فصلٌ في إبراز قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
إعداد: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
١- الإبراز، هو الإظهار، والإخراج، وهو مصدر: أبرز يُبرز إبرازاً، فهو بارز، والبروز النتوء (١).
٢- والمقصود من إبراز قبره صلى الله عليه وسلم هو: دفنه خارج بيته في مكان آخر حتى يراه الناس ويشاهدوه.
٣- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) (٢).
فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً، دفن في حجرته لئلا يتمكن أحد من ذلك، وكانت عائشة ساكنة فيها، فلم يكن في حياتها يدخل أحد لذلك، إنما يدخلون إليها هي، ولما توفيت لم يبق بها أحد، ثم لم أدخلت في المسجد سُدَّت وبنى الجدار البراني عليها، فما بقي أحد يتمكن من زيارة قبره، كالزيارة المعروفة عند قبر غيره، سواء كان سنية أو بدعية، بل إنما يصل الناس إلى مسجده، ولم يكن السلف يطلقون على هذا زيارة لقبره، ولا يعرف عن أحد من الصحابة لفظ زيارة قبر البتة ولم يتكلموا بذلك، وكذلك عامة التابعين لا يعرف هذا في كلامهم فإن هذا المعنى ممتنع عندهم فلا يعبر عن وجوده.
٤- قالت عائشة: (لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) (٣).
وقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ بيته وقبره عيداً، وسأل الله أن لا يجعله وثناً، فقال: (اللهمَّ لا تجعلْ قبري وَثَنًا يُعبدُ).
ونهى عن اتخاذ القبور مساجد بيته وقبره عيداً، وسأل الله أن لا يجعله وثناً، ونهى عن اتخاذ القبور مساجد، فقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
ولهذا كره مالك وغيره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان السلف ينطقون بهذا لم يكرهه مالك، وقد باشر التابعين بالمدينة، وهم أعلم الناس بمثل ذلك.
ولو كان في هذا حديثٌ معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفه هؤلاء، ولم يكره مالك وأمثاله -من علماء المدينة الأخيار- النطق بلفظ تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رضي الله عنه يتحرى ألفاظ الرسول في الحديث فكيف يكره النطق بلفظه؟ ولكن طائفة من العلماء سموا هذا زيارة لقبره، وهم لا يخالفون مالكاً ومن معه في المعنى.
بل الذي يستحبه أولئك من الصلاة والسلام وطلب الوسيلة ونحو ذلك، في مسجد يستحبه هؤلاء، لكن هؤلاء سموا هذا زيارة لقبره، وأولئك كرهوا أن يسموا هذا زيارة لقبره.
وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم، أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك.
ومبدأ ذلك من الذين ظنوا أن هذا زيارة لقبره وظن هؤلاء أن الأنبياء والصالحين تُزار قبورهم لدعائهم والطلب منهم واتخاذ قبورهم أوثاناً حتى قد يفضلون تلك البقعة على المساجد.
وإن بُنى عليها مسجد فضلوه على المساجد التي بنيت لله، وحتى قد يفضلون الحج إلى قبر من يعظمونه على الحج إلى البيت العتيق إلى غير ذلك مما هو كفر وردة عن الإسلام باتفاق المسلمين.
ويُفهم من ذلك أمور منها:
أ. خشيته صلى الله عليه وسلم من اتخاذ قبره مسجدا (مكاناً للصلاة)، ولولا ذلك لأبرز قبره للناس، ودفن خارج بيته. ودفنه خارج بيته يقتضي أمران، هما:
دفنه داخل المسجد، وهو محرم باتفاق، لورود النهي الشديد عن ذلك.
أو دفنه في غير المسجد، وهو ما خشي حصوله؛ لعلمه صلى الله عليه وسلم بغلو طائفة من الناس بأنبيائهم، فلم يبق إلا أن يدفن في حجرته؛ وهو ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم.
ب. أن الصحابة دفنوه في حجرته امتثالاً لأمره في ذلك (*)، وبذلك حسمت قضية القبر في عهد الصحابة. ومعلوم أن بين الحجرة والمسجد جدار لا يجعل القبر داخل المسجد.
٤- والثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) (٤)، وهذا هو الثابت في الصحيح، ولكن بعضهم رواه بالمعنى؛ فقال "قبري"، وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قُبِرَ بعدُ صلوات الله وسلامه عليه.
٥- وبقي الأمر على ذلك حتى خلافة الوليد بن عبد الملك (ت ٩٦ هـ)، الذي هدم المسجد وما حوله، ثم بناه من جديد، وأدخل الحجرة فيه سنة (٩٤هـ) تقريباً، وذلك بعد موت عامة الصحابة بالمدينة وآخرهم جابر بن عبد الله (ت ٧٨هـ).
وكان بناء المسجد فيما بين موت جابر وموت الوليد، وقد أمر الوليد بن عبد الملك نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجرة ويزيدها في المسجد، وكانت الحجرة من جهة المشرق والقبلة فزيدت في المسجد، وبنوا الحائط الخارجي مسنما مُحَرّفاً (٥).
٦- ومعلوم أن عمر وعثمان رضي الله عنهما قاما بتوسيع المسجد، ولم يُدخلا القبر فيه، وهذا من كمال فقههما، وفعل الوليد مخالف لهدي الصحابة، وبهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد، فكان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة (٦).
٧- ويرى الباحث أن إدخال الحجرة في المسجد مع ما فيه من المخالفة لفعل الصحابة وهديهم، فإن فيه مصلحةٌ أيضاً، وهو صيانة القبر عن عبث العابثين وبدع المخالفين الذين هم فريقان:
الأول: المغالين في عبادة القبور والصالحين.
لثاني: المارقين العابثين الذين قد تتطاول أيديهم على القبر خاصة أيام الفتن والاختلاف.
٨- ويرى الباحث أنه لا حجة لمن اتخذ هذه الحادثة دليلا على بناء المساجد على القبور؛ لورود النهي عن ذلك.
٩- كذلك فإن القبر حالياً محاط بثلاثة جدران كالمثلث، بحيث تصبح قاعدته الجنوبية عريضة، ورأسه في زاوية منحرفة عن القبلة شمالا، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى(٦).
١٠- ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيداً ومسجداً ووثناً صار الناس يدعونه ويتضرعون إليه ويسألونه ويتوكلون عليه ويستغيثون ويستجيرون به وربما سجدوا له وطافوا به وصاروا يحجون إليه، وهذه كلها من حقوق الله وحده الذي لا يشركه فيما مخلوق .
١١- وكان من حكمة الله: دفنه صلى الله عليه وسلم في حجرته، ومنع الناس من مشاهدة قبره والعكوف عليه والزيارة له، ونحو ذلك، لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين لله.
١٢- وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يحصل ذلك عندها، وإذا قدر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته، فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال (٨).
١٢- واوصي العلماء والباحثين بوجوب تبيين الحق في مثل هذه الأمور، وتصحيح العقائد، وكشف الشبهات، وحماية جناب التوحيد، والرد على أهل الفرق الزائغة المنحرفة.
وكتبه: أ. محمد حنُّونة، غزة -فلسطين
حقوق النشر محفوظة 18/ مارس/ 2017م
...............................
(١) معجم اللغة العربية المعاصرة.
(١) رواه البخاري في صحيحه (٢\١٠٢، برقم: ١٣٩٠)، ومسلم (٢\٧٢، برقم: ١٢١٢).
(٣) المصدر السابق نفسه.
(٤) رواه البخاريُّ في صحيحه (١٨٨٨)، ومسلم (١٣٩١). وأما لفظ: (ما بَيْنَ قبري ومِنبَري)؛ فرواه الطبراني في الأوسط (١/ ٢٢٣ )، وقال: "لم يرو هذا الحديث عن ابن خثيم إلا يحيى بن سليم تفرد به أبو حصين"،وأخرجه البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (٣ /٢٦١)، وقال: فيه أبو بكر بن أبي سبرة العامري ، وهو ضعيف، وأخرجه الحارث في «مسنده» (٣٩٩)، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (٣ /٢٦١): فيه الواقدي ، وهو ضعيف، وأكثر الحُفّاظ على تضعيفه.
(٥) الصارم المنكي في الرد على السبكي، ابن عبد الهادي (ص ٤٧، ١٥١).
(٦) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (ص ٦٥).
(٧) القول المفيد على كتاب التوحيد، للعثيمين (١\٣٩٩).
(*) الحديث: (مَا قَبَضَ الله تَعَالَى نَبِيّاً إِلاَّ فِي المَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ) عن ابي بكرة مرفوعا، صحيح الجامع: ١٠٥٨٦.
(٨) القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي (ص ٦)، وإسناد القصة حسن، وأحمد شيخ ابن إسحاق هو ابن عبد الجبار بن محمد العطاردي أبو عمرو الكوفي ضعيف وسماعه للسيرة صحيح كما في التقريب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق