المذهب الشافعي
دراسة عن أهم مصطلحاته وأشهر مصنفاته ومراتب الترجيح فيه
تأليف محمد طارق هشام مغربية
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لكل علم وفن مصطلحاته، التي تُعبّر عن هويته، وتحمل طابعه، وتجسد عنوانه، وهي النسيج التي يغزل منها العالم فصوله وصفحاته، كذلك فإن لكل مذهب فقهي مصطلحاته الدقيقة، التي تعبر عن مداخله ومخارجه، وتستجيب لأهدافه وأحكامه، وهي في مجملها تمثل النهج الفكري الذي يجمع أبناء المذهب، والمنطق الوحدوي الذي يضبط عبارات المذهب،
وإذا أردنا تعريف هذه المصطلحات بعبارة موجزة، يمكننا القول، بأنها الطرق المشتركة التي تؤدي ذات المعنى بنفس المنطق. أو هي الحد الفاصل بين الثبات المطلق الذي يصل الى درجة الجمود، والحركة المطلقة في الفهم التي تخرج بالشيء عن حدوده وضوابطه،وتتخذ هذه الاصطلاحات قوالب لفظية متنوعة ومتعددة؛ فبعضها يُعبر عن آراء علماء المذهب، وبعضها يُعبر عن كتب المذهب، وبعضها يُعبر عن علماء المذهب أنفسهم،
ولا بُد لطالب العلم، وللقارئ المعاصر وكذلك الباحث في التراث الفقهي أن يدرك هذه القضية، لأن عدم فهمها يؤدي الوقوع في مشكلات كثيرة، أدناها التشغيب على الأئمة، ذلك أنه يقرأ عبارات لم يعهدها من قبل، واصطلاحات ربما تكون غريبة بالنسبة إليه.
وهذا الكتاب العالي القدر، وضعه مؤلفه في سبيل التعريف بمذهب الإمام الشافعي، ليكون كالمقدمة لقراءة كتب المذهب ومصنفاته، وتتسع دائرة فهمه لمشكلات العبرات ومبهمات الرموز، فيسبح في غمار المتون والشروح سباحة الماهر الحاذق، وهو بحق موسوعة علمية نفيسة، زخرت بالنقول والنصوص وعرض الكتب المختلفة في المذهب.
وقد ابتدأ المؤلف الحديث عن الإمام الشافعي، وتوسع في ترجمته توسعاً كبيراً، فتعرض لنشأته وطلبه للعلم، حيث إن الشافعي إمام من كبار أئمة المسلمين عبر العصور، وقد جمع في شخصيته معالم الثقافة الإسلامية، فهو البليغ الفصيح الذي أخذ من العربية الحظ الأوفى، وهو صاحب المنهج الذي صاغ أصول الفقه فخرج على المسلمين بأول مدوناته.
ناهيك عن فقهه الذي ملأ السمع والبصر باعتباره منهجاً وسطاً بين أهل الرأي وأهل الحديث وهو إلى ذلك القرشي المطلبي، ابن عم رسول الله ومن أقرب الرهط إليه. ومذهبه الذي شرق وغرب فتعبد به ملايين المسلمين ما يربي على ألف عام، ولا يزال أتباعه ومقلدوه يملؤون الدنيا.
وانظر إلى جهود أصحابه في التأليف والتصنيف مشهورة، فلا يعرف مذهب من مذاهب المسلمين أكثر تأليفاً من الشافعية. ولا يخفى أن دراسة مناهج الأئمة متعينة على مقلديهم وأتباعهم، تجلية لمذاهبهم وتبييناً لطريقة استنباطهم؛ إذ أغلب طلاب العلم اليوم ينتسبون لمذاهب الأئمة وربما تعصبوا لها، فإن سألهم سائل عن منهج إمام أو من أين قال ما قال ؛ لم يحر أحدهم جواباً!.
نظرة على كتب مصطلحات المذهب نشأتها وتطورها
وكان أول من أسس لهذا النوع من الدراسات -أعني دراسة المصطلحات عند الشافعية -هو الإمام أبو زكريا النووي -رحمه الله تعالى -شيخ المذهب ومنقحه، وذلك في مقدمة كتابه (المجموع)، وهي من أوسع المقدمات وأجمعها للفوائد، وكذلك في مقدمته (التنقيح بشرح الوسيط)، وهي تلخيص لمقدمة المجموع.
كذلك كان كتابه (تهذيب الأسماء واللغات) من أهم الكتب في علوم الفقه والحديث والعربية عموماً، وقد خدم به المذهب الشافعي خدمةً كبيرة، حيث بيّن فيه أسماء علماء المذهب وضبطها، مع بيان اللغات اللازمة للفقيه ليأمن لسانه من اللحن والتصحيف.
وقد صرح في أوائل كتبه الفقهية (كالمنهاج) و(روضة الطالبين)، و(التحقيق) عن معاني رموزه الفقهية ومصطلحاته، ليكون الدارس على دراية بما يقرؤه، ويتحقق بقواعد الفتوى وأصولها، ولعل مقدمة (التحقيق) هي أوعب هذه المقدمات، وأكثرها فائدة، لأنها اشتملت على أكثر تلك المصطلحات، بل تضمنت تجلية وتعليل كثير من مصطلحاته.
ثم تأتي المحاولة الفذة التي أقامها الإمام تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي في معلمته الرائعة: (طبقات الشافعية الكبرى)؛ فهو وإن كان كتاب تراجم للشافعية من عصر الشافعي إلى عصر المؤلف؛ إلا أن الشيخ حلاه ورصعه بمباحث لا يستغني عنها طالب علم في كل تخصصات علومنا الإسلامية، حتى كان حقه أن يدرج في المكتبة العربية كلها؛ كما قال محققه الدكتور محمود الطناحي رحمه الله تعالى.
والكتاب مشحون بالوجوه المستغربة والقواعد المستحسنة التي تظهر طبيعة الاجتهاد وأطواره في المذهب الشافعي وفي العصر نفسه قامت حركة نشطة من تلاميذ شيخ الإسلام تقي الدين السبكي والد التاج صاحب الطبقات»، كان لها أثر كبير في بيان مصطلحات المذهب، وطرائق الترجيح فيه. يمثل هذا الاتجاه الإمام عبد الرحيم الأسنوي في «طبقاته»، ومقدمة كتاب المهمات في شرح الروضة والرافعي». وكتبه الفقهية والأصولية الأخرى.
والإمام سراج الدين بن النحوي الشهير بابن الملقن في: «العقد المذهب في طبقات حملة المذهب»، وشروحه الفقهية الكثيرة التي شرح بها غالب متون المذهب المشهورة.
فهذه المدرسة الهامة بروافدها كالشيخ الفقيه ابن الرفعة شيخ التقي السبكي، صاحب «المطلب» و «الكفاية، وعصريه الإمام نجم الدين القمولي صاحب: «البحر المحيط بشرح الوسيط»، وفروعها كالإمام الزركشي والإمام ابن العماد الأقفهسي تلاميذ الإمام الأسنوي، هي التي مهدت لمدرسة الأئمة المتأخرين من أهل الترجيح كشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وتلاميذه شراح المنهاج كالخطيب الشربيني، والجمال الرملي انتهاء بإمام المتأخرين ابن حجر الهيتمي المكي رحمهم الله تعالى جميعاً.
ثم ألف الشيخ أحمد الكردي كتاب: «الفوائد المكية فيما يفتى به من مذهب الشافعية»، وجه فيه جهده لبيان المفتى فيه، والراجح من كتب متأخري أئمة المذهب، وهو جهد مشكور احتوى على فوائد هامة، خاصة فيما يتعلق باصطلاح إمام المتأخرين ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج» مستمداً من كتب ورسائل ضاعت واندثرت، فصار هو المصدر الأساسي لبيان كثير من اصطلاحات المتأخرين لا غنى عنه لمن يقدم على درسها.
وكان من معاصريه اثنان من كبار علماء المذهب، استشعرا ما استشعره؛ أحدهما: الشيخ السيد علوي السقاف في اليمن فصنف كتاب: «الفوائد المكية فيما يحتاجه طلبة الشافعية»، واختصره في «مختصر الفوائد»، كما بين كثيراً من الفوائد في مقدمة كتابه: «ترشيح المستفيدين». وهو كثير الاستمداد من «الفوائد المدنية» السالف .
والثاني: الشيخ السيد أحمد بك الحسيني المصري، ولم يأل جهداً في إيضاح القواعد والبيان في كتب شتى؛ فمنها:
مقدمة كتابه الكبير: «مرشد الأنام لبر أم الإمام». وهو شرح للعبادات من کتاب «الأم» للإمام الشافعي رحمه الله تعالى، قدم له بمقدمة كبيرة في التعريف بالمذهب الشافعي وأهم رجالاته وطرقه وبلغت مجلدين كبيرين. ومقدمة كتابه: «دفع الخيالات».
أما في عصرنا فقد كثرت الجهود لخدمة التراث الفقهي، فمن أهمها:
١-كتاب المدخل الفقهي العام لفضيلة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى. ويعد من أفضل الكتب التي تناولت الفقه الإسلامي في الزمن الحاضر وقربته لدارسيه بأسلوب سهل وعبارة واضحة رشيقة، فتناولت أطواره ومدارسه وأهم مصادره، ثم شفعها الشيخ رحمه الله تعالى بدراسة أهم قواعد المجلة العدلية مما يعد أساساً لقانون مدني يستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية.
٢-ومنها أيضاً: المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ لفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى وهو وإن كان خاصاً بمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، إلا أن الشيخ لم يأل جهداً في كتابه، حتى غدا مدخلاً للفقه الإسلامي عامة.
٣-ومن أجمعها وأحفلها على وجازته واختصاره كتاب المدخل لدراسة المذاهب الفقهية للدكتور علي جمعة محمد. والكتاب محاولة جيدة لتقريب التراث الفقهي للدارسين. تعرض فيه الشيخ للمصطلحات الفقهية للمذاهب الأربعة، مع فوائد في تاريخ التشريع وأصول الفقه ومقاصد الشريعة عامة.
وهو يشكل مع كتب الشيخ الأخرى في الموضوع؛ ككتاب: «الطريق إلى التراث الإسلامي»، وصناعة «الإفتاء» و«موسوعة التشريع الإسلامي التي أصدرها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية و أشرف عليها فضيلته منهجاً متكاملاً يقرب التراث الفقهي من أيدي الدارسين.
٤- ومن الكتب الممتازة: «الفتح المبين في اصطلاحات الفقهاء والأصوليين» لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الحفناوي أستاذ أصول الفقه بكلية الشريعة والقانون بطنطا. وهو يجمع مصطلحات الفقهاء في المذاهب الثمانية المتبوعة. كما شفعه بالمصطلحات الأصولية، ومصطلحات النحت الخطي عند علماء الحديث واللغة.
٥- و من الدراسات الهامة التي تعرضت لأصول أئمة الاجتهاد في القرن الثاني الهجري؛ وتعد مرجعاً هاماً في تعرف مناهجهم الفقهية كتاب: «مناهج التشريع في القرن الثاني الهجري»، للدكتور محمد بلتاجي حسن رحمه الله تعالى. وقد قام باستقراء مدونات أئمة المذاهب الأولى أو ما رواه تلاميذهم عنهم في محاولة ممتازة لتجلية منهجهم في الاستنباط.
هذا بالنسبة للدراسات العامة؛ أما الكتب الخاصة بالمذهب الشافعي فمن أهمها: كتاب «الشافعي حياته وعصره آراؤه وفقهه» للعلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى. العلامة الفقيه الأصولي المجدد؛ وكتابه من أهم الدراسات التي تعرضت للمذهب الشافعي، وقد أخذ عنه كل من وكتاب «الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد» للدكتور أحمد نحراوي عبد السلام الأندونيسي، والكتاب محاولة جيدة لدراسة حياة الشافعي وأصوله، ومذهبيه القديم والجديد.
٦-ومن الكتب أيضاً؛ كتاب: «المدخل إلى المذهب الشافعي» للدكتور عبد الكريم القواسمي.
أما مصطلحات المذهب وأسماء رجاله، فیبرز کتابان هامان:
أولهما: «مقدمة تحقيق نهاية المطلب في دراية المذهب» لإمام الحرمين الجويني، لفضيلة العلامة الدكتور عبد العظيم الديب رحمه الله تعالى. وهي دراسة ممتازة للفقه الشافعي عامة، وفقه إمام الحرمين بشكل خاص.
والثاني: «كتاب الاجتهاد وطبقات مجتهدي الشافعية» للشيخ الدكتور محمد حسن هيتو حفظه الله تعالى، وهو دراسة جيدة لمفهوم الاجتهاد في المذهب، مع تراجم لمشاهير أصحاب الوجوه في المذهب. هذا عرض سريع للدراسات التي أفدت منها، إضافة إلى مراجع أخرى هامة أثرت بشكل أقل في منهج هذا الكتاب.
لكن من عيوب الدراسات المعاصرة عموماً، استمدادها من مصدر واحد؛ هو غالباً «الفوائد المدنية ومختصره الفوائد المكية»، مع إضافة فوائد وزيادات من كتب أخرى ككتب الإمام النووي رحمه الله تعالى.
وغالباً ما يعوزها المثال الذي يوضح القاعدة، وقد يجنح بعض المؤلفين للتعميم، أو إطلاق أحكام تعوزها الدقة، استمدت غالباً من كتب غير الشافعية ممن لم يتمرس بقواعد المذهب، أو فهم من كلام الإمام الشافعي أو أصحابه خلاف المراد. كما يسود جانب التخمين في الكلام عن الكتب أو نقل معلومات عنها من «تاريخ الأدب العربي» لبروكلمان أو «تاريخ التراث العربي» لمحمد فؤاد سزكين.
والسبب أن غالب الكتب المشار إليها كانت هاجعة في دور المخطوطات، لم يتسن للباحثين الأفاضل الاطلاع عليها مباشرة أو وصفها وصفاً دقيقاً.
مدخل وتوطئة
النصوص الدينية محدودة ومتناهية، ووقائع الحياة وأحداثها تأتي كل يوم بجديد، فليست إذاً محدودة أو متناهية، فأحداث الحياة المتجددة تقدم لنا كل يوم مشکلات واقعية تحتاج كل منها إلى تشريع والنصوص الدينية لم تجئ بتشريعات مفصلة لكل تلك المشكلات.
ولما كنا نؤمن بأن الإسلام عقيدة ونظام للحياة، وأنه يجب علينا أن نتلمس في نصوصه وأصوله ومقاصده كل التشريعات التي تنظم حياتنا، فإن هذا سيقودنا بالضرورة إلى فكرة الجهد العقلي العظيم الذي يواجه المستنيرين وقادة الفكر الإسلامي في كل جيل لاستنباط تشريعات تفصيلية مستوحاة من نصوص التشريع ومن روحه وأهدافه.
على أن هؤلاء الدارسين والمجتهدين يواجهون أنواعاً من المشكلات تنحصر في ثلاث مجموعات:
۱-مسائل لم ترد فيها نصوص خاصة من القرآن والسنة، وإن إحاطتها نصوص عامة.
٢- مسائل حدث لها نظائر أيام الرسول ﷺ في ظروف خاصة، واقتضت نظائرها تشريعات معينة وردت بها نصوص ثم تغيرت الظروف، فهذه المسائل بحاجة لدراسة خاصة توائم بين مقاصد الشرع وحاجات الناس بشكل لا يلغي أياً منهما.
٣- مسائل وردت فيها نصوص متعددة متعارضة في ظاهرها في بادئ الرأي أو غامضة من حيث المراد منها، فتحتاج إلى جهود تزيل تعارضها، وترفع عنها الإشكال.
ومن هنا نرى أن فكرة الجهد العقلي تقابلنا في كل ما يتصل بالتشريع، في المسائل التي لم ترد فيها نصوص تحتاج عند التطبيق إلى تحري روح التشريع ومصالح الناس في كل عصر، ثم النصوص التي يوحي ظاهرها بالتناقض.
وليس التراث الفقهي على مر العصور إلا الجهود المبذولة في هذا السبيل. ثم إننا إذا سلمنا بضرورة الجهود العقلية في مجال التشريع، فإن هذا يستلزم فكرة المنهج، لأن المنهج هو الطريقة المتبعة ، ولا نتصور جهوداً عقلية دون طريقة متبعة في التفكير، و إلا كانت جهوداً ضائعة مشتتة لا تؤدي إلى غايتها، لأن العقل البشري حين يفكر في شيء ما يتحرى أن يصل إلى هدفه عن طريق مقدمات تتبعها نتائج، وأسباب تتبعها مسببات.
لكن مجال النظر العقلي تكثر فيه الفروض والاحتمالات، ويختلف المفكرون فيما بينهم في الأخذ ببعضها وترك الآخر، ومن هنا تختلف مناهج التفكير، وتختلف النتائج تبعاً لذلك، ولا يعنينا أن نبحث أسباب اختلافها، وإنما يعنينا إثبات حقيقتين تتبع إحداهما الأخرى:
أولاهما: حاجة التشريع الإسلامي عند التطبيق إلى جهود عقلية متتابعة.
والثانية: ما تستلزمه هذه الحاجة بالضرورة إلى فكرة المنهج، أو طريقة التفكير وخطته، لأننا لا نتصور جهوداً عقلية دون منهج في التفكير بهذه الكلمات الجامعة نبدأ رحلتنا مع المذهب الشافعي باعتباره منهجاً فكرياً ارتضته طائفة كبيرة من علماء هذه الأمة المباركة؛ للتعامل مع النصوص وتنزيلها على الواقع المعاش.
ولا بد أولاً من إطلالة سريعة على معنى كلمة: مذهب، ومعنى التمذهب بقول أحد الأئمة المتبوعين.
فالمذهب لغة: اسم مصدر أصل مادته: ذَهَبَ على وزن: فعل؛ فعل ثلاثي صحيح غير معتل. وكل معانيه، وما تصرف منه تدور على معنيين: الحسن، والذهاب إلى الشيء والمضي إلى طريقه.
والمذهب: على وزن مفعل؛ من الذهاب إلى الشيء والمضي فيه.
أما حقيقته العرفية : فهي الطريقة الفقهية التي يسلكها المتابع لأحد الفقهاء المتبوعين.
وهذا فيما جرى خلاف فيه تبعاً لقواعد كل إمام ومنهجيته في التعامل مع النصوص، حسب قواعد أصول الفقه ومجاري كلام العرب.
أما ما كانت أحكامه مأخوذة من صريح كتاب الله وسنة رسوله ، فلا يختص به إمام دون إمام ؛ بل هو عام لكل المسلمين، منسوباً إلى صاحب الشرع جل جلاله ثم المبلغ عنه.
وفي هذا يقول الإمام القرافي رحمه الله تعالى: ينبغي أن يقال: إن الأحكام المجمع عليها التي لا تختص بمذهب، نحو جواز القراض ووجوب الزكاة والصوم ونحو ذلك: إن هذه الأمور مذهب، ألا ترى أنه لو قال قائل: وجوب الخمس صلوات في كل يوم هو مذهب مالك، لنبا عنه السمع، ونفر منه الطبع، وتدرك بالضرورة فرقاً من هذا القول.
قولنا: وجوب التدليك في الطهارات مذهب مالك، ووجوب الوتر مذهب أبي حنيفة، ولا يتبادر الذهن إلا إلى هذا الذي وقع به الاختصاص، دون ما اشترك فيه السلف والخلف والمتقدمون والمتأخرون... فالطرق المشتركة لا يحسن إضافتها لآحاد الناس إلا توسعاً، وعلى التحقيق لا يضاف إلا للمختص.
وكذلك المذاهب إنما هي طرق معنوية لا يضاف لعالم منها إلا ما اختص به. وكذلك يقال المذاهب المشهورة أربعة، ولـن يـحـصـل الـتـعـدد إلا بالاختصاص لا بالمشترك بينها.
إجماع من الأمة المحمدية. ولا يقال : هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة إلا فيما يختص به ، لأنه ظاهر اللفظ في الإضافة والاختصاص.
هو وعلى هذا ينبغي أن يزاد في الضابط هذا القيد فإذا قيل لك: ما مذهب مالك؟ فقل: ما اختص به من الأحكام الشرعية الفروعية الاجتهادية، وما اختص به من أسباب الأحكام والشروط والموانع والحجاج المثبتة لها.
وهذا اللائق الذي يفهم في عرف الاستعمال، وما السؤال إلا عنه.
وهذا المولود الاصطلاحي عرفاً: المذهب لحق الأئمة الأربعة بعد وفاتهم رحمهم الله تعالى، وذلك فيما ذهب إليه كل واحد منهم. ولا علم لواحد منهم بهذا الاصطلاح فضلاً عن أن يكون قال به، أو دل عليه، أو دعا إليه.
ولذا قيل: إن نسبة المذهب إلى صاحبه لا يخلو من تسامح، فما كان أئمة المذاهب يدعون أحداً إلى التمسك بمنهجهم في الاجتهاد، ولا كان عندهم منهاج محدد في اجتهادهم، إنما كانوا يتابعون في ذلك منهج من سبقهم من علماء التابعين، وهؤلاء عن الصحابة إلى رسول الله ﷺ.
ولم يحدث هذا إلا في القرن الرابع الهجري، عندما دعت الظروف إلى هذا النوع من الالتزام بمنهاج معين في الفقه. ولم تكن المذاهب قد استقرت على رأس المائة الثالثة، وإن كانت بذرة المذاهب قد بدأت قبل هذا العصر بزمان؛ إذ كان أهل المدينة يعتمدون على فتاوى ابن عمر، وأهل مكة على فتاوی ابن عباس وأهل الكوفة على فتاوى ابن مسعود فكان هذا أول غرس لأصل التمذهب بالمذاهب.
فهذه البداية في غرس غراس التمذهب وأخذ أقوال الصحابة رضوان الله عنهم فاختلفت مذاهب أصحاب النبي له صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنهم التابعون كل واحد ما تيسر له، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله ومذاهب الصحابة وعقلها، المختلف على ما تيسر له، ورجح الأقوال وجمع بعضها على بعض، واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثوراً عن كبار الصحابة، لما استفاض من الأحاديث بخلافها.
فأظمأ الله أكباداً إلى علومهم، فرغبوا فيها وأخذوا عنهم الحديث، وفتاوى الصحابة وأقاويلهم، ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم، واستفتي منهم المستفتون، ودارت المسائل بينهم، فكان لكل منهم اختصاص بعالم من علماء الصحابة رضوان الله عليهم.
فسعيد بن المسيب وأصحابه يذهبون إلى أن أهل الحرمين أثبت الناس في الفقه، وأصل مذهبهم فتاوى عمر وعثمان وقضاياهما وفتاوى عبد الله بن عمر، وعائشة وابن عباس، وقضايا قضاة المدينة، فما أجمع عليه عضوا عليه بالنواجذ، وما اختلف فيه بذلوا جهدهم في التخيير والترجيح والعمل بالأقوى من كلامهم، فإن لم يجدوا جواب مسائلهم خرجوا على أقوالهم.
يرون أن عبد الله بن مسعود وكان إبراهيم النخعي وأصحابه رحمهم الله، وأصحابه أثبت الناس في الفقه، فأصل مذهبه فتاوى ابن مسعود وقضايا علي وفتاواه، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة، فصنع في آثارهم كما صنع أهل المدينة في آثار أهل المدينة، وخرجوا كما خرجوا، فتلخص له مسائل الفقه في كل باب باب.
أما من جاء بعدهم فتتبعوا أثر من قبلهم فشدوا على المجمع عليه بالنواجذ، واستقرؤوا ما كان من شيوخهم فرجحوا بين المتعارض وخرجوا عليه المسكوت عنه، وألهموا التدوين فدون مالك وابن أبي ذئب موطأتهم بالمدينة، وابن جريج وابن عيينة بمكة، والثوري بالكوفة، والربيع بن صبيح بالبصرة رحمهم الله تعالى جميعاً.
وكان مالك له أثبتهم في فقه المدنيين وحديثهم حتى صار علماً للمدرسة المدنية.
فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهب على حياله، فانتصب في كل بلد إمام ؛ مثل سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر رحمهما الله في المدينة ؛ وبعدهما الزهري والقاضي يحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها ، وعطاء بن أبي رباح بمكة، وإبراهيم النخعي والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، وطاوس بن كيسان باليمن ومكحول بالشام. رحمهم الله تعالى جميعاً.
وتوالى أصحابه يروون مذهبه وينشرون طريقته في البلدان والأصقاع.
أما إبراهيم النخعي وأصحابه الله فورث علمهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي له؛ فهو ألزم الناس بمذهب إبراهيم لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج دقيق النظر في وجوه القول، مقبلاً على الفروع أتم إقبال، وأكرمه الله بأصحاب كالبدور؛ فأعظمهم أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم و محمد بن الحسن الشيباني رحمهما الله تعالى، فأظهرا مذهبه في الفتيا والقضاء.
وكان أحسنهما تصنيفاً الإمام محمد رحمه الله تعالى، وكان قرأ على مالك موطأه ثم رجع إلى بلده، فطبق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة مسألة، فإن وافق فيها وإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياساً ضعيفاً أو تخريجاً ليناً يخالفه حديث صحيح مما عمل به الفقهاء، أو يخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف مما يراه أرجح. وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يخالفان محجة إبراهيم ما أمكن، كما كان أبو حنيفة يفعل ذلك.
ثم جاء الشافعي رحمه الله تعالى في أوائل ظهور المذهبين وترتيب لأصولهما وفروعهما، فنظر في صنيع الأوائل، فوجد فيه أموراً كبحت عنانه عن الجريان في طريقهم، فأخذ الفقه من الرأس، فأسس الأصول وفرع الفروع وصنف الكتب فأجاد وأفاد ، واجتمع عليه الفقهاء، وتصرفوا اختصاراً وشرحاً واستدلالاً وتخريجاً ثم تفرقوا في البلدان، فكان هذا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
هذه نبذة سريعة عن تشكل المذاهب وبداية انتشارها.
أما تعريف المذهب اصطلاحاً فهو :
ما قاله الإنسان معتقداً له بدليله ومات عليه أو جرى مجرى قوله أو شملته علته.
وعلى هذا يشمل المذهب ما نسب للإمام تخريجاً، أو قاله الجارون على طريقته في الاستنباط.
وقد اتفق أهل العلم على جواز التمذهب، بل وجوبه في بعض الأحوال.
قال الإمام الزركشي رحمه الله تعالى: العامي الصرف؛ والجمهور على أنه يجوز له الاستفتاء، ويجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها، ولا ينفعه ما عنده من العلوم لا تؤدي إلى اجتهاد وحكى ابن عبد البر فيه الإجماع، ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد ،علمائها وأنهم المرادون بقوله تعالى: {فسئلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. قال: وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره في القبلة.
ونبه على ضرورة اتباع المذاهب المقررة الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى؛ فيقول في معرض حديثه عن أهل الأعصار الأولى وما كانوا عليه من استفتاء كل أحد: فلو استمر الحال في هذه الأزمان على ما كان عليه في الصدر الأول، بحيث أن كل أحد يفتي بما يدعي أنه يظهر له أنه الحق لاختل نظام الدين لا محالة، ولصار الحلال حراماً والحرام حلالاً، ولقال كل من شاء ما يشاء، ولصار ديننا بسبب ذلك مثل دين أهل الكتابين من قبلنا. فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه بأن نصب للناس أئمة مجتمعاً على علمهم ودرايتهم، وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى من أهل الرأي والحديث. فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم.
وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر ،قواعدهم حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وفصوله.
حتى ترد إلى ذلك الأحكام، ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام. ولابد من بيان حقيقة أساسية؛ وهي: أن الأمة الإسلامية تمتعت عبر قرون طوال باستقرار ديني مكنها من التقدم في مجالات الحياة، ومن أهم عوامل هذا الاستقرار رسوخ الاحترام للمذاهب المتبوعة، فكانت الأمة علماء وعامة تجل المذاهب الفقهية المعتمدة مما مكن العلماء من الاستنباط وفق قواعدها وإفتاء العامة بموجبها، وكان من شأن هذا أن يزيد وحدة الأمة رسوخاً، ويبعدها عن التشرذم والانقسام.
كما أن هذه المذاهب الفقهية لم تكن وسيلة للتعصب عند الناس، بل نمت فيهم احترام الرأي الآخر، وتقبل المخالف، وعدم الإنكار عليه. ومن ذلك ما قاله الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه.
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم.
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى : إن للمفتي إذا استفتي وكانت فتواه ليس فيها سعة للمستفتي أن يحيله إلى من عنده سعة بعد هذا الكلام في معنى المذهب والتمذهب عامة، ننتقل إلى الكلام في المذهب الشافعي.
والكلام في المذهب عموماً يشمل أموراً منها:
۱- معرفة إمام المذهب.
۲- معرفة علماء مذهبه.
٣-وأصوله وجذوره ومصطلحاته.
٤- وكيفية نقله.
٥- ومعرفته وشروط ذلك وكيفية الطلب والتلقي له.
٦- ومعرفة كتبه.
أما الإمام الشافعي الله فقد كثرت الكتب في التعريف به وجمع أقواله وحكمه؛ فمما أفرد لذلك:
مناقب الشافعي للإمام البيهقي رحمه الله تعالى؛ وهو أوسع مرجع فيما يختص بحياة الإمام الشافعي، وأقواله وحكمه.
آداب الشافعي ومناقبه للإمام أبي حاتم الرازي مناقب الشافعي للإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري صاحب «المستدرك».
مناقب الشافعي لأبي عبد الله الآبري.
مناقب الشافعي للإمام فخر الدين الرازي.
حلية الإمام الشافعي للإمام ابن الصلاح الشهرزوري.
مناقب الشافعي للحافظ ابن كثير توالي التأنيس بمعالي ابن إدريس للحافظ ابن حجر العسقلاني. عدا الكتب التي ترجمته في ثناياها من كتب التراجم والسير.
وفي عصرنا ألفت عن الشافعي رحمه الله مؤلفات عدة؛ منها:
الشافعي حياته وعصره، آراؤه وفقهه لفضيلة العلامة الشيخ محمد أبو زهرة.
الإمام الشافعي ناصر السنة وواضع علم الأصول، لعبد الحليم الجندي.
الإمام الشافعي؛ للشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الجامع الأزهر.
الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد، للدكتور أحمد نحراوي عبد السلام الأندونيسي.
الإمام الشافعي للشيخ عبد الغني الدقر.
الشافي من سيرة الإمام الشافعي للدكتور مصطفى الفران.
واعتنى الدكتور مصطفى مجاهد بهجت بجمع شعر الشافعي رحمه الله تعالى، وطبعته أحسن طبعات الديوان.
كما توجد له تراجم ضافية في كتب التواريخ والتراجم، سيما: معجم الأدباء لياقوت الحموي رحمه الله تعالى، وسير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله تعالى، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، وتاریخ دمشق للحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى.
وهي وإن استمد أغلبها من (المناقب) للإمام البيهقي، وآداب الشافعي لابن أبي حاتم الرازي رحمه الله تعالى، إلا أنها جمعت ما تفرق فأوعت وأربت.
لكن لا نخلي هذا الكتاب من ترجمة موجزة للإمام المطلبي وذكر طرف من أقواله وأحواله، رجاء أن يحشرنا الله مع الصالحين ويرحمنا بذكرهم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
أحب الصالحين ولست منهم.. . لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكـره مـن بـضـاعـتـه المعاصي .. . وإن كنا سواء فـي الـبـضــاعـة
سمات المنهج الاجتهادي لدى الإمام الشافعي
١-منهج الشافعي في دفع التعارض:
قال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة مبيناً منهجه في الأحاديث المتعارضة:
الأحاديث إذا اختلفت لم نذهب لواحد منها دون غيره إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تركنا.
ثم فصل ذلك بقوله: أن يكون أحد الحديثين أشبه بكتاب الله، فإذا أشبه كتاب الله كانت فيه الحجة فإن لم يكن فيه نص كتاب الله كان أولاهما بنا الأثبت منهما، وذلك أن يكون من وراءه أعرف إسناداً وأشهر بالعلم وأحفظ له، أو يكون روي الحديث الذي ذكرنا من وجهين أو أكثر، والذي تركنا من وجه، فيكون الأكثر أولى بالحفظ من الأقل، أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله، أو أشبه بما سواهما من سنن رسول الله ، أو أولى بما يعرف أهل العلم أو أصح في القياس، والذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
٢-الاستقراء:
يعتمد الشافعي رحمه الله تعالى على الاستقراء في بناء بعض الأحكام، التي يرى أن عرف الناس داخل فيها ؛ فمن أشهر الأمثلة على ذلك، كلامه في أكثر الحيض وأقله، وأقل مدة الحمل وأكثره. فهذه الأمور عائدة إلى الاستقراء ومطالعة أعراف الناس وعاداتهم.
يقول رحمه الله: قد رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوماً ولا تزيد عليه، وأثبت لي عن نساء أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاث، وعن نساء أنهن لم يزلن يحضن خمسة عشر يوماً، وعن امرأة أو أكثر أنها لم تزل تحيض ثلاث عشرة.
وربما تغير ما وجده الشافعي أو ألفى عليه أهل بلد فتغير الحكم تبعاً لذلك.
ومن أمثلة ذلك ما قرره ابن الملقن -رحمه الله تعالى -في النفقة الواجبة للزوجة: فقد نقل نص الإمام على كون الواجب رطلاً من اللحم في الأسبوع ثم قال : كذا قاله الشافعي قال الأكثرون : ذكره على عادة أهل مصر لعزة اللحم عندهم أما حيث يكثر فيزاد للعادة.
٣-التفسير الظاهري للشريعة
وثمة ملاحظة هامة نبه إليها الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى وجلاها تلميذه الدكتور محمد بلتاجي رحمه الله تعالى وهي: تفسير الشريعة تفسيراً مادياً ظاهرياً وسد الذرائع.
فيقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى : وليس المراد من الأخذ بالظاهر وأن أحكام الشريعة تناط بالظاهر أن يتتبع كل ظاهر ولو كان يقبل التخلف.
بل المراد أن تناط أحكام الشريعة بأمور لا تحتاج في تعرفها واستنباطها إلى الحدس والتخمين والظن، بأن ترد إلى أمور منضبطة مطردة مستقيمة معروفة.
يقول الشافعي رحمه الله تعالى : الأحكام على الظاهر، والله ولي المغيب، ومن حكم على الناس بالإمكان جعل لنفسه ما حظر الله تعالى ورسوله ﷺ، لأن الله عز و جل إنما يولي الثواب والعقاب على المغيب، لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه. وكلف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر ولو كان لأحد أن يأخذ بباطن عليه دلالة كان ذلك لرسول الله ﷺ صحيح.
ويوضح الدكتور محمد بلتاجي: أن الشافعي لا يفسد العقود إلا ما نص فيها على شروط مفسدة، وصحح الشافعي بيع العينة باعتبار أنه عقد الصورة فلم ينظر فيه إلى قصد المتبايعين.
كما أن الشافعي لم يورث في طلاق الفرار مع أن المذاهب الثلاثة ورثت الزوجة بناء على أن الزوج طلقها قبيل وفاته ليحرمها من الإرث موافقة لقضاء عثمان رضي الله عنه، لكن الشافعي مشى في المسألة على القاعدة.
وهي نزعة لتفسير الشريعة ومصادرها تفسيراً مادياً ظاهرياً، لكن كيف يفسر هذا الاتجاه عند الشافعي؟
يقول الدكتور البلتاجي: هذه النزعة يفسرها اتجاهه الواضح إلى تقنين أصوله وخطته التشريعية باعتباره أول واضع لأصول الفقه.
والتقنين ووضع القواعد يحتاج إلى أمور ظاهرة واضحة منضبطة تبنى عليها هذه القواعد وتستخلص منها، أما الاعتبارات الباطنية الداخلية المتعلقة بالنيات والأهداف الخفية فهي أمور غير ظاهرة أو منضبطة، بحيث لا يمكن رصدها بوضوح وتقريرها وتقنينها في قواعد يعبر عنها بألفاظ واضحة منضبطة مطردة الحدود والمعاني.
ولأن الشافعي هو أول من اتجه إلى تقنين القواعد وتقريرها في عبارات واضحة فإنه قد واجه مشكلة كبيرة فيما يتصل بمراعاة النيات الباطنة والاعتبارات الداخلية في العقود والمسائل التشريعية بعامة؛ لأن هذه النيات غير ظاهرة ظهوراً واضحاً بحيث يمكن أن تنضبط في قواعد مقننة، فهي لا يمكن الاطلاع عليها دائماً أو بيقين واضح وتقنين القواعد يحتاج الظاهر الواضح المنضبط الذي يمكن رصده والاطلاع عليه، مما جعل الشافعي في نهاية الأمر يغفل كل هذه الأمور ويقتصر على الظاهر المنضبط الواضح.
لكن هل معنى هذا أن الشافعي رفض قاعدة (سد الذرائع) رفضاً مطلقاً ؟
لا يوجد كلام للشافعي في تفصيل ذلك، لكن الشافعي لم يرفض هذه القاعدة رفضاً مطلقاً؛ لأنها قد ثبتت بنصوص كثيرة جداً من القرآن والسنة وعمل الصحابة حتى أصبحت من مقررات التشريع الإسلامي الثابتة، بيد أنه من المقطوع به من كلام الشافعي أنه رفض تحكيمها في العقود خاصة، لأن للعقود بعدين تشريعيين:
البعد الظاهري بما يتضمن من ألفاظ منطوق بها وإيجاب وقبول.
والبعد الباطني بما يتضمن من نية حقيقية خفية للمتعاقدين لا يطلع عليها إلا الله تعالى.
والذرائع تابعة للبعد الثاني، ومن ثم يرفضها الشافعي مجيزاً العقود بناء على الاعتبار الأول فقط.
بيد أن الشافعي قد عمل بسد الذرائع في شيء من فقهه، فيروي الربيع عنه ما نصه: كان الشافعي يرى أن الصناع لا يضمنون إلا ما جنت أيديهم، ولم يكن يظهر ذلك كراهة أن يجترئ الصناع، وهذا يدل بوضوح على أن الشافعي عمل فعلاً بقاعدة سد الذرائع.
على أن مجموع ما صحت نسبته إليه -مما يمكن القول بأن مستنده فيه هو مراعاة سد الذرائع قليل بالنسبة لمجموع فقهه، مما يدل على أنه كان لا يتوسع في العمل بهذه القاعدة.
ويرى الدكتور البلتاجي أن هذا كان نتيجة لنزعة بناء الشريعة على أمور ظاهرة يمكن تقنينها في قواعد مطردة واضحة وذلك أن العمل بسد الذرائع يرجع في كثير من مسائله إلى اعتبارات خارجة عن حدود الفعل المحكوم فيه نفسه، مما لا ينضبط ظاهرياً ويقرب من معنى الاستحسان الذي رفضه الشافعي في إصرار.
٤-الاستحسان:
رفض الشافعي رحمه الله تعالى الأخذ بالاستحسان رفضاً قاطعاً، وعده من التشريع بالهوى والرأي حتى قال: من استحسن فقد شرع.
ولا بد لفهم موقف الشافعي من الاستحسان معرفة معناه عند من قال به أولاً؛ ثم بيان ما فسره به الشافعي رحمه الله تعالى، وجرى عليه علماء مذهبه من بعده.
فقد ارتضى ابن قدامة في تعريفه أنه: العدول عن حكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة.
ونقل الآمدي عن الكرخي رحمه الله -في تعريفه أنه: العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه أقوى منه.
أو: العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي.
قال الزركشي رحمه الله -عقبه: قال الكيا: هو أحسن ما قيل في تفسيره.
وعلق الشيخ محمد أبو زهرة- رحمه الله تعالى -على هذا التعريف بقوله: وهذا التعريف أبين التعريفات لحقيقة الاستحسان عند الحنفية، لأنه يشمل كل أنواعه، ويشير إلى أساسه ولبه، إذ أساسه أن يجيء الحكم مخالفاً قاعدة مطردة، الأمر يجعل الخروج عن القاعدة أقرب إلى الشرع من الاستمساك من القاعدة، فيكون الاعتماد عليه أقوى استدلالاً في المسألة من القياس، وهذا التعريف يصور لنا أن الاستحسان كيفما كانت ره وأقسامه يكون في مسألة جزئية ولو نسبياً، في مقابل قاعدة كلية فيلجأ إليه الفقيه في هذه الجزئية، لكيلا يؤدي الإغراق في الأخذ بالقاعدة التي هي القياس إلى الابتعاد عن الشرع في روحه ومعناه.
هذا حقيقة الاستحسان عند. أخذ من به، فهو ليس إلا إعمالاً لدليل يتوافق مع روح الشرع عدولاً عن نظائر المسألة إلى ما يحقق المصلحة ومقصد الشارع الحكيم.
ولكن هل هذا هو الاستحسان الذي رفضه الشافعي؟
عقد الشافعي رحمه الله تعالى في آخر «الأم» فـصـلاً سماه: «إبـطـال الاستحسان» بين فيه أن الدليل الملزم للحاكم أو المفتي هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، ثم ما أجمع عليه المسلمون ويأتي القياس مؤيداً بنصوص شرعية تبين جوازه.
فيقول رحمه الله تعالى: لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكماً أو مفتياً أن يحكم ولا أن يفتي إلا من جهة خبر ،لازم وذلك الكتاب ثم السنة، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه أو قياس على بعض هذا لا يجوز له أن يحكم أو يفتي بالاستحسان، إذا لم يكن الاستحسان واجباً ولا في واحد من هذه المعاني.
.. لأن من طلب أمر الله بالدلالة عليه فإنما طلبه بالسبيل التي فرضت عليه. ومن قال : استحسن لا أمر الله ولا أمر رسوله فلم يقبل عن الله ولا عن رسوله. وكان الخطأ في قول من قال هذا بيناً بأنه قد قال: أقول وأعمل بما لم أومر به، ولم أنه عنه وبلا مثال على ما أمرت به ونهيت عنه، وقد قضى الله بخلاف ما قال فلم يترك أحداً إلا متعبداً.
ولما رأى الشافعي رحمه الله أن الاستحسان عند من قال به لا يقوم على مجرد التشهي، بل تعضده أدلة وأمارات خفية ربما أفادت الظن الراجح، فقد بين أن الأخذ بالدليل يحتاج لدلالات وعلامات ظاهرة ومثل قائمة خارجة عن مجرد الاعتبارات الباطنية الذاتية، بحيث يمكن للمجتهدين جميعاً الرجوع إليها والاحتكام لها.
يقول رحمه الله -في إبطال الاستحسان: إن أحكام الله عز وجل ورسوله تدل على ما وصفت من أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بالظن وإن كانت له عليه دلائل قريبة، فلا يحكم إلا من حيث أمره الله إلا بالبينة تقوم على المدعى عليه أو إقرار منه بالأمر البين... فلا يجوز في شيء من الأحكام بين العباد أن يحكم فيه إلا بالظاهر لا بالدلائل.
هذا موقف الشافعي رحمه الله من الاستحسان، جعله نوعاً من الحكم بالتشهي.
لكن أهل الأصول في مذهبه رأوا أن الخلاف في التسمية لا في المسمى، فقال التاج السبكي رحمه الله بعد ذكر تعاريف الاستحسان: الخلاف راجع إلى نفس التسمية، وأن المنكر إنما هو جعل الاستحسان أصلاً من أصول الشريعة مغايراً لسائر الأدلة. وأما استعمال لفظ الاستحسان فلسنا ننكره.
وقال الإمام السمعاني -رحمه الله تعالى: واعلم أن مرجع المسألة إلى نفس الخلاف في هذه التسمية فإن الاستحسان على الوجه الذي ظنه بعض أصحابنا من مذهبهم لا يقولون به، والذي يقولونه لتفسير مذهبهم به العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى، وهذا لا ننكره، لكن هذا الاسم لا نعرفه فه اسماً لما يقال به لمثل هذا الدليل.
بل نجد الإمام ابن حجر الهيتمي يستدل لبعض الفروع في المذهب بالاستحسان.
قال -رحمه الله -في مسألة اشتراط القبول في الوقف على معين: والأصح أن الوقف على معين واحد أو جماعة يشترط فيه قبوله إن تأهل، وإلا فقبول وليه عقب الإيجاب أو بلوغ الخبر كالهبة. ورجح في «الروضة» في السرقة : أنه لا يشترط نظراً إلى أنه بالقرب أشبه منه بالعقود، ونقله في شرح الوسيط عن النص، وانتصر له جمع بأنه الذي عليه الأكثرون واعتمدوه.
بل قال المتولي : محل الخلاف إن قلنا إنه ملك للموقوف عليه. أما إذا قلنا : إنه ملك الله تعالى فهو كالإعتاق.
واعترض بأن الإعتاق لا يرتد بالرد ولا يبطله الشرط الفاسد؛ ويرد بأن التشبيه به في حكم لا يقتضي لحوقه به في غيره. وعلى الأول: لا يشترط قبول من بعد البطن الأول وإن كان الأصح: أنهم يتلقون من الواقف ما رجحه جمع متأخرون، لكن الذي استحسناه أنا إذا قلنا بالأصح: اشتراط قبولهم .
وقال في باب الحدود: واستحباب ضرب المرأة في غرارة من شعر ستراً عليها : ولا تجرد ثياب المحدود التي لا تمنع ألم الضرب، أي: يكره ذلك أيضاً فيما يظهر، بخلاف نحو جبة محشوة، بل ينبغي وجوب تجريدها إن منعت وصول الألم المقصود.
وتؤمر أي: وجوباً فيما يظهر أيضاً امرأة أو محرم بشد ثياب المرأة عليها كلما تكشفت، ولا يتولى الجلد إلا رجل. واستحسن الماوردي ما أحدثه ولاة العراق من ضربها في نحو غرارة من شعر زيادة في سترها.
هذا ملخص عن موقف الشافعي رحمه الله من الاستحسان، وموقف من أتى بعده من الأصحاب، يظهر أن الشافعي رحمه الله رد استحساناً لم يقل به القائلون بالاستحسان وهذا ما فهمه الأصوليون والفقهاء من كلامه، وعبروا بأن الخلف لفظي، والله تعالى أعلم.
٥-الشافعي والاستصلاح:
رفض الشافعي -رحمه الله تعالى -إعمال المصلحة في تخصيص النص أو تقييده مطلقاً بلا قيد أو شرط، فهو يرى العمل بالمصالح، لكن بشروط ارتضاها وبينها أهل العلم بأصول الفقه مع أصحابه.
قال الإمام الإسنوي رحمه الله تعالى: المناسب قد يعتبره الشارع وقد يلغيه وقد لا يعلم حاله، وهذا الثالث هو المسمى بالمصالح المرسلة ويعبر عنه بـ: المناسب المرسل، وفيه ثلاثة، مذاهب:
أحدها: أنه غير معتبر مطلقاً. قال ابن الحاجب : وهو المختار. قال الآمدي : إنه الحق الذي اتفق عليه الفقهاء.
والثاني: أنه حجة مطلقاً، وهو مشهور عن مالك، وكذلك قال إمام الحرمين، إلا أنه شرط فيه أن تكون تلك المصالح مشبهة بالمصالح المعتبرة.
والثالث: وهو رأي الغزالي واختاره البيضاوي أنه إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت، وإلا فلا؛ فإن لم تكن المصلحة ضرورية ولا قطعية ولا كلية فلا اعتبار بها، فالضرورية هي التي تكون من إحدى الضروريات الخمس وهي حفظ الدين والنفس والعقل، والمال، والنسب.
ويرى الإمام الغزالي في هذا المقام أنه إذا طرأت ظروف عارضة تقتضي المصلحة فيها مخالفة النص الشرعي، وكان يترتب على التمسك بالنص ضرر محيط عام، فإن رعاية المصلحة هنا على خلاف مقتضى النص واجبة ولا يمكن الاختلاف فيها.
وأما القطعية هي التي يجزم بحصول المصلحة فيها. والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة عامة المسلمين.
مثال ذلك: ما لو تترس الأعداء المحاربون بجماعة من أسرانا الذين في أيديهم، وكان يخشى من ترك الأعداء أن يظهروا علينا، فإنه يجوز بل يجب رميهم بالسلاح، وإن ترتب على ذلك عليه قتل من تترسوا بهم من جندنا المعصومة دماؤهم بالنص القرآني القاطع.
قال العلامة الزرقا رحمه الله: فأنت ترى أن الشافعية يشترطون للعمل بالمصلحة على خلاف مقتضى النص أن تصل المصلحة إلى درجة الضرورة، تطبيقاً لقاعدة أهون الشرين في الظروف الطارئة الاستثنائية. وهذا محل اتفاق حتى تجاه النصوص القطعية، أما الحالات العادية العامة فلا مجال عندهم للتقدير الاستصلاحي.
٦-الشافعي ومذهب الصحابي:
تباينت مواقف الشافعي رحمه الله تعالى من مذاهب الصحابة تبايناً كبيراً، فهو في القديم يصرح أن قول الصحابي حجة، أما في الجديد فاختلف النقل عنه.
فذهب جمهور من أصوليي الشافعية إلى المنع من الأخذ بمذهب الصحابي مطلقاً، ومن أبرز هؤلاء الإمام الغزالي والإمام الآمدي والإمام الرازي -رحمهم الله تعالى.
قال الغزالي: فإن من يجوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته عنه، فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ، وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة؟ وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه.
ثم قال: إن قال قائل: إن لم يجب تقليدهم فهل يجوز تقليدهم؟ قلنا: أما العامي فيقلدهم، وأما العالم فإنه إن جاز له تقليد العالم جاز له تقليدهم، وإن حرمنا تقليد العالم للعالم، فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة. فقال في القديم : يجوز تقليد الصحابي إذا قال قولاً وانتشر قوله ولم يخالف.
وقال في موضع آخر: يُقلّد وإن لم ينتشر، ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابياً كما لا يقلد عالماً آخر، ونقل المزني عنه ذلك، وأن العمل على الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوى. وهو الصحيح المختار عندنا، إذ كل ما دل على تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب الاجتهاد، ولا يفرق بين الصحابي وغيره.
وقال الإمام الآمدي رحمه الله: واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم. والمختار أنه ليس بحجة مطلقاً.
أما الإمام الرازي رحمه الله تعالى، فقد قال في باب الأخـبـار مـن المحصول: فأما إذا قال الصحابي قولاً لا مجال للاجتهاد فيه : فحُسن الظن به يقتضي أن يكون قاله عن طريق، فإذا لم يكن الاجتهاد فليس إلا السماع من النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال في مسألة قول الصحابي : الحق أن قول الصحابي ليس بحجة.
وقال قوم: إنه حجة مطلقاً. بقول الصحابي له وتوجيهها عنده.
ومنهم من فصل، وذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أنه حجة إذا خالف القياس.
وثانيها: أن قول أبي بكر وعمر لا حجة فقط.
وثالثها: أن قول الخلفاء الأربعة إذا اتفقوا حجة.
يقول الشيخ علي جمعة حفظه الله: وكأن الإمام يرى أن قول الصحابي ليس بحجة مطلقاً، أي سواء خالف القياس أو وافقه إلا أنه من باب حسن الظن بهم وليس من باب الحجية يحمل ما خالف القياس على السماع استئناساً.
ويظهر أن الإمام الغزالي رحمه الله ارتضى هذا الموقف من قول الصحابي وجعله موقفاً نهائياً، فقد نقل عنه بعض المالكية جواباً عن مسألة الاحتجاج.
ذكر البرزلي أن ابن العربي سأل الغزالي عمن قلد الشافعي مثلاً، وكان مذهبه مخالفاً لأحد الخلفاء الأربعة أو غيرهم من الصحابة، فهل له اتباع الصحابة لأنهم أبعد عن الخطأ، ولقوله ﷺ: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر؟
فأجاب: أنه يجب أن يظن بالشافعي أنه لم يخالف الصحابي إلا لدليل أقوى من مذهب الصحابي، وإن لم يظن هذا فقد نسب الشافعي للجهل بمقام الصحابي، وهو محال، وهذا سبب ترجيح مذهب المتأخرين على المتقدمين مع العلم بفضلهم عليهم، لكون المتقدمين سمعوا الأحاديث أحاداً وتفرقوا في البلاد فاختلفت فتاويهم وقضاياهم، وربما بلغتهم الأحاديث فوقفوا عما أفتوا به وحكموا، ولم يتفرغوا لجمع الأحاديث، لاشتغالهم بالجهاد وتمهيد الدين، فلما أنهى فتاويهم الناس إلى تابعي التابعين وجدوا الإسلام مستقراً ممهداً، فصرفوا همهم إلى جمع الأحاديث، ونظروا بعد الإحاطة بجميع مدارك الأحكام، ولم يخالفوا ما أفتى به الأول إلا لدليل أقوى، وهذا لم يسم في المذاهب بكرياً ولا عمرياً.
لكن المتتبع لأقوال الشافعي رحمه الله تعالى في الجديد يجد الأمر أوسع من ذلك، ولا يصل إلى هذه النتيجة الحاسمة التي ارتضاها الغزالي رحمه الله.
فهذه مناظرات نقلها السبكي رحمه الله تعالى برواية الربيع راوي المذهب الجديد، تبين اعتماد الشافعي على مذهب الصحابي في الاستنباط. قال الربيع : سئل الشافعي عن الرقية؛ فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله ، أو ذكر الله جل ثناؤه.
فقلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم، ، إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله، أو ذكر الله.
فقلت : وما الحجة في ذلك؟
فقال: غير حجة، فأما رواية صاحبنا وصاحبكم، فإن مالكاً أخبرنا عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن: أن أبا بكر دخل على عائشة، وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله.
فقلت للشافعي: إنا نكره رقية أهل الكتاب. فقال: ولم؟ وأنتم تروون هذا عن أبي بكر، ولا أعلمكم تروون هذا عن غيره من أصحاب النبي الله وخلافه وقد أحل الله طعام أهل الكتاب ونساءهم وأحسب الرقية إذا رقوا بكتاب الله مثل هذا، أو أخف.
قال السبكي: روى ذلك الحاكم في مناقب الشافعي عن الأصم عن الربيع، وأظن السائل والمناظر في ذلك محمد الحسن. وقد تضمن أن قول الصحابي إذا لم يعرف له مخالف حجة عند من لا يراه حجة إذا خالفه غيره. ونظيره ذكر الربيع أيضاً مناظرة الشافعي مع محمد بن الحسن في زكاة مال اليتيم، وقول الشافعي في أثناء كلامه إلا أن أصل مذهبنا ومذهبكم أنا لا نخالف الواحد من أصحاب النبي الله إلا أن يخالفه غيره منهم. في مناظرة طويلة في المسألة.
وذكر الربيع مناظرته أيضاً مع محمد بن الحسن في المدبر، وفيها يقول لمحمد بن الحسن : هل لك أن تقول على غير أصل، أو قياس على أصل؟ قال: لا.
قلت: فالأصل كتاب الله أو سنة رسول الله ، أو قول بعض أصحاب رسول الله ﷺ ، أو إجماع الناس في مناظرة طويلة، قال الشافعي في آخرها: فرجع محمد إلى قولنا في بيع المدبر.
ونقل الإمام الزركشي رحمه الله عن نص (الأم) مسائل اختار الشافعي فيها العمل بقول الصحابة؛ يقول رحمه الله: قال في الأم: إذا أصاب الرجل بمكة حماماً من حمامها فعليه شاة، اتباعاً لعمر وعثمان وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وقال في اختلاف الحديث : أخذت بقول عمر : في اليربوع والضبع حمل.
ثم قال: تصرفات الشافعي في الجديد تقتضي أنه حجة بشرطين:
أحدهما: أن لا يكون للاجتهاد فيه محل.
الثاني: أنه يرد في موافقة قوله ،نص، وإن كان للاجتهاد فيه مجال كما فعل في مسائل الفرائض مقلداً زيداً فيها.
كما قال ابن الرفعة في مقدمة كتاب الفرائض: واختار الشافعي من مذاهبهم مذهب زيد لأنه أقرب إلى القياس ولقوله: (أفرضكم زيد). ويعني اختياره له أنه إذا نظر في أدلته فوجدها مستقيمة فاتبعها، لا أنه قلده، إذ المجتهد لا يقلد المجتهد.
فالشافعي رحمه الله تعالى لم يعمل بقول الصحابي مطلقاً؛ كما لم يهجره بالكلية كما قال الغزالي ومن تابعه ولا يأخذ به مطلقاً كما قال الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى، ووجه كلامه بأن قال: وقد تعلق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة موافقاً لا يعتمد عليها وحدها، كما يفعل في النصوص، بل يعضدها بضروب من الأقيسة، فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها، وتارة يوافقها ولا يعتمد عليها بل يعضدها بدليل آخر، وهنا أيضاً تعلق أضعف من الذي قبله، فإن تظاهر الأدلة وتعاضدها وتناصرها، من عادة أهل العلم قديماً وحديثاً، ولا يدل ذكرهم دليلاً وثانياً وثالثاً على أن ما ذكروه قبله ليس الدليل.
يبقى ما إذا قال صحابي واحد قولاً واحداً لا يعلم له مخالف أو موافق بين الصحابة: سئل الشافعي: ماذا تفعل إذا قال واحد من الصحابة قولاً لا يحفظ عن غيره فيه موافقة ولا اختلاف؟
فقال: أصير إلى اتباع قول واحد إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً في معناه يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس. وقل ما يوجد من قول الواحد منهم لا يخالفه غيره من هذا هنا بأنه . هذا القول المفرد للصحابي في المسألة حجة تشريعية، ومصدراً ينبغي أن يصار إليه وافقه نص أو إجماع أو قياس أم لا. مع تصريحه بقوله هذا.
فالشافعي يصرح يعتبر عمر له بقتل الجماعة بالواحد ؛ وقوله : لو تمالاً فمن هذه القلة حكم عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً.
فالشافعي أخذ بهذا، ولم يعده إجماعاً سكوتياً من الصحابة لأنه لا ينسب لساكت قولاً كما عرف من مذهبه.
وقد وقفت على بحث في المسألة للإمام الحافظ العلائي رحمه الله تعالى، لخص فيه الأقوال، وبين كيفية أخذ الشافعي بمذاهب الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ممن أفرد هذه المسألة بتصنيف مستقل؛ وهو: «إجمال الإصابة في أقوال الصحابة» .
ثم عاد ولخصه في آخر كتابه: «المجموع المذهب في قواعد المذهب» أثبته لما فيه من فوائد منثورة جمعها.
قال الإمام العلائي: فصل: في تحرير أقوال الإمام الشافعي رحمه الله في قول الصحابي والاحتجاج به، وقد أطلق الأصوليون أن له قولين في ذلك، واشتهر بين الأصحاب أن القول بكونه حجة هو القول القديم، وأن قوله الجديد أنه ليس بحجة. قال الإمام وإنما يكون حجة إذا لم يختلف الصحابة، ولكن نقل عن واحد منهم ولم يظهر خلافه، فيكون حينئذ حجة وإن لم ينتشر.
قلت: وقد نقل ابن الحاجب الاتفاق على أن قول الصحابي ليس بحجة على صحابي آخر، وفي ذلك نظر، فقد قال إمام الحرمين بعد الكلام المتقدم، ونقل القولين عن الشافعي رحمه الله وقال في بعض أقواله ـ يعني الشافعي: إذا اختلفت الصحابة فالتمسك بقول الخلفاء أولى، قال الإمام: وهذا كالدليل على أنه لم يسقط الاحتجاج بأقوال الصحابة من أجل الاختلاف، وقال في بعض أقواله:
القياس الجلي مقدم على قول الصحابي، وقال في موضع آخر:
قول الصحابي مقدم على القياس. وقال الماوردي في كتاب البيع من «الحاوي» في مسألة البيع بشرط البراءة من العيوب.
فمذهب الشافعي في الجديد: أن قياس التقريب إذا انضم إلى قول الصحابي كان أولى من قياس التحقيق، وحكى ابن الصباغ في كتاب (العدة) عن بعض الأصحاب أنه نقل عن الشافعي به أنه إذا كان مع قول الصحابي قياس ضعيف كان أولى من القياس الصحيح قولاً واحداً.
هذا أيضاً حكاه الماوردي فى كتاب الأقضية من الحاوي عن القديم لكنه قال: ذاك في القياس الخفي مع الجلي.
وذكر الغزالي رحمه الله في «المستصفى من تفاريع القول القديم أن الشافعي رحمه الله قال في كتاب اختلاف الحديث: إنه روي عن علي الله أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة بست سجدات، ثم قال : إن ثبت ذلك عن علي قلت به.
قال الغزالي: وهذا لأنه رأى أن القول بذلك لا يكون إلا عن توقيف، إذ لا مجال للقياس فيه. قلت : وهذا يقتضي تخريج قول الشافعي، إن قول الصحابي فيما لا يدرك بالقياس حجة دون غيره، وفيه نظر؛ لأن هذا بناء من الشافعي على مطلق القول بأن قول الصحابي حجة، ثم قوله: إن ذلك تفريع على القول القديم ضعيف أيضاً، لأن اختلاف الحديث من كتب الشافعي الجديدة بمصر، رواه عنه الربيع بن سليمان، وقد نص الشافعي رحمه الله على ذلك أيضاً في غيره من كتبه الجديدة، فقال في الرسالة الجديدة في أقاويل أصحاب رسول الله ﷺ إذا تفرقوا : نصير إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع، أو كان أصح في القياس، وإذا قال واحد منهم القول، ولا يحفظ عن غيره منهم موافقة ولا خلافاً، صرنا إلى اتباع قول ،واحدهم، إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً يحكم له بحكمه، أو وجد معه قياس.
وقال في كتاب اختلافه مع مالك رحمهما الله تعالى، وهو من الكتب الجديدة أيضاً داخل في كتاب «الأم»: ما كان الكتاب والسنة موجودين، فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا باتباعهما، فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله ﷺ أو واحدهم، وكان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان أحب إلينا إذا صرنا إلى التقليد، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف، يدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة، فيتبع القول الذي معه الدلالة، لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس، ومن لزم الناس قوله كان أظهر ممن يفتي الرجل أو النفر، وقد يأخذ بفتياه ويدعها، وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم، ولا يعنى الخاصة بما قالوه عنايتهم بما قال الإمام، ثم قال : فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله ﷺ في الدين موضع الأمانة، أخذنا بقولهم وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم.
قال: والعلم طبقات: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة.
والثانية: الإجماع فيما ليس فيه من كتاب ولا سنة.
الثالثة: أن يقول بعض أصحاب رسول الله ﷺ ولا نعلم لهم مخالفاً منهم.
والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات، ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى. هذا كله نص في الكتاب المشار إليه.
رواه الإمام البيهقي عن شيوخه عن أبي العباس الأصم عن الربيع بن سلیمان عنه، وهو صريح في أن قول الصحابي عنده حجة مقدمة على القياس، كما نقله عنه الإمام فيما تقدم، فيكون له قولان في الجديد، وأحدهما موافق للقديم، في حجية قول الصحابي رضي الله عنه، وإن كان قد غفل عن نقله أكثر الأصحاب، ومن كلامه في القديم، لما ذكر الصحابة رضوان الله عليهم أن الشافعي، قال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم، أو استنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى، أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلم لرسول الله ﷺ سنة إلى قولهم إن اجتمعوا وقول بعضهم إن تفرقوا فهكذا نقول : إن اجتمعوا أخذنا بإجماعهم، فإن قال واحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، وإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم، ولم يخرج عن أقاويلهم كلهم.
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب أيضاً : فإن لم يكن على قول أحدهم دلالة من كتاب ولا سنة، كان قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أحب إلي أن أقول به من قول غيرهم إن خالفهم من قبل أنهم أهل علم وأحكام. ثم قال: وإن اختلف المفتون بعد الأئمة ـ يعني من الصحابة ـ بلا دلالة، فيما اختلفوا فيه نظرنا إلى الأكثر، فإن تكافؤوا ، نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجاً عندنا ... وذكر بقية الكلام.
فيحصل من كل ما تقدم للشافعي في قول الصحابة أقوال:
أحدها: أنه حجة مقدمة على القياس، وهو قوله القديم، ونص عليه في الجديد أيضاً، كما تقدم في كتاب اختلافه مع مالك رحمهما الله تعالى.
وثانيها: أنه ليس بحجة مطلقاً، الذي اشتهر بين الأصحاب أنه قوله وهو الجديد.
والثالث: أنه حجة، إذا انضم إليه قياس فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي، كما أشار إليه في كتاب «الرسالة الجديدة»، وظاهر كلامه أن يكون القياسان متساويين؛ لأنه لم يفرق بين قياس وقياس، وقد تقدم فيما نقل الإمام عنه في قول تخصيص القياس الجلي بتقديمه على قول الصحابي، فعلى هذا يكون المراد بالقياس الذي يعتضد بقول الصحابي القياس الخفي لا الجلي، فيكون في نقله الإمام قول رابع له، وفيما نقله الماوردي أنه قياس التقريب، إذا اعتضد بقول الصحابي كان أولى من قياس التحقيق، قول خامس، وفيما نقله ابن الصباغ حكاية عن بعض الأصحاب أن القياس الضعيف إذا اعتضد بقول الصحابي كان أولى من القياس القوي، قول سادس، إن جعلنا القياس الضعيف أعم من قياس التقريب وغيره، وفيما خرجه الغزالي أنه يكون حجة إذا لم يكن مدركاً بالقياس، دون ما للقياس فيه مجال، قول سابع، وهذا كله إذا كان قول الصحابي الله له منفرداً ولم يشتهر فإن اشتهر ولم يخالف فقد تقدم حكمه عند ذكر الإجماع السكوتي، فإن خالفه غيره من الصحابة؛ فقد تقدم أن الشافعي يقدم قول أحد الخلفاء الأربعة على غيرهم، وأنه يرجح قول من اعتضد قوله بالقياس.
وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في (شرح اللمع)، أنه إذا قيل بأن قول الصحابي حجة، فيكون قول المخالفين منهم كحجتين تعارضتا، فيرجح أحد القولين على الآخر بكثرة العدد، فإن استويا قدم بالأئمة، فإن كان في أحدهما الأكثر، وفي الآخر الأقل لكن مع الأقل أحد الأئمة الأربعة تساويا، فإن استويا في العدد والأئمة ومع أحدهما أحد الشيخين - ففيه وجهان:
أحدهما: أنهما سواء.
والثاني: ترجيح القول الذي معه أحد الشيخين رضوان الله عليهما.
وقد ذكر الغزالي رحمه الله بعد هذا في المستصفى» أنه إذا قيل بأن قول الصحابي ليس بحجة، فهل يجوز للعالم - يعني المجتهد ـ تقليده؟
قال: اختلف فيه قول الشافعي رحمه الله تعالى فقال في القديم: يجوز تقليده، وإن لم ينتشر، ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابياً آخر، نقل المزني رحمه الله عنه ذلك، وهو الصحيح المختار، وتبعه على إفراد هذه المسألة فخر
الدين الرازي وأتباعه والآمدي، ولم يتعرض إليها ابن الحاجب وهو الحق؛ لأن الظاهر أن مراد الشافعي بالتقليد هو الاحتجاج؛ لأنه استعمله فيه في موضع الحجة، فقال في مختصر المزني في أدب القاضي: إنه يشاور؛ ولا يشاور إذا نزل به المشكل إلا أميناً عالماً بالكتاب والسنة والآثار وأقاويل الناس ولسان العرب.
ثم قال بعد ذلك: فأما من يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلق اسم التقليد على الرجوع إلى قول النبي ﷺ وهو حجة قطعاً، فكذلك قوله في تقليد الصحابي، لا سيما مع ما تكرر من قوله في غير موضع من النهي عن التقليد، والمنع منه، ثم قول الغزالي رحمه الله إنه رجع عنه في الجديد، منقوض بما نص عليه في مختصر المزني رحمه الله في البيع بشرط البراءة من العيوب، بقوله: الذي أذهب إليه قضى عثمان له أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من عيب علمه ولم يسمه ولم يقف عليه، قلته تقليداً، وأعاد هذا الكلام بعينه في كتاب اختلاف العراقيين وهو من الكتب الجديدة أيضاً، وقال نحواً من ذلك في تغليظ الدية بالقتل في الحرم، وأنه يأخذ فيه بقول عثمان الله ، وقد تقدم أنه أخذ في كتاب اختلاف الحديث» بقول عمر رضوان الله عليه في الترقوة والضلع جمل، وإن ذلك في الجديد أيضاً.
وفي المسألة مباحث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها وقد أفردتها بمصنف مستقل.
٧-الاستصحاب:
يعول الشافعي رحمه الله تعالى على الاستصحاب في كثير من المسائل ويشمل الاستصحاب عنده: استصحاب الأصل واستصحاب البراءة الأصلية، واستصحاب اليقين وطرح الشك. حتى صار هذا الأخير أحد خمس قواعد أدار الأصحاب عليها فقه الشافعي.
فمن عمل الشافعي بالاستصحاب قوله: وإذا كان الرجل مسافراً وكان معه ماء فظن أن النجاسة خالطته فتنجس، ولم يستيقن فالماء على الطهارة، وله أن يتوضأ به ويشربه حتى يستيقن مخالطة النجاسة به.
وإن استيقن النجاسة، وكان يهريقه ويبدله بغيره فشك أفعل أم لا ؟ فهو على النجاسة حتى يستيقن أنه أهراقه وأبدل غيره.
وقال أيضاً: ولو شك رجل أنزل أو لم ينزل لم يجب عليه الغسل حتى يستيقن بالإنزال، والاحتياط أن يغتسل.
ويقول: وأصل البيوع كلها مباح إذا كانت برضى المتبايعين الجائزين الأمر فيما تبايعا إلا ما نهى عنه رسول الله ﷺ عنها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله ﷺ محرم بإذنه داخل في المعنى المنهي عنه ، وما فارق ذلك أبحناه مما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله تعالى.
ويرى الدكتور البلتاجي أن هذا يتمشى مع رفض الشافعي للاستحسان، حيث رفض رحمه الله أي حكم لا يرجع إلى نص أو إجماع أو قياس واضح؛ فالله تعالى شرع لكل شيء حكماً، أمر الإنسان أن يبحث عنه ويعمل به، ونصب له الدلائل المعرفة للحكم، فلما قصر الشافعي مجال الاجتهاد على القياس دون الاستحسان كان ذلك تضييقاً نسبياً لمجال العمل بالرأي عنده، فلا أن يقابله توسع نسبي في دائرة المباحات الأصلية التي لا تحتاج إلى نص خاص بها، أو اجتهاد بالرأي فيها، لأن حكم الشرع الأصلي فيها عند الشافعي المطلقة هو الإباحة.
٨-المسائل التقديرية والفقه الافتراضي:
عندما بدأ عصر التقعيد والتدوين لجأ الفقهاء إلى تقدير المسائل، ومحاولة الجواب عما فرضوه فأول من سار في هذا النهج الإمام الشعبي رحمه الله تعالى، ثم وسعه ونماه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رحمه الله تعالى فكانت مدرسته في البحث جمع المتفقهة وعرض المسائل عليهم فيدلي كل منهم برأيه، ويقعد الإمام حكماً يصوب هذا ويخطئ ذاك مبيناً وجه الصواب.
فلما جالس الشافعي تلميذ أبي حنيفة الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى نظر في طرحه المسائل وتوليد الصور على خلاف ما عهد من مدرسة الإمام مالك رحمه الله تعالى في المدينة، فلما جلس لتدوين فقهه في العراق ثم مصر ظهر هذا الجانب جلياً فيما كتب. ولكن كثيراً من أهل العلم استغربوا هذه الطريقة وعدوها اشتغالاً بما لا طائل وراءه.
وفي هذا يقول العلامة محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى: وهذه الطريقة هي التي ملأت الآفاق فقهاً وغوصاً، ولم تكن صدور الفقهاء من غير هؤلاء تتسع للأخذ والرد المتواصلين في المسائل هكذا، بل كان أغلبهم يكتفون بإملاء ما عندهم بدون مناقشة في الغالب مقتصرين في الإجابة على النوازل والوقائع، إلا أن الشافعي كان ارتوى من المعينين الحجازية والعراقية فكان يتلقى الأخذ والرد بصدر رحب، فملأ العالم بالمسائل التقديرية
وخدم نضوج الفقه، كافأ الله الجميع على جميلهم في خدمة الفقه ورضي عنهم أجمعين، ولكل وجهة.
وقول العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى: وقد سلك الفقهاء من بعد أبي حنيفة مسلك الفرض والتقدير، وإن اختلفوا في المقدار، فالليث بن سعد والشافعي وغيرهم من الفقهاء كانوا يفرضون مسائل أحياناً ويفتون فيها، وكان في ذلك نمو عظيم للفقه والاستنباط، ومعرفة أحكام الواقعات والنوازل قبل وقوعها، استعداداً للبلاء قبل نزوله على حد تعبير أبي حنيفة له.
وقد روى الخطيب بسنده إلى الإمام المزني رحمه الله تعالى كلمة رائعة في الرد على منكر السؤال عما لم يقع أسوقها على طولها لما فيها من فائدة، قال رحمه الله تعالى:يقال لمن أنكر السؤال في البحث عما لم يكن : لم أنكرتم ذلك؟ فإن قالوا : لأن رسول الله ﷺ كره المسألة، قيل : وكذلك كرهها بعد أن كانت ترفع إليه لما كره من افتراض الله الفرائض بمساءلته وثقلها على أمته لرأفته بها وشفقته عليها، فقد ارتفع ذلك برفع رسول الله ﷺ، فلا فرض بعده يحدث أبداً.
وإن قالوا: لأن عمر أنكر السؤال عما لم يكن قيل : فقد يحتمل إنكاره ذلك على وجه التعنت والمغالطة، لا على التفقه والفائدة، وقد روي أنه قال لابن عباس: سل عما بدا لك، فإن كان عندنا، وإلا سألنا عنه غيرنا من أصحاب رسول الله ﷺ، وكما روي عن علي من إنكاره على ابن الكواء أن يسأل تعنتاً وأمره أن يسأل تفقهاً، وقد روي عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد في الرجل يخير امرأته فقال عمر وابن مسعود : إن اختارت زوجها فلا شيء، وإن اختارت نفسها فواحدة يملك الرجعة.
وقال علي: إن اختارت زوجها فواحدة يملك الرجعة وإن اختارت نفسها فواحدة بائن، وقال زيد بن ثابت: إن اختارت نفسها فثلاث وإن اختارت زوجها فواحدة بائن، وأجابوا جميعاً في أمرين، أحدهما لم يكن، ولو كان الجواب فيما لم يكن مكروهاً لما أجابوا إلا فيما كان ولسكتوا عما لم يكن.
وعن زيد أنه قال لعلي في المكاتب: أكنت راجمه لو زنى؟ قال: لا، قال: أفكنت تقبل شهادته لو شهد؟ قال: لا. فقد سأله زيد وأجابه علي فيما لم يكن على التفقه والتفطن.
وعن ابن مسعود في مساءلته عبيدة السلماني: أرأيت، أرأيت، وقد ذكرنا فيما مضى ما روي من قول عمر لابن عباس: سلني، وقول علي: سلوني، وقول أبي الدرداء: ذاكروا هذه المسائل، ولو كان هذا السؤال لا يجوز إلا عما كان لما تعرض أصحاب النبي ﷺ جواباً لا يجوز أبداً إن شاء الله.
ويقال له: أليس على كل مسلم أن يطلب الفرائض في الطهارة والصلاة والزكاة والصيام، ونحو ذلك من الكتاب والسنة، قبل أن ينزل ذلك وهو دين؟ فإذا قال: نعم، قيل: فكيف يجوز طلب ذلك في بعض الدين والجواب فيه، ولا يجوز في بعض، وكل ذلك دين؟
ويقال له: هل تخلو المسألة التي أنكرتم جوابها، قبل أن تكون من أن يكون لها حكم خفي، حتى لا يوصل إليه إلا بالنظر والاستنباط، أو لا يكون لها حكم، فإن لم يكن لها حكم فلا المسألة فيها كانت أو لم تكن، وإن كان لها حكم لا يوصل إليه إلا بالمناظرة والاستنباط، فالتقدم
بكشف الخفي، ومعرفته وإعداده للمسألة قبل نزولها أولى، فإذا نزلت كان حكمها معروفاً فوصل بذلك الحق إلى أهله، ومنع به الظالم من ظلمه، وكان خيراً أو أفضل من أن يتوقفوا إلى أن ينضح النظر المسألة عند المناظرة، وقد يبطئ ذلك ويكون في التوقف ضرر يمنع الخصم من حقه، والفرج من حله، وترك الظالم على ظلمه.
وشبهوا أو بعضُهم النازلة فيما بلغني إذا كانت بالضرورة، والجواب فيها بأكل الميتة، فأحلوا الجواب في النازلة، كما أحلوا الميتة بالضرورة، فيقال لهم: أفتزعمون أن الذي ذكرنا روايتكم عنهم من أصحاب رسول الله ﷺ، فيما أجابوا فيه مما لم يكن وتعرضهم جواب ما لم يسألوا عنه قد صاروا بذلك في معنى من أكل الميتة على غير ضرورة؟.
ويقال لهم: ما يشبه خوف المرء على نفسه الموت، فأمر بإحيائها من أكل الميتة من المجيب، إلا مما حل لصاحب المسألة، ولو كان هذا التشبيه لكان إذا حل برجل ضرورة حل لغيره أكل الميتة، كما إذا حلت برجل مسألة، حل لغيره جواب المسألة، وكان أولى التشبيهين، إن جاز أن يقاس على الميتة، أن يكون الجاهل المنزول به المسألة أحق بالجواب الذي يدفع به عن مكروه المسألة، كما كان بضرورة المضرور تحل له الميتة يدفع بها عن نفسه مكروه الضرورة.
قال المزني: وإن قالوا أو بعضُهم : إنما زعمنا أن المسألة إذا نزلت فسئل عنها العالم كان كالمضطر ، فعليه أن يجيب كما كان على المضطر أن يأكل الميتة قيل لهم: فروايتكم عن عشرين ومئة من أصحاب رسول الله ﷺ إذا سئلوا رد المسألة هذا إلى هذا حتى تدور المسألة فترجع إلى الأول توجب في قولكم أنهم تركوا ما فرض الله عليهم، لأن على المضطر فرضاً أن يحيي نفسه بالميتة، ولا يقتلها بترك أكل الميتة قد ترك أصحاب رسول الله ﷺ ما فرض عليهم في الميتة.
ويقال لهم: أليس إنما يجب عليهم جواب المنزول به ليدفع به جهله، وليعلم الجواب ما حرم عليه وحل له؟ فإذا قال: نعم، قيل له: فقد رجعت المسألة إلى أن الضرورة بغيره أو جبت الجواب عليه، فكذلك لضرورة المضطر بغيره يجب أكل الميتة عليه وإلا فهما مفترقان لا يشبه الجواب في المسألة.
ويقال له: أليس إذا نزلت المسألة فسئل عنها العالم حل له الجواب بالسؤال، كما إذا نزلت به ضرورة حل له أكل الميتة بالاضطرار؟ فإذا قال: بلى قيل: وكذلك إذا ارتفع السؤال رجع الجواب حراماً كما إذا ارتفع الاضطرار رجعت الميتة حراماً، فإذا قالوا: نعم، قيل لهم : فلم سألتم عن جواب الماضين وملأتم منه الكتب وهي حرام عليكم، وإنما حلت للعالم بالسؤال، ثم حرمت بارتفاع السؤال كما حلت للمضطرين الميتة بالاضطرار، ثم حرمت بارتفاع الاضطرار؟ فإن قالوا : لأن ذلك السؤال والجواب قد كان، قيل: وكذلك الاضطرار وأكل الميتة بالاضطرار قد كان فما الفرق بين ذلك إن كان الجواب عندكم نظيراً للميتة؟
فإن قالوا: إنما ذلك حكاية، وليست سؤالاً ولا جواباً، قيل لهم : فلا معنى فيما رويتم يستدل به على الفقه والعلم فيما لم ينزل، فإن قالوا: نعم، أقاموا الحكاية مقام الجواب، ولزمهم تحريم السؤال والجواب عما لم يكن، وهو نقض قولهم، وإن قالوا : لا معنى أكثر من الحكاية، قيل: لا فرق بين حكاية ما لا يضر وما لا ينفع، وبين ما حكيتم من جوابات أصحاب رسول الله ﷺ، فما معنى ما روى الفقهاء والعلماء عن السابقين ثم عن التابعين واقتدائهم بجوابات أصحاب رسول الله ﷺ.
ويقال لهم: أرأيتم مجوسياً أتاكم من بلده، راغباً في الإسلام محباً لمحمد ﷺ، فقال: علموني الدخول في الإسلام. فعلمتموه إياه فدخل فيه، ثم قال: إني راجع إلى بلدي فما علينا من الطهارة لأكون منها على علم قبل دخول وقت الصلاة، وما الذي يوجب الغسل وينقض الطهور ؟ وما الصلاة وما الذي يفسدها ؟ وما حكم الزيادة فيها والنقصان منها والسهو فيها؟ وما في عشرة دنانير ومائة درهم من الزكاة؟ وما الصوم وما حكم الأكل فيه عامداً أو ساهياً؟ وما على من كان منا مريضاً أو كبيراً أو ضعيفاً؟ وهل بأس بدرهم بدرهمين؟ وما فيه القصاص من الدماء والجراح وحكم الخطأ؟ وهل في ذلك الرجال والنساء سواء؟ فإني راجع إلى بلدي وأهلي وعشيرتي، ينتظرون بإسلامهم رجوعي، فأكون ويكونون من ديننا على علم فنعمل بذلك ونكون على علم بذلك ونتقرب إلى الله، تؤجرون عليه، وذلك عندكم واضح لا تشكون فيه.
أيجوز أن يعلموه ذلك؟ أم يقولون: لا نخبرك حتى تنزل بك نازلة، فتكسرون بذلك نشاطه وتخبثون نفسه على حديث عهده بكفره، وتدعونه على جهله؟ أم تغتنمون رغبته في الإسلام، وإسلام من ينتظره، وتعليم الجهال ما يحسنونه من العلم، وقد روي عن النبي ﷺ: (من سئل عن علم فكتمه، جيء به يوم القيامة ملجماً بلجام من نار).
فإن قالوا: نعلمه ذلك قبل نزوله تركوا قولهم، لأن بعض ذلك أصل، وبعضه قياس، وإن قالوا نعلمه بعضاً وإن لم ينزل، ونترك بعضاً حتى ينزل، قيل : فما الفرق بين ذلك، وكل ذلك دين؟ فانظروا رحمكم الله على ما في أحاديثكم التي جمعتموها واطلبوا العلم عند أهل الفقه تكونوا فقهاء إن شاء الله.
ويرى الدكتور البلتاجي أن الفقه الافتراضي لدى الشافعي ينقسم إلى قسمين:
منهم ثوباً وحدهم قياماً.
الأول: صور مفترضة لم تحدث في عصر الشافعي أو قبله، إلا أنها تحتوي إمكان الوقوع عادة وعقلاً، مثل باب صلاة العراة، الذي قال فيه الشافعي: وإذا غرق القوم فخرجوا عراة كلهم أو سلبوا في طريق ثيابهم، أو احترقت فيه، فلم يجد أحد وهم رجال ونساء صلوا فرادى وجماعة، رجالاً يركعون ويسجدون ويقوم إمامهم في وسطهم ويغض بعضهم عن بعض، وتنحى النساء فاستترن إن وجدن ستراً عنهم فصلين جماعة أمتهن إحداهن وتقوم وسطهن ويغض بعضهن عن بعض، ويركعن ويسجدن ويصلين قياماً كما وصفت.
فإن كانوا في ضيق لا ستر بينهم من الأرض ولين وجوههن عن الرجال، حتى إذا صلوا ولى الرجال وجوههم عنهن، حتى يصلين كما وصفت. وليس على أحد إعادة إذا وجد ثوباً في وقت ولا غيره.
الثاني: صور مفترضة لا يوجد ما يدل على حدوثها في عصر الشافعي أو قبله، ثم هي صور غريبة يستبعد حدوثها عادة، وإن كان العقل المجرد لا يحيل هذا الوقوع.
ومن ذلك باب الطلاق بالحساب -حيث يقول الشافعي فيه: وإذا قال لها: أنت طالق واحدة قبلها واحدة أو بعدها واحدة كانت طالقاً اثنتين إلى غير ذلك من الصور التي ذكرها -رحمه الله تعالى.
٩-الأخذ بأقل ما قيل:
قال الإمام الإسنوي رحمه الله تعالى:
من الأدلة المقبولة الأخذ بأقل ما قيل وقد اعتمد عليه الشافعي في إثبات الحكم إذا كان الأقل جزءاً من الأكثر، ولم يجد دليلاً غيره. أما الإجماع فإن كل واحد من المخالفين يوجبه، فإن إيجاب الأكثر يوجب إيجاب الأقل.
وبنى الشافعي قوله فيه على الإجماع والبراءة الأصلية.
دالة على عدم وأما البراءة الأصلية فإنها تقتضي عدم وجوب الزيادة إذ هي الوجوب مطلقاً، لكن ترك العمل بها في الأقل للإجماع، فبقي ما عداه على الأصل.
فتلخص أن الحكم بالاقتصار على الأقل مبني على مجموع الشيئين، كما قرره الإمام والآمدي، لا على الإجماع وحده كما ظنه ابن هذين الحاجب.
وقول البيضاوي: (إذا لم يجد دليلاً سواه)، أي : فإن وجده لم يتسمك بالأقل، لأن ذلك الدليل إن دل على إيجاب الأكثر فواضح، ولذلك لم يأخذ الشافعي بالثلاثة في انعقاد الجمعة، وفي الغسل من ولوغ الكلب القيام الدليل على الأكثر.
١٠-المصطلحات الفقهية الخاصة:
يستخدم الشافعي لفظ (الفرض) في معنى لفظ الواجب المحتم عمله لا فرق بينهما عنده. كما يستخدم لفظ (المحرم) أو (الحرام) فيما يتحتم تركه وفيما هو نقيض الفرض كما يعبر عن النجاسة بلفظ (الحرام) أيضاً.
ويستخدم لفظ (الكراهة) فيما يستحب عدم فعله -مثل أن يروي أن النبي ﷺ قال: (الأرض مسجد إلا المقبرة والحمام ويعلل الشافعي ذلك بأن أرض المقبرة والحمام غير طاهرة ثم يقول: والمقبرة الموضع الذي يقبر فيه العامة وذلك كما وصفت مختلطة التراب بالموتى وأما صحراء لم يقبر فيها قط. قبر فيها قوم مات لهم ميت.
ثم لم يحرك القبر فلو صلى رجل إلى جنب ذلك القبر أو فوقه كرهته له ولم آمره أن يعيد؛ لأن العلم يحيط بأن التراب طاهر لم يختلط فيه شيء وقد يستعمل لفظ (أكره) فيما رآه حراماً، مما كان دليله خبر الواحد أو القياس كقوله في الآنية:
ولا أكره إناء توضئ فيه من حجارة ولا حديد ولا نحاس؛ ولاشيء غير ذوات الأرواح إلا آنية الذهب والفضة، فإني أكره الوضوء فيهما،
كما يستخدم لفظ (أحب) في المستحب وما ليس بواجب؛ كقوله : وأحب إلي أن كل ما كان حراماً أن يؤكل، فوقع في ماء؛ فلم يمت حتى أخرج منه لم ينجسه، وإن مات فيه ،نجسه، وذلك مثل الخنفساء والجعل والذباب والبرغوث والقملة؛ وما كان في هذا المعنى وكذا قوله : إذا كان الماء قليلاً في إناء فخالطته نجاسة أريق وغسل الإناء،
وربما عبر بقوله: (لا يبين لي) يقول: وإذا نام الرجل قاعداً، فأحب إلي له أن يتوضأ، قال ولا يبين لي أن أوجب عليه الوضوء وأحب إلي لو غسل ثلاثاً.
ففي هذا الموضع ذكر الكراهة أولاً وأراد المعنى المتبادر عند الفقهاء، ثم ذكرها ثانياً بمعنى المحرم.
ويستعمل كذلك في الاستحباب تعبير: (الاختيار)؛ يقول في الوضوء: والاختيار له أن يأخذ الماء بيديه، فيمسح بهما رأسه معاً، يقبل بهما ويدبر، يبدأ بمقدم الرأس، ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما، حتى يرجع إلى المكان الذي بدأ منه، وهكذا روي أن النبي ﷺ مسح.
ويجري على لسان الإمام رحمه الله تعالى تعبير: (لا أعلم..)؛ فتارة يورده للدلالة على السنية، أو يقصد به حكاية الإجماع أو ما يسمى: نفي العلم بالمخالف.
يقول: فلم أعلم مخالفاً فى أن الوجه المفروض غسله في الوضوء ما ظهر دون ما بطن... لم أعلم المضمضة والاستنشاق على المتوضئ فرضاً.
ويقول في موضع آخر: ولم أسمع مخالفاً. في أن الكعبين اللذين ذكر الله عز وجل في الوضوء الكعبان الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم.
وفي معنى (أكره) السابقة عند الشافعي يستخدم أحياناً مصطلح (لم أحب).
ويستخدم الشافعي مصطلح (لا بأس) في معنى الجائز بغير كراهة ولا استحباب، حيث يقول مثلاً في زكاة الفطر ولا بأس أن يؤدي زكاة الفطر ويأخذها إذا كان محتاجاً، وغيرها من الصدقات المفروضات وغيرها.
ويقول: من باع سلعة من السلع إلى أجل من الآجال وقبضها المشتري فلا بأس أن يبيعها الذي اشتراها بأقل من الثمن أو أكثر ودين ونقد لأنهما بيعة غير البيعة الأولى.
وكقوله: في الجمعة ولا بأس أن يتكلم والإمام على المنبر والمؤذنون يؤذنون وبعد قطعهم قبل كلام الإمام، فإذا ابتدأ في الكلام لم أحب أن يتكلم حتى يقطع الإمام الخطبة الآخرة.
كما يستخدم الشافعي كلمة (الجائز) بنفس المعنى وهو الجواز دون كراهة أو استحباب
كما يستخدم مصطلح (لا خير فيه في معنى المحرم غير الجائز).
ومن مصطلحاته رحمه الله تعالى قوله: (ليس له) بمعنى المحرم الممنوع؛ كقوله في صفة المؤذنين وأحب أن يكون المؤذنون متطوعين، وليس للإمام أن يرزقهم، ولا واحداً منهم، وهو يجد من يؤذن له تطوعاً . له أمانة، إلا أن ممن يرزقهم من ماله
وفيما اختلفت فيه الآراء أو تعدد فيه اجتهاد الشافعي رحمه الله تعالى، يستعمل تعبير: (بهذا نأخذ). قال الشافعي رحمه الله تعالى: أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن رجلين؛ أحدهما جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه؛ أن رسول الله ﷺ أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ.
قال الشافعي: فبهذا نأخذ فمن أكل شيئاً مما مسته نار، أو لم تمسه لم يكن عليه وضوء.
فنرى الإمام لا يذكر لفظ الواجب أو المحرم إلا فيما كان حتماً؛ ولا يستعملها في أمر أداه اجتهاده لحله أو حرمته.
قال الصيدلاني: وهو غالب في عبارة المتقدمين؛ كراهة أن يتناولهم قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ} (النحل: ١١٦) فكرهوا إطلاق لفظ التحريم".
وعندما ارتأى أن الغنيمة هي كل ما حصل عليه المسلمون عنوة، بما في ذلك الأرض، ومن ثم رأى أن الأرض المفتوحة تقسم كما تقسم الغنائم، بحيث يكون أربعة أخماسها للمقاتلين، ذكر ضمن أدلته قصة وعد عمر الله لبجيلة بربع السواد إن هي قاتلت في حروب العراق ثم استرضائهم عنه بجعل آخر.
ولما استشعر رحمه الله تعالى ضعف الدليل في قصة بجيلة قال عن هذه القصة إنها: كالدليل على ما قلت ولم يعتبرها دليلاً؛ لضعف وجه الدلالة فيها أولاً، فيحتمل أن يكون فعل أمير المؤمنين من قبيل السياسة الشرعية فلا ينتهض دليلاً، ولما مر من موقفه من مذهب الصحابي ثانياً، والله تعالى أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق