التعليق على رسالة زكاة الحُلي
للشيخ الدكتور. سلمان بن نصر الداية
الأستاذ المساعد في الجامعة الإسلامية
بحث منشور -مجلة الحكمة، مانشستر -بريطانيا، 2006م
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ شرع الله سبحانه وتعالى الزكاة على المسلمين فريضةً عادلة، وطُهرةً للعباد من الذنوب، وتخليصاً للمال من الشوائب، ووقاية للنفوس من الشُّح، وقد اتفق العلماء على أنه لا زكاة في الماس، والدر، والياقوت، واللؤلؤ، والمرجان، والزبرجد، ونحو ذلك من الأحجار الكريمة إلا إذا اتخذت للتجارة ففيها زكاة التجارة.
واختلفوا في زكاة الحُلي المباح على أربعة أقوال:
1-فذهب الحنفية ومن وافقهم، وهو أحد قولي الشافعي، وإحدى الروايات عن أحمد بوجوب تزكية حلي المرأة إذا بلغ النصاب؛ حتى لو أدى ذلك إلى تناقصه، واضطرت المرأة إلى بيع بعضه، واستدلوا ببعض الأحاديث المرفوعة والموقوفة على الصحابة، والتي اختلف المحدثون في تصحيحها وتضعيفها.
2-وذهب المالكية، والجمهور وهو أظهر قولي الشافعي، والمشهور عن أحمد أنه لا زكاة في حلي المرأة مطلقاً؛ قالوا: لأنه لم يصح في وجوب زكاة الحلي شيء، واستدلوا بأثرٍ متكلم فيه عن جابر، قالوا: وقد ثبت عن عددٍ من الصحابة أنهم كانوا لا يُخرجون الزكاة عن الحلي، قالوا: ولأن الأصل في وجوب الزكاة أن تكون في الأموال النامية، والحلي لا يُقصد به النماء، ولأن الشارع أباحه لها إشباعاً لغريزة المرأة، ومساعدةً لإبقاء الرابطة الزوجية بينها وبين زوجها، بدفعها لزكاة الحُلي ستُسلب هذه الحُلي، وإبقاء الرابطة الزوجية مقصودة للشارع.
3-وذهب أنس بن مالك إلى أن زكاة إلي مرة واحدة في العمر، وعدَّ الشيخ مصطفى العدوي هذا الرأي شاذاً.
4-وذهب ابن عمر، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري إلى أن زكاة الحلي إعارته ولو مرة في العمر.
وذكر الشيخ سلمان في رسالته هذه ما يجوز تحليته بالذهب والفضة، وما يُمنع من ذلك عند أصحاب المذاهب المتبوعة، ورجَّح مذهب من قال بوجوب زكاة الحلي إذا بلغ نصاباً إلى الحول، وهو قول الشيخ مصطفى العدوي.
وخالفه الكثير من الفقهاء المعاصرين؛ كالشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان، والشيخ عبد العزيز الطريفي، والشيخ محمد حسن ولد الددو، وغيرهم.
والذي يظهر والله أعلم: هو قول من ذهب إلى عدم وجوب إخراج زكاة الحلي؛ لكثرة عدد الصحابة الذين رُوي عنهم هذا المذهب، كما أن مذهب الجمهور ينقل عن الأصل (وهو عدم وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة) ومذهب الأحناف مُبقٍ على الأصل، والناقلُ مُقدَّمٌ على الموافق للأصل، والأمر واسعٌ، والاحتياط أولى.
وإليك تفصيل هذا الخلاف بين العلماء من المحدثين والفقهاء في حلي المرأة، من الذهب والفضة:
1- فذهب إلى وجوب الزكاة فيه: أبو حنيفة وأصحابه، وابن حزم، وهو قول عمر، وابن مسعود، وابن عباس، ومن التابعين: عطاء، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وميمون بن مهران، وطاوس، والزهري، وذلك إذا بلغ نصاباً، واستدلوا:
أ- بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ امرأةً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أتت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومعَها ابنةٌ لها، وفي يدِ ابنتِها مَسَكَتانِ غَلِيظَتانِ مِنْ ذَهَبٍ، فقال لها: (أتُعطين زكاةَ هذا؟) قالت: لا، قال: (أيُسرُّكِ أن يُسوِّرَكِ اللهُ بهما يومَ القيامةِ سِوارينِ من نارٍ؟) قال: فألْقتْهُما إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقالت: هُما للهِ عزَّ وجلَّ ولِرسولِه. وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ.
وهذا الحديث تكلم الناس فيه؛ فقد جاء من طريق اثنين من الضُّعفاء، وهما ابن لهيعة والمثنى بن الصباح وهما ضعيفان؛ وتفرد به عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بهذا السياق كما ذكر ذلك البيهقيُّ في السُّنن. وأحاديث عمرو بن شعيب اختلف العلماء في قبولها، وأحسن ما قيل فيها: إنَّ ما رواه عن أبيه عن جده فهو ضعيف -كهذا الحديث- وما رواه عن غيرهما فمقبول. وقال الترمذيُّ: لا يصحُّ في هذا الباب شيء. ورواه النسائيُّ من طريق حُسين المُعلم، عن المعتمر بن سليمان، عن عمرو بن شعب مرسلاً، ورجَّح النسائيُّ إرسال حديث عمرو بن شعيب، وهو الصواب؛ فإنه لم يثبت مرفوعاً، وقال أبو عُبيد: حديث اليمانية لا نعلمه رُوي إلا من طريقٍ واحد مُتكلٍَّم فيه.
ومن أهل العلم من حسَّن هذا الحديث، فقد سكت عنه أبو داود، وصحح ابن القطان إسناده إلى عمرو، وحسنه من المعاصرين: محمد الأمين الشنقطي في "أضواء البيان"، وابن الملقن في "البدر المنير"، وابن بار في "فتاويه"، وابن عثيمين في "فتاويه"، والألباني في "صحيح أبي داود".
ب- بما رواه ابن أبي شيبة، والنسائي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتته امرأتان في أيديهما أساورٌ من ذهبٍ؛ فقال: (أتُحبان أن يُسوركما الله بهما أسورةً من نار؟)، فقالا: لا، قال: فأدِّيا زكاتها.
وهذا الحديث يُشبه الذي قبله، ويُحتمل أن تكون في الحديث الذي قبله امرأتان، وليس امرأةً واحدة، وهو متجهٌ في النظر.
ج- وعن أسماء بنت يزيد قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: (أتعطيان زكاته؟) قالت: فقلنا: لا. قال: (أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار؟ أديا زكاته) رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير.
وهذا الحديث تفرَّد به شهر بن حوشب وهو ضعيف، وأخرجه الطبراني من طريق علي بن عاصم الواسطي وهو ضعيف، وضعفه ابن الجوزي في "التنقيح"، وضعفه ابن الملقن، والأرنؤوط.
ومن أهل العلم من حسَّن إسناد أحمد؛ كالمنذري، والهيثمي، وصححه الألبانيّ لغيره، والرباعي في "فتح الغفار".
دـ- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا; أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: (إِذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ, فَلَيْسَ بِكَنْزٍ). رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وتكلم العلماء في حديث أم سلمة؛ وقالوا: في إسناده انقطاع بين عطاء وأم سلمة؛ فإنه لم يسمع منها، كما أن في سنده عتّاب بن بشير، وثابت بن عجلان مُتكلَّمٌ فيهما.
ه- وروى الدارقطني والنسائي، عن ابن مسعود؛ قال: أنَّ امرأةً أتتِ النبيَّ؛ فقالت إنَّ لي حُلِيًّا وإنَّ زوجي خفيفُ ذاتِ اليدِ وإنَّ لي بني أخٍ أفيُجْزِئُ عنِّي أن أجعلَ زكاةَ الحُلِيِّ فيهم؟ قال: (نعم).
وهذا الحديث مرسلٌ موقوفٌ على عبد الله، وضعفه ابن الجوزي، والشيخ شعيب الأرناؤوط.
و-وعن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات (خواتم) من ورق (فضة)، فقال لي: ما (هذا يا عائشة؟) فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله؟ فقال: (اتؤدين زكاتهن؟) قلت: لا، أو ما شاء الله، قال: (هو حسبك من النار)، رواه أبو داود، والدارقطني، والبيهقي.
وضعف هذا الحديث بعض أهل العلم؛ فأعله الدارقطني هذا الحديث بمحمد بن عمرو بن عطاء؛ فقال: مجهول، وقال البيهقيُّ وغيره: بل هو معروف، وهذا الحديث ثابتٌ محتملٌ؛ لأن عائشة لم تُصرِّح بالنصاب، وقرائن العقل تُرشد إلى أن الذهب الذي كانت تلبسه عائشة، وأم سلمة، وفاطمة بنت قيس دون النصاب، ومعلومٌ أن النصاب ركن الزكاة.
وقد اعترض الجمهور على حديث عائشة؛ بأن الفتخات التي كانت تلبسها من ورق، وهي لم تبلغ النصاب، وكذلك ما في يد الجارية، ولذا فإن (النصاب) لم يتوفر حتى نوجب الزكاة فيه.
وأُجيب: بأن هذا الاعتراض ضعيف، لأن النصاب لا يزيد وزنه بالجرام عن (85) غراماً، وقد جاء وصفهُنَّ في الحديث، بأنهما (مسكتان غليظتان)، وقد جاء في روايةٍ أخرى: (رأى في يديَّ سخاباً من وَرِق) أي ليس في يدٍ واحدة، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
وأجاب بعضهم: أن إيجاب الزكاة كان في وقتٍ كان فيه الذهب مُحرَّماً على النساء، ثُمَّ نُسخ بالجواز، أو أن المقصود بالحلي إعارته، كما نُقل عن ابن عمر الحسن البصري، وسعيد بن المسيب.
ﻗَﺎﻝَ اﻟْﺒَﻴْﻬَﻘِﻲُّ: وقد جاء في ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﻘاﺴﻢ ﻭَاﺑْﻦِ ﺃَﺑِﻲ ﻣُﻠَﻴْﻜَﺔَ ﻋَﻦْ ﻋَﺎﺋِﺸَﺔَ ﻓِﻲ ﺗَﺮْﻛِﻬَﺎ ﺇﺧْﺮَاﺝَ ﺯَﻛَﺎﺓِ اﻟْﺤُﻠِﻲِّ، وثبت من ﻣﺪﻫﺒﻬﺎ ﻣِﻦْ ﺇﺧْﺮَاﺝِ ﺯَﻛَﺎﺓِ ﺃَﻣْﻮَاﻝِ اﻟْﻴَﺘَﺎﻣَﻰ، وهذا ﻳُﻮﻗِﻊُ ﺭِﻳﺒَﺔً ﻓِﻲ ﻫَﺬِﻩِ اﻟﺮِّﻭَاﻳَﺔِ اﻟْﻤَﺮْﻓُﻮﻋَﺔِ؛ ﻓَﻬِﻲَ (يعني عائشة) ﻻَ ﺗُﺨَﺎﻟِﻒُ اﻟﻨَّﺒِﻲَّ ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢَ ﻓِﻴﻤَﺎ ﺭَﻭَﺗْﻪُ ﻋﻨﻪ إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻋَﻠِﻤَﺘْﻪُ ﻣَﻨْﺴُﻮﺧًﺎ.
قال الماوردي: ﻭَﺃَﻣَّﺎ اﻟْﺠَﻮَاﺏُ ﻋَﻦِ اﻷَْﺧْﺒَﺎﺭِ (على فرض صحتها) ﻓَﻤِﻦْ ﻭَﺟْﻬَﻴْﻦِ:
ﺃَﺣَﺪُﻫُﻤَﺎ: ﺃَﻧَّﻬَﺎ ﻣَﺤْﻤُﻮﻟَﺔٌ ﻋَﻠَﻰ ﻣُﺘَﻘَﺪِّﻡِ اﻷَْﻣْﺮِ، ﺣِﻴﻦَ ﻛَﺎﻥَ اﻟْﺤُﻠِﻲُّ ﻣَﺤْﻈُﻮﺭًا، ﻷَِﻥَّ اﻟﻨَّﺒِﻲَّ - ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢ َ- ﺣَﻈَﺮَﻩُ ﻓِﻲ ﺃَﻭَّﻝِ اﻹِْﺳْﻼَﻡِ ﻓِﻲ ﺣَﺎﻝِ اﻟﺸِّﺪَّﺓِ ﻭَاﻟﻀِّﻴﻖِ، ﻭَﺃَﺑَﺎﺣَﻪُ ﻓِﻲ ﺣَﺎﻝِ اﻟﺴَّﻌَﺔِ ﻭَﺗَﻜَﺎﺛُﺮِ اﻟْﻔُﺘُﻮﺡِ؛ ﺃَﻻَ ﺗَﺮَﻯ ﺇِﻟَﻰ ﻣَﺎ ﺭَﻭَﺕْ ﺃَﺳْﻤَﺎءُ ﺑِﻨْﺖُ ﻳَﺰِﻳﺪَ ﺃَﻥَّ ﺭَﺳُﻮﻝَ اﻟﻠَّﻪِ - ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢ -ﻗَﺎﻝَ: "ﺃَﻳُّﻤَﺎ اﻣْﺮَﺃَﺓٍ ﺗَﻘَﻠَّﺪَﺕْ ﻗِﻼَﺩَﺓً ﻣِﻦْ ﺫَﻫَﺐٍ ﻗُﻠِّﺪَﺕْ ﻓِﻲ ﻋُﻨُﻘِﻬَﺎ ﻣِﺜْﻠَﻪُ ﻣِﻦَ اﻟﻨَّﺎﺭِ".
ﻭَاﻟﺜَّﺎﻧِﻲ: ﺃَﻥَّ ﺯَﻛَﺎﺗَﻪُ ﻣَﺤْﻤُﻮﻟَﺔٌ ﻋَﻠَﻰ ﺇِﻋَﺎﺭَﺗِﻪِ؛ ﻟِﻤَﺎ ﺭُﻭِﻱَ ﻋَﻦِ اﻟﻨَّﺒِﻲِّ ﺻَﻠَّﻰ اﻟﻠَّﻪُ ﻋَﻠَﻴْﻪِ ﻭَﺳَﻠَّﻢ، ﺃَﻧَّﻪُ ﻗَﺎﻝَ: "ﺯَﻛَﺎﺓُ اﻟْﺤُﻠِﻲِّ ﺇﻋﺎﺭﺗﻪ"؛ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻬﺎ ﻗﻀﺎﻳﺎ ﻓﻲ ﺃﻋﻴﺎﻥ ﻳُﺴْﺘَﺪَﻝُّ ﺑِﻬَﺎ ﻋَﻠَﻰ اﻹِْﻃْﻼَﻕِ ﻣَﻊَ ﺇِﻣْﻜَﺎﻥِ ﺣَﻤْﻠِﻬَﺎ ﻋَﻠَﻰ ﺣُﻠِﻲٍّ ﻣَﺤْﻈُﻮﺭٍ ﺃَﻭْ ﻟِﻠﺘِّﺠَﺎﺭَﺓِ.
و-أما الآثار الصحيحة؛ فما رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يأمر نساءه أن يُزكين حليهن. وروى عبد الرزاق أنه (يعني عبد الله بن عمرو): كان يُحليهن بالذهب؛ فذكر أنه بلغ مائتي درهمٍ أو ذكر الألف أ أكثر فكان يُزكيه.
-وروى البيهقي في السنن: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يُخرج زكاة حُلي بناته كل سنة.
-وروى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب، قال: في حُلي الذهب والفضة الزكاة.
-وروى أبو عُبيد في الأموال، عن إبراهيم النخعي: في الحلي الزكاة.
-وروى أبو عُبيد في الأموال، عن مجاهد بن زيد، قال: في الحلي الزكاة كل سنة إذا بلغ عشرين مثقالاً أو مائتي درهم.
-وروى أبو عُبيد في الأموال، عن مجاهد وعطاء في زكاة الحلي: إذا بلغ مائتي درهم أو عشرين مثقالاً ففيه الزكاة.
-وروى أبو عُبيد في الأموال، عن ميمون بن مهران: إن لنا طوقاً لقد زكيته حتى أتى على نحو ثمنه.
2- وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه لا زكاة في حلي المرأة، بالغاً ما بلغ، وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة، وأتباعهم، فمن الصحابة: ابن عمر، وأنس، وجابر، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وبقية الصحابة لم يرد عنهم فيه شيء؛ ومنهم الخلفاء الراشدين الذين تولوا جباية الزكاة، ومن التابعين: وقتادة، ومحمد بن سيرين، محمد بن علي، والشعبي، وسفيان، ومن العلماء: أبي عُبيد، وابن جرير، وابن المنذر.
واستدلوا لذلك:
أ- بما رواه البخاريُّ ومسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة).
قال النوويُّ: هذا الحديث يدلُّ على أن أموال القُنية لا زكاة فيها، وهو قول عامة السلف والخلف.
الشاهد: قياس الحلي المُعد للاستعمال بالعبد والفرس في سقوط الزكاة، واعتُرض عليه بأنه قياسٌ مع الفارق؛ لأن الأصل في الذهب والفضة وجوب الزكاة؛ بخلاف العبد والفرس.
ب- وقالوا: إن كتب النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي استقصى فيها أحكام الزكاة في الماشية والنقدين، وبعث بها عماله؛ ليس فيها زكاة الحلي، وإنما هما زكاة النقدين المضروبين، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع.
ج-وروى البيهقي عن جابر أنه سئل عن الحلي: أفيه زكاة؟ قال جابر: لا. فقيل: وإن كان يبلغ ألف دينار؟ فقال جابر: أكثر.
قال الحنفية ومن وافقهم: حديث جابرٍ مرفوعاً ضعيف، فيه عافية بن أيوب وهو مُتكلَّمٌ فيه، وهذا التضعيف فيه نقاش. ولكن صحَّح إسناده إلى جابرٍ كثيرٌ من المحدثين والمحققين، كأبي زُرعة، وبن الجوزي، والمنذر، والنووي في "المجموع"، وابن الملقن في "البدر المنير"، وابن حجر العسقلاني، وابن دقيق العيد، والألباني في "إرواء الغليل".
-وروى البيهقي: أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحلي بناتها بالذهب، ولا تزكيه، نحوا من خمسين ألفاً.
-وفي الموطأ، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة كانت تلي بنات أخيها، يتامى في حجرها، لهن الحلي فلا تخرج من حليهن الزكاة.
واعتُرض عليه؛ بأنه حديثٌ ضعيف؛ لضعف إبراهيم بن أيوب، فلا ينهض للاحتجاج، وصححه النوويُّ، وابن الملقن، والألباني.
-وفيه (يعني الموطأ): أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة.
وهذا صريحٌ جداً؛ واعتُرض عليه بأن الحلي لم تبلغ النصاب؛ حتى يُزكيه.
ج-واستدلوا من النظر: بأنَّ الزكاة لا تجب إلا في الأموال النامية، وأما أموال أموال القُنية لفلا زكاة فيها، وهذا أصلٌ من الأصول المعتمدة في الشرع.
3-وذهب أنس بن مالك إلى أنَّ زكاة الحُليّ مرَّة واحدة في العمر، فقد وروى البيهقي في السنن: عن قتادة، قال: سألتُ أنس بن مالك عن الحُلي؛ فقال: ليس فيه زكاة، وفي رواية: إذا كان يعار ويلبس فإنه يزكى مرة واحدة، ونسب ابن قُدامة في "المُغني" ذلك روايةً عن مالك.
4-وذهب الحسن البصري، إلى أنَّ زكاة الحُليّ إعارته، ولو مرَّةً في العُمر.
ويُلخص لنا الإمام الخطابيُّ هذه المسألة؛ فيقول: الظاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها، والأثر يؤيده، ومن أسقطها ذهب الى النظر، ومعه طرف من الأثر، والاحتياط أداؤها.
هذا الخلاف بالنسبة للحلي المباح، فإذا اتخذت المرأة حليا ليس لها اتخاذه - كما إذا اتخذت حلية الرجل، كحلية السيف - فهو محرم، وعليها الزكاة، وكذا الحكم في اتخاذ أواني الذهب والفضة.
قلتُ (محمد): وبما أني شافعيُّ المذهب: أقول أما زكاة الحلي عند الشافعية
ينقل الشافعية عن الإمام الشافعي رحمه الله قولان في إيجابه الزكاة في الحلي في "الجديد" من مذهبه، وأما "القديم" فقال: لا تجب، ورجح بعضهم إيجابه له، وهو ما نقله النووي في المجموع (٦/ ٣٢)؛ فقال: "والقول (اﻟﺜﺎﻧﻲ) ﺗﺠﺐ ﻓﻴﻪ اﻟﺰﻛﺎﺓ ﻭاﺳﺘﺨﺎﺭ اﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻭاﺧﺘﺎﺭﻩ..".
بينما نجد أن الربيع صاحب الإمام يرجح عدم إيجابه للزكاة في "الأم"، فقال "ﻗَﺪْ اﺳْﺘَﺨَﺎﺭَ اﻟﻠَّﻪَ ﻋَﺰَّ ﻭَﺟَﻞَّ ﻓِﻴﻪِ، وﺃَﺧْﺒَﺮَﻧَﺎ اﻟﺸَّﺎﻓِﻌِﻲُّ: ﻟَﻴْﺲَ ﻓِﻲ اﻟْﺤُﻠِﻲِّ ﺯَﻛَﺎﺓٌ"، وهو قول أكثر الأصحاب عنه، والمشهور من مذهبه، وهو نصه في البويطي كما نقله النووي في "المجموع"، وصححه.
ومعلومٌ أن إيجاب الزكاة هو من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ ويقول الإمام البيهقيّ: وكان اﻟﺸَّﺎﻓِﻌِﻲَّ ﻛَﺎﻟْﻤُﺘَﻮَﻗِّﻒِ ﻓِﻲ ﺭِﻭَاﻳَﺎﺕِ ﻋَﻤْﺮِﻭ ﺑْﻦِ ﺷُﻌَﻴْﺐٍ ﻋَﻦْ ﺃَﺑِﻴﻪِ ﻋَﻦْ ﺟَﺪِّﻩِ ﺇﺫَا ﻟَﻢْ ﻳَﻨْﻀَﻢَّ ﺇﻟَﻴْﻬَﺎ ﻣَﺎ ﻳُﺆَﻛِّﺪُﻫَﺎ؛ ﻷَِﻧَّﻪُ ﻗِﻴﻞَ ﺇﻥَّ ﺭِﻭَاﻳَﺎﺗِﻪِ ﻋَﻦْ ﺃَﺑِﻴﻪِ ﻋَﻦْ ﺟَﺪِّﻩِ ﺃَﻧَّﻬَﺎ ﺻَﺤِﻴﻔَﺔٌ ﻛَﺘَﺒَﻬَﺎ ﻋَﺒْﺪُ اﻟﻠَّﻪِ ﺑْﻦُ ﻋَﻤْﺮٍﻭ.
ثم ﻗَﺎﻝَ اﻟْﺒَﻴْﻬَﻘِﻲُّ: ﻭَﻗَﺪْ ﺫَﻛَﺮْﻧَﺎ ﻓِﻲ ﻛِﺘَﺎﺏِ اﻟْﺤَﺞِّ ﻭَﻏَﻴْﺮِﻩِ ﻣَﺎ ﻳَﺪُﻝُّ ﻋَﻠَﻰ ﺻِﺤَّﺔِ ﺳَﻤَﺎﻉِ ﻋَﻤْﺮِﻭ ﻣِﻦْ ﺃَﺑِﻴﻪِ ﻭﺳﻤﺎﻉ ﺃﺑﻴﻪ ﻣﻦ ﺟﺪﻩ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ اﺑﻦ ﻋَﻤْﺮٍﻭ ﻗَﺎﻝَ ﻭَﻗَﺪْ اﻧْﻀَﻢَّ ﺇﻟَﻰ ﺣَﺪِﻳﺜِﻪِ ﻫَﺬَا ﺣَﺪِﻳﺚُ ﺃُﻡِّ ﺳَﻠَﻤَﺔَ ﻭَﺣَﺪِﻳﺚُ ﻋَﺎﺋِﺸَﺔَ ﻓِﻲ اﻟْﻔَﺘَﺨَﺎﺕِ. ذكره النووي في "المجموع".
*مصادر أخرى: فقه السنة، سيد سابق (1/ 342 -343).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق