اليدُ البُسطى في تعيين الصلاة الوسطى
للإمام جلال الدين السيوطي
(849 -911 هـ)
تحقيق ودراسة
د. عبد الحكيم الأنيس
شبكة الألوكة، نشر: 2016م
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلم حنُّونة
تمهيد/ موضوع هذه الرسالة ذكر الخلاف في المقصود من الصلاة الوسطى في قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ (البقرة: 238)، وقد نصر الإمام السيوطي في رسالته هذه الرأي الذاهب إلى أنها صلاة الظهر، وذكر هذا الرأي في "اختياراته الفقهية"، وكرر ذلك في رسالته "نواهد الأبكار"، وغيرها.
وحجة من ذهب إلى هذا القول: ما رُوي عن عاشة وحفصة -رضي الله عنهما -أنهما أمرتا أن يُزاد في مصحفهما بعد قوله ﴿والصلاة الوُسطى﴾ وصلاة العصر: بالواو، وذلك يدلُّ على أنها غير صلاة العصر!.
وهذا الإيراد يُمكن أن يُجاب عليه: بأن العطف هنا لا يقتضي المُغايرة؛ بدليل قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرحمن: 68)، والنخل والرمان من جنس الفاكهة، فالعطف لا يقتضي المُغايرة.
كذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 98)، وجبيل وميكال من جملة الملائكة، فالعطف هنا يقتضي التخصيص ومزيد الاهتمام وليس المغايرة.
قالوا: بالإضافة إلى أن صلاة الظهر هي التي تليها صلاة العصر؛ فتعين أن تكون الوسطى هي الظُّهر؛ لاقترانهما بالعطف.
والجواب: أن هذا دليلٌ نظريٌّ، يستمدُّ دلالته من المعنى، ولا يصمد أمام النُّصوص المُصرحة بأن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
واستدلوا من النظر -أيضاً: بأن صلاة الظُّهر هي أول صلاةٍ فُرضت في الإسلام؛ ولهذا سُميت الأولى، وهي أول صلاةٍ توجَّه فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة على الصحيح؛ ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصلي الظُّهر بالهاجرة، ولم يكن على الصحابة صلاةٌ أشدُّ منها، فنزلت الآية: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾.
قالوا: ولأن صلاة الظُّهر وُسطى الصلوات النهارية؛ لأنها تقع بين الصُّبح والعصر.
ولأنها تقع في وسط النهار، ولأن الجماعات ترتفع (تزيد) لأجلها يوم الجمعة.
ولأن الجُمعة فُضلت لأجلها، ولأنها في الساعة التي تُفتح فيها أبواب السَّماء؛ فلا تُغلق حتَّى تُصلى الظُّهر، ويُستجاب فيها الدُّعاء.
وممن ذهب إلى أن الصلاة الوسطى هي "صلاة الظُّهر" من المتقدمين: من الصحابة: زيد بن ثابت، وأبي سعيد، وعائشة على اختلافٍ عنهم، وهو قول عبد الله بن شداد، وعروة بن الزبير، ويُروى ذلك عن أبي حنيفة.
وقد أشار السَّيوطيُّ في كتابه "التحدُّث بنعمة الله"(ص 164) إلى هذا المؤلَّف، وأنه مما أُنكر عليه قوله؛ فقال: "ومما وقع منه (وذكر شخصاً) أني قررتُ في الدرس أقوال الناس في الصلاة الوسطى، ووصلتها إلى عشرين قولاً (وقد سبقه إليها الإمام ابن حجر في "الفتح")، ثم ُ أخذت أرجح القول بأنها الظهر، وأقيم عليه الأدلة الساطعة. فدار على النّاس وشُنِّعَ عليَّ بكوني رجحت أنها الظهر وإنما هي العصر. فانظروا بالله يا أولي الألباب، من وصل في قلة العقل إلى هذا الحد"..
ولا شكَّ أن في كلام السُّيوطي رحمه الله تحاملٌ على من أنكر عليه، وأن قوله هذا شاذٌّ غير مقبول، والذي ذهب إليه أصحاب الأئمة المتبوعين هما قولان: الفجر والعصر، لذا فالإنكار عليه في محله.
وزعم السُّيوطي أنَّه أول من قال بهذا من الشَّافعيَّة؛ فقال (ص 37): "وأقول- وهو مما لم أسبق إليه- : إن كان لابد من الخروج عن نص الإمام رضي الله عنه إلى الدليل ، فالذي يقتضيه الدليل ترجيح أنها الظهر!" ومعلومٌ أن هذا القول قد قاله به ناسٌ من الصحابة والتابعين.
وأبطل السيوطيُّ الأقوال الأخرى إجمالاً بثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الآثار الموقوفة على الصحابة متعارضة، فلا يُحتجُّ بشيء منها.
الوجه الثاني: أن الآثار المرفوعة الصحيحة: فيها احتمال إقحام لفظة "والعصر" من بعض الرواة، بدليل عدم وجودها في بعض الروايات، وعلى احتمال وجودها مع العاطف فلا إشكال، أما الراوايات التي جاءت بحذف العاطف احتمل إضمار العاطف فيها.
ولكن يُعترض على هذا الوجه الذي ذكره السُّيوطي، بأن زيادة الثقة مقبولة، وقد ثبتت في الروايات الأخر، ومن حفظ حُجَّةٌ على من لم يحفظ.
الوجه الثالث: قال السَّيوطيُّ: "إنه ورد في حديثٍ مرفوع أنها الظهر، وفيه بيان سبب نزول الآية، وهذا أقوى ما اعتمدت عليه في ذلك".
والصَّحيح أن المرويَّ عن أسامة بن زيد موقوفٌ عليه، وليس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ضعيفٌ لا يثبت؛ فبطل قول السَّيوطيّ رحمه الله.
وختاماً: نقول: القول بأن الصلاة الوسطى هي "الظُّهر" قولٌ ضعيف، وأدلته غير محتملة، بينما أدلة القائلين بأن الوسطى هي صلاةُ العصر أقوى وأكثر وأصرح، والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق