أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 24 نوفمبر 2021

أثر طمأنينة القلب وريبته في الأحكام الشرعية د. سلمان بن نصر الداية

أثر طمأنينة القلب وريبته في الأحكام الشرعية

د. سلمان بن نصر الداية

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ القلب هو بيتُ الإخلاص، والحارس على النيّات، وقد جعل الشارع للقلب أحكامه الخاصَّة به، التي يثبت بها الإيمان، ويرسخ بها اليقين، ويقوى الاعتقاد، وجعل له مدداً من الأذكار الشرعية التي تحوطه من وسوسة الشيطان، وتحول بينه وبين التمادي في الغفلة، كما أن له تأثيراً على العقل في إمداده بالهدايات الدينية، وحمايته من السير في متاهات أهل الضلال، وحمله على سلوك الصراط المستقيم والسير فيها، حيث تسطع الفطرة في أجلى مظاهرها، وأول عهدها.

ويأتي هذا البحث النفيس للإجابة عن السؤال التالي: (هل للقلب اعتبار في تقرير الأحكام الشرعية أو منعها، أم أن شأنه فيها الفهم والإدراك فقط وليس أكثر؟)، وذكر الباحث ثلاثة مذاهب في هذه القضية، اثنين على طرفي نقيض، وثالثٌ متوسط، وهي:

المذهب الأول: أن طمأنينة القلب لها اعتبار في إنشاء الأحكام الشرعية مُطلقاً، وهو قول أكثر المتصوفة، ومعتمد أهل البدع.

المذهب الثاني: أن طمأنينة القلب لا اعتبار لها مطلقاً في الأحكام الشرعية، لأنه استحسان بطريق العقل، أو تمسُّك بالهوى.

المذهب الثالث: وهو قول الجمهور، وهو اعتبار طمأنينة القلب في طائفة من الأحكام الشرعية: "غـير" ذات النص، ولا المعنى الناشئ عن الـنص:كدلالـة الإشـارة، ودلالـة الاقتضاء، ودلالة المفهوم بقسميه: الموافق والمخالف، ولا الأحكـام الناشئة عن أدلة التشريع التي رعتها النصوص على الجملة: كسدّ الذريعة، والمصلحة، المرسلة والعرف، وغيرها. وما سوى ذلك فيمكن للقلب أن يفصل فيها بإثبات أو بنفي.

وإليه ذهب كثير من العلماء، منهم الطبري، والكيا الهراسي ، والغزالي ، وفخر الدين الرازي ، والآمدي ، وابن رجب، والمناوي، وغيرهم، وهو مذهب أكابر الصحابة، والتابعين.

وأما عمدة أصحاب القول الأول، فهو حديث: 

ستفت قلبك، البر ما أطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).

وحديث: (البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمأن إليه القلب، ولو أفتاك المفتون).

وأجاب عليها أصحاب القول الثاني من وجهين:

أحدهما: أن الأحاديث التي ذُكِرت وما في موضوعها ضعيفة؛ إذ لو صحت لكان ذلك إبطالاً لأمره بالعمل بالكتاب والسنة؛ لأن أحكام الله ورسوله لم تثبت بما استحدثته النفوس، وبما استقبحته. 

ولكن هذا الاعتراض غير صحيح، لأن الأحاديث صحيحة عند علماء الحديث والأثر، وقد تلقاها السلف بالقبول، بل قد تأيدت بآثار من الصحابة تؤذن بقبولهم لها، كما ورد عن ابن مسعود، وبشير بن كعب، وعمر، وابن عمر، وأبي الدرداء، وغيرهم.

والثاني: أنه لا يجوز العمل بها لا في مورد النصوص، ولا في المسائل التي لا نص فيها، واختلفت فيها الأمة؛ أما في مورد النص فظاهر البطلان وأما في غير مورد النص فباطل –أيضاً- لأمور ثلاثة:

(١) أن كل ما نُصَّ عليه بخصوصه قد قامت على حكمه دلالة، فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلاً معتبراً لم يكن لنصب الدلالة الشرعية عليه فائدة، فيكون عبثاً، والعبث مدفوع في الشريعة.

(٢) أن الله تعالى قال: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول}، وهو أمر صريح بالرجوع عند التنازع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب، لا سيما مع وجود أهل الذكر الراسخين الذين يفتون عن علمٍ وخشية.

(٣) أن الله تعالى قال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، وهو صريح في مسألة أهل الذكر عند جهالة حكم المسائل، فلو كان يجوز حسمها بفتيا القلب لكان سؤال أهل الذكر عبثاً، والعبث مدفوعٌ كما أسلفنا.

ويُمكن أن يُجاب على أصحاب هذا القول، بأن: عدم اعتبار طمأنينة القلب بالكلية يقضي بتعطيل الأحاديث والآثار السابق ذكرها في المسألة، فَتعين عندنا القول باعتبارها، ولا تعد هذه الطمأنينة قسماً ثالثاً منفصلاً أو زائداً على الكتاب والسنة، بل هو ضمن ما يدعو إليه الكتاب والسنة؛ وذلك أن االله تعالى هو الذي قال: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}. وهو الذي قال: {ويجعل لكم نوراً تمشون به}.

كذلك: فإنه لا يُصار إلى تعطيل الخبرين (الآية والحديث) إلا عند تعذر الجمع بينهما وبين الآية، وليس بمتعذر، فتعين المصير إليه، وقد ذكر العلماء في ذلك تأويل للجمع بينهما: 

أحدهما: أن يكون المفتي لا على كفاءة، ولم يوثق بعلمه ودينه، فإن المستفتي يعود إلى ما حاك في صدره.

الثاني: وإنما تكون فتوى العالم على نحو ما يسمع، أو على ما يرى من ظاهر الأمر، ولو كان ثمة ما يخفَى لو رآه لأثَّر في الفتوى، وكان المستفتي يعلم ذلك، أو يشعر به، فلا يجوز له ألبتة أن يعتمد فتيا العالم، وليراع ما يطمئن إليه قلبه، أو تسكن إليه نفسه؛ لحديث: (إنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم ألحن بحجته من أخته، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار).

واستدلَّ أصحاب القول الثالث (وهم الجمهور): 

بأنه يعمل بطمأنينة القلوب في طائفة من مسائل الاشتباه الذي يحصل في المباحات، لا فيما يشتبه أمره بين الحظر والإباحة، فإنه يترك تمسكاً بالنصوص، وأن طمأنينة القلب، وانشراح الصدر معتبر، لكن لا في جميع أبواب الفقه، إذ لا يمكن إعمال ذلك في تشريع الأعمال، وإِحداث التعبدات، فلا يقال: إذا أطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو مشروع، ولا يقال: استفت قلبك في إحداث هذا العمل.

فإن انعدم من يفتيك في قضيَّةٍ ما من أهل الذكر، وقد اطمأن إليه قلبك فَقَبِلْته، أو ارتاب له واضطرب فأنكرته وتركته، فإنه معتبر شرعاً لاعتبار الشارع لأصله الذي أنتجه، وأعني بذلك اعتبار الشارع طمأنينة القلب في بناء أحكام من هذا القبيل فتأمله فإنه دقيق.

موضوعات هذا البحث:

مقدمة، وفيها: أهمية القلب، ورتبته من البدن.

المبحث الأول: في طمأنينة القلب وريبته والألفاظ ذات الصلة، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: الطمأنينة والألفاظ ذات الصلة ، وفيه خمسة فروع :

الفرع الأول: الطمأنينة في اللغة والاصطلاح .

الفرع الثاني : السكينة في اللغة والاصطلاح .

الفرع الثالث: الفرق بين الطمأنينة والسكينة .

الفرع الرابع: التحديث في اللغة والاصطلاح .

الفرع الخامس: الفرق بين الطمأنينة والتحديث .

المطلب الثاني: الريبة والألفاظ ذات الصلة ، وفيه ثلاثة فروع :

الفرع الأول: الريبة في اللغة والاصطلاح .

الفرع الثاني: الحيكة في القلب لغةً واصطلاحاً.

الفرع الثالث : الفرق بين الريبة والحي

المبحث الثاني في أثر طمأنينة القلب وريبته في بناء الأحكام الشرعية، يذكر فيها مذاهب الخلاف في اعتبار طمأنينة القلب، بدءاً بأضعفها وانتهاءً بأقواها، وفيه ثلاث مطالب:

المطلب الأول: في المذهب الأول وأدلته .

المطلب الثاني: في المذهب الثاني وأدلته .

المطلب الثالث: في المذهب الثالث وأدلته 

*  وخلاصة ما جاء في هذا البحث، هو:

(١) أن الله تعالى رعى مصالح الأنام بالوحيين، حيث أقامهما أصولاً تستوعب جميع الفروع والمسائل لتمنحها أحكاماً شرعية عادلة.

(٢) إن الشريعة قد منحت القلب حظاً من القضايا محددة السبيل ليحسم أمرها بإقدام أو إحجام، وأعطتها قدسية الحكم الشرعي.

(٣) منعت الشريعة القلب من الافتئات على مسائل النصوص، وكذا التي ترجع إلى النصوص من أنواع المفهوم والإجماع، والقياس ومصادر التشريع الأخرى التي اعتمد العلماء.

(٤) لا يصار في المسائل بطمأنينة القلوب أو ريبتها إلا عند غياب دليل الشرع والعالم الراسخ.




الاثنين، 22 نوفمبر 2021

أصول في البدع والسُّنن (أو) طريق الوصول إلى إبطال البدع بعلم الأصول قراءات في كتاب "الاعتصام" للشاطبي تأليف محمد أحمد العدوي

أصول في البدع والسُّنن (أو)

طريق الوصول إلى إبطال البدع بعلم الأصول

قراءات في كتاب "الاعتصام" للشاطبي

تأليف محمد أحمد العدوي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لم يعد خافياً على أهل زماننا أهمية معرفة البدع، ومعرفة أحكام المبتدعين، كيف لا ؟ وقد كثر خطرهم، وفشا أمرهم، واستغل كثيرٌ منهم جهل العوام، وسذاجة الجماهير لترويج أنفسهم بالكلام الكذب، والأحاديث الموضوعة، ، في عصرٍ كثر فيه التخليط، وانقسم المسلمون على أنفسهم، وأصبح التفرق فيه شديد، ولا يهدأ لهؤلاء الضُّلال بال حتى يعيدوا الأمة إلى قفار الجهل ومراتع الضلال وبراثن الخرافة، حيث إلغاء العقل، والعبودية التامة لكهنوت الطرقوتية، والتسليم التام لطواغيت السياسة.

هذه البدع التي شوَّهت الجمال الفطري لهذا الدين، وطمست المعالم الزاهية للسُّنَّة النبويَّة، وحالت بين الناس وبين فهم دينهم على الوجه الصحيح، وحرمتهم من ذوق حلاوة التشريع الإسلامي، وحبستهم عن رؤية سماحته ونظرته الوسطيَّة للأمور، ونقلتهم إلى دوائر مظلمة من حلقات الرقص، والضرب بالسيوف والشيش، وخرافات المسوخ.

هذه البدع التي صورتنا أمام الآخر بصورة مقززة، تنفر منها الطباع، وتجعلنا أقرب إلى الهزل والكسل منا إلى الجد والعلم، لا سيما أصحاب الطرق، وتكراري لذكر الطرق لأنَّها اليوم تمثل رأس الحربة التي قتلت أدب الخلاف في نفوس جماهير الأمة، وبسببهم هاجت الفتن العنيفة… فأعمال هؤلاء وطقوسهم تقف حائلاً أمام دخول كثير ممن ألف الحضارة والعلم وكفر بالخرافة والجهل، فإذن لا تستطيع أن تدعو الناس إلى هذا الدين، أو ترغب شعوب الحضارة فيه.

وإنك لو استعرضت أنواعاً من البدع، لرأيتها في جملتها سوساً ينخر في عظام الأمة، هذا في دينها، وهذا في أخلاقها، وهذا في مالها وثروتها، وهذا في منزلتها العلمية، ومكانتها بين الأمم.. 

وهذا الكتاب هو خلاصة مركَّزة لكتاب "الاعتصام" للشاطبي (ت ٧٩٠ هـ)، والذي يُعدُّ بحثاً مستفيضاً في أصول البدع والسنن، وقد حوى إحدى عشرة قاعدة، وتحت كل قاعدة فروعٌ عليها، توقف القارئ على البدع الفاشية في هذا العصر، وتجيب على أغلب الشبهات والتساؤلات التي قد يطرحها البعض من كتب أهل العلم المعتبرين.

ولا شك أن مثل هذا البحث هو رافدٌ كبير، ينتفع به المسلمون في أمر دينهم ودنياهم، ويكون عوناً عظيماً لدعاة الإصلاح والوحدة، وخلاصٌ كبير لهذه الأمة من هذه الحقبة المظلمة بشيوخ السلاطين والحكام.

وقد رأينا في العقد الأول من هذا القرن تحولات فكرية جذرية لبعض شيوخ الانحراف، تبعها انقلاب في التصورات والمفاهيم لدى شريحة عريضة من بعض أبناء المؤسسات العريقة، الذين أصبحوا من أنصار البدع بعد أن كانوا محاربين لها، بل نبتت في هذه الأجواء المشحونة بالحقد والضغينة بدع أخرى جديدة، وفي أحضانهم فرَّخت، وتحت أكنافهم تعيش، وعلى حسابهم تبقى، نسأل الله تعالى أن يُريح البلاد والعباد منهم.

أما أصول الكتاب، فهي كما يلي:

الأصل الأول: في تعريف البدعة لغةً وشرعاً، وقيودها، ومحترزاتها.

الأصل الثاني: في تقسيم البدعة إلى "حقيقية  وإضافية"، وذكر الأمثلة عليها، والتفريق بين البدعة والمصلحة المرسلة، وضرب الأمثلة على ذلك.

الأصل الثالث: العادة المحضة لا يدخلها الابتداع المذموم، وإنما يدخل في العادة المشوبة بالعبادة،من جهة الطريقة التي رسمها الشارع فيها؛ فإذا خُولف بها الوجه المشروع، واعتُبر ذلك ديناً يُتقرب به إلى الله تعالى، كانت بدعةً من هذه الجهة، بل هي معصيةٌ وابتداعٌ باعتبارين، الأول: باعتبار المخالفة، والثاني باعتبار التعبد بذلك لله تعالى.

 الأصل الرابع: التفريق بين البدع والمصالح المرسلة: وقد يشتبه على بعضهم الأمرين من جهة أن البدع والمصالح المرسلة يجريان من وادٍ واحد، وهو أن كلاً منهما لم يُقَم على خصوصه دليلٌ شرعي، ولكن المصالح المرسلة: هي كل ما لم يأتِ دليلٌ في الشرع باعتباره ولا بإلغائه، ويؤخد من مقاصد الشرع العامة، ويُعتبر من وسائلها، والنظر فيها معقولُ المعنى من أجل حفظ أمرٍ ضروري، أو رفع حرجٍ لازمٍ في الدين، ولا مدخل لها في التعبدات، وذلك أرجعها بعضهم إلى قوله (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). بخلاف البدعة التي تكون في التعبدات، ومن شأنها أن تكون غير معقولة المعنى، وأنها تكون في المقاصد دون الوسائل.

الأصل الخامس: أن الاستحسان عند القائل به لا يصلح مُتمسكاً للمُبتدع، والاستحسان هو الدليل الذي ينقدح في نفس المجتهد، وتقصر عنه عبارته، ويكون مستنده عمومات الأدلة، لا الهوى والشهوة، وهناك خلافٌ كبيرٌ بين العلماء في اعتباره وإلغائه، لذا يجب على المبتدع ألا يتعلق بدليلٍ مُختلف فيه، والشيء الحسن إنما يكتسب حسنه من الشرع لا من العقل.

الأصل السادس: في تحقيق أن ما رآه المسلمون حسناً؛ فهو عند الله حسن، أن المراد به خصوص جنس الصحابة، أو المجتهدون الكُمَّل من هذه الأمة، أو يكون المراد الاستغراق الحقيقي، بمعنى الذي اجتمعت عليه كلمة المسلمين أنه حسن فهو عند الله حسن، والمقصود الأول بهذا الحديث هم القرون المفضلة ابتداءً، وهو حديثٌ موقوف على ابن مسعود، وليس مرفوعاً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

الأصل السابع في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم العادية والجبلية أنها للإباحة، وأما أعماله التي فعلها على سبيل القدورة فهي دائرةٌ بين الوجوب والاستحباب.

الأصل الثامن: فيما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم من التعبدات مع قيام المقتضي وانتفاء المانع، دليلٌ على أن تركه سُنة، وهو ما يُعرف بـ"السنة التركية".

الأصل التاسع: مرتبة القياس بعد مرتبة الكتاب والسنة.

الأصل العاشر: طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مقدمتان على طاعة كل أحد، والتشريع هو حقٌّ خالصٌ لله عز وجل، والرسول مبلغٌ عن الله أحكامه ودينه.

الأصل الحادي عشر: في معنى من (أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، أو (كل بدعةٍ ضلالة).



الجمعة، 19 نوفمبر 2021

الزكاة في مال الصبي والمجنون حسب الشروط العامة للزكاة دراسة فقهية مقارنة أ. د. محمد مصطفى الزحيلي

الزكاة في مال الصبي والمجنون حسب الشروط العامة للزكاة

دراسة فقهية مقارنة

أ. د. محمد مصطفى الزحيلي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذا الكتاب يتناول حكم زكاة غير المكلفين كالصبيِّ والمجنون، وهل يجب على ولي الصبي والمجنون أن يؤدي الزكاة عنهما من مالهما، إذا بلغ نصاباً؟ وكذلك الأمر بالنسبة للمعتوه، والمُغمى عليه، وفاقد الوعي والإدراك، وخاصة عند الهرم والشيخوخة.

    ورجَّح الباحثُ أدلة الجمهور من وجوب الزكاة في مال هؤلاء جميعاً؛ لأن الزكاة عبادةٌ مالية، تجب في المال، ومحلها المال، ومناطها المال، والصبي والمجنون يملكان المال، والذي يؤدي زكاتهم هو الولي المسؤول عنهما.

والنصاب شرعاً: هو المقدار الذي حدده الشرع لترتيب الحكم عليه، كنصاب الشهادة، ونصاب الزكاة: هو مقدار المال الذي تجب عنده الزكاة.

والصبيُّ: هو الصغير دون الغلام، أو هو الولد الذي لم يبلغ، وهو يُرادف الصغير من الولادة حتى البلوغ، يدلُّ لذلك حديث (رُفع القلم عن ثلاث… وفيه: وعن الصبيِّ حتى يبلغ)، وفي روايةٍ (حتى يكبر)، وفي روايةٍ (حتى يحتلم).

والمجنون: هو من حصل لديه اختلال في العقل؛ أو آفةٌ في الدماغ، بحيث يمتنع لديه جريان الأقوال والأفعال على نهج العقلاء أو الطريقة المعتادة إلا نادراً (والندرة لا قياس عليها، وإنما العبرة بالغالب، فإن صدر عنه فعلاً يُِبه تصرُّف العقلاء فإن ذلك لا يُصيّره عاقلاً)، ويستمر حكمه حتى الإفاقة، كما جاء في الحديث (وعن المجنون حتى يعقل) وفي روايةٍ: (حتى يفيق) ومثل الجنون في الأحكام: 

١. (الصَّرع) على تفاوت الجنون فيه كلياً أو جزئياً، وهو علَّةٌ في الجهاز العصبي تصحبها غيبوبة، وتشنج في العضلات، وتمنع الدماغ من فعله منعاً غير تام.

٢. و(المُغمى عليه): وهو في معنى النائم بسكون العقل عن العمل، وهما يُنافيان أهلية الأداء لا الوجوب، لأن أهلية الأداء تقوم بالتمييز بالعقل، وقد جاء في الحديث فيمن يُرفع عنهم القلم: (وعن النائم حتى يستيقظ). 

٣.و(السفيه): وهو نقصٌ في العقل، وخفَّةٌ فيه، تبعث الإنسان على التصرف في ماله خلاف مقتضى العقل والشرع مع قيام العقل حقيقة، ولذلك قال الحنفية: لا يمنع من أحكام الشرع ولا يُحجر عليه، وقال الجمهور: بالحجر عليه؛ لأنه كالصبي المميز.

٤.و(الخرف): وهو من خرف عقله، أي: فسد عقله من الكبر، وهو في معنى الجنون ولا يُسمى جنوناً، لأن الجنون يعرض من أمراض سوداوية ويقبل العلاج، بينما الخرف لا يمكن فيه ذلك. ولهذا لم يقل في الحديث (والخرف حتى يعقل)؛ لأن الغالب أنه لا يبرأ منه إلى الموت. يظهر أن الخرف رتبةٌ بين الإغماء والجنون، وهي إلى الإغماء أقرب. وقال الشافعية: الجنون هنا كالإغماء.

٥. و(السُّكر): وهو زوال العقل بتناول الخمر وما يُلحق بها، بحيث لا يدري السكران بعد إفاقته ما صدر منه حال سكره، وذلك لاختلاط العقل والهذيان، ويتعطل معه التمييز بين الأمور الحسنة والقبيحة.

٦.و(العَته): وهو نقص العقل من غير مسِّ جنون، يجعل صاحبه قليل الفهم، مُخلّط الكلام، فاسد التدبير، ويأخذ المعتوه حكم الصبي المميز؛ لأنها آفةٌ توجب خللاً في العقل، فيصيرُ صاحبه مختلط الكلام، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين، وكذا سائر أموره.

و(البلوغ) صفةٌ في السنِّ أو الإنزال أو الحيض ينتقل بها الإنسان من صفة الصغر إلى صفة الكبر ويجري عليه قلم التكليف غالباً إذا سلم العقل.

و(العقل) صفةٌ يميز بها صاحبه بين الحسن والقبيح، ويُزيله الجنون والإغماء النوم، وفي عبارةٍ مفصلةٍ وأدق، قال الغزالي: يُزيله الجنون، ويغمره الإغماء، ويستره النوم. 

وبدايةً: فإن للصغير أهلية وجوبٍ كاملة، وهي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق، وتجب عليه واجبات، لأن مناطها الإنسانية، فهو إنسان، ويستوي فيها الصغير والكبير.

وأما أهلية الأداء فهي صلاحية الإنسان لصدور الفعل عنه على وجهٍ يُعتدُّ به شرعاً، ومناطها البلوغ، لكن تثبت استثناءً عند جمهور الفقهاء للصبي المميز المأذون له من وليه؛ فيكون له حينئذٍ أهلية أداءٍ ناقصة بحدود الإذن له من الولي. (فقال الحنفية والمالكية والحنابلة: ينعقد تصرف الصبي المميز بالبيع والشراء فيما أذن له الولي، وإلا كان موقوفاً على إجازة وليه، وقال الشافعية: لا ينعقد تصرفه أصلاً)

ولذلك تثبت بحكم الشرع الولاية للأب والجد على الصغير حتى البلوغ، فإن لم يوجد وليٌّ؛ فتثبت للوصيِّ المعين من الولي أو القاضي.

وقد اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة على الصبيِّ والمجنون تبعاً لاختلافهم في اشتراط الأهلية لوجوب الزكاة، وذلك على سبعة أقوالٍ (انظرها، ص ٣١ -٣٣)، وأهم هذه الأقوال قولان:

الأول: قال الحنفية وبعض الفقهاء: يشترط لوجوب الزكاة أن يكون الشخص بالغاً عاقلاً. ولا تجب الزكاة على الصبي والمجنون على تفصيلٍ عند بعض العلماء، والذي جملته أن الزكاة عبادةٌ بدنية محضة كالصلاة والصيام؛ فيُشترط لها التكليف، والصبي والمجنون غير مكلفان.

2. الثاني: وهو الراجح، قال الجمهور: لا تشترط الأهلية لوجوب الزكاة، وعليه فتجب الزكاة على الصبي والمجنون؛ لأن شروط الزكاة من (الإسلام والحرية والملك التام) متوفرة فيهما، ويخرجها عنهما وليهما، لأنها زكاةٌ وجبت في المال، كزكاة البالغ العاقل، فإن لم يخرجها الوليُّ عنهما، فإنه بجب على الصبيِّ إخراجها بعد البلوغ، وكذلك المجنون بعد الإفاقة.

واستدلَّ الجمهور بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي يتيما له مال فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) وهذا الحديث هو النصُّ في هذه المسألة.

وهذا الحديث إسناده ضعيف، ضعف الترمذي، وابن حجر، وقال ابن الكمال: "فإن الحديث لم يثبت". 

ولكن هذا الحديث كما قال الحافظ: له شاهد صحيحٌ مرسل عند الشافعي. 

 وأكده الشافعي بعموم الأحاديث الصحيحة في إيجاب الزكاة مطلقاً. 

ويتقوى بقول وعمل كبار الصحابة كعمر وعلي وابن عمر وعائشة وجابر والحسن بن علي رضي الله عنهما، فهو في الجملة صحيح السند ظاهر الدلالة.

وقال الترمذي: اختلف أهل العلم في هذا: فرأى غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مال اليتيم زكاة، منهم عمر، وعلي، وعائشة، وابن عمر. وبه يقول مالك، والشافعي وأحمد، وإسحق.

وقالت طائفة: ليس في مال اليتيم زكاة، وبه يقول سفيان وأبو حنيفة وابن المبارك.


        مباحث الكتاب

المبحث الأول: الشروط العامة للزكاة...  

المطلب الأول: الشروط العامة للزكاة في الأشخاص ....  

الفصل الأول: تعريف الصبي وأهلية بلوغه....  

الفصل الثاني: تعريف الجنون والعقل ..  

المطلب الثاني: الشروط العامة للزكاةه في المال....  

الفرع الأول: الشروط المتفق عليها في المال لوجوب الزكاة ..  

الفرع الثاني: الشروط المختلف فيها في المال لوجوب الزكاة...  

المبحث الثاني: حكم الزكاة في مال الصبي والمجنون....  

الطب الأول: الآراء الفقهية وأدلتها..  

المطلب الثاني: الموازين والترجيح...  

أهم المصادر والمراجع..



الخميس، 18 نوفمبر 2021

صفعات قادت إلى الخيرات أبو حفص، أحمد الجوهري عبد الجواد

صفعات قادت إلى الخيرات

أبو حفص، أحمد الجوهري عبد الجواد

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ إن القيم والأفكار والمبادئ لا تقوَّمُ بالجاه والشهرة وكيل المدائح وخلع الألقاب، وإنما قوامها وتقويمها بفضل العلم والأدب والاتباع، وإذا ما تأملنا هذا الكتاب النفيس نجد طاقةً زاهيةً من الورود، تضمُّ في سبلاتها عبقريات مخبوءة من العلماء الأعلام، وكل عالمٍ له قصته الفريدة، وبدايته الموفقة في طلب العلم، ويُصور لنا الكاتب -وفقه الله -كيف انتقل هؤلاء الأعلام من حالة الشرود والبُعد عن طلب العلم والتماسه إلى حالة الطلب له والعناية به، وبلوغ الآمال فيه.

ونجد أن هذا الكتاب أيضاً: ينقلب على الأوضاع السقيمة والأعراف السيئة التي حالت بين الناس وبين الإقبال على تعلُّم هذا الدين ومعرفة أحكامه، ويضع القارئ على أول خطوات دربه في الطلب، ونجد أنه يفتح لنا نوافذ جديدة من الأمل وأمام كل الشاردين عن حلق العلم والتحفيظ والدراسة، وأن هذا الذي يحتقره الناس ويزدرونه لجهله، يُمكن أن يكون العالم الذي تُشد إليه الركائب، ويرجع إليه الناس في أمور دينهم ودنياهم إذا طلب العلم بحقٍّ وصدق.

وأكثر ما جذبني إلى قراءة هذا الكتاب هو عنوانه المُميز وهو (صفعات) الذي يعني اللطم بقوة، والمراد باللطمات هي المواقف والأحداث والمحن التي تستثير القلب والوجدان، وتُحرِّك الهمم، وتثير الحميَّة نحو فعل الخيرات، على تنوعها وكثرتها، ولا شك أن أعظم هذه الخيرات هو طلب العلم، الذي يحصل به كل خيرٍ دنيوي وأخروي.

وقد أثَّرت هذه الصفعات في حياة كثيرٍ من أعلام المسلمين، فنقلتهم من حال الشرود إلى حال الطلب والعناية بالعلم، وأثرت فيهم أيما تأثير، فتوقدت أذهانهم، وفهموا فحوى هذه الصفعات، فصيرتهم فقهاء وعُباد ومجاهدين...

ولا يتصور القارئ أن هذه الصفعة لا بُدَّ آتيةً ممن هو أكبر منه سناً، أو أكثر منه علماً، بل قد تأتي من أستاذٍ في معهد أو من زميل الدراسة أو من صبيِّ في الشارع أو من لصٍّ في الطريق أو من رواد حلقة التعليم، ونظرنا دائماً هو إلى آثار هذه الصدمة أو الصفعة الإيجابية، التي تستحثُّ هذا الإنسان وتستظهر مخبوء طاقته، ليسير في طلب الخير، سواءً كان عبادةً أو علماً أو دعوةً أو جهاداً أو صدقةً.

وفي هذا الكتاب بيان: أن التعلم لا زمن له، وأن كبر السنِّ ليس عائقاً أمام تحصيله، وأن كثيراً من العلماء طلبوا العلم في الكبر، وأن النبوغ موهبةٌ يمنحها الله من يشاء من عباده، وقد ركز الكاتب من خلال القصص المتنوعة على أن يربط القارئ العلم بالعمل، وضرورة الاتصاف بنُبل النفس، وكرم الأخلاق، والأدب الجم، وحُسن السمت، فهذه كلها حقائق تُعلي من قيمة الرجل، وتُعينه في طريق طلبه.

ولا أنسى التأكيد على مبدأ إخلاص النية لله عز وجل في طلب العلم، وابتغاء وجهه دون التكبر والافتخار به والمباهاة على الناس وغير ذلك من الأغراض الدنيوية، وأنه ينبغي لطالب العلم أن يشكر الله تعالى أن جعله وعاءً لأحكامه، ومُبلغاً لدينه، ووراثاً لأنبيائه، وأنه تعالى أنعم عليه بنعمة العلم والحكمة، وأن يزداد بعلمه خشية، فإن الله تعالى يقول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.

وفي هذا الكتاب:

أولاً: عالمٌ بين محنتين: رافعةً وقاتلة (سيبويه =عمرو بن عثمان بن قنبر).

ثانياً: حجة الإسلام الغزالي ألهمه اللصوص مفتاح العلم.

ثالثاً: أبو حنيفة وتوجيه امرأة له لطلب الفقه.

رابعاً: قمر القرن الرابع عشر الهجري (الإمام الألباني).

خامساً: خيّاطٌ أُميّ هو المُفتي (محمد إسماعيل).

سادساً: صانع الكساء شيخ النحاة والقراء (الإمام الكسائي علي بن حمزة).

سابعاً: من شارب للنبيذ إلى أجلّ رواة الموطأ (الإمام القعنبي).

ثامناً: وزير العلماء لم يكن يدري تحية المسجد إلى أن تعلم وأصبح (ابن حزم).

تاسعاً: محمود شاكر عميد الأدب العربي بعدما انقطع عن دراسته لفترة طويلة.






الثلاثاء، 16 نوفمبر 2021

وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم (وأظلمت المدينة) أبو بلال د. نزار عبد القادر ريان

وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(وأظلمت المدينة)

أبو بلال د. نزار عبد القادر ريان

قراءة: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ تزدحم الأحداث، وتمرُّ اللحظات الأخيرة سريعاً كالخيال، ويقع الخبر الذي لم يخطر للصَّحابة على بال، في لحظةٍ تصمت فيها الدُّنيا، ويسكن الكون، وتهدأ الأصوات، ويقرع الخبر الجلل آذان الصحابة؛ "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم"، في أثقل يومٍ في ذاكرة الأمة، حيث يُمسي الجميع باهتاً أمام هذه الفاجعة العظيمة، والحادثة الأليمة، واكتست المدينة بالحُزن المُعتَّق، فهذا يبكي بحرقه، وذاك يندب حبيبه، وآخر تخرُّ قواه فلا تُقلُّه قدماه، وتتفتق القلوب بالأسى، حتى أنكروا قلوبهم.

في هذا الموقف العظيم لا شك أن تطوف خواطر كثيرٍ منهم في اللحظات الأخيرة من حياته مع كل واحدٍ منهم، فهذا يذكر آخرة نظرةٍ له عليه الصلاة والسلام، وذاك يذكر آخر ابتسامةٍ، وذاك يذكر آخر كلمةٍ، ورابعٌ يذكر آخر وصيَّةٍ، وخامسٌ يذكر آخر ابتسامةٍ، في أيامٍ ثقيلة الخطوات، خلت منها الدروب والأزقة والطرق من الحبيب صلى الله عليه وسلم. 

لم تكن وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حدثاً عادياً بالنسبة للصحابة الكرام، فقد تشتت أحلام كثيرٍ منهم، وتاهت كلمات البعض، وخيَّم الصمت على كثيرٍ منهم، لأنهم فقدوا أعزَّ وأحبَّ إنسانٍ عرفوه بصدقه وأمانته وشمائله، وكان عطوفاً رحيماً رؤوفاً بهم، فكان لهم كالأب لأبنائه، والصديق لأصدقائه، والمُعلِّم لتلامذته، وقد رافقوه في حضره وسفره، ولازموه في جهاده وهجرته، وشاركوه أفراحهم وأتراحهم.

وكيف يكون فراقه عادياً، وهو الذي كان يُربِّت على أكتاف المحزونين، ويُواسي الغارمين، ويُساعد الفقراء والمحتاجين، يُجلُّ الكبير، ويعطف على الصغير، ويُعطي من حُرِّ ماله، ولم يدَّخر عنهم وقتاً ولا مالاً، فلا شكَّ أن موته صلى الله عليه وسلم مُصيبةٌ كان لها وقعها العظيم على الصحابة رضوان الله عليهم.

(مات النبيُّ صلى الله عليه وسلم)، وأظلمت المدينة؛ فلم تعد السماء صافيةً كما كانت، ولم تكتحل عيون الصحابة بالرقاد، وهل فراقٌ كفراق سيدنا محمد؟

ولا شك أن في وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم عزاءٌ لكل مُصاب في أهله وماله، ولا شكَّ أن وفاته صلى الله عليه وسلم كانت مُصيبةً في الدين ليس وراءها مرمى.

ونحن بحاجةٍ ماسَّة وكبيرة إلى أن نتعزى بهذا الكتاب لا سيما في هذا العصر المتموج بجلائل المصائب وكثرة الهرج.

وهذا الكتاب يُمثل الحلقة الأخيرة من السيرة النبوية الشريفة ويستعرض فيه الكاتب -رحمه الله -الأيام الأخيرة من حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، منذ اشتداد مرضه يوم الخميس قبل وفاته بأربعة أيام إلى يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى يوم الاثنين، ثاني عشر من ربيع الأول، وقد بلغت الروايات التي ذكرها المؤلف -رحمه الله -(١١٨) حديثاً، وفيها تكرار وتقطيع، مع الاقتصار على المقبول بقسميه الصحيح والحسن، دون الضعيف المردود، وقد بنى الكاتب هذا الكتاب على حديث أنسٍ في الترمذي وابن ماجه: (لمَّا كانَ اليومُ الَّذي دخلَ فيهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ المدينةَ أضاءَ منْها كلُّ شيءٍ، فلمَّا كانَ اليومُ الَّذي ماتَ فيهِ أظلمَ منْها كلُّ شيءٍ، وما نفَضنا عنِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ الأيديَ حتَّى أنْكَرنا قلوبَنا).

ولم يمرَّ وقتٌ طويلٌ على المؤلف -رحمه الله -وهو الداعية السياسي، والعالم المجاهد -حتى اصطفاه الباري سبحانه في جملة الشهداء الأخيار الأبرار، حينما قُصف وهو في منزله بغزَّة بغارةٍ صهيونية غادرة، فاستشهد هو وزوجاته الأربع، وثلاثةٌ من أولاده، رحمهم الله رحمةً واسعة.

وقد جاء هذا البحث في اثني عشر مطلباً وخاتمة:

المطلب الأول: الأمارات الدالة على اقتراب أجله وحضوره.

المطلب الثاني: تلطُّف النبيِّ صلى الله عليه وسلم في إطلاعهم على وفاته.

المطلب الثالث: تطلُّع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم المؤمنين عائشة ليُمرض فيه عندها.

المطلب الرابع: آخر الخطب النبوية قبل موته صلى الله عليه وسلم.

المطلب الخامس: اقتراب الموعد، وتسليط الضوء على بيت عائشة.

المطلب السادس: آخر صلوات النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمسلمين ووصيته لهم.

المطلب السابع: بداية احتضاره ووصيته للمسلمين في ذلك.

المطلب الثامن: آخر الكلمات النبوية لخاتمة حياته.

المطلب التاسع: اختيار النبيِّ صلى الله عليه وسلم للدار الآخرة، وتعجله الرحيل منها.

المطلب العاشر: وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأثر ذلك على أصحابه.

المطلب الحادي عشر: غُسل النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والصلاة عليه ودفنه.

المطلب الثاني عشر: في بكاء الصحابة رضوان الله عليهم كلما تذكروا النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.




الأحد، 14 نوفمبر 2021

الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج تأليف أحمد بن أبي بكر العلوي الحضرمي الشافعي -*مع بعض التوضيحات والزيادات* بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة

الابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج 

تأليف أحمد بن أبي بكر العلوي الحضرمي الشافعي 

(1277 -1343 هـ)

*مع بعض التوضيحات والزيادات*

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ هذه رسالة نفيسة في بيان اصطلاح الإمام النووي في كتابه "منهاج الطالبين"، والذي يُعد من أجل المصنفات في فقه الشافعية، والذي اختصره من "المحرر" للرافعي، متحرِّياً ذكر المعتمد من المذهب، مع بعض الزيادات المُفيدة من تقييد مُطلق، أو تخصيص عام، أو بيان استثناء، أو استبدال لفظةٍ بأخرى توضيحاً لها، أو بيان الراجح في مسائل اختار الرافعي خلافها، مع بيان المدارك وهي الأدلة.

    ويذكر مؤلف هذه الرسالة معنى اصطلاح النووي من كلام شيوخ المذهب، وكلُّ ذلك مؤيَّدٌ بالأمثلة التطبيقية، مع تفصيلٍ نافع، وفوائد مُهمة.

شروحات المنهاج للنووي

اعتنى بشأن المنهاج جمعٌ من الشافعية:

١.فشرحه تقي الدين علي بن عبد الكافي السُّبكي (ت 756 هـ)، ولم يُكمله، بل وصل إلى الطلاق، وسماه "الابتهاج"، وكمله ابنه بهاء الدين أحمد. وشرح أيضاً: محمد بن علي القاياتي (ت 850 هـ).

٢.وشرحه الشيخ جمال الدين محمد بن أحمد المحلي (ت 864 هـ).  

٣. وشرحه شهاب الدين أحمد بن حمدان الأذرعي شرحين: أحدهما: «القوت»، وقد اختصره : شمس الدين محمد بن محمدبن محمد الغزي (ت 808 هـ).

٤. وشرحه: مجد الدين أبو بكر بن إسماعيل الزنكلوني (ت 740 هـ)، ولم يطوله .  

٥. وسراج الدين عمر بن علي ابن الملقن الشافعي المتوفى سنة (ت 804 هـ)، شرحه وسماه : الإشارات، وله «تحفة المنهاج»، والبلغة» على أبوابه في جزء، وله «جمع الجوامع» نحو ثلاثين مجلداً، احترق غالبه، وله «عمدة المحتاج» في نحو ثلاث مجلدات، وكذلك «العجالة» في مجلد، وله «الغاية» في مجلد، وهو المسمى بـ «الإشارات»، وتصحيحه في مجلد أيضاً، كذا في « قيود السخاوي » .  

٦. وأفرد الشيخ سراج الدين عمر بن محمد اليمني(ت 887 هـ) زوائد «العمدة» «ورد العجالة» لابن الملقن، وسمى الأول: «تقريب المحتاج إلى زوائد شرح ابن النحوي على المنهاج»، والثاني: «الصفاوة في زوائد العجالة» .  

٧. وأحمد بن العماد الأقفهسي، وقد مر تاريخ وفاته، له عليه عدة شروح بعضها لم يكمل.

٨. وشرحه: جمال الدين الإسنوي بلغ فيه إلى (المساقاة) سماه: «الفروق»،  وصنف زيادات على «المنهاج»، وأكمل الشيخ بدر الدين محمد ابن عبد الله الزركشي (ت 794 هـ) ذلك الشرح.  

٩. وشرحه: سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني (ت 805 هـ)، وسماه: «تصحيح المنهاج» أكمل من الربع الأخير، ووصل إلى ريع (النكاح).

١٠. وشرحه: الشيخ شرف الدين بن عثمان الغزي (ت 799 هـ) شرحا مبسوطاً في نحو عشر  مجلدات، ومتوسطاً، وصغيراً في نحو مجلدين.

١١. والشيخ بدر الدين محمد بن محمد المعروف بابن رضي الدين الغزي شرحين، أحدهما سماه: «إبتهاج المحتاج».  

١٢. وشرحه: الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ)، وسماه: «درة التاج في إعراب مشكل المنهاج»، ونظمه أيضاً، وسماه: «الابتهاج».  

١٣. وشرحه: الشيخ زكريا الأنصاري (ت 926 هـ).  

١٤. وشرحه: تقي الدين أبو بكر بن محمد الحصني (ت 829 هـ).

١٥. وشرحه: الشيخ إبراهيم المأموني المكي (كان حياً في حدود: 1079 هـ) وهو من المتأخرين .  

١٦. وممن شرحه: الشيخ كمال الدين بن موسى الدميري ا(ت 808 هـ)، سماه: «النجم الوهاج »، لخصه من شرح السبكي والإسنوي وغيرهما.  

وآخر شروحه هي الأربعة التي يعول عليها الشافعية: 

١٧. «تحفة المحتاج» للشهاب أحمد بن علي ابن حجر الهيثمي المكي (ت 973 هـ).

١٨. وشرح الجمال الرملي (ت 1004 هـ) المسمى بـ«نهاية المحتاج»، وهو محمد بن أحمد الرملي.

١٩. وشرح الشيخ الخطيب الشربيني (ت 977 هـ) المسمى بـ«مغني المحتاج»، وشرح جلال الدين المحلي.

ونُلخص اصطلاح الإمام النووي في المنهاج، كما يلي:

بيَّن الإمام النووي - رحمه الله - في مقدمات كتبه الفقهية منهجه العام في التأليف، بالإضافة إلى معاني المصطلحات التي التزم بها في كتبه الفقهية، لا سيما أشهرها وهو المنهاج:

فقوله (في الأظهر أو المشهور): فمن القولين أو الأقوال للشافعي.

وقد يكون القولان جديدين، أو قديمين، أو جديدًا وقديمًا.

وقد يقولهما في وقتين، أو وقت واحد، وقد يرجح أحدهما، وقد لا يرجح.

توضيح ذلك: أن الأقوال هي كلام الشافعي وذلك حينما يكون له في المسألة أكثر من قول، وقد تكون هذه الأقوال مما قاله قبل استقراره في مصر، أي: قديمة، وقد تكون جديدة، وقد يكون بعضها قديماً وبعضها جديداً، وحينما يقول الشافعية: قولين، فإنهم يعنون أن لديهم قولين عن الإمام الشافعي في مسألةٍ ما.

فإن قوي الخلاف لقوة مدركه، قال: (الأظهر) المشعر بظهور مقابله.

توضيح ذلك: أن الأظهر يُستعمل في الترجيح بين أقوال الشافعي سواء كان بين قولين قديمين، أو جديدين، أو قولٌ قديمٌ وآخر جديد، أو قالهما في وقتٍ واحدٍ، أو في وقتين مختلفين، ولفظ "الأظهر" يدل على ظهور مقابله أي: دليلاً، ولذلك لا يأتي به النووي إلا حينما تكون الأقوال المخالفة قوية من حيث الدليل الذي عبَّر عنه بالأظهر أقوى دليلاً منها وأظهر. 

وقد توسع الغزالي في استعمال اصطلاح "الأظهر"، وذلك في الترجيح بين أقوال الشافعي أو وجوه الأصحاب. 

وأما ابن حجر فإنه يستعمل لفظ "المعتمد" بمعنى الأظهر، فإذا قال على المعتمد؛ فهو الأظهر من القولين أو الأقوال، يعني عن الإمام..

وقد يستعمل بعضهم لفظ "الظاهر" للتعبير عن القول أو الوجه الذي قوي دليله، وكان راجحاً على مُقابله، وهو الرأي الغريب، إلا أن الظاهر أقلُّ رُجحاناً من الأظهر.

وإلا بأن ضَعُف الخلاف قال: (المشهور)، المشعر بغرابة مقابله لضعْف مدركه.

توضيح ذلك: أن المشهور اصطلاحٌ يُستعمل للترجيح بين أقوال الشافعيّ إلا أنه يؤتى به حينما يكون القول المقابل ضعيفاً لضعف مدركه أي: دليله، ومقابل المشهور: الغريب، وهو قول أو أقوالٌ غير قوية للإمام. 

وأما الغزالي فإنه يستعمل "المشهور" للترجيح بين الأقوال والأوجه، فالمشهور عنده هو القول أو الوجه الذي اشتهر بحيثُ يكون مقابله رأياً غريباً أو شاذاً. 

مثالٌ على المشهور: جاء في باب النجاسات في "المنهاج": قوله: "ويُستثنى ميتة لا دمٍ لها سائلٌ؛ فلا تنجس مائعاً على المشهور".

وقد يستعملون لفظ "الأشهر" وهو القول الذي زادت شُهرته على الآخر، وذلك لشُهرة ناقله، أو شهرة مكانته عن المنقول عنه، أو اتفاق الكل على أنه منقول عنه، لا على وجه الترجيح ابتداءً.

وحيث يقول: (الأصح أو الصحيح)؛ فمن الوجهين أو الأوجه لأصحاب الشافعي يستخرجونها من كلامه، وقد يجتهدوا في بعضها - وإن لم يأخذوه في أصله عن الإمام. ثم قد يكون الوجهان لاثنين، وقد يكونان لواحد.

توضيح ذلك: أن "الأصح" من صيغ الترجيح بين الأوجه للأصحاب، وحيث يكون الوجه الآخر قويَّ الدليل يصل إلى درجة الصحيح، إلا أن الذي قيل عنه أصح أقوى دليلاً. 

والوجه: هو استنباط الأصحاب من نصوص الإمام أو قياسهم حسب قواعده، وأركان القياس: الأول المقيس عليه وهو الأصل، وهو ما عبر عنه بقوله: "ما قوي أصلاً". والثاني: المقيس وهو الفرع. والثالث: العلة وهي المعنى المشترك بينهما، وهو ما عبَّر عنه "بالجامع"، والرابع: الحكم المقيس عليه.

فالحكم الذي استنبطه الأصحاب، وكان أقوى دليلاً، وكانت العلة المشتركة بينه وبين أصله أقوى من مقابله، أو أقوى من وجه أحدهما، حُكم عليه -على الفرع- بالأصح من غيره من الأوجه. 

وقد يكون الوجهان لاثنين أو لواحدٍ، سواءٌ قالهما في وقتين مختلفين أو في وقتٍ واحد. 

والغزالي لا يُفرق بين الأوجه والأقوال في استعمال "الأصح" للترجيح بينهما، فالأصح عنده هو الرأي الراجح، أي: ما هو أكثر صحةً من غيره، سواءً كان هذا الرأيُ قولاً للشافعي أو وجهاً من وجوه الأصحاب، وحينئذٍ يُطلق "على الأصح" أو "هو الأصح" فإن هذا يعني أن مقابله "صحيح" غير أن "الأصح" أقوى منه. 

وأما ابن حجر؛ فإنه يستعمل "الأوْجَه" مرادفاً لمعنى "الأصح"؛ فإذا قال: "على الأوجه" مثلاً، فهو "الأصح" من الوجهين أو الأوجه. 

بينما يستعمل النوويُّ لفظاً مرادفاً "للأصح" وهو "المختار"، فالـ"المختار" الذي وقع للنووي في الروضة يكون بمعنى "الأصح" في المذهب.

مثالٌ على الأصح/ جاء في باب الطهارة في كتاب "المنهاج" قوله: "فإن جمع فبلغ قلتين، فطهورٌ في الأصح".

وقد يُعبر عن "الأصح" بـ"الأشبه"، وهو الحكم الأقوى شبهاً بالعلة الجامعة بين المقيس والمقيس عليه، ويُستعمل هذا اللفظ حينما يكون للمسألة حكمان قياسيان، تكون العلة في أحدهما أقوى شبهاً بالأصل.

والوجهين اللذان يكونان لواحد ينقسمان كانقسام القولين، فإن قوي الخلاف لقوة مدركه قال: (الأصح)، المشعر بصحة مقابله.

توضيح ذلك: أن الأوجه أو الوجهان: هي آراء أصحاب الشافعي المخرجة على أصوله وقواعده، وقد تكون اجتهاداً لهم أحياناً غير مبنيٍّ على أصوله وقواعده، وهذه لا تكون من المذهب، وإنما تُنسب لأصحابها، وقد يكون الوجهان قديمين، أو جديدين، أو أحدهما قديم والآخر جديد، وقد يكونا لشخصين، وإذا كان لشخصٍ فينقسمان كانقسام القولين. واختلف الشافعية هل تُنسب هذه الأوجه المخرجة إلى الشافعي أم لا؟ ويُجيب على ذلك الإمام النووي، بقوله (والأصح أنها لا تُنسب).

وإلا بأن ضعف الخلاف فيه، قال: (الصحيح)، ولم يعبر الإمام النووي بالأصح والصحيح في الأقوال تأدبًا مع الإمام الشافعي، فإن الصحيح منه مشعر بفساد مقابله.

توضيح ذلك: أن لفظا "الصحيح" و"الصواب" للترجيح بين وجوه الأصحاب، ويُستعملان حين يكون المقابل وجهاً ضعيفاً أو واهياً، وذلك لضعف مدركه. فالصحيح مقابله الضعيف الفاسد، والصواب مقابله وجهاً واهياً أي: شديد الضعف. أو كما يقول أحمد العلوي في هذه الرسالة: "والصحيح ما صحَّ أصلاً وجامعاً أو واحداً منهما كذلك من الوجهين، ومقابله الفاسد". انتهى.

مثال الصحيح/ قول النووي في "المنهاج": إذا اشتبه ماءٌ وبول، لم يجتهد على الصحيح.

وحيث يقول (المذهب) فمن الطريقين أو الطرق، وهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، كأن يحكي بعضهم قولين أو وجهين لمن تقدم، ويقطع بعضهم بأحدهما.

توضيح ذلك: أن لفظ "المذهب" يُستعمل للترجيح بين الطرق في حكاية أقوال الإمام، أو وجوه الأصحاب، فيقول أحدهم في المسألة الواحدة: قولان أو وجهان، فما عبَّر عنه النووي بالمذهب هو ما كان طريقه أصح، وقد يكون أيضاً طريقه الخلاف، فيُعبر عن المسألتين بالمذهب للدلالة على الاختلاف. 

ومن أمثلة استعمال لفظ "المذهب" للتعبير عن الخلاف في المذهب، قول الإمام النووي في "المنهاج" باب التيمم: "فإن نوى فرضاً أو نفلاً أُبيحا أو فرضاً فله النقل على المذهب أو النفل أو الصلاة تنفل لا الفرض على المذهب".

ثم الراجح الذي عبَّر عنه (بالمذهب): إما طريق القطع، أو الموافق لها من طريق الخلاف، أو المخالف لها.

توضيح ذلك: أن اصطلاح "الطرق" يدل على اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب، فيقول بعضهم مثلاً: في المسألة قولان، أو وجهان، ويقول الآخر: لا يجوز قولاً واحداً، أو وجهاً واحداً، أو يقول أحدهما: في المسألة تفصيل، ويقول الآخر: فيها خلاف مطلق، وقد يستعملوا الوجهين في موضع الطريقين وعكسه.

وقد يستعمل بعضهم لفظ "الأرجح" وهو ما كان رجحانه أكثر من غيره، ومُقابله "الراجح" الذي تعضَّد بأحد أسباب الترجيح، كقوة دليله، أو مناسبته للزمان، أو ما اقتضاه العُرف، أو شُهرته.

وحيث يقول: (النص)؛ فهو نص كلام الشافعي رحمه الله تعالى، وسمي نصَّاً لأنه مرفوع إلى الإمام، أو لأنه مرفوع القدر لتنصيص الإمام عليه، ويكون في مقابله غالباً "وجه ضعيف، أو قول مخرَّج من نص له في نظير المسألة لا يعمل به".

وكيفية التخريج كما قاله الرافعي: أن يجيب الشافعي بحكمين مختلفين في صورتين متشابهتين، ولم يظهر ما يصحُّ للتفريق بين الصورتين، فينقل الأصحاب جوابه من كل صورة للأخرى، فيحصل في كل صورة منهما قولان: منصوص، ومخرَّج.

والمنصوصُ في هذه هو المخرج في تلك، والمنصوص في تلك هو المخرج في هذه، وحينئذ فيقولون: (قولان بالنقل -أي بالنص -والتخريج)، أي: نقل المنصوص من هذه الصورة إلى تلك، وخَرَّج فيها، وكذا بالعكس.

والأصح أن القول المخرَّج لا ينسب إلى الشافعي إلا مقيّدًا، فإنه ربما يُذكر فرقاً ظاهراً بين الصورتين لو روجع فيه.

وحيث يقول (الجديد) فالقديم خلافه، أو (القديم)، أو (في قول قديم) فالجديد خلافه. و(القديم) ما قاله الشافعي بالعراق، أو قبل انتقاله إلى مصر، وأشهر رواته: أحمد ابن حنبل، والزعفراني، والكرابيسي، وأبو ثور، وقد رجع الشافعي عنه، وقال: لا أجعل في حل من رواه عني.

و(الجديد) ما قاله بمصر، وأشهر رواته: البويطي، والمزني، والربيع المرادي، والربيع الجيزي، وحرملة، ويونس بن عبد الأعلى، وعبد الله بن الزيير المكي، ومحمد ابن عبد الله بن عبد الحكم، وأبوه.

ومحلُّ قولهم: (إن القديم مرجوع عنه، وليس بمذهب الشافعي) هو في القديم الذي نص في الجديد على خلافه، أما القديم الذي لم يتعرض في الجديد لما يوافقه ولا لما يخالفه، فإنه مذهبه، يُعمل به، ويُفتى به.

وحيث يقول: (وقيل كذا) فهو وجه ضعيف، والصحيح أو الأصح خلافه.

وحيث يقول: (في قول كذا) فالراجح خلافه.

ويتبين قوة الخلاف وضعفه في قوله: (وحيث أقول المذهب).

أسماء الكتب التي يتكرر ذكرها عند السادة الشافعية، وإليك اسم الكتاب وصاحبه: (من كتاب مصطلحات المذاهب الفقهية، ص 224 -247).

(الانتصار)؛ للقاضي أبو سعيد عبد الله بن محمد بن عصرون التميمي الموصلي. و(التبصرة) لأبي محمد عبد الله بن يوسف والد الإمام الجويني. و(الحاوي) لنجم الدين عبد الغفار بن عبد الكريم القزويني. و(الذخائر) للقاضي أبو المعالي مُجلَّى بن جُميع المخزومي المصري. و(الشامل) يعني الكبير، شرح مختصر المزني لعبد السيد بن الصباغ البغدادي. و(العُدة) ويراد بها العدة الصغرى؛ لأبي المكارم الرُّوياني. و(الفروع) لأبي بكر محمد بن أحمد بن الحداد الكتاني المصري. و(الكافي) لظهير الدين أبو محمد محمود بن الخوارزمي العباسي. و(الكفاية) ويُراد بها الكفاية شرح التنبيه؛ لأبي العباس أحمد بن محمد بن الرفعة. و(المختصر) لإسماعيل بن يحيى المزني المصري.

صيغ نسبة الأقوال إلى المتقدمين (مصطلحات المذاهب، ص 249 -251)

(أصل الروضة) هو كتاب العزيز شرح الوجيز للرافعي، اختصره الإمام النووي في كتابه (الروضة)، وأما (زوائد الروضة) فهو ما زاده الإمام النووي في كتابه الروضة على كتاب العزيز، وإذا قالوا: (كذا في الروضة) فيه عدم التأكيد على نسبة هذا القول إلى الروضة أو زوائدها مما زيد فيها على العزيز. أما قوله (كذا في الروضة وأصلها) فيعني أنه لا فرق بين الروضة والعزيز في اللفظ. وعبارة (كذا في الروضة كأصلها) هي عمس المعنى الأول، وفيه دلالةٌ على أن هناك فرقاً طفيفاً بين الروضة وأصلها العزيز. ومرادهم بـ(قال بعض العلماء) دلالةُ على نقلهم عن العالم الحي، فإنهم لا يذكرون اسمه؛ لأنه ربما تراجع عن رأيه، فإذا مات صرَّحوا باسمه.

بعض رموز أئمة الشافعية المتأخرين :

ق ل:-  القليوبي

أ ج:- الأجهوري

د م : الدميري

طب :- الطبلاوي الكبير

ج م :- الجمل

دش :- دنشوري

م د : المدابغي

ع ش :- الشبراملسي

ب ص: البصري

ك ر:- الكردي 

ح ل:- الحلبي 

سم:- ابن قاسم العبادي

ط ي:- الطيبي

ب ر:- البرماوي

ز ي: الزيادي

خ ط: الخطيب الشربيني

ع ن:- العناني

ب ج : البجيرمي

شو: الشوبري

ش ر: عبد الحميد الشرواني

رش: الرشيدي

حج :- ابن حجر

أط: الأطفيحي

م ر:- الشمس الرملي

باج:- الباجوري

خ ض: الخضري

ح ف: الحفني 

ش ق:- الشرقاوي

رح :- رحماتي

با :- البابلي


س ل:- سلطان المزاحي



منظومة في ذكر بعض اصطلاحات الشافعية رحمهم الله تعالى


مصطلحاتهم للاختصار

لا سيما مع حاجة التكرار

في الرأي والأعلام والترجيح

ورمزها وصيغ التوضيح

فحُز لما جمعته مرتباً 

تكن بما تحفظه مُقرّباً

أولها مصطلح: الأعلامِ

كللجُويني لفظة (الإمام)

وأطلقوا (القاضي) للحُسين

والرافعي والنووي (الشيخين)

ثم مع السُّبكين فالثلاثة

هم الشيوخ وألولو الدماثة

وقصدوا بـ(الشارح المُحقق)

جلالنا مُحمَّد فحقِّقِ

(والقاضيان) العالم الرُّوياني

وصاحب الحاوي أخو البيانِ

والثاني في تعدد الأقوال

مثل قديم قوله والحالي

فإن تعددت بذا الأقوالُ

عن الإمام الشافعي؛ فقالوا:

(القول) و(الأقوال) مثلما سبق

لكنَّه نصَّ على القول الأحق

ومع وجود الخُلف في حكاية الـ

مذهبِ (فالطُّرق) فيه يتصل

وهكذا (الأوجه) و(الوجوه)

في خُلفهم إن قال: خرَّجوهُ

على أصول مذهب الإمام

من صحبه الأئمة الأعلامِ

والثالث الترجيح بين ما مضى

من قوله أو نصِّه مما اقتضى

و(المذهب) الراجح مما اختلفت

أقوالهم به حكاية أتت

و(النصُّ) من قول الإمام الراجح

منه ومن أصحابه (كالراجح)

وهكذا (المنصوص) قول الشافعي

أو نصُّه ليس له من دافعِ

أو صحَّ وجهًا للصحاب فرجِّحِ

ومثله (المشهور) في قولٍ وصح

لكنما الخلاف فيه ضعُفا

للضَّعف في مدركه فاختلفا

وعكسه (الأظهر) لكن (الأصح)

في أوجهٍ أو فيهما مما رجح

مع قوة الخلاف و(الصحيح)

بعكسه رَاجَ وذا الترجيح

وقولهم (في وجهٍ) أو (في قولٍ)

مُقابل الراجح في ذا النقلِ

والرابعُ: المصطلح التوضيحي

في الكشف عن مُراده الرَّجيحِ

فـ(مقتضى الكلام) حُكمنا أتى

إن لم يكن صراحةً قد ثبتا

و(حاصل الكلام) للتفصيلِ

من بعد إجمالٍ بلا تعطيلِ

وعكسه (مُحصَّل الكلام

يُقال: للإجمال بانتظامِ

ومع خفاء المتن (فالتنقيحُ)

إن وجب التحرير والتصحيحُ

و(قال بعض العلماء) تُستعملُ

للحيِّ إذ رجوعه مُحتملُ

والخامس: الرموز مما اتفقا

عليه من صنَّف مما يُنتقى

فـ(طب) أتت حرفين للطبلاوي

و(بر) لشيخنا البرماوي

ثم بـ(دم) للعالم الدُّميري

والحلبي بـ(حل) أتى بالخير

وأطلقوا لشيخنا الشمس الرملي (مَر)

ونحت (حج) للهيثمي ابن حجر

ولابن قاسم بـ(سم) قد عبَّروا

والشوبري الخضر بـ(خض) قد أخبروا

و(القاق واللام) بها القليوبي

و(خط) أتت بالنحت للخطيبِ

والشبرملسي بـ(عش) منشورُ

ثم البجيرمي بـ(بج) مشهور

ثم بـ(أج) عطية الأجهوري

كذا بـ(باج) خُصَّ للباجوري

نظمتها ونحتها منها أتى

ليكمل المدخلُ مما أتى

والحمد لله على الإكمال

رجاؤنا في الحلِّ والترحالِ