شرح حديث جبريل في تعليم الدين
تأليف: عبد المحسن العباد البدر
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ يُعدُّ حديث جبريل في بيان مراتب الدين من الأحاديث العظيمة الجامعة، والتي من شأنها أن تزيد من إيمان العبد، وتحثَّه على الترقِّي في مراقي الكمالات الدينية، وفد رأى المؤلِّف أن يُفرد هذا الحديث العظيم بالشرح والتأليف، فجاء كتابه هذا جامعاً، ماتعاً، متوسطاً، سلسلاً، يسرد القول في المسألة إجمالاً، ثُمَّ بعد ذلك يجمع الشواهد في موطنٍ واحد، مع بيان دلالة كل شاهدٍ على حدة، وهي طريقةٌ مميزة في الشرح والتحرير، وغالباً ما ينقل شرح العبارات من فتح الباري لابن حجر، مع اتباعه طريقة عرض الحديث في مسائل ومباحث، فجزاه الله عنا خير الجزاء.
أهمية هذا الحديث:
١) اشتماله على مراتب الدين الحنيف، وأصول الشريعة الغراء، وقد قال النبيُّ في نهايته: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
٢) اشتماله على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، والتحفظ من آفات الأعمال، والتحلي بمكارم الأخلاق.
أسماء هذا الحديث:
وقد اجتهد العلماء في وضع اسم يدلُّ على ما تضمنه هذا الحديث من معنى، فسماه النووي: (أصل الإسلام)، وسماه القرطبي: (أُمُّ السُّنَّة)، ويعرف عند عامة أهل العلم بـ: (حديث جبريل)، وسماه الشيخ البدر (تعليم الدين)، وهكذا نرى أن جميع الأسماء صالحة لهذا الحديث، وهو لا شك حديثٌ عظيم جليل، حوى أصول الشريعة، ومراتب الدين.
نصُّ الحديث:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن عند رسول الله ؛ إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشَّعر، لا يُرى عليه أثرُ السَّفر، ولا يعرفُه منَّا أحد، حتى جلس إلى النَّبيِّ ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ثُمَّ قال: يـا مُحـمَّـد أخــبــرنــي عن الإســـلام؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحمَّداً رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً"، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويُصدِّقه!.
قال: فأخــبــرنــي عن الإيــمـان؟
قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت!.
قال: فأخــبــرنــي عن الإحــسـان؟
قال: "أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك".
قال: فأخــبــرنــي عن الســاعـة؟
قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل!".
قال: فأخــبــرنــي عن أماراتــها؟
قال: "أن تلد الأمَةُ ربَّتها، وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان"!.
قال: ثُمَّ انطلق، فلبثتُ مليَّاً، ثم قال لي: "يا عُمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنَّه جبريل أتاكم يُعلمكم دينكم".
الحديث رواية:
الحديث من مُسند عُمر: أخرجه مسلم في صحيحه (٨٠)، وأخرجه أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في سننهم، وغيرهم.
وقد روى هذا الحديث عن خمسةٍ من الصحابة، وهم: أبو هريرة (أخرجه البخاريُّ)، وأبو ذر (أَخرجَهُ أبو داود والنَّسائِيُّ)، وابن عمر (أَخْرَجَهُ أحمد والطَّبَرَانِيُّ)، وأنس (أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَالْبُخَارِيُّ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ)، وجرير بن عبد الله البجلي (أَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ الْعُمَرِيُّ وَلَا يَصْلُحُ للصحيح)، وابن عباس وأبو عامر الأشعري (أَخْرَجَهُمَا أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ)، وأسانيدهم "حسان" (انظر: ص ٨- ٩).
الحديث دراية:
قوله: (بينما نحن عند رسول الله )، وفي الصحيح عن أبي هريرة: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بارزاً للناس"، وفي هذا دليلٌ على أنه ينبغي للعالم أن يجعل لنفسه مجلساً للتعليم، وأن يكون مكانه أرفع من غيره، لكي يُعرف وليراه الحاضرون جميعاً، لا سيما إذا كان الجمع كثيراً.
ولم يرد في الصحيحين سلامُ جبريل عند مجيئه إلى النَّبيِّ ، وفي حديث أبي هريرة وأبي ذر عند أبي داود (٤٦٩٨): "فأقبل رجلٌ –فذكر هيئته- حتَّى سلَّم من طرف السِّماط، فقال: السلام عليك يا محمد، قال: فردَّ عليه النبيُّ ".
قوله (ولا يعرفُه منَّا أحد)، استند عُمرُ إلى صريح قول الحاضرين، كما جاء في رواية عثمان بن غياث عند أحمد (١٨٤): "فنظر القومُ بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا".
قوله (حتى جلس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه)، بيانٌ لآداب طلبة العلم عند المعلم، والضمير في (فخذيه) عائدٌ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك مُصرَّحاً به في رواية ابن عباس، وأبي عامر الأشعري: "ثم وضع يده على ركبتي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم"، وبه جزم البغوي، وإسماعيل التيميُّ لهذه الرواية، خلافاً لما جزم به النووي من أن الضمير عائد على جبريل، ووضعه يده بهذه الطريقة مُنبِّهٌ للإصغاء إليه، وفيه إشارةٌ لما ينبغي للمسئول من التواضع، والصَّفحِ عمَّا يبدو من جفاء السائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره ليقوى الظنُّ بأنه من جفاة الأعراب، ولهذا تخطَّى الناس حتَّى انتهى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قوله (الإسلام)، أي: الأعمال الظاهرة، (أن تشهد أن لا إله إلا الله) أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله، (وأن مُحمَّداً رسول الله) فتشهد له بالرسالة والتبليغ، و(تُقيم الصلاة) المكتوبة على وجه الكمال والتمام في وقتها، و(تؤتي الزكاة) المفروضة إذا بلغ المال النصاب، وحال عليه الحول، و(تصوم رمضان) شهراً واحداً في السنة، و(تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، ويحجُّ عن الميت، ولا يُحجُّ عن الحيِّ إلا في حالتين: إحداهما: أن يكون هرماً كبيراً لا يستطيع الركوب والسفر. والثانية: أن يكون مريضاً مرضاً لا يرجى برؤه.
وقوله (أن تؤمن بالله)، أي: الاعتقاد الجازم بوجوده، وربوبيته، وألوهيَّته، وأسمائه وصفاته، و(ملائكته)، والإيمان بالملائكة يعني: التصديق بوجودهم، وأنَّهمٌ خلقٌ من خلق الله، خُلقوا من نور، وَأَنَّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ الله تَعَالَى: {عبادٌ مُكرًمُونَ}، وأنَّهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، و(كتبه) والإيمان بالكتب: هو التَّصْدِيقُ بِأَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ، وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ من الشرائع والأحكام والعقائد حَقٌّ، و(رسله) والإيمان بالرسل: التَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ، و(اليوم الآخر) أي: يوم القيامة، والمراد بالإيمان باليوم الآخر: التَّصْدِيقِ بِمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْبَعثِ، والحِسَابِ، والصّراط، والحَوضِ، وَالْمِيزَانِ، والشَّفاعة، والرؤية، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، و(تؤمن بالقدر خيره وشره) والإيمان بالقدر: هو التصديق بعَلِمَ الله المطلق لمَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ وَأَزْمَانَهَا قَبْلَ إِيجَادِهَا وأنَّه أَوْجَدَها على مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ منها.
ومراتب الإيمان بالقدر أربعة:
١) المرتبة الأولى: إثبات علم الله الأزلي في كل ما هو كائنٌ.
٢) المرتبة الثانية: كتابة كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ، وأن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
٣) المرتبة الثالثة: إثبات الإرادة والمشيئة، فلا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله.
٤) المرتبة الرابعة: الإيجاد، والخلق، فكل ما هو كائنٌ إنما هو بخلق الله ومشيئته على وفق علم الله به.
قوله (أن تعبد الله كأنَّك تراه) وفي رواية: "أن تخشى الله كأنَّك تراه"، (فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك) بمعنى أن تستشعر مراقبته لك، فتحذر أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك.
قوله (فأخــبــرنــي عن الســاعـة؟) أي: عن وقت وقوعها، (قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل!) فهما في عدم العلم بها سواء، فلا يعلمُ أحدٌ وقت وقوعها إلا الله سبحانه، فإنها مما اختصَّ الله بعلمه. قوله (فأخــبــرنــي عن أماراتــها؟)، أي: علاماتها، وهي على قسمين:
١) علامات قـريـبـه من قيامها: كخروج الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم من السماء، وغيرها.
٢) وعلامـات قبـل ذلك: ومنها العلامتان المذكورتان في الحديث.
والعلامة الأولى في قوله (أن تلد الأمَةُ ربَّتها)، إشارة إلى كثرة أمهات الأولاد التي تُباع، ثُمَّ يشتريها ولدها، فيكون بمنزلة سيدها، أو حصول العقوق من الأولاد لآبائهم وأمهاتهم، حتَّى كأنَّهم سادة عليهم.
والعلامة الثانية في قوله (وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان!)، ومعنى ذلك أن الفقراء رعاة الغنم، تتغير أحوالهم حتى يتطاولوا في البنيان، وهاتان العلامتان قد وقعتا.
قوله (ثُمَّ انطلق، فلبثتُ مليَّاً) أي: زماناً، قيل: ثلاثة أيام، وكان عُمرُ قد فارق المجلس قبل أن يُخبر النبيُّ بحقيقة ذلك السائل، فأخبر النبيُّ من حضر من أصحابه، ثم لمّا لقي عُمر –بعدها- أخبره عن ذلك السائل، فقال: (يا عُمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنَّه جبريل أتاكم يُعلمكم دينكم").
قوله (فإنَّه جبريل أتاكم يُعلمكم دينكم) دليلٌ على أن الملائكة تأتي البشر على صورة البشر، وأن السائل لا يقتصر سؤاله على أمور يجهل حكمها، بل ينبغي له أن يسأل غيره –وهو عالم بالحكم- ليسمع الحاضرون الجواب. وأسند التعليم إلى جبريل عليه السلام، لأنه جبريل هو المتسبب فيه، مع أنَّ التعليم حقيقةً حاصلٌ من النَّبيِّ ؛ لأنه هو المباشر له.
وفي الحديث فوائد أُخَر مُهمَّة –بلغت التسعة- نُشير إليها باختصار، وهي في قصَّةِ يحيى بن يعمر وحُميد بن عبد الرحمن الحِميَري، اللذان جاءا إلى ابن عمر، وسألاه عن القدريَّة الذين يقولون أنَّه لا قدر، والأمر أُنُف (انظر ص ٩- ١٤).
ومن هذه الفوائد:
١) أن بدعة القول بنفي القدر ظهرت في البصرة في عصر الصحابة، في حياة ابن عمر، وكانت وفاته سنة (٧٣ هـ).
٢) رجوع التابعين إلى الصحابة في معرفة حكم ما يقع من أمور مشكلة، سواءً في العقائد أو غيرها.
٣) أنه يُستحبُّ للحجاج والمعتمرين أن يستغلوا مناسبة ذهابهم إلى الحرمين للتفقه في الدين، والسؤال عما يشكل عليهم.
٤) في هذه القصة أنواع من الأدب، منها اكتناف أحد هذين الرجلين عبد الله بن عمر، فصار واحدٌ عن يمينه، والآخر عن يساره، مع القرب للتمكُّن من السماع والفهم، ومخاطبتهم لابن عمر بالكنية تأدباً في الخطاب.
٥) أن الاستفتاء وأخذ العلم كما يكون في حال الجلوس، يكون أيضاً في حال المشي، لأن هذين التابعيين سألا ابن عمر وهو يمشي، وأجابهم وهو على هذه الحالة.
٦) في جواب ابن عمر لهما، دلالة على خطورة القول ببدعة نفي القدر.
٧) أن للشيطان في إضلال الناس طريقتان: طريق الشهوات لمن عنده تقصير وإعراض عن الطاعة، وطريق الشبهات لمن كان من أهل الطاعة.
٨) جمع المفتي بين الحكم وذكر دليله، كما فعل ابن عمر معهما.
٩) بيان فضل صحيح مسلم في ذكر الحديث بإسناده ومتنه، دون تقطيع أو اختصار، فساقه بتمامه، وهو مما يجعله في مرتبة عُليا تُضاهي صحيح البخاري.
فائدة (ص ٧٦): تُطلق الساعة ويُراد بها معانٍ ثلاثة:
١) الموت عند النفخ في الصُّور: كما جاء في الحديث: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس) رواه مسلم.
٢) الموت، وكل من مات أيام الدنيا، فقد جاءت ساعته، وقامت قيامته.
٣) البعث، كما قال تعالى: {لنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: ٤٦)، وقال سبحانه: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} (سبأ: ٣).
فائدة (ص ٧٧): تعددت الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة.:
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُجيب من يسأله ببعض أماراتها، أو يُلفت نظر السائل إلى ما هو أهم من سؤاله، ومن ذلك:
١) حديث أبي هريرة -عند البخاري- أن أعرابياً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ فقال: (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة) الحديث.
٢) وروى البخاري ومسلم، عن أنس: أن رجلاً سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الساعة؟ فقال: وماذا أعددت لها؟
فائدة: قوله في حديث آخر (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)
المقصود بهم من ارتد من أصحابه بعد موته عن الدين، وقتل في حروب الردة.