أرشيف المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 26 أغسطس 2020

الــــــــــــغـــــــــــــربــــــــــــــــاء وكتبه: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

الــــــــــــغـــــــــــــربــــــــــــــــاء

لأبي بكر محمد بن الحُسين الآجري

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة


  تمهيد/ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلامُ غريباً وسيعودُ كما بدأ غريباً؛ فطوبى للغُرباء) /رواه مسلم/.

 الغربة في أبسط معانيها هي التفرُّد، ويُرادفها: السَّفر والهجرة، وترك التوطن في الدنيا؛ وهي عندي: إحساسٌ عميقٌ لا يُمكن وصفه، يبعث في نفس المؤمن الحُر: العزة والكرامة والمروءة والغيرة لهذا الدين، والاندفاع إلى نصرته، ونشر التوحيد والسُّنة، وبعبارة أخرى؛ هي: التفرُّد في طريق الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة.. 

ويلمسُ كل مُسلمٍ في عصرنا راوفد الغُربة في نفسه ووطنه، بين أهله وأبنائه وجيرانه، وكلما تقدم بنا العمر تكبر معنا مشاعر الغُربة؛ ومن يرى تغيُّر الزمان، وكثرة الفتن، وتمكُّن أهل البدع؛ يعرف حقيقة الغربة التي يُعاني منها أهل السُّنة والجماعة-بحيث قلَّ من الناس من يسلم له دينه.

وتتجدد معالم الغربة عندما نرى المسلمين اليوم -يرزحون تحت نير حكامٍ ظلمة، لا يرقبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذمة، يُوالون أعداء الله، ويُحاربون شرعة الإسلام، وتعجب عندما ترى مشاهد الدمار والخراب والقتل، والفقر، والجوع، والحصار يغزو بلاد المسلمين، ليترك في كل بقعةٍ من بقاع العالم الإسلامي مأساةً حقيقية، وأشلاء متناثرة من جثث الأطفال والنساء والشيوخ !.

وتزداد هذه الغربة شدَّةً عندما تجد تكالب وتآلب أعداء هذا الدين من المستعمرين والمنافقين، وغلاة الصُّوفية، وأصحاب التيارات الخرافية، وهي تستهدف الثوابت والأصول والمبادئ الإسلامية، وذلك على كافة الأصعدة، وفي كل المجالات، فأمسكوا لذلك الأقلام، وبرزوا للفضائيات، وشحنوا المحابر لتوليف الكتب والموضوعات السخيفة التي تروِّجُ الدجل والشعوذة والخرافة، وصارت الفتنة الفكرية والقيمية سيدة الموقف!.

ورأينا كيف يُحارب الغربيون الإسلام بلا هوادة؛ ويتعدى أحد النازيين على مسلمة محجبة في محكمة ألمانية فيطعنها ثمانية عشر طعنة تُمزق جسدها أشلاءً متناثرة، فيُرديها طريحةً على الأرض !.

ورأينا كيف أن فرنسا أصدرت قانوناً يحظر النقاب ويعتبر ذلك جريمةً يُعاقب عليها الفنون !.

ورأينا ما حصل في الدانمارك من نشر الرسوم المسيئة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والتي تبجَّحوا بها أمام العالم بحجة حرية التعبير والرأي !.

ورأينا في سويسرا كيف يُحاربون الآذان، ويمنعون الإقامة في المآذن! 

ورأينا كيف أن بريطانيا تستصدر قوانين ضد الإرهاب الإسلامي الذي يستهدف الدُّعاة وناشري الدين؛ لأنَّه يُشكل الخطر الوحيد على أمنها !.

ولم يسلم من نير هذا التكالب رموز الدعوة الإسلامية المتقدمين والمُعاصرين، الذين أصبحوا في عصرنا مطيَّةً للاستهزاء والضحك من قبل العوام والدَّهماء من أبناء جلدتنا بسبب ما يُروجه الإعلام المجرم، عبر الأجراء الذين يعملون لصالح المستعمر في الداخل والخارج.

وهذا الشعور لم نتفرَّد به نحن المتأخرون؛ فقد قاسى الأولون أضعاف أضعاف ما نقاسيه اليوم من آلام الغُربة وعذاباتها؛ فقد عاش النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغربة هو وأصحابه، حينما جاء بالتوحيد الخالص؛ فاستهجن قومه دعوته، وتحول وصفه من الصادق الأمين إلى الساحر الكذَّاب المجنون. 

وعاش الصحابة آلام هذه الغُربة حينما فارقوا ديارهم وأموالهم، وهاجروا إلى الله ورسوله نصرة هذا الدين الحنيف.

إن الشعور بالغربة لا يعني الضعف والخور، ولا يعني الاستسلام والهزيمة، ولا يعني الخمول والعزلة، بل لا بُدَّ لأهل الحقِّ أن يصبروا لإعزاز الحق، ولأجل أن يستمر هذا الدِّين، وإن لم نقف اليوم -معاشر أهل السنة -لحمله وبثِّه بين الناس، فمن سيحمله ؟! وإذا خفت صوت الحقّ فمن لهذه الجماهير يُثبتها ويُنير لها الطريق من أمامها إلى رضوان الله وجنته ؟! وإذا تنازلنا نحنُ فمن يرتقي غير الجُهَّال وأهل الأهواء والبدع !.

ولا بُدَّ أن ترتبط لدينا الغربة بعقيدة التضحية من أجل هذا الدين؛ بالوقت والمال والجهد، كذلك ترتبط بالإيمان العميق بأنَّ الغلبة لهذا الدين، والثقة الكبيرة بحتمية انتصار هذه الدعوة.

  ونحن نؤمن أن هذه الابتلاءات والتمحيصات ما هي إلا إعدادٌ عظيم لهذه الأمة، لتكون رائدة الإبداع والحضارة، وسيخرج أهل الإيمان من هذه الفتن والشدائد كما يخرج الإبريز النقي من النار، وقد تحرر ولاؤهم لله ولرسوله وللمؤمنين، وقد سقط أهل الإرجاف التغريبي والنفاق العلماني والتخريف الصُّوفي.


وسأنتقل سريعاً للحديث عن هذا الكتاب "الغرباء" للآجري.

  •  ومؤلفه

هو أحد أئمة السلف الشَّافعية وهو أبو بكر محمد بن الحُسين الآجري، الذي نشأ في قرية آجر (قرية من قرى بغداد)، وكان مُحدثاً، فقيهاً، ورعاً، مُصنفاً، عابداً، وكان رحمه الله صاحب سُنةٍ واتباع، وتوفي سنة (360 هـ)، وله كتاب "الشريعة" في العقائد، وغيره.


  • وموضوع الكتاب

هو بيان حال المؤمنين المتجردين لله، المستمسكين بالعروة الوثقى، وفيه تسليةٌ لأهل السُّنة فيما يلقونه من ضيق وشدة لقلة الأعوان والإخوان، ويُمكن إدراجه في كتب الرقائق والزهد والآداب.


  • منهج الإمام الآجري في كتابه

جرى الإمام الآجري في كتابه "الغرباء" على طريقة المُحدثين؛ فذكر الأحاديث والآثار مُسنندةً إلى قائليها، وتضمن الكتاب الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة، وبعض المعلقات، وعقد تراجم للأبواب، لبيان مقصده فيما يسوقه من المرويات، مع شرح غريب الألفاظ، والتعليق على الأبواب، وهو مشحونٌ بالأشعار المستظرفة، والقصص المستطرفة.

وتضمن هذا الكتاب (54) إسناداً مفرقةً ما بين حديثٍ مرفوع، وأثر موقوف، وشعرٍ مُسند، عن (26) شيخاً تقريباً. 


  • وشرح هذا الكتاب من المعاصرين:

أ-الشيخ هشام البيلي المصري في ثلاث محاضرات.

ب-الشيخ صالح العُصيمي في محاضرة واحدة.


  • وقد قسَّم الإمام الآجريّ -رحمه الله -كتابه هذا إلى خمسة أبواب:

الباب الأول:باب أوصاف الغرباء في الدُّنيا.

الباب الثاني: باب الحث على بلوغ مرتبة الغرباء.

الباب الثالث: باب صفة الغريب الذي لو أقسم على الله لأبره.

الباب الرابع: باب ذكر من كان يُحب الغربة، ويُخفي نفسه من موضعٍ لآخر.

الباب الخامس: باب موت الغريب.


  • ما يؤخذ على هذا الكتاب:

يؤخذ عل هذا الكتاب السلبية الكبيرة تجاه الواقع -والتي يوحيها أسلوب الإمام الآجري في الكتاب؛ فهو يميل إلى أن الغربة هي الحزن الشديد، وسكب العبرات، ومفارقة الأوطان، والعزلة التامة عن الناس، ولا شكَّ أن هذه الحال ليست بحال كمال، بل تدلُّ على ضعفٍ في الإيمان.

ومعلومٌ أن من يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ ممن لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، فالغربة الحقيقية التي يحتاجها المسلم الصادق هي الغربة الشعورية؛ بحيث تعيش في زمن الصحابة بروحك وقلبك وأنت في القرن العشرين، فيُعطي أفضل ما عنده للناس، ويتجنب أسوأ ما عندهم، ويُسدد ويُقارب، ويُبشِّر بظفر هذا الدين، وانتصار هذه الدعوة، ويُخالط الناس بحذر، ويُدافع عن مبادئه بعزيمة وقوة وثبات.

كذلك الحكايات في هذا الكتاب قد تكون مُبالغٌ فيها، وقد تمجُّها طباعنا السليمة، ومع ذلك فلا نُبادر لإنكارها إلا إن خالفت الشرع، ونأخذ منها العبرة والعظة، وكما قيل: إن الحكايات كهوفٌ تُصاد بها القلوب، وقد درج أهل العلم على ذكر الحكايات والقصص في كتبهم والتي تتناسب مع موضوع الرقائق والزهد.


  • وأختم بضوابط عامة في باب الغُربة:

  1. هذا الدين له غربتان:

  • غربة بالمعنى العام، وتشمل (الغربة الأولى)، وكانت عند مبعث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، و(الغربة الثانية)؛ حيث يقلُّ المسلمون، وتكثر فرق الضلال والإلحاد والكفر.

  • غربة بالمعنى الخاص؛ حيثُ يقلُّ أهل السُّنة المتمسكين بها بالنسبة لعموم المسلمين وأهل الملة.

  1. كثرة الفرق والأهواء في الأمة يزيد على أهل الحق الغربة.

  2. الغربة صفة مدحٍ باعتبار السلامة من الفتن والأهواء المضلة.

  3. صفة الغريب في نفسه: العقل والفقه، والتمييز بين الحق والباطل، والحسن والقبيح، والضار والنافع.

  4. وصف النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغرباء؛ بأوصافٍ منها:

أ- أنهم يعملون على إحياء سنة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويعلمونها عباد الله.

ب- أنهم من قبائل شتى (النُّزاع من القبائل).

ج-أنهم يظهرون إذا فسد الناس.

د-أنهم صالحون ومصلحون، ويصلحون ما أفسد الناس.

ه-وهم: ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير.

و- وأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.

ز-أنهم  يمسكون بكتاب الله حين يترك، ويعملون بالسنة حين تطفأ.

  1. الغربة تشمل الأمور الدينية والدنيوية.

  2. الغربة تعني التمايز في العقائد والأفكار والصفات.

  3. الغربة تقتضي علو الهمة في السير إلى الله، والتحري في السفر إليه؛ بفعل ما ينفع وترك ما يضر.

  4. والغريب قسمان:

أ- غريبٌ يموت طائعاً لله عز وجل؛ وهم على أصنافٍ شتى كلها محمودة.

ب- غريبٌ عاصٍ لله بغربته، يجب عليه التوبة والرجوع إلى الغربة المحمودة.

  1. ومن الأمثلة على الغربة المشروعة: الحج، والجهاد، وطلب العلم، وزيارة في الله، وهروباً من الفتن، وطلباً للرزق الحلال.

  2. أغرب الغرباء في زماننا هو المتمسك بالسنن الصابر عليها، المجتنب للبدع، والمُحذر منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق