَلَة وَكَذَا تَجْدِيد الطّلب فِي التَّيَمُّم وَالِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة وَفِيهِمَا الْوَجْهَانِ.
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب فِي تَعْلِيقه فِي آخر -بَاب اسْتِقْبَال الْقبْلَة: وَكَذَا الْعَاميّ إِذا وَقعت لَهُ مَسْأَلَة؛ فَسَأَلَ عَنْهَا، ثمَّ وَقعت لَهُ فَيلْزمهُ السُّؤَال، ثَانِيًا يَعْنِي على الْأَصَح.
قَالَ: إِلَّا أَن تكون مَسْأَلَة يكثر وُقُوعهَا ويشق عَلَيْهِ إِعَادَة السُّؤَال عَنْهَا، فَلَا يلْزمه ذَلِك ويكفيه السُّؤَال الأول للْمَشَقَّة.
التَّاسِعَة: يَنْبَغِي أَن لايقتصر فِي فتواه على قَوْله فِي الْمَسْأَلَة خلاف أَو قَولَانِ أَو وَجْهَان أَو رِوَايَتَانِ أَو يرجع إِلَى رَأْي القَاضِي وَنَحْو ذَلِك؛ فَهَذَا لَيْسَ بِجَوَاب ومقصود المستفتي بَيَان مَا يعْمل بِهِ فَيَنْبَغِي أَن يجْزم لَهُ بِمَا هُوَ الرَّاجِح، فَإِن لم يعرفهُ توقَّف حَتَّى يظْهر أَو يتْرك الْإِفْتَاء، كَمَا كَانَ جمَاعَة من كبار أَصْحَابنَا يمتنعون من الْإِفْتَاء فِي حنث النَّاسِي.
فصل فِي آدَاب الْفَتْوَى
فِيهِ مسَائِل:
إِحْدَاهمَا: يلْزم الْمُفْتِي أَن يبين الْجَواب، بَيَاناً يزِيل الْإِشْكَال، ثمَّ لَهُ الِاقْتِصَار على الْجَواب شفاهاً؛ فَإِن لم يعرف لِسَان المستفتي كَفاهُ تَرْجَمَة ثِقَة وَاحِد؛ لِأَنَّهُ خبر وَله الْجَواب كِتَابَة، وَإِن كَانَت الْكِتَابَة على خطر، وَكَانَ القَاضِي أَبُو حَامِد المروروذي، كثير الْهَرَب من الْفَتْوَى فِي الرِّقاع.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَلَيْسَ من الْأَدَب كَون السُّؤَال بِخَط الْمُفْتِي فَأَما بإملائه وتهذيبه فواسع.
وَكَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ قد يكْتب السُّؤَال على ورق لَهُ ثمَّ يكْتب الْجَواب.
وَإِذا كَانَ فِي الرقعة مسَائِل؛ فَالْأَحْسَن تَرْتِيب الْجَواب على تَرْتِيب السُّؤَال وَلَو ترك التَّرْتِيب فَلَا بَأْس، وَيُشبه -معنى قَول الله تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذين اسودت} سُورَة آل عمرَان الْآيَة ١٠٦.
وَإِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة تَفْصِيل لم يُطلق الْجَواب، فَإِنَّهُ خطأ ثمَّ لَهُ أَن يستفصل السَّائِل إِن حضر ويقيد السُّؤَال فِي رقْعَة أُخْرَى ثمَّ يُجيب وَهَذَا أولى وَأسلم.
وَله أَن يقْتَصر على جَوَاب أحد الْأَقْسَام إِذا علم أَنه الْوَاقِع للسَّائِل، وَيَقُول: هَذَا إِذا كَانَ الْأَمر كَذَا، وَله أَن يفصِّل الْأَقْسَام فِي جَوَابه وَيذكر حكمَ كلِّ قسم لَكِن هَذَا كرهه أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ من أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة وَغَيره.
وَقَالُوا: هَذَا تَعْلِيم للنَّاس الْفُجُور، وَإِذا لم يجد الْمُفْتِي من يسْأَله فصَّل الْأَقْسَام واجتهد فِي بَيَانهَا واستيفائها.
الثَّانِيَة: لَيْسَ لَهُ أَن يكْتب الْجَواب على مَا علمه من صُورَة الْوَاقِعَة، إِذا لم يكن فِي الرقعة تعرّض لَهُ، بل يكْتب جَوَاب مَا فِي الرقعة فَإِن أَرَادَ جَوَاب مَا لَيْسَ فِيهَا فَلْيقل وَإِن كَانَ الْأَمر كَذَا وَكَذَا فَجَوَابه كَذَا.
وَاسْتحبَّ الْعلمَاء أَن يزِيد على مَا فِي الرقعة مَا لَهُ تعلُّق بهَا مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ السَّائِل؛ لحَدِيث هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته.
الثَّالِثَة: إِذا كَانَ المستفتي بعيد الْفَهم، فليرفقْ بِهِ ويصبر على تفهم سُؤَاله وتفهيم جَوَابه، فَإِن ثَوَابه جزيل.
الرَّابِعَة: ليتأمل الرقعة تأملاً شافياً وآخرُها آكِد؛ فَإِن السُّؤَال فِي آخرهَا، وَقد يتَقَيَّد الْجَمِيع بِكَلِمَة فِي آخرهَا، ويغفل عَنْهَا.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: قَالَ بعض الْعلمَاء: يَنْبَغِي أَن يكون توقعه فِي الْمَسْأَلَة السهلة كالصعبة ليعتاده، وَكَانَ مُحَمَّد بن الْحسن يَفْعَله.
وَإِذا وجد كلمة مشتبهة سَأَلَ المستفتي عَنْهَا ونقَّطها وشكلها، وَكَذَا إِن وجد لحناً فَاحِشاً أَو خطأ يُحِيل الْمَعْنى أصلحه، وَإِن رأى بَيَاضًا فِي أثْنَاء سطر أَو آخِره خطّ عَلَيْهِ أَو شغله؛ لأنَّه رُبمَا قَصَد الْمُفْتى بالإيذاء فَكتب فِي الْبيَاض بعد فتواه مَا يُفْسِدهَا -كَمَا بُلي بِهِ القَاضِي أَبُو حَامِد المروروذي.
الْخَامِسَة: يسْتَحبّ أَن يَقْرَأها على حاضريه مِمَّن هُوَ أهل لذَلِك، ويشاورهم ويباحثهم بِرِفْق وإنصاف وَإِن كَانُوا دونه وتلامذته -للاقتداء بالسلف، ورجاء ظُهُور مَا قد يخفى عَلَيْهِ إِلَّا أَن يكون فِيهَا مَا يقبح إبداؤه، أَو يُؤثر السَّائِل كِتْمَانه أَو فِي إشاعته مفْسدَة.
السَّادِسَة: ليكتب الْجَواب بِخَط واضحٍ وسط لَا دَقِيق خَافَ وَلَا غليظ جَاف ويتوسط فِي سطورها بَين توسيعها وتضييقها وَتَكون عِبَارَته وَاضِحَة صَحِيحَة تفهمها الْعَامَّة وَلَا يزدريها الْخَاصَّة وَاسْتحبَّ بَعضهم أَن لَا تخْتَلف أقلامه وخطه خوفًا من التزوير وَلِئَلَّا يشْتَبه خطه.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَقلَّ مَا وجد التزوير على الْمُفْتِي لِأَن الله تَعَالَى حَرَسَ أَمر الدّين. وَإِذا كتب الْجَواب أعَاد نظره فِيهِ خوفًا من اختلال وَقع فِيهِ أَو إخلال بِبَعْض المسؤول عَنهُ.
السَّابِعَة: إِذا كَانَ هَذَا الْمُبْتَدِئ؛ فالعادة قَدِيما وحديثًا أَن يكْتب فِي النَّاحِيَة الْيُسْرَى من الورقة.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ وَغَيره: وَأَيْنَ كتب من وسط الرقعة أَو حاشيتها فَلَا عتب عَلَيْهِ، وَلَا يكْتب فَوق الْبَسْمَلَة بِحَال، وَيَنْبَغِي أَن يَدْعُوَ إِذا أَرَادَ الْإِفْتَاء.
وَجَاء عَن مَكْحُول وَمَالك رحمهمَا الله: أَنَّهُمَا كَانَا لَا يفتيان؛ حَتَّى يَقُولَا: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه.
وَيسْتَحب الِاسْتِعَاذَة من الشَّيْطَان، ويسمي الله تَعَالَى، وَيَحْمَدهُ، وَيُصلي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَليقل: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ٢٠ سُورَة طه الْآيَة ٢٥ الْآيَة، وَنَحْو ذَلِك.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَعَادَة كثيرين أَن يبدأوا فتاويهم: الْجَواب وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، وَحذف آخَرُونَ ذَلِك.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَلَو عمل ذَلِك فِيمَا طَال من الْمسَائِل واشتمل على فُصُول وَحذف فِي غَيره كَانَ وَجهاً.
قلتُ: الْمُخْتَار قَول ذَلِك مُطلقًا، وَأحسنه الِابْتِدَاء، بقول: الْحَمد لله؛ لحَدِيث: (كُلُّ أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم)، وَيَنْبَغِي أَن يَقُوله بِلِسَانِهِ ويكتبه.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَلَا يدع ختم جَوَابه، بقوله: وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، أَو وَالله أعلم، أَو وَالله الْمُوفق.
قَالَ: وَلَا يقبح قَوْله: الْجَواب عندنَا أَو الَّذِي عندنَا أَو الَّذِي نقُول بِهِ أَو نَذْهَب إِلَيْهِ أو نراه كَذَا؛ لِأَنَّهُ من أهل ذَلِك.
قَالَ: وَإِذا أغفل السَّائِل الدُّعَاء للمفتي أَو الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر الْفَتْوَى، ألحق الْمُفْتِي ذَلِك بِخَطِّهِ؛ فَإِن الْعَادة جَارِيَة بِهِ.
قلتُ: وَإِذا ختم الْجَواب بقوله: وَالله أعلم وَنَحْوه مِمَّا سبق، فليكتب بعده: كتبه فلَان أَو فلَان بن فلَان الْفُلَانِيّ؛ فينتسب إِلَى مَا يُعرف بِهِ من قَبيلَة أَو بَلْدَة أَو صفة، ثمَّ يَقُول الشَّافِعِي أَو الْحَنَفِيّ مثلاً؛ فَإِن كَانَ مَشْهُورا بِالِاسْمِ أَو غَيره، فَلَا بَأْس بالاقتصار عَلَيْهِ.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَرَأى بَعضهم أَن يكْتب الْمُفْتِي بالمداد دون الحب،ر خوفًا من الحك، قَالَ: وَالْمُسْتَحب الحبر لَا غير.
قلتُ: لَا يخْتَص وَاحِد مِنْهُمَا هُنَا بالاستحباب، بِخِلَاف كتب الْعلم فالمستحب فِيهَا الحبر؛ لِأَنَّهَا ترادُ للبقاء، والحبر أبقى.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَيَنْبَغِي إِذا تعلّقت الْفَتْوَى بالسلطان أَن يَدْعُو لَهُ؛ فَيَقُول: وعَلى ولي الْأَمر، أَو السُّلْطَان أصلحه الله، أَو سدده الله، أَو قوى الله عزمه، أَو أصلح الله بِهِ، أَو شدّ الله أزره، وَلَا يقل أَطَالَ الله بَقَاءَهُ، فَلَيْسَتْ من أَلْفَاظ السّلف.
قلتُ: نقل أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس وَغَيره اتِّفَاق الْعلمَاء: على كَرَاهَة قَول أَطَالَ الله بَقَاءَك، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ تَحِيَّة الزَّنَادِقَة -وَفِي صَحِيح مُسلم -فِي حَدِيث أم حَبِيبَة رَضِي الله عَنْهَا- إِشَارَة إِلَى أَن الأولى ترك نَحْو هَذَا من الدُّعَاء بطول الْبَقَاء وأشباهه.
الثَّامِنَة: ليختصر جَوَابه وَيكون بِحَيْثُ تفهمه الْعَامَّة. قَالَ صَاحب الْحَاوِي: يَقُول يجوز أَو لَا يجوز أَو حق أَو بَاطِل.
وَحكى شَيْخه الصَّيْمَرِيّ عَن شَيْخه القَاضِي أبي حَامِد: أَنه كَانَ يختصر غَايَة مَا يُمكنهُ، واستفتي فِي مَسْأَلَة آخرهَا يجوز أم لَا؟ فَكتب: لَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
التَّاسِعَة: قَالَ الصَّيْمَرِيّ والخطيب: إِذا سُئِلَ عَمَّن قَالَ: أَنا أصدق من مُحَمَّد بن عبد الله أَو الصَّلَاة لعب وَشبه ذَلِك، فَلَا يُبَادر بقوله هَذَا حَلَال الدَّم أَو عَلَيْهِ الْقَتْل، بل يَقُول إِن صَحَّ هَذَا بِإِقْرَارِهِ أَو بِالْبَيِّنَةِ استتابه السُّلْطَان؛ فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته وَإِن لم يتب فعل بِهِ كَذَا وَكَذَا -وَبَالغ فِي ذَلِك وأشبعه.
قَالَ: وَإِن سُئِلَ عَمَّن تكلم بِشَيْء يحْتَمل وُجُوهًا يكفر بِبَعْضِهَا دون بعض؟
قَالَ: يسْأَل هَذَا الْقَائِل؛ فَإِن قَالَ: أردْت كَذَا، فَالْجَوَاب كَذَا.
وَإِن سُئِلَ عَمَّن قتل أَو قلع عيناً أَو غَيرهَا احتاط فَذكر الشُّرُوط الَّتِي يجب بجميعها الْقصاص.
وَإِن سُئِلَ عَمَّن فعل مَا يُوجب التَّعْزِير، ذكر مَا يُعَزّر بِهِ؛ فَيَقُول: يضْربهُ السُّلْطَان كَذَا وَكَذَا وَلَا يُزَاد على كَذَا -هَذَا كَلَام الصَّيْمَرِيّ والخطيب وَغَيرهمَا.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَلَو كتب عَلَيْهِ الْقصاص أَو التَّعْزِير بِشَرْطِهِ فَلَيْسَ ذَلِك بِإِطْلَاق بل تَقْيِيده بِشَرْطِهِ يحمل الْوَالِي على السُّؤَال عَن شَرطه وَالْبَيَان أولى
الْعَاشِرَة: يَنْبَغِي إِذا ضَاقَ مَوضِع الْجَواب أَن لَا يَكْتُبهُ فِي رقْعَة أُخْرَى خوفًا من الْحِيلَة؛ وَلِهَذَا قَالُوا: يصل جَوَابه بآخر سطر، وَلَا يدع فُرْجَة لِئَلَّا يزِيد السَّائِل شَيْئا يُفْسِدهَا، وَإِذا كَانَ مَوضِع الْجَواب ورقة ملصقة كتب على الإلصاق.
وَلَو ضَاقَ بَاطِن الرقعة وَكتب الْجَواب فِي ظهرهَا كتبه فِي أَعْلَاهَا إِلَّا أَن يَبْتَدِئ من أَسْفَلهَا مُتَّصِلاً بالاستفتاء فيضيق الْموضع فيتمه فِي أَسْفَل ظهرهَا ليتصل جَوَابه.
وَاخْتَارَ بَعضهم أَن يكْتب على ظهرهَا لَا على حاشيتها، وَالْمُخْتَار عِنْد الصَّيْمَرِيّ وَغَيره أَن حاشيتها أولى من ظهرهَا. قَالَ الصَّيْمَرِيّ وَغَيره: وَالْأَمر فِي ذَلِك قريب.
الْحَادِيَة عشرَة: إِذا ظهر للمفتي أَن الْجَواب خلاف غَرَض المستفتي، وَأَنه لَا يرضى بكتابته فِي ورقته فليقتصر على مشافهته بِالْجَوَابِ، وليحذر أَن يمِيل فِي فتواه مَعَ المستفتي أَو خَصمه، ووجوه الْميل كَثِيرَة لَا تخفى، وَمِنْهَا: أَن يكْتب فِي جَوَابه مَا هُوَ لَهُ وَيتْرك مَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَن يبْدَأ فِي مسَائِل الدَّعْوَى والبينات بِوُجُوه المخالص مِنْهَا.
وَإِذا سَأَلَهُ أحدهم -وَقَالَ: بِأَيّ شَيْء تنْدَفع دَعْوَى كَذَا وَكَذَا أَو بَيِّنَة كَذَا لم يجبهُ كَيْلا يتَوَصَّل بذلك إِلَى إبِْطَال حق، وَله أَن يسْأَله عَن حَاله فِيمَا ادّعى عَلَيْهِ، فَإِذا شَرحه لَهُ عرفه بِمَا فِيهِ من دَافع وَغير دَافع.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَيَنْبَغِي للمفتي إِذا رأى للسَّائِل طَرِيقاً يرشده إِلَيْهِ أَن ينبهه عَلَيْهِ يَعْنِي مَا لم يضر غَيره ضَرَرا بِغَيْر حق.
قَالَ: كمن حلف لَا ينْفق على زَوجته شهراً، يَقُول: يُعْطِيهَا من صَدَاقهَا أَو قرضاً أَو بيعاً ثمَّ يبرئها.
وكما حُكيَ أَن رجلا قَالَ لأبي حنيفَة -رَحمَه الله: حلفتُ أَنِّي أَطَأ امْرَأَتي فِي نَهَار رَمَضَان وَلَا أُكَفِّرُ وَلَا أعصي؟ فَقَالَ سَافر بهَا.
الثَّانِيَة عشرَة: قَالَ الصَّيْمَرِيّ: إِذا رأى الْمُفْتِي الْمصلحَة أَن يُفْتِي الْعَاميّ بِمَا فِيهِ تغليظٌ -وَهُوَ مِمَّا لَا يعْتَقد ظَاهره وَله فِيهِ تَأْوِيل -جَازَ ذَلِك زجرا لَهُ؛ كَمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سُئِلَ عَن تَوْبَة الْقَاتِل؛ فَقَالَ: لَا تَوْبَة لَهُ، وَسَأَلَهُ آخر، فَقَالَ: لَهُ تَوْبَة، ثمَّ قَالَ: أما الأول فَرَأَيْت فِي عينه إِرَادَة الْقَتْل فمنعته وَأما الثَّانِي فجَاء مستكيناً قد قتل فَلم أقنطه.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَكَذَا إِن سَأَلَهُ رجل فَقَالَ إِن قتلتُ عَبدِي هَل عَليّ قصاص؟ فواسع أَن يَقُول: إِن قتلت عَبدك قتلناك؛ فقد رُوِيَ عَن النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -(من قتل عَبده قَتَلْنَاهُ)، وَلِأَن الْقَتْل لَهُ معَان.
قَالَ وَلَو سُئِلَ عَن سبّ الصَّحَابِيّ، هَل يُوجب الْقَتْل؛ فواسعٌ أَن يَقُول رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (مَن سبّ أَصْحَابِي فَاقْتُلُوهُ) فيفعل كل هَذَا زجراً للعامة وَمن قَلَّ دينه ومروءته.
الثَّالِثَة عشرَة: يجب على الْمُفْتِي عِنْد اجْتِمَاع الرِّقاع بِحَضْرَتِهِ أَن يقدم الأسبق فالأسبق كَمَا يَفْعَله القَاضِي فِي الْخُصُوم -وَهَذَا فِيمَا يجب فِيهِ الْإِفْتَاء -فَإِن تساووا أَو جَهِل السَّابِق قدَّم بِالْقُرْعَةِ وَالصَّحِيح -أَنه يجوز تَقْدِيم الْمَرْأَة وَالْمُسَافر الَّذِي شدَّ رَحْله وَفِي تَأْخِيره ضَرَر بتخلفه عَن رفقته وَنَحْو ذَلِك -على من سبقهما، إِلَّا إِذا كثر المسافرون وَالنِّسَاء بِحَيْثُ يلْحق غَيرهم بتقديمهم ضررٌ كثير، فَيَعُود إِلَى التَّقْدِيم بِالسَّبقِ أَو الْقرعَة، ثمَّ لَا يقدم أحدا إِلَّا فِي فتيا وَاحِدَة.
الرَّابِعَة عشرَة: قَالَ الصَّيْمَرِيّ وَأَبُو عَمْرو: إِذا سُئِلَ عَن ميراثٍ فَلَيْسَتْ الْعَادة أَن يشْتَرط فِي الْوَرَثَة عدم الرّقّ وَالْكفْر وَالْقَتْل وَغَيرهَا من مَوَانِع الْمِيرَاث، بل الْمُطلق مَحْمُول على ذَلِك، بِخِلَاف مَا أطلق الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات والأعمام وَبينهمْ فَلَا بُد أَن يَقُول فِي الْجَواب من أَب وَأم أَو من أَب أَو من أم.
وَإِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة عَوْلٍ كالمنبرية، وَهِي زَوْجَة وأبوان وبنتان؛ فَلَا يقل للزَّوْجَة الثّمن وَلَا التسع؛ لِأَنَّهُ لم يُطلقهُ أحدٌ من السّلف، بل يقل لَهَا الثّمن عائلاً وَهِي ثَلَاثَة أسْهم من سَبْعَة وَعشْرين أَو لَهَا ثَلَاثَة أسْهم من سَبْعَة وَعشْرين، أَو يَقُول مَا قَالَه أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ: صَار ثمنهَا تسعا.
وَإِذا كَانَ فِي الْمَذْكُورين فِي رقْعَة الاستفتاء مَنْ لَا يَرث، أفْصح بسقوطه؛ فَقَالَ: وَسقط فلَان -وَإِن كَانَ سُقُوطه فِي حَال دون حَال، قَالَ: وَسقط فلَان فِي هَذِه الصُّورَة أَو نَحْو ذَلِك؛ لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه لَا يَرث بِحَال.
وَإِذا سُئِلَ عَن إخْوَة وأخوات أَو بَنِينَ وَبَنَات؛ فَلَا يَنْبَغِي أَن يَقُول {للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} ٤ سُورَة النِّسَاء الْآيَة ١١؛ فَإِن ذَلِك قد يشكل على الْعَاميّ، بل يَقُول يقتسمون التَّرِكَة على كَذَا وَكَذَا سَهْما، لكل ذَكَرٍ كَذَا وَكَذَا سَهْما، وَلكُل أُنْثَى كَذَا وَكَذَا سَهْما، قَالَه الصميري.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح: وَنحن نجد فِي تعمد الْعُدُول عَنهُ حزازة فِي النَّفس لكَونه لفظ الْقُرْآن الْعَزِيز، وَأَنه قلَّ مَا يخفى مَعْنَاهُ على أحد.
وَيَنْبَغِي أَن يكون فِي جَوَاب مسَائِل المناسخات شَدِيد التَّحَرُّز والتحفظ، وَليقل فِيهَا: لفُلَان كَذَا وَكَذَا بميراثه من أَبِيه ثمَّ من أمه ثمَّ من أَخِيه.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَكَانَ بَعضهم يخْتَار أَن يَقُول: لفُلَان كَذَا وَكَذَا سَهْما مِيرَاثه من أَبِيه كَذَا وَمن أمه كَذَا، وَمن أَخِيه كَذَا قَالَ: وكل هَذَا قريب.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ وَغَيره: وَحسنٌ أَن يَقُول تقسم التَّرِكَة بعد إِخْرَاج مَا يجب تَقْدِيمه من دين أَو وَصِيَّة إِن كَانَا.
الْخَامِسَة عشرَة: إِذا رأى الْمُفْتِي رقْعَة الاستفتاء وفيهَا خطّ غَيره مِمَّن هُوَ أهلٌ للْفَتْوَى وخطُّه فِيهَا مُوَافق لما عِنْده. قَالَ الْخَطِيب وَغَيره: كتب تَحت خطه: هَذَا جَوَاب صَحِيح وَبِه أَقُول أَو كتب جوابي مثل هَذَا، وَإِن شَاءَ ذكر الحكم بِعِبَارَة ألخص من عبارَة الَّذِي كتب.
وَأما إِذا رأى فِيهَا خطّ من لَيْسَ أَهلا للْفَتْوَى؛ فَقَالَ الصَّيْمَرِيّ: لَا يُفْتِي مَعَه لِأَن فِي ذَلِك تقريراً مِنْهُ لمنكرٍ بل يَضْرِب على ذَلِك بِأَمْر صَاحب الرقعة وَلَو لم يَسْتَأْذِنهُ فِي هَذَا الْقدر جَازَ، لَكِن لَيْسَ لَهُ احتباس الرقعة إِلَّا بِإِذن صَاحبهَا، قَالَ: وَله انتهار السَّائِل وزجره وتعريفه قبح مَا أَتَاهُ، وَأَنه كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ الْبَحْث عَن أهل الْفَتْوَى، وَطلب من هُوَ أهل لذَلِك.
وَإِن رأى فِيهَا اسْم من لَا يعرفهُ سَأَلَ عَنهُ فَإِن لم يعرفهُ فواسع أَن يمْتَنع من الْفَتْوَى مَعَه خوفًا مِمَّا قُلْنَاهُ.
قَالَ: وَكَانَ بَعضهم فِي مثل هَذَا يكْتب على ظهرهَا. قَالَ: وَالْأولَى فِي هَذَا الْموضع أَن يشار على صَاحبهَا بإبدالها فَإِن أَبى ذَلِك أَجَابَهُ شفاها.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَإِذا خَافَ فتْنَة من الضَّرْب على فتيا العادم للأهلية، وَلم تكن خطأ عدلَ إِلَى الِامْتِنَاع من الْفتيا مَعَه، فَإِن غلبت فَتَاوِيهِ لتغلبه على منصبها بجاه أَو تلبيس أَو غير ذَلِك بِحَيْثُ صَار امْتنَاع الْأَهْل من الْفتيا مَعَه ضاراً بالمستفتين، فليفت مَعَه فَإِن ذَلِك أَهْون الضررين وليتلطف مَعَ ذَلِك فِي إِظْهَار قصوره لمن يجهله.
أما إِذا وجد فتيا من هُوَ أهل وَهِي خطأ مُطلقًا بمخالفتها الْقَاطِع أَو خطأ على مَذْهَب من يُفْتِي ذَلِك الْمُخطئ على مذْهبه قطعاً؛ فَلَا يجوز لَهُ الِامْتِنَاع من الْإِفْتَاء تَارِكًا للتّنْبِيه على خطئها إِذا لم يكفه ذَلِك غَيره، بل عَلَيْهِ الضَّرْب عَلَيْهَا عِنْد تيسره أَو الْإِبْدَال وتقطيع الرقعة -بِإِذن صَاحبهَا -أَو نَحْو ذَلِك.
وَإِذا تعذر ذَلِك -وَمَا يقوم مقَامه -كتب صَوَاب جَوَابه عِنْد ذَلِك الْخَطَأ، ثمَّ إِن كَانَ الْمُخطئ أَهلا للْفَتْوَى فَحسن أَن تُعَاد إِلَيْهِ بِإِذن صَاحبهَا أما إِذا وجد فِيهَا فتيا أهل للْفَتْوَى وَهِي على خلاف مَا يرَاهُ هُوَ، غير أَنه لَا يقطع بخطئها، فليقتصر على كتب جَوَاب نَفسه وَلَا يتَعَرَّض لفتيا غَيره بتخطئة وَلَا اعْتِرَاض.
قَالَ صَاحب الْحَاوِي: لَا يسوغ لمفتٍ إِذا استفتي أَن يتَعَرَّض لجواب غَيره بردٍّ وَلَا تخطئة ويجيب بِمَا عِنْده من مُوَافقَة أَو مُخَالفَة.
السَّادِسَة عشرَة: إِذا لم يفهم الْمُفْتِي السُّؤَال أصلاً، وَلم يحضر صَاحب الْوَاقِعَة؛ فَقَالَ الصَّيْمَرِيّ: يكْتب يُزَاد فِي الشَّرْح لنجيب عَنهُ، أَو لم أفهم مَا فِيهَا فَأُجِيب.
قَالَ: وَقَالَ بَعضهم لَا يكْتب شَيْئا أصلاً.
قَالَ: وَرَأَيْت بَعضهم كتب فِي هَذَا يحضر السَّائِل لنخاطبه شفاهاً.
وَقَالَ الْخَطِيب: يَنْبَغِي لَهُ إِذا لم يفهم الْجَواب أَن يرشد المستفتي إِلَى مُفتٍ آخر إِن كَانَ، وَإِلَّا فليمسك حَتَّى يعلم الْجَواب.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: وَإِذا كَانَ فِي رقْعَة الاستفتاء مسَائِل فُهِمَ بَعْضهَا دون بعض، أَو فهمها كلهَا وَلم يُرِد الْجَواب فِي بَعْضهَا أَو احْتَاجَ فِي بَعْضهَا إِلَى تَأمل أَو مطالعة، أجَاب عمَّا أَرَادَ وَسكت عَن الْبَاقِي، وَقَالَ: لنا فِي الْبَاقِي نظر أَو تَأمل أَو زِيَادَة نظر.
السَّابِعَة عشرَة: لَيْسَ بمنكَر أَن يذكر الْمُفْتِي فِي فتواه الْحجَّة إِذا كَانَت نصاً وَاضحاً مُخْتَصراً.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: لَا يذكر الْحجَّة إِن أفتى عامياً ويذكرها إِن أفتى فَقِيها كمن يسْأَل عَن النِّكَاح بِلَا ولي؛ فَحسن أَن يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا نِكَاح إِلَّا بولِي) أَو عَن رَجْعَة الْمُطلقَة بعد الدُّخُول؛ فَيَقُول لَهُ: رَجعتهَا قَالَ الله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَق بردهن} ٢ سُورَة الْبَقَرَة الْآيَة ٢٢٨.
قَالَ: وَلم تجر الْعَادة أَن يذكر فِي فتواه طَرِيق الِاجْتِهَاد، ووجهة الْقيَاس وَالِاسْتِدْلَال، إِلَّا أَن تتَعَلَّق الْفَتْوَى بِقَضَاء قاضٍ، فيومئ فِيهَا إِلَى طَرِيق الِاجْتِهَاد، ويلوح بالنكتة، وَكَذَا إِذا أفتى غَيره فِيهَا بغلطٍ فيفعل ذَلِك؛ لينبه على مَا ذهب إِلَيْهِ، وَلَو كَانَ فِي مَا يُفْتِي بِهِ غُموضٌ فَحسن أَن يلوح بحجته.
وَقَالَ: صَاحب الْحَاوِي لَا يذكر حجَّة؛ ليفرق بَين الْفتيا والتصنيف.
قَالَ: وَلَو سَاغَ التجاوز إِلَى قليلٍ لساغ إِلَى كثير، ولصار الْمُفْتِي مدرساً -وَالتَّفْصِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ-أولى من إِطْلَاق صَاحب الْحَاوِي الْمَنْع.
وَقد يحْتَاج الْمُفْتِي فِي بعض الوقائع إِلَى أَن يشدد ويبالغ؛ فَيَقُول: وَهَذَا إِجْمَاع الْمُسلمين أَو لَا أعلم فِي هَذَا خلافًا أَو فَمن خَالف هَذَا فقد خَالف الْوَاجِب وَعدل عَن الصَّوَاب أَو فقد أَثم وَفسق أَو وعَلى ولي الْأَمر أَن يَأْخُذ بِهَذَا وَلَا يهمل الْأَمر، وَمَا أشبه هَذِه الْأَلْفَاظ -على حسب مَا تَقْتَضِيه الْمصلحَة وتوجبه الْحَال.
الثَّامِنَة عشرَة: قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو رَحمَه الله: لَيْسَ لَهُ إِذا استفتي فِي شَيْء من الْمسَائِل الكلامية أَن يُفْتِي بالتفصيل، بل يمْنَع مستفتيه وَسَائِر الْعَامَّة من الْخَوْض فِي ذَلِك أَو فِي شَيْء مِنْهُ وَإِن قلَّ، وَيَأْمُرهُمْ بِأَن يقتصروا فِيهَا على الْإِيمَان جملَة من غير تَفْصِيل، ويقولوا فِيهَا وَفِي كل مَا ورد من آيَات الصِّفَات وأخبارها المتشابهة إِن الثَّابِت فِيهَا فِي نفس الْأَمر مَا هُوَ اللَّائِق فِيهَا بِجلَال الله تبَارك وَتَعَالَى، وكماله وتقديسه الْمُطلق؛ فَيَقُول ذَلِك معتقدنا فِيهَا، وَلَيْسَ علينا تَفْصِيله وتعيينه، وَلَيْسَ الْبَحْث عَنهُ من شَأْننَا، بل نكل علم تَفْصِيله إِلَى الله تبَارك وَتَعَالَى، ونصرف عَن الْخَوْض فِيهِ قُلُوبنَا وألسنتنا؛ فَهَذَا وَنَحْوه هُوَ الصَّوَاب من أَئِمَّة الْفَتْوَى فِي ذَلِك، وَهُوَ سَبِيل سلف الْأمة وأئمة الْمذَاهب الْمُعْتَبرَة وأكابر الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ، وَهُوَ أصون وَأسلم للعامة وأشباههم.
وَمن كَانَ مِنْهُم اعْتقد اعتقاداً بَاطِلا تَفْصِيلًا؛ فَفِي هَذَا صرف لَهُ عَن ذَلِك الِاعْتِقَاد الْبَاطِل بِمَا هُوَ أَهْون وأيسر وَأسلم.
وَإِذا عزّر ولي الْأَمر من حاد مِنْهُم عَن هَذِه الطَّرِيقَة؛ فقد تأسى بعمر بن الْخطاب -رَضِي الله عَنهُ- فِي تَعْزِير صبيغ -بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة -الَّذِي كَانَ يسْأَل عَن المتشابهات على ذَلِك.
قَالَ والمتكلمون من أَصْحَابنَا معترفون بِصِحَّة هَذِه الطَّرِيقَة، وبأنها أسلم لمن سلمت لَهُ، وَكَانَ الْغَزالِيّ مِنْهُم فِي آخر أمره شَدِيد الْمُبَالغَة فِي الدُّعَاء إِلَيْهَا، والبرهنة عَلَيْهَا، وَذكر شَيْخه إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي كِتَابه الغياثي: أَن الإِمَام يحرص مَا أمكنه على جمع عَامَّة الْخلق على سلوك سَبِيل السّلف فِي ذَلِك.
واستفتي الْغَزالِيّ فِي كَلَام الله تبَارك وَتَعَالَى؛ فَكَانَ من جَوَابه: وَأما الْخَوْض فِي أَن كَلَامه تَعَالَى حرف وَصَوت أَو لَيْسَ كَذَلِك فَهُوَ بِدعَة، وكل من يَدْعُو الْعَوام إِلَى الْخَوْض فِي هَذَا فَلَيْسَ من أَئِمَّة الدّين، وَإِنَّمَا هُوَ من المضلين. ومثاله من يَدْعُو الصّبيان الَّذين لَا يحسنون السباحة إِلَى خوض الْبَحْر وَمن يَدْعُو الزِّمِن المقعَد إِلَى السّفر فِي البراري من غير مركوب.
وَقَالَ فِي رِسَالَة لَهُ: الصَّوَاب لِلْخلقِ كلهم -إِلَّا الشاذ النَّادِر الَّذِي لَا تسمح الْأَعْصَار إِلَّا بِوَاحِد مِنْهُم أَو اثْنَيْنِ -سلوك مَسْلَك السّلف فِي الْإِيمَان الْمُرْسل، والتصديق الْمُجْمل بِكُل مَا أنزلهُ الله تَعَالَى وَأخْبر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من غير بحث وتفتيش، والاشتغال بالتقوى، فَفِيهِ شغل شاغل.
وَقَالَ الصَّيْمَرِيّ فِي كِتَابه أدب الْمُفْتِي والمستفتي: إِن مِمَّا أجمع عَلَيْهِ أهل التَّقْوَى أَن من كَانَ موسوماً بالفتوى فِي الْفِقْه لم يَنْبغ -وَفِي نُسْخَة: لم يجز لَهُ أَن يضع خطه بفتوى فِي مَسْأَلَة من علم الْكَلَام. قَالَ: وَكَانَ بَعضهم لَا يستتم قِرَاءَة مثل هَذِه الرقعة.
قَالَ: وَكره بَعضهم أَن يكْتب لَيْسَ هَذَا من علمنَا أَو مَا جلسنا لهَذَا أَو السُّؤَال عَن غير هَذَا أولى، بل لَا يتَعَرَّض لشَيْء من ذَلِك.
وَحكى الإِمَام الْحَافِظ الْفَقِيه أَبُو عمرابن عبد الْبر الِامْتِنَاع من الْكَلَام فِي كل ذَلِك عَن الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء قَدِيما وحديثاً من أهل الحَدِيث وَالْفَتْوَى، قَالَ: وَإِنَّمَا خَالف ذَلِك أهل الْبدع.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح: فَإِن كَانَت الْمَسْأَلَة مِمَّا يُؤمن فِي تَفْصِيل جوابها من ضَرَر الْخَوْض الْمَذْكُور جَازَ الْجَواب تَفْصِيلًا، وَذَلِكَ بِأَن يكون جوابها مُخْتَصرا مفهوماً لَيْسَ لَهَا أَطْرَاف يتجاذبها المتنازعون وَالسُّؤَال عَنهُ صادر عَن مسترشد خَاص منقاد أَو من عَامَّة قَليلَة التَّنَازُع والمماراة والمفتي مِمَّن ينقادون لفتواه وَنَحْو هَذَا وعَلى هَذَا وَنَحْوه يحمل مَا جَاءَ عَن بعض السّلف من بغض الْفَتْوَى فِي بعض الْمسَائِل الكلامية وَذَلِكَ مِنْهُم قَلِيل نَادِر وَالله أعلم.
التَّاسِعَة عشرَة: قَالَ الصَّيْمَرِيّ والخطيب -رحمهمَا الله: وَإِذا سُئِلَ فَقِيه عَن مسألةٍ من تَفْسِير الْقُرْآن الْعَزِيز فَإِن كَانَت تتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ أجَاب عَنْهَا وَكتب خطه بذلك؛ كمن سُئِلَ عَن {الصَّلَاة الْوُسْطَى} و{القرء} وَ{من بِيَدِهِ عقدَة النِّكَاح}، وَإِن كَانَت لَيست من مسَائِل الْأَحْكَام كالسؤال عَن {الرقيم} و{النقير} و{القطمير} و{الغسلين} ردَّه إِلَى أَهله، ووكله إِلَى من نصب نَفسه لَهُ من أهل التَّفْسِير، وَلَو أَجَابَهُ شفاها لم يستقبح -هَذَا كَلَام الصَّيْمَرِيّ والخطيب.
وَلَو قيل: إِنَّه يحسن كِتَابَته للفقيه الْعَارِف بِهِ؛ لَكَانَ حسناً، وَأي فرق بَينه وَبَين مسَائِل الْأَحْكَام وَالله أعلم.
فصل فِي آدَاب المستفتي وَصفته وَأَحْكَامه
فِيهِ مسَائِل
إِحْدَاهَا: فِي صفة المستفتي.
كل من لم يبلغ دَرَجَة الْمُفْتِي فَهُوَ فِيمَا يسْأَل عَنهُ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مُستفتٍ مقلِّد من يفتيه، وَالْمُخْتَار فِي التَّقْلِيد: أَنه قبُول قولِ -من يجوز عَلَيْهِ الْإِصْرَار على الْخَطَأ -بِغَيْر حجّة على عين مَا قبل قَوْله فِيهِ، وَيجب عَلَيْهِ الاستفتاء، وإِذا نزلت بِهِ حَادِثَة يجب عَلَيْهِ علم حكمهَا.
فَإِن لم يجد بِبَلَدِهِ من يستفتيه وَجب عَلَيْهِ الرحيل إِلَى من يفتيه -وَإِن بَعدت دَاره -وَقد رَحل خلائق من السّلف فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة اللَّيَالِي وَالْأَيَّام.
الثَّانِيَة: يجب عَلَيْهِ قطعا الْبَحْث الَّذِي يعرف بِهِ أَهْلِيَّة من يستفتيه للإفتاء إِذا لم يكن عَارِفًا بأهليته.
فَلَا يجوز لَهُ استفتاء من انتسب إِلَى الْعلم وانتصب للتدريس والإقراء وَغير ذَلِك من مناصب الْعلمَاء بِمُجَرَّد انتسابه وانتصابه لذَلِك، وَيجوز استفتاء من استفاض كَونه أَهلا للْفَتْوَى
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين: إِنَّمَا يعْتَمد قَوْله: أَنا أهل للْفَتْوَى لَا شهرته بذلك، وَلَا يَكْتَفِي بالاستفاضة وَلَا بالتواتر لِأَن الاستفاضة والشهرة بَين الْعَامَّة لَا يوثق بهَا، وَقد يكون أَصْلهَا التلبيس، وَأما التَّوَاتُر فَلَا يُفِيد الْعلم إِذا لم يسْتَند إِلَى مَعْلُوم محسوس.
وَالصَّحِيح: هُوَ الأول لِأَن إقدامه عَلَيْهَا إخبارٌ مِنْهُ بأهليته فَإِن الصُّورَة مَفْرُوضَة فِيمَن وثق بديانته، وَيجوز استفتاء من أخبر الْمَشْهُور الْمَذْكُور بأهليته.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ -المُصَنّف رَحمَه الله: وَغَيره يقبل فِي أَهْلِيَّته خبر الْعدْل الْوَاحِد.
قَالَ أَبُو عَمْرو: وَيَنْبَغِي أَن يشْتَرط فِي الْمخبر أَن يكون عِنْده من الْعلم وَالْبَصَر مَا يُمَيّز بِهِ الملتبس من غَيره، وَلَا يعْتَمد فِي ذَلِك على خبر آحَاد الْعَامَّة لِكَثْرَة مَا يتَطَرَّق إِلَيْهِم من التلبيس فِي ذَلِك.
وَإِذا اجْتمع اثْنَان فَأكْثر مِمَّن يجوز استفتاؤهم؛ فَهَل يجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي أعيانهم والبحث عَن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده دون غَيره؟
فِيهِ وَجْهَان. أَحدهمَا: لَا يجب بل لَهُ استفتاء من شَاءَ مِنْهُم؛ لِأَن الْجَمِيع أهل وَقد أسقطنا الِاجْتِهَاد عَن الْعَاميّ -وَهَذَا الْوَجْه هُوَ الصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا الْعِرَاقِيّين -قَالُوا: وَهُوَ قَول أَكثر أَصْحَابنَا.
وَالثَّانِي: يجب ذَلِك؛ لِأَنَّهُ يُمكنهُ هَذَا الْقدر من الِاجْتِهَاد بالبحث وَالسُّؤَال وشواهد الْأَحْوَال وَهَذَا الْوَجْه قَول أبي الْعَبَّاس ابْن سُرَيج، وَاخْتِيَار الْقفال الْمروزِي، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد القَاضِي حُسَيْن، وَالْأول أظهر، وَهُوَ الظَّاهِر من حَال الْأَوَّلين.
قَالَ أَبُو عَمْرو رَحمَه الله: لَكِن مَتى اطلع على الأوثق فَالْأَظْهر أَنه يلْزمه تَقْلِيده -كَمَا يجب تَقْدِيم أرجح الدَّلِيلَيْنِ وأوثق الرِّوَايَتَيْنِ؛ فعلى هَذَا يلْزمه تَقْلِيد الأورع من الْعَالمين، والأعلم من الورعين؛ فَإِن كَانَ أَحدهمَا أعلم وَالْآخر أورع قلد الأعلم -على الْأَصَح.
وَفِي جَوَاز تَقْلِيد الْمَيِّت وَجْهَان: الصَّحِيح جَوَازه؛ لِأَن الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَصْحَابهَا، وَلِهَذَا يعْتد بهَا بعدهمْ فِي الْإِجْمَاع وَالْخلاف، وَلِأَن موت الشَّاهِد قبل الحكم لَا يمْنَع الحكم بِشَهَادَتِهِ بِخِلَاف فسقه. وَالثَّانِي: لَا يجوز لفَوَات أَهْلِيَّته؛ كالفاسق وَهَذَا ضَعِيف لَا سِيمَا فِي هَذِه الْأَعْصَار.
الثَّالِث: هَل يجوز للعامي أَن يتَخَيَّر ويقلد أَي مَذْهَب شَاءَ؟
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح: ينظر إِن كَانَ منتسباً إِلَى مَذْهَب بنيناه على وَجْهَيْن حَكَاهُمَا القَاضِي حُسَيْن فِي أَن الْعَاميّ هَل لَهُ مَذْهَب أم لَا؟ أَحدهمَا: لَا مَذْهَب لَهُ؛ لِأَن الْمَذْهَب لعارف الْأَدِلَّة -فعلى هَذَا أَن يستفتي من شَاءَ من حَنَفِيّ وشافعي وَغَيرهمَا، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَح عِنْد القفَّال لَهُ مَذْهَب فَلَا يجوز لَهُ مُخَالفَته.
وَقد ذكرنَا فِي الْمُفْتِي المنتسب مَا يجوز لَهُ أَن يُخَالف إِمَامه فِيهِ، وَإِن لم يكن منتسباً بني على وَجْهَيْن حَكَاهُمَا ابْن برهَان فِي أَن الْعَاميّ هَل يلْزمه أَن يتمذهب بِمذهب معِين يَأْخُذ بِرُخصِهِ وعزائمه؟
أَحدهمَا: لَا يلْزمه كَمَا لم يلْزمه فِي الْعَصْر الأول أَن يخص بتقليده عَالماً بِعَيْنِه؛ فعلى هَذَا هَل لَهُ أَن يستفتي من شَاءَ أم يجب عَلَيْهِ الْبَحْث عَن أَشد الْمذَاهب وأصحهما أصلاً ليقلد أَهله؟ فِيهِ وَجْهَان مذكوران كالوجهين السَّابِقين فِي الْبَحْث عَن الأعلم والأوثق من المفتيين.
وَالثَّانِي: يلْزمه وَبِه قطع أَبُو الْحسن إِلْكيَا -وَهُوَ جارٍ فِي كل من لم يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد من الْفُقَهَاء وَأَصْحَاب سَائِر الْعُلُوم، وَوَجهه: أَنه لَو جَازَ اتِّبَاع أَي مَذْهَب شَاءَ لأفضى إِلَى أَن يلتقط رخص الْمذَاهب مُتبعا هَوَاهُ وَيتَخَيَّر بَين التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وَالْوُجُوب وَالْجَوَازـ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى انحلال ربقة التَّكْلِيف، بِخِلَاف الْعَصْر الأول فَإِنَّهُ لم تكن الْمذَاهب الوافية بِأَحْكَام الْحَوَادِث مهذّبة وَعرفت.
فعلى هَذَا يلْزمه أَن يجْتَهد فِي اخْتِيَار مَذْهَب يقلده على التَّعْيِين، وَنحن نمهد لَهُ طَرِيقاً يسلكه فِي اجْتِهَاده سهلاً فَنَقُول أَولا لَيْسَ لَهُ أَن يتبع فِي ذَلِك مُجَرّد التشهي والميل إِلَى مَا وجد عَلَيْهِ آباءه وَلَيْسَ لَهُ التمذهب بِمذهب أحد من أَئِمَّة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم من الْأَوَّلين وَإِن كَانُوا أعلم وأعلا دَرَجَة مِمَّن بعدهمْ لأَنهم لم يتفرغوا لتدوين الْعلم وَضبط أُصُوله وفروعه فَلَيْسَ لأحد مِنْهُم مَذْهَب مهذب مُحَرر مُقَرر وَإِنَّمَا قَامَ بذلك من جَاءَ بعدهمْ من الْأَئِمَّة الناخلين لمذاهب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ القائمين بتمهيد أَحْكَام الوقائع قبل وُقُوعهَا الناهضين بإيضاح أُصُولهَا وفروعها كمالك وَأبي حنيفَة وَغَيرهمَا.
وَلما كَانَ الشَّافِعِي قد تَأَخّر عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فِي الْعَصْر وَنظر فِي مذاهبهم نَحْو نظرهم فِي مَذَاهِب من قبلهم فسبرها وخبرها وانتقدها، وَاخْتَارَ أرجحها وَوجد من قبله قد كَفاهُ مؤونة التَّصْوِير والتأصيل فتفرغ للاختيار وَالتَّرْجِيح والتكميل والتنقيح، مَعَ كَمَال مَعْرفَته وبراعته فِي الْعُلُوم وترجحه فِي ذَلِك على من سبقه، ثمَّ لم يُوجد بعده من بلغ مَحَله فِي ذَلِك كَانَ مذْهبه أولى الْمذَاهب بالاتباع والتقليد، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ من الْإِنْصَاف والسلامة من الْقدح فِي أحد من الْأَئِمَّة جلي وَاضح إِذا تَأمله الْعَاميّ قَادَهُ إِلَى اخْتِيَار مَذْهَب الشَّافِعِي والتمذهب بِهِ
الرَّابِعَة: إِذا اخْتلف عَلَيْهِ فَتْوَى مفتيين فَفِيهِ خَمْسَة أوجه للأصحاب أَحدهَا: يَأْخُذ بأغلظهما، وَالثَّانِي: بأخفهما.
وَالثَّالِث: يجْتَهد فِي الأولى فَيَأْخُذ بفتوى الأعلم الأورع كَمَا سبق إيضاحه، وَاخْتَارَهُ السَّمْعَانِيّ الْكَبِير وَنَصّ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على مثله فِي الْقبْلَة
وَالرَّابِع: يسْأَل مفتياً آخر فَيَأْخُذ بفتوى من وَافقه.
وَالْخَامِس: يتَخَيَّر فَيَأْخُذ بقول أَيهمَا شَاءَ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ المُصَنّف، وَعند الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ وَنَقله الْمحَامِلِي فِي أول الْمَجْمُوع عَن أَكثر أَصْحَابنَا وَاخْتَارَهُ صَاحب الشَّامِل فِيمَا إِذا تساوى المفتيان فِي نَفسه.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو: الْمُخْتَار أَن عَلَيْهِ أَن يبْحَث عَن الْأَرْجَح؛ فَيعْمل بِهِ فَإِنَّهُ حكم التَّعَارُض فيبحث عَن الأوثق من المفتيين فَيعْمل بفتواه.
وَإِن لم يتَرَجَّح عِنْده أَحدهمَا، استفتى آخر وَعمل بفتوى من وَافقه، فَإِن تعذر ذَلِك وَكَانَ اخْتِلَافهمَا فِي التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة، وَقبل الْعَمَل اخْتَار التَّحْرِيم فَإِنَّهُ أحوط، وَإِن تَسَاويا من كل وَجه خيرناه بَينهمَا، وَإِن أَبينَا التَّخْيِير فِي غَيره لِأَنَّهُ ضَرُورَة وَفِي صُورَة نادرة.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح: ثمَّ إِنَّمَا نخاطب بِمَا ذَكرْنَاهُ المفتيين، وَأما الْعَاميّ الَّذِي وَقع لَهُ ذَلِك فَحكمه أَن يسْأَل عَن ذَلِك ذَيْنك المفتيين، أَو مفتياً آخر وَقد أرشدنا الْمُفْتِي إِلَى مَا يجِيبه بِهِ.
وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخ ابْن الصّلاح لَيْسَ بِقَوي، بل الْأَظْهر أحد الْأَوْجه الثَّلَاثَة، وَهِي: الثَّالِث وَالرَّابِع وَالْخَامِس، وَالظَّاهِر أَن الْخَامِس أظهرها؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الِاجْتِهَاد وَإِنَّمَا فَرْضه أَن يُقَلّد عَالما أَهلا لذَلِك، وَقد فعل ذَلِك بِأَخْذِهِ بقول من شَاءَ مِنْهَا.
وَالْفرق بَينه وَبَين مَا نَص عَلَيْهِ فِي الْقبْلَة: أَن أمارتها حسية فإدراك صوابها أقرب فَيظْهر التَّفَاوُت بَين الْمُجْتَهدين فِيهَا، والفتاوى أمارتها معنوية فَلَا يظْهر كَبِير تفَاوت بَين الْمُجْتَهدين، وَالله أعلم.
الْخَامِسَة: قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ إِذا لم يكن فِي الْموضع الَّذِي هُوَ فِيهِ مفت إِلَّا وَاحِد فأفتاه، لزمَه فتواه.
وَقَالَ أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ -رَحمَه الله: إِذا سمع المستفتي جَوَاب الْمُفْتِي لم يلْزمه الْعَمَل بِهِ إِلَّا بالتزامه. قَالَ: وَيجوز أَن يُقَال إِنَّه يلْزمه إِذا أَخذ فِي الْعَمَل بِهِ، وَقيل: يلْزمه إِذا وَقع فِي نَفسه صِحَّته، قَالَ السَّمْعَانِيّ: وَهَذَا أولى الْأَوْجه.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو: لم أجد هَذَا لغيره وَقد حكى هُوَ بعد ذَلِك عَن بعض الْأُصُولِيِّينَ أَنه إِذا أفتاه بِمَا هُوَ مُخْتَلف فِيهِ خَيره بَين أَن يقبل مِنْهُ أَو من غَيره، ثمَّ اخْتَار هُوَ أَنه يلْزمه الِاجْتِهَاد فِي أَعْيَان الْمُفْتِينَ وَيلْزمهُ الْأَخْذ بِفُتْيَا من اخْتَارَهُ بِاجْتِهَادِهِ
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو: وَالَّذِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد أَن نفصل؛ فَنَقُول: إِذا أفتاه الْمُفْتِي نظر، فَإِن لم يُوجد مفت آخر لزمَه الْأَخْذ بفتياه، وَلَا يتَوَقَّف ذَلِك على الْتِزَامه لَا بِالْأَخْذِ فِي الْعَمَل بِهِ، وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا يتَوَقَّف أَيْضا على سُكُون نَفسه إِلَى صِحَّته.
وَإِن وجد مفتٍ آخر؛ فَإِن استبان أَن الَّذِي أفتاه هُوَ الأعلم الأوثق، لزمَه مَا أفتاه بِهِ بِنَاء على الْأَصَح فِي تعينه كَمَا سبق، وَإِن لم يستبن ذَلِك لم يلْزمه مَا أفتاه بِمُجَرَّد إفتائه إِذْ يجوز لَهُ استفتاء غَيره وتقليده، وَلَا يعلم اتِّفَاقهمَا فِي الْفَتْوَى، فَإِن وجد الِاتِّفَاق أَو حكم بِهِ عَلَيْهِ حَاكم لزمَه حِينَئِذٍ.
السَّادِسَة إِذا استفتي فَأفْتى، ثمَّ حدثت تِلْكَ الْوَاقِعَة لَهُ مرّة أُخْرَى فَهَل يلْزمه تَجْدِيد السُّؤَال، فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: يلْزمه لاحْتِمَال تغير رَأْي الْمُفْتِي. وَالثَّانِي: لَا يلْزمه وَهُوَ الْأَصَح لِأَنَّهُ قد عرف الحكم الأول وَالْأَصْل اسْتِمْرَار الْمُفْتى عَلَيْهِ.
وخصص (صَاحب الشَّامِل) الْخلاف بِمَا إِذا قلد حَياً، وَقطع فِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك خَبرا عَن ميت بِأَنَّهُ لَا يلْزمه وَالصَّحِيح أَنه لَا يخْتَص فَإِن الْمُفْتِي على مَذْهَب الْمَيِّت قد يتَغَيَّر جَوَابه على مذْهبه.
السَّابِعَة: أَن يستفتي بِنَفسِهِ وَله أَن يبْعَث ثِقَة يعْتَمد خَبره لِيَسْتَفْتِيَ لَهُ، وَله الِاعْتِمَاد على خطّ الْمُفْتِي إِذا أخبرهُ من يَثِقُ بقوله أَنه خطه أَو كَانَ يعرف خطه وَلم يتشكك فِي كَون ذَلِك الْجَواب بِخَطِّهِ
الثَّامِنَة: يَنْبَغِي للمستفتي أَن يتأدب مَعَ الْمُفْتِي ويبجله فِي خطابه وَجَوَابه وَنَحْو ذَلِك، وَلَا يُومِئ بِيَدِهِ فِي وَجهه، وَلَا يقل لَهُ مَا تحفظ فِي كَذَا أَو مَا مَذْهَب إمامك أَو الشَّافِعِي فِي كَذَا، وَلَا يقل إِذا أَجَابَهُ هَكَذَا قلتُ: أَنا أَو كَذَا وَقع لي، وَلَا يقل أفتاني فلَان أَو غَيْرك بِكَذَا، وَلَا يقل إِن كَانَ جوابك مُوَافقا لمن كتب فَاكْتُبْ وَإِلَّا فَلَا تكْتب، وَلَا يسْأَله وَهُوَ قَائِم أَو مستوفز أَو على ضجر أَو هم أَو غير ذَلِك مِمَّا يشغل الْقلب.
وَيَنْبَغِي أَن يبْدَأ بالأسن الأعلم من الْمُفْتِينَ، وبالأولى فَالْأولى إِن أَرَادَ جمع الْأَجْوِبَة فِي رقْعَة فَإِن أَرَادَ إِفْرَاد الْأَجْوِبَة فِي رقاع بَدَأَ بِمن شَاءَ وَتَكون رقْعَة الاستفتاء وَاسِعَة؛ ليتَمَكَّن الْمُفْتِي من اسْتِيفَاء الْجَواب وَاضحا لَا مُخْتَصرا مضراً بالمستفتي وَلَا يدع الدُّعَاء فِي رقْعَة لمن يستفتيه
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: فَإِن اقْتصر على فَتْوَى وَاحِد، قَالَ: مَا تَقول رَحِمك الله أَو رَضِي الله عَنْك أَو وفقك الله وسددك وَرَضي عَن والديك، وَلَا يحسن أَن يَقُول رحمنا الله وَإِيَّاك.
وَإِن أَرَادَ جَوَاب جمَاعَة، قَالَ: مَا تَقولُونَ رَضِي الله عَنْكُم أَو مَا تَقول الْفُقَهَاء سددهم الله تَعَالَى ، وَيدْفَع الرقعة إِلَى الْمُفْتِي منشورة ويأخذها منشورة؛ فَلَا يحوجه إِلَى نشرها وَلَا إِلَى طيها.
التَّاسِعَة: يَنْبَغِي أَن يكون كَاتب الرقعة مِمَّن يحسن السُّؤَال، ويضعه على الْغَرَض مَعَ إبانة الْخط وَاللَّفْظ، وصيانتهما عَمَّا يتَعَرَّض للتصحيف.
قَالَ الصَّيْمَرِيّ: يحرص أَن يكون كاتبها من أهل الْعلم وَكَانَ بعض الْفُقَهَاء مِمَّن لَهُ رياسة لَا يُفْتِي إِلَّا فِي رقْعَة كتبهَا رجل بِعَيْنِه من أهل الْعلم بِبَلَدِهِ
وَيَنْبَغِي للعامي أَن لَا يُطَالب الْمُفْتِي بِالدَّلِيلِ، وَلَا يقل لم قلتَ؛ فَإِن أحبَّ أَن تسكن نَفسه بِسَمَاع الْحجَّة طلبَهَا فِي مجْلِس آخر، أَو فِي ذَلِك الْمجْلس بعد قبُول الْفَتْوَى مُجَرّدَة.
وَقَالَ السَّمْعَانِيّ: لَا يمْنَع من طلب الدَّلِيل، وَأَنه يلْزم الْمُفْتِي أَن يذكر لَهُ الدَّلِيل إِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، وَلَا يلْزمه إِن لم يكن مَقْطُوعًا بِهِ؛ لافتقاره إِلَى اجْتِهَاد يقصر فهم الْعَاميّ عَنهُ، وَالصَّوَاب الأول.
الْعَاشِرَة: إِذا لم يجد صَاحب الْوَاقِعَة مفتيًا وَلَا أحدا ينْقل لَهُ حكم واقعته لَا فِي بَلَده وَلَا فِي غَيره.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو ابْن الصّلاح: هَذِه مسألةُ فَترة الشَّرِيعَة الْأُصُولِيَّة، وَحكمهَا حكم مَا قبل وُرُود الشَّرْع، وَالصَّحِيح فِي كل ذَلِك القَوْل بِانْتِفَاء التَّكْلِيف عَن العَبْد، وَأَنه لَا يثبت فِي حَقه حكم لَا إِيجَاب وَلَا تَحْرِيم وَلَا غير ذَلِك، فَلَا يؤآخذ إِذا صَاحب الْوَاقِعَة بِأَيّ شَيْء صنعه فِيهَا، وَالله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق