زكاة العسل
أ. د. سلمان بن نصر الداية
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ العسل شرابٌ لذيذٌ طعمه، حلوٌ مذاقه، خلقه الله سبحانه في بطون النحل ألواناً مختلفةً، وجعله دواءً وغذاءً وحلوى وشفاء، وذكر العلماء من فوائده: أنه يجلو الأوساخ في العروق، ويدفع الفضلات في الأمعاء، ويغسل المعدة، ويُنقي الكبد والصدر، ويُدرُّ البول والطمث، وينفع للسعال، وأنه يقتل القمل والصئبان، ويُطيل الشعر ويُحسنه، وإن اكتحل به يجلو البصر، كلُّ ذلك وأكثر منه، مصداق قول الله جل في عُلاه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 68، 69).
وهذه رسالةٌ نفيسة في بيان حكم الزكاة في العسل، والذي ذهب إليه شيخنا الباحث -وفقه الله -إلى أن الفقراء والمساكين لهم حقٌّ في العسل عند أصحاب المناحل، وهي -بلا شك -مسألةٌ اختلف فيها الفقهاء والعلماء، وتفصيل ذلك كما يلي:
أولاً: مذاهب العلماء في ذلك:
1.ذهب مالك والشافعي في الجديد، وغيرهما: إلى أنه لا زكاة في العسل، وهو قول جمهور العلماء.
2.وذهب الحنفية، وأحمد وغيرهما: إلى وجوب الزكاة في العسل.
واشترط أبو حنيفة في إيجاب الزكاة في العسل، أن يكون في أرض عُشرية (وهي الأرض الزراعية التي يجب فيها إخراج العشر فيما يخرج من ريعها، من زكاة الزروع أو زكاة الثمار)، ولم يشترط نصاباً له، فيؤخذ العشر من قليله وكثيره.
وعكس الإمام أحمد، فاشترط أن يبلغ نصاباً، وهو عشرة أفراق، والفرق ستة عشر رطلا عراقيا، وسوَّى في وجوب ذلك بين وجوده في الأرض الخراجية، أو العشرية (والأرض الخراجية: هي التي لا يملكها أحد من المسلمين بعينه، وهي الأرض التي صولح عليها أهلها، وكذا الأرض التي جلا عنها أهلها خوفا وفزعا من المسلمين، والأرض التي فتحت عنوة وتركها الإمام في أيدي أهلها يزرعونها وينتفعون بها بخراج معلوم، سواء أسلم أهلها بعد فتحها أو لم يسلموا. وهي كالأرض الوقف أو الموات، والجبال، والغابات والأودية).
واختلف أحمد مع صاحبي أبي حنيفة في نصاب العسل:
فقال أبو يوسف: نصابه عشرة أزقاق (والزق وعاء جلدي)، وقال محمد: هو ثمانية أفراق. ونقل عنهما أن النصاب خمسة أوسق كنصاب الحـب والثمر، وأما أحمد بن حنبل فقد أفاد أن نصاب العسل عشرة أفراق.
واستدلَّ القائلون بوجوب الزكاة في العسل، بأدلةٍ منها:
(1) عن سعدِ بنِ أبي ذُبابٍ أنَّه قَدِمَ على قوْمِه، فقال لهم: في العَسَلِ زكاةٌ؛ فإنَّه لا خيرَ في مالٍ لا يُزَكّى. قال: فقالوا: كَمْ ترى؟ قال: قلتُ:" العُشْرُ". قال: فأَخَذَ منهمُ العُشْرَ. قال: فقَدِمَ به على عُمَرَ، فأَخبَرَه بما فيه. قال: (فأَخَذَه عُمَرُ، وجعَلَه في صَدَقاتِ المُسلِمين).
حديث ضعيف، أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير"، وقال: فيه رواية أخرى عن عمر أصلح من هذه الرواية من غير هذا الوجه، وأخرجه ابن عدي في "الكامل"، قال: فيه والد منير بن عبد الله. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد": فيه منير بن عبد الله وهو ضعيف، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة": فيه منير بن عبد الله، قال علي بن المديني: منير لا يعرف إلا في هذا الحديث. وقال شعيب الأرناؤوط في "تخريج شرح السُّنة": إسنداه ضعيف.
(2) وفي الحديث، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم (أَنه أَخَذَ مِن الْعسلِ الْعشْر).
مختلفٌ في تصحيحه، قال الرباعي في "فتح الغفار": فيه أسامة بن زيد وهو ضعيف، أخرجه ابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح، وقال الأرناؤوط في "تخريج المُسند": إسناده لا يخلو من مقال، وقال ابن الملقن في "تحفة المحتاج": إسناده جيد، وقال ابن دقيق العيد في "الإلمام": فيه نعيم بن حماد وقد مس، عن أسامة بن زيد، فمن يحتج بنسخة عمرو وبالرجلين احتج به.
(3) وفي الحديث عن أَبِي سيارةَ الْمتَعِي، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسالم عن نحلٍ له، فقال له (أدِّ العُشر)؛ قلتُ: يا رسولَ اللهِ ! احْمِ لي جبلها، فحماهُ لي.
حديثٌ ضعيف، أخرجه ابن ماجه في "سننه"، وأحمد في مسنده، والبيهقي في "الكبرى"، وقال البيهقي: هذا الحديث أصحُّ ما رُوي، وهو منقطع، وقال البخاري في "العلل الكبير" منقطع، وأورده الترمذي في "العلل الكبير"، وقال الوادعي في "أحاديث مُعلة": منقطع، وقال الأرناؤوط في "تخريج زاد المعاد": منقطع، وقال ابن باز في "الفوائد البازية": المعروف في أحاديث زكاة (النحل) أنها كلها ضعيفة، فالذي نعرف ونحفظ أنها كلها ضعيفة، وقال الألباني: حسن صحيح.
(4) وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: (أتى هِلَالٌ -أحدُ بني مُتعان -إِلَى رسولِ اللَّـهِ بِعشُورِ نَحلٍ لَه، وسأَلَه أَن يحمِي لَه وادِيا يقَال لَه سلَبة؛ فحماه له، فلمّا ولى عمرُ كتبَ إلى عاملِهِ: إن أُدِّىَ إليكَ عشورُ نحلِهِ فاحْمِ له سلَبَهُ وإلا فلا).
حديثٌ حسن، أخرجه أبو داود والنسائي في "سننهما"، وأخرجه الطبراني في "الأوسط"، وقال: لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن الحارث إلا موسى بن أعين، وقال ابن حزم في المُحلى: لا يصح، وقال ابن حجر العسقلاني في "الفتح": إسناده صحيحٌ إلى عمرو. وقال الحافظ في "التلخيص الحبير": قال الدارقطني: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث. وابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب مسنداً، وعن عمر مرسلاً، قلتُ: فهذه علته، وعبد الرحمن وابن لهيعة ليسا من أهل الإتقان، لكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات، وتابعهما أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب. وقال الأرناؤوط في "تخريج المُسند": لا يخلو إسناده من مقال، وقال الألباني: حسن.
(5) عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: (إنَّ رسولَ اللهِ كان يُؤخذُ في زمانِه من قِرَبِ العسلِ من كلِّ عشرِ قِرَبٍ قربةٌ من أوسطِها).
إسناده ضعيف، أخرجه أبو داود في "سننه"، وقد أشار إليه ابن حجر في "التلخيص"؛ فقال: يروى عن عبد الرحمن بن الحارث.. الخ وليس من أهل الإتقان، وقال الألباني في "إرواء الغليل": صحيح.
(6) عن عمرو بن شعيب، أيضاً: (أنَّ أميرَ الطائفِ كتبَ إلى عمرَ بنِ الخطابِ إنَّ أهلَ العسلِ مَنَعُونا ما كانوا يُعطونَ مَن كان قبلَنا، قال: فكتبَ إليهِ إن أَعطوكَ ما كانوا يُعطونَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاحْمِ لهم وإلا فلا تَحْمِ لهمْ)
إسناده ضعيف، أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، وقال الألباني: في "إرواء الغليل": مُرسل!.
(7) عن عبدالله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كلِّ عشرةِ أزقٍّ زِقُّ).
ضعيف يحتمل التحسين، أخرجه الترمذي في "سننه"، وقال: في إسناده مقال ولا يصح عن النبي في هذا الباب كبير شيء، وأخرجه ابن حبان في «المجروحين»، وابن عدي في «الكامل في الضعفاء» وقال: فيه صدقة بن عبد الله أكثر أحاديثه مما لا يتابع عليه وهو إلى الضعف . وقال البخاري في "العلل الكبير": هو عن نافعٌ مُرسلٌ، وليس في زكاة العسل شيءٌ يصح. وقال ابن القيسراني في "تذكرة الحفاظ": فيه صدقة بن عبد الله السمين ضعيف منكر الحديث، وقال ابن العربي في "تحفة الأحوذي": فيه صدقة بن عبد الله ضعيف الحفظ مبتدع الدين. وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية": ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء قال أحمد: فيه صدقة ليس يساوي حديثه شيئاً، وقال النسائي ليس بشيء، وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الثقات، وقال الرازي: وعمرو لا يحتج به. وقال ابن الملقن في "البدر المنير": صدقة السمين ضعيف، وقال ابن حجر في "تلخيص المشكاة": حسنٌ كما قال الترمذي في المقدمة. وقال الكمال بن الهمام في "شرح فتح القدير": ضعيف. وقال الألباني في "تخريج المشكاة": له شاهدٌ بسند جيد.
(8) عن عطاء: أن ناساً من أهل اليمن جاءوا إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: (إن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أقطع لنا واديًا باليمنِ فيه خلايا من نحلٍ، وإنا نجدُ ناسًا يسرقونها. فقال عمرُ: إذا أدَّيتم صدقتَها من كلِّ عشرةِ أفراقٍ فَرْقًا حَمَيناها لكم).
رواه الجوزجاني كما في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (30/ 119)، وشرح سنن أبي داود لابن رسلان (7/ 565)، وقال الألباني في "إرواء الغليل": لم أقف على سنده!.
(9) وقال ابن حزمٍ في "المُحلَّى": وصح عن مكحول والزهري : أن في كل عشرة أزقـاق من العسل زقاً. قال : رويناه من طريق ثابتة عن الأوزاعي، عن الزهري.
(10) واستدلوا بالقياس أيضاً، فقالوا: العسل يتولد من نوى الشجر والزهر، ويكـال ويـدخر فوجبـت فيـه الزكـاة كالحبوب والثمار.
ويرى الذين لا يوجبون الزكاة في العسل:
(1) أن الأحاديث الورادة في زكاة العسل ضعيفة، ولا يصحُّ منها شيء، وقد أطلق ذلك الإمام البخاري، والترمذي، وابن المنذر، وابن الجوزي.
(2) أن العسل طعام يخرج من حيوان، فلم تجب فيه الزكاة كاللبن.
(3) وأن العسل كالعنبر واللؤلؤ بالقياس، وكما أنه لا زكاة فـي العنبر الذي يقذفه البحر، ولا في اللؤلؤ، فلزم أن يكون العسل لا زكاة فيه.
(4) وفي "سنن الترمذي"، ومصنف "عبد الرزاق"، والموطأ، عن الْمغِيرة ُ بن حكِيمٍ الصَّنعاني أَنه قَالَ: (لَيس فِي الْعـسلِ صدقَة)، وبذلك أفتى عمر بن عبد العزيز.
وقال الشافعي: واختياري ألا يؤخذ منه، لأن السنن والاثار ثابتة فيما يؤخذ منه (يعني لمن أراد إخراج زكاته)، وليست ثابتة فيه، فكان عفواً.
وقال ابن المنذر: ليس في وجوب الصدقة في العسل خبر يثبت، ولا إجماع، فلا زكاة فيه، وهو قول الجمهور.
ويُمكن أن يُجاب على قول الجمهور:
بأنه وإن لم يصح في إيجابه حديث، إلا أنه جاء فيه آثار يقوي بعضها بعضاً، ولأنه يتولد من نور الشجر، والزهر، ويكال ويدخر، فوجبت فيه الزكاة، كالحب والتمر، ولأن الكلفة فيه دون الكلفة في الزروع والثمار (وهو مذهب أهل الورع).
وقد تضمن هذا البحث مقدمة، ومطلباً واحداً، وخاتمة .
أما المقدمة: فجعلتها في العسل غذاء وشفاء.
وأما مطلب البحث: فجعلته في حكم زكاة العسل، وخلاف العلماء فيه، وذكـر أدلة المذاهب ومناقشتها.
وأما خاتمة البحث: فجعلتها في ذكر المذهب المرتضى المختـار، ومسوغات الاختيار، وذكرت فيها نصاب العسل، والقدر المخرج منه زكاة مع الحرص على تأييد كل ذلك بالدليل.
خاتمة البحث:
بعد استقراء المذاهب والخلاف في المسألة، وأدلة كل مذهب، والمناقشات التي ذكروا، كانت أهم نتائج البحث:
١.أن زكاة العسل من مسائل الخلاف عند العلماء، وذلك بسبب التعارض الظاهري بين الأحاديث والآثار وتباين العلماء في وجه الاستدلال منها.
٢.إن المذهب المرتضى عند الباحث هو المذهب القاضي بوجوب الزكاة في العـسل إذا انتظمت فيه شروطه.
٣.أن للعسل نصاباً يعدل ثلاثين صاعاً، أو تسعين كيلو جراماً.
٤.وأن القدر الواجب من النصاب يختلف باختلاف المؤنـة علـى النحـل، وجني العسل منه، فإن كان يجتنيه من الجبال، أو الكهـوف، أو رؤوس الأشجار، أو كان يصنع له الخلايا، ونحو ذلك ففيه نصف العشر، وإن كان يجتنيه مـن الـسهل ولا يتكلف له ففيه العشر كاملاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق