أرشيف المدونة الإلكترونية

السبت، 6 يونيو 2020

قصص لا تثبت (2) مالك مع أبي جعفر المنصور

قِصَصٌ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَئِمَّةِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ

(2) قِصَةُ الإِمَامِ مَالِكٍ مَعَ الخَلِيفَةِ أبِي جَعْفرٍ المَنْصُورِ

من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلامذته.

إعداد

 أ. محمَّد ناهض عبد السلام حنُّونة


تمهيد/ الحمد لله ربِّ الطيبين، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء والمرسلين، أما بعد؛ فهذا هو الجزء الثاني من سلسلةِ الدفاعِ عن أئمةِ المذاهبِ الأربعةِ، والردِ على متشدقة أهلُ البدعِ الذين نسبوا بعض الشبهات والأمور المنكرة إلى الأئمة الفقهاء رضوان الله عليهم، وعند نقاش هذه الشبهات والحكايات ونقدها تبين لنا أنها لا قيمة لها، وأنها أوهى من بيتِ العنكبوتِ؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت : 41 ).

وهذه القصص التي يوردها المبتدعة على أهل السنة والجماعة، يُقصد به أمران:

الأمر الأول: التسويغ لأنفسهم بما يقومون به من البدع باسم الدين .

الأمر الثاني: التلبيس على العامة بأن أئمة المذاهب قاموا بهذه الأمور فلماذا النكير عليهم – كما زعموا - ؟ .

ولقد تصدى علماء أهل السنة –ولله الحمد -لمثل هذه الشبهات والقصص المكذوبة بتفنيدها، والرد عليها، ونقضها من أساسها؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن قيِّم الجوزية، وابن عبد الهادي، وغيرهم من النُّقاد المتقدمين والمتأخرين.

والقصة التي نحن بصدد ذكرها: هي حوارٌ حدث بين الإمامِ مالك والخليفةِ أبي جعفر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، جعلها أهل البدع دليلاً على جواز استقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم حال الدعاء عنده، ويحتج بها القبوريون على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته عند قبره .

* أولاً: نَصُ القِصَّةِ :

روى القاضي عياض في " الشفا " (2 /595 – 596) بسنده فقال: حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري، وأبو القاسم أحمد بن بَقِي الحاكم -وغير واحد، فيما أجازُونيه؛ قالوا : أنبأنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دِلهات؛ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فِهر، حدثنا أبو بكر محمد بن الفرج، حدثنا أبو الحسن بن المُنتاب، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا ابن حميد، قال

"ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالكٌ: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في المسجد. فإن الله تعالى أدب قوماً؛ فقال: {لا تَرْفَعُوا أصواتكم فوق صوت النَّبيِّ} الآية (الحجرات : 2). 

ومدح قوماً فقال: {إن الذين يغضُّون أصواتهم عند رسول الله} الآية (الحجرات: 3). 

وذم قوماً فقال: {إن الذين يُنادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} (الحجرات: 4)، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لها أبو جعفر.

فقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله، واستشفع به فيشفعك الله؛ قال الله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً}(النساء: 64). 


* ثانياً: نَقْدُ العُلَمَاءِ لِلقِصَّةِ :

انتقد شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية نقداً جعل كل من جاء بعده عالةً عليه، فقد انتقدها من عدة ثلاثة أوجه:

• (الوجهُ الأولُ): نقدها من جهةِ السندِ :

قال في "الفتاوى" (1/ 228) : "وهذا كله نقله القاضي عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة، ثم ذكر الحكاية بإسنادٍ غريب منقطع، رواها عن غير واحدٍ إجازةً".

ثم ذكر القصة بسندها عن القاضي عياض رحمه الله، وقال: قلتُ (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): "وهذه الحكاية منقطعةٌ؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً، لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور؛ فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة. 

وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين، (1)، ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه (2).

وهو مع هذا ضعيفٌ عند أكثر أهل الحديث: كذبَّه أبو زرعة وابن وارة (3).

وقال صالح بن محمد الأسدي: ما رأيت أحداً أجرأ على الله منه، وأحذق بالكذب منه (4). 

وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير (5). 

وقال النسائي: ليس بثقة (6).

وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات (7).

وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب الزُّهريِّ، وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمي توفي سنة تسع وخمسين ومائتين (8).

وفي الإسناد أيضاً من لا تُعرف حاله (9).

 وقال -رحمه الله -أيضاً في "الفتاوى" (1 /225): "ومن نقل عن مالك أنه جوّز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين -غير مالك -كالشافعي وأحمد وغيرهما؛ فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك، ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا؛ بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة ولكن من الناس من يحُرِّفُ نقلها، وأصلها ضعيفٌ كما سنبينه إن شاء الله تعالى" (10).

• (الوجهُ الثاني): نقدها من جهةِ نقلها عن أصحابِ مالك :

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1 /228): "وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه. 

ومحمد بن حُميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند؛ فكيف إذا أرسل حكاية لا تُعرف إلا من جهته هذا إن ثبت عنه (11).

وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل: لا يثبت عن مالك قولٌ له في مسألةٍ في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم، ومروان بن محمد الطاطري ضعَّفُوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين؛ فكيف بحكايةِ تُناقض مذهبه المعروف عنه من وجوهٍ رواها واحدٌ من الخراسانيين، لم يدركه، وهو ضعيف عند أهل الحديث؟! .

• (الوجهُ الثالثُ): سببُ إيرادِ القاضي عياضٍ لها :

قال -رحمه الله - في "الفتاوى" (1 /225 – 226): "والقاضي عياض لم يذكرها في كتابه في "باب زيارة قبره"؛ بل ذَكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها في سياق أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازمٌ؛ كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره، وذكر حديثه، وسنته وسماع اسمه".

• الوجهُ الرابعُ : أن الثابتَ عن مالكٍ خلافُ القصةِ :

قال -رحمه الله - في "الفتاوى" (1/ 353): "والحكاية التي تُذكر عن مالك أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة؛ فأمره بذلك وقال: "هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم": كذبٌ على مالك، ليس لها إسناد معروف، وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه؛ كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره، مثل ما ذكروا عنه: أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم؛ فأنكر مالكٌ ذلك، وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. 

ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك: فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تُبَيِّنُ أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعاً؛ لكانوا هم أعلم بذلك، وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم والداعي يدعو الله وحده.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيما نقله عنه ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي (ص 46): "واتفقوا -أي الأئمة الفقهاء -على أنه لا يستلم الحجرة ولا يقبلها ولا يطوف بها ولا يصلي إليها ولا يدعو وهناك مستقبلاً للحجرة؛ فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك والحكاية المروية عنه: أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذبٌ على مالك، بل ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كان يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده".

• الوجهُ الخامسُ : نقدُ شيخِ الإسلامِ لبعضِ عباراتها:

وقف شيخ الإسلام مع بعض عباراتها بشيء من التفصيل والإيضاح، فمن ذلك أنه قال (1 /229 – 230): مع أن قوله "وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة" إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وهذا هو التوسل بشفاعته يوم القيامة وهذا حق؛ كما جاءت به الأحاديث الصحيحة (12) حين تأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم فيُردُّهم آدمُ إلى نوحٍ، ثًمَّ يردُّهم نوحٌ إلى إبراهيم، وإبراهيمُ إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردُّهم عيسى إلى مُحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال: (أنا سيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ). 

ولكنها (أي: هذه القصة) مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه: 

(أحدها): قوله "أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله وأدعو؟"؛ فقال: "ولِمَ تَصرِف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم"؟!؛ فإن المعروف عن مالكٍ وغيره من الأئمة، وسائر السلف من الصحابة والتابعين: أن الداعي إذا سلَّمَ على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد أن يدعو لنفسه؛ فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه؛ بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له.

وهذا قول أكثر العلماء: كمالك في إحدى الروايتين عنه، والشافعي، وأحمد وغيرهم. وعند أصحاب أبي حنيفة لا يستقبل القبر وقت السلام عليه أيضاً

ثم من العلماء من قال: يجعل الحجرة عن يساره -وقد رواه ابن وهب عن مالك - ويسلم عليه. 

ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويُسَلِّمُ عليه، وهذا هو المشهور عندهم. ومع هذا فكره مالك أن يُطيل القيام عند القبر لذلك (يعني للسَّلام والدُّعاء). 

ولذلك قال القاضي عياض في "المبسوط" عن مالك، قال: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، لكن يسلم ويمضي.

قال: وقال نافعٌ: كان ابن عمر يسلم على القبر رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف. ورُئِيَ (عبد الله بن عمر) واضعاً يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، ثم وضعها على وجهه. 

قال: وعن ابن أبي قسيط، والقعنبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -إذا خلا المسجد جَسُّوا برمانةِ المنبر التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون (13).

قال: وفي الموطأ من رواية يحيى بن الليثي: أنه كان - يعني ابن عمر - يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر وعمر (14).

وعند ابن القاسم للمروذي: ويدعو لأبي بكر وعمر.

قال مالك في رواية ابن وهب: يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

وقال في "المبسوط": ويسلم على أبي بكر وعمر (15).

قال أبو الوليد الباجي: وعندي أنه يدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر بلفظ السلام؛ لما في حديث ابن عمر من الخلاف (16). 

وهذا الدعاء يفسر الدُّعاء المذكور في رواية ابن وهب؛ قال مالك -في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر. فهذا هو السلام عليه، والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره. وكذلك كل دعاءٍ ذكره أصحابه، كما ذكر ابن حبيب في "الواضحة" وغيره.

قال: وقال مالك في "المبسوط": وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء (17).

وقال فيه أيضاً: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفرٍ أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر (18).

قيل له (أي لمالكٍ): فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة.

فقال مالك: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسعٌ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويُكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده (19).

قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلَّمُوا، قال ابن القاسمِ: وذلك رأيٌ (20). 

وقال أبو الوليد الباجي: ففرَّقَ بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم (21). 

قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتدَّ غضب الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد) (22). 

قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيداً) (23). 

قال (القاضي عياض): ومن كتاب أحمد بن شعبة -فيمن وقف بالقبر- لا يلتصق به، ولا يمسُّه، ولا يقف عنده طويلاً (24). 

وفي "العتبية" -يعني عن مالك: يبدأ: بالركوع (تحية المسجد) قبل السلام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (25)، وأحبُّ مواضع التنفل فيه مصلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث العمود المخلق، وأما في الفريضة فالتقدُّمُ إلى الصفوف. 

قال (يعني مالك): والتنفل فيه للغرباء أحبُّ إليَّ من التنفل في البيوت.

فهذا قول مالك وأصحابه وما نقلوه عن الصحابة يُبَيِّنُ أنهم لم يقصدوا القبر إلا للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء له

وقد كره مالكٌ إطالة القيام لذلك.

وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له؛ فإنه تحيةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم. 

فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه؛ فإنما يدعو في مسجده مستقبل القبلة كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل عن أحدٍ من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فكيف بدعائه لنفسه ؟! (26).

وأما دعاءُ الرسول وطلب الحوائج منه، وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فهذا لم يفعله أحدٌ من السلف.

ومعلومٌ أنه: لو كان قصد الدعاء عند القبر مشروعاً لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به؛ فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟ . 

فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: "استقبله واستشفع به": كذبٌ على مالك، مخالفٌ لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي نقلها مالكٌ وأصحابه، ونقلها سائر العلماء؛ إذ لم يرد عن أحدٍ منهم أنه استقبل القبر للدعاء لنفسه، فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به، يقول له: يا رسول الله اشفع لي، أو ادع لي، أو يشتكي إليه مصائب الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكي إليهم المصائب؛ فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة؛ ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يُسَلِّمُون عليه إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويُبَلَّغُ سلام البعيد (27). 

• (الوجه الثاني): وقال -رحمه الله -أيضاً في "الفتاوى" (1/ 239): ومما يُوهِنُ هذه الحكاية (28): أنه قال فيها: "وَلَمْ تصرف وَجْهَك عَنْهُ، وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" إنما يدل على أنه يوم القيامة تتوسل الناس بشفاعته- وهذا حقٌّ كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة -كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته -فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته فنظير هذا - لو كانت الحكاية صحيحة - أن يُطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره.

ومعلومٌ: أن هذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سنَّه لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبَّهُ أحدٌ من أئمة المسلمين: لا مالكٌ ولا غيره من الأئمة؛ فكيف يجوز أن يُنسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهلٌ لا يعرف الأدلة الشرعية، ولا الأحكام المعلومة أدلتها الشرعية- مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟

وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟

فلو لم يكن عن مالكٌ قول يُناقض هذا؛ لعُلِمَ أنه لا يقول مثل هذا. 

• (الوجه الثالث): على فرض صحَّة الحكاية:

ثم قال في (هذه) الحكاية: "استقبله واستشفع به فيشفعك الله فيه": (والاستشفاع به)، معناه في اللغة: أن يطلب منه الشفاعة؛ كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به.

ومنه الحديث الذي في السنن: أن أعرابياً قال: "يا رسول الله جَهِدَتْ الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادْعُ الله لنا؛ فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله؛ فسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: "ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه" (29). 

فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك"، ومعلومٌ أنه لا ينكر أن يسألَ المخلوق بالله أو يُقسِمَ عليه بالله، وإنما أنكر أن يكون الله شافعاً إلى المخلوق؛ ولهذا لم ينكر قوله "نستشفع بك على الله" فإنه هو الشافع المشفع صلى الله عليه وسلم، وإنما أنكر قوله "نستشفع بالله عليك"

. وهم - لو كانت الحكاية صحيحة - إنما يجيئون إليه؛ لأجل طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في تمام الحكاية: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك} الآية (النساء: 64).

وهؤلاء إذا شُرِعَ لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته؛ فإذا أجابهم: فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاءٌ منه وشفاعة أن يغفر الله لهم.

وإذا كان الاستشفاع منه: طلب شفاعته؛ فإنما يقال في ذلك: "استشفِع به؛ فيشفعه الله فيك" -أي يقبل شفاعته فيك -ولا يقال: "فيشفعك الله فيه" (كما ورد في هذه القصة).

وهذا معروف الكلام ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسائر العلماء. يُقال: شفعَ فلانٌ في فلانٍ فشُفِّعَ فيه (أي قُبلت شفاعته فيه).

فالمُشَفَّع الذي يشفِّعْهُ المشفوع إليه (فيأذن به بالشفاعة): هو الشفيع المُسَتشفع به، (لا الذي يستشفع به)، فليس هو السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي يشفع. فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المشفع، ليس المشفع.

ولهذا يقول في دعائه: يا رب شفعني فيه، فيشفعه الله؛ فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟.

والخلاصة: أن الشافع: هو الذي يشفع للسائل؛ فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مُبيناً أن العامة لا يُفرقون بين الاستشفاع والتوسُّل (1/ 242): "ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم: اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أي نتوسل به. ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تُشفع به. من غير أن يكون المستشفع به شفع له، ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه ولا شفع له.

ولفظ "التوسل" و"الاستشفاع" ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم.

والعلم يحتاج إلى نقل مصدق ونظر محقق، والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة بثبوت لفظه ومعرفة دلالته، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله؛ فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية.

وقال ابن تيمية رحمه الله أيضاً في "المجموع" (1/ 243): وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة، بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعاً لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول. فهذا ليس هو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة.

يقولون: استشفع به فيشفعك. أي يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهلٌ بالشرع واللغة، وليس لفظهما من ألفاظ مالك!.

نعم قد يكون أصلها صحيحاً، ويكون مالك قد نهى عن رفع الصوت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً للسنة، كما كان عمرُ ينهي عن رفع الصوت في مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر الله به؛ من تعزيزه وتوقيره ونحو ذلك مما يليق بمالك أن يأمر به.

فهذا هو نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للقصة، رحمه الله رحمة واسعة.

وممن نقد القصة أيضا الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله في كتابه "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ( ص 259 – 267).

وقال عن سندها ( ص 260) : ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك وليست بصحيحة عنه، وقد ذكر المعترض – يعني التقيَّ السبكي – في موضع من كتابه أن إسنادها إسناد جيد، وهو مخطىء في هذا القول خطأً فاحشاً، بل إسنادها إسناد ليس بجيِّد، بل هو إسنادٌ مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يُتَّهمُ بالكذب، وعلى من يُجهل حاله، وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه ، بل روايته عنه منقطعة غير متصلة، وقد ظنَّ المعترضُ أنه أبو سفيان محمد بن حميد المعمري أحد الثقات المخرَّجِ لهم في صحيح مسلم قال =: فإن الخطيب ذكره في الرواة عن مالك، وقد أخطأ فيما ظنه خطأ فاحشا ووهم وهما قبيحا.

ومع قصة أخرى في سلسلة الدفاع عن أئمة المذاهب الأربعة مما ينسبه إليهم أهل البدع .

_________________________________

(1) انظر: سير أعلام النبلاء؛ للذهبي (11/ 503)، ومولد مُحمد بن حُميد في حدود الستين ومائة، وتوفي أبو جعفر المنصور قبل ولادته بسنتين. وانظر: كتاب المجروحين لابن حبان (2/303) ، والكاشف (3/326) ، وتهذيب التهذيب (9/131) ، والميزان (3/531).

وقال الذهبي في المغني (2/573): "مُحمَّد بن حُميد" ضعيفٌ لا من قبل حفظه، قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبو زرعة: يكذب. وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن ابن الشاذكوني.

(2) ولم يذكره أحدٌ في تلاميذ مالك حتى المزي في تهذيب الكمال، انظر ترجمة مالك في تهذيب الكمال (3/ 1296 - 1297) ، وترجمة محمد بن حميد منه (3/ 1190 - 1191) وراجع ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 282 - 545) وقد قسم فيه الرواة عن مالك إلى طبقتين: كبرى وصغرى، وعلى حسب البلدان، ولم يذكر فيهم ابن حميد. وهذا يؤكد ما قاله شيخ الإسلام.

(3) قال ابن حبان في المجروحين (2 /204): "قال أبو زرعة وابن وارة - أي للإمام أحمد -: صح عندنا أنه يكذب قال - يعني صالح بن أحمد -: فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده.

(4) انظر: تاريخ بغداد (2 /262) وقال: "محمد بن حميد أحاديثه تزيد وما رأيت أجرأ على الله منه". في الموضع السابق من التأريخ.

(5) تاريخ بغداد (2 /260).

(6) تاريخ بغداد (2 /263).

(7) كتاب المجروحين (2 /203)، وقال البخاري في التاريخ (ق1/ ج1 /69) : فيه نظر. وقال إسحاق بن منصور: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار أنهما كذابان. تاريخ بغداد (2 /263).

(8) الأمر كما ذكره المؤلف رحمه الله، راجع الكاشف (1 /52، 53) ، والتقريب (1 /11، 12) ، والتذكرة (ص 482)، وكأن شيخ الإسلام رحمه الله أراد بهذا التقرير أن يُبيِّن أن مُحمَّد بن حُميد تفرَّد بهذه القصة المنكرة، ولم يروها أحدٌ من الرواة عن مالك حتى آخرهم وفاةً.

(9) لعله يشير بهذا إلى معظم رجال الإسناد من ابن دلهات إلى يعقوب بن إسحاق، يقول الشيخ ربيع بن هادي المدخلي: وقد أخبرتُ أني لم أقف لهم على خبر بعد بحث، فلعل واحداً من هؤلاء المجهولين اخترع هذه الحكاية إن سلم من اختراعها ابن حميد. (انظر: قاعدة جليلة 1/ 133).

(10) يريد بهذا شيخ الإسلام أن ابن حميد على ما فيه من بلاء لم يصرح في رواية هذه الحكاية بصيغة من صيغ التحديث؛ كسمعت مالكاً، أو حدثني، أو أخبرني، أو عن مالك، أو قال مالك، وإنما قال: ناظر مالك فهي بهذا التعبير مرسلة، فإن سلم محمد بن حميد من تبعتها، فهناك احتمال آخر أن يكون رجل كذاب اخترع هذه الحكاية، ونسبها إلى مالك، أو يكون هناك عدد من الوسائط بين محمد بن حميد وبين مالك فيهم كذاب أو كذابون تداولوا هذه الحكاية حتى وصلت إلى محمد ابن حميد.

(11) يقصد شيخ الإسلام أن محمد بن حميد مع عدم إدراكه لمالك، فقد انفرد من بين أصحاب مالك على كثرتهم، وكثرة الأئمة الحفاظ فيهم، وعلى كثرة من لازمه منهم، ومع معرفتهم وحفظهم وإتقانهم لحديثه. ومثل محمد بن حميد - وأصدق منه - إذا انفرد عن أصحاب مالك بحديث، أو مثل هذه الحكاية، لا تقبل منه، ولو أسندها فكيف إذا أرسلها.

(12) بل عدها بعضهم من الأحاديث المتواترة. انظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص 149) . ومنها على سبيل المثال؛ حديث أنس في صحيح مسلم (322، 326). ومثله حديث جابر حديث (320)، وحديث أبي هريرة في البخاري (3340). وفي مسلم حديث (327)، وأحمد (2 /435)، وحديث حذيفة، وأبي هريرة في مسلم (329).

(13) ذكر القاضي عياض كل هذا في كتابه الشفاء (2 /85، 86)، وقال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي: وهذه الحكايات تحتاج إلى أسانيد، ولولا الإسناد لقال مَنْ شاء ما شاء، ثم على تسليم أنهم فعلوا ذلك فذلك بالنسبة لأشياء عرفوا حق اليقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باشرها بنفسه بجسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه. 

فأين عمل الناس الآن، وهم يتبركون بكل شيءٍ من المسجد وغيره من الأشياء التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرون ؟!.

وقد كره مالك وغيره طلب موضع شجرة بيعة الرضوان. انظر: شرح الزرقاني للموطأ (1 /351). وقد نهى عمر - رضي الله عنه - عن تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في ذلك تشبهاً باليهود والنصارى.

(14) الشفاء (2/86)، وهو في الموطأ (1/166)، برقم (68)، مالك عن عبد الله بن دينار، "رأيتُ ابن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -".

وفي المصنف لعبد الرزاق (3/576) ، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث (6724): "عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا أبتاه!".

وأخبرناه عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر، فقال: "لا نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر".

أقول (يعني ربيع بن هادي المدخلي): يُستفاد من قول عبيد الله بن عمر، الإمام المدني، الثقة الثبت، أن الصحابة الكرام - وفيهم الخلفاء الراشدون - ما كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - إذا قدم من سفر، مع حبهم الشديد لرسول الله وإكرامهم إياه وطاعتهم وانقيادهم له. 

فهل آن للأمة الإسلامية أن تثوب إلى رشدها، فتتبع هؤلاء العظماء والفقهاء النبلاء. وإننا على ثقةٍ أنهم ما وقفوا جميعاً هذا الموقف إلا على أساس متين، وصراط مستقيم من العلم النبوي الصحيح، وعلى إدراك واعٍ لمقاصد الشريعة وأهدافها، إنه ما كان ذلك منهم - مع حبهم الشديد الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تنفيذاً لتوجيهاته الكريمة؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدًا". ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد". ومثل قوله صلى الله عليه وسلم - وبأبي وأمي هو -: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

تنفيذاً لهذه التوجيهات العظيمة الهادفة إلى حماية التوحيد، وصيانة العقيدة الإسلامية من شوائب الغلو والضلال الذي وقع فيه أهل الكتاب، كان ذلك الموقف الواعي الرشيد من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون والفقهاء المبرزون مثل زيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وغيرهم من علماء الصحابة وعظمائها وساداتها، فما هم إلا جندٌ الله، ثم جندٌ محمد صلى الله عليه وسلم، جند له في حياته يفدونه ورسالته بمهجهم وأموالهم وأرواحهم، وجند له أوفياء بعد وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلله درهم ما أفقههم وأنبلهم وأوفاهم!.

فهل للأمة الإسلامية أن تتأسى بهؤلاء العظماء الأوفياء في تنفيذ هذه التوجيهات وغيرها مما جاء به خاتم الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟ ولله در إمام دار الهجرة - رحمه الله - إذ قال حين خالف بعض الناس بعض هذه التوجيهات وبدأوا يترددون على القبر: "لا أعرف هذا عمن مضى، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". وسيأتي كلامه فنشير إلى مصدره في موضعه.

(15) الشفاء (2 /86).

(16) انظر: في المنتقى (1 /296) والشفاء (2/ 86)، والرد على الأخنائي (ص 105).

(17) الشفاء (2 /86).

(18) الشفاء (2 /88).

(19) الشفاء (2 /88).

(20) الشفاء (2 /88)، وفي المنتقى (1/ 296) . قال ابن القاسم: وهو رأيٌ.

(21) الشفاء (2/ 88 - 89) منقول كله بالحرف.

(22) صحيح، رواه مالك في الموطأ (85)، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً. وعبد الرزاق في المصنف، برقم (1587) عن معمر عن زيد بن أسلم. لكنه قد جاء موصولاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أخرجه أحمد (2 /246) . وأبو نعيم في الحلية (7/ 317) . والحميدي (1024). كلهم من طريق سفيان بن عيينة. قال: حدثنا حمزة بن المغيرة الكوفي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، وهذا إسناد حسن. وحمزة بن المغيرة. قال الحميدي في شأنه: وكان من سراة الموالي، ولعله من قول سفيان. وقال أبو النضر: كان رجل الكوفة. وقال ابن معين: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب الكمال (1/ 334). ورواه أبو نعيم في الحلية (6/ 283) من طريق عبد الله بن هشام الدستوائي حدثني أبي ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وعلى كل حال فالحديث صحيح، انظر: الزرقاني (1/385).

(23) حسن، أخرجه أحمد في المسند (2 /367) . وأبو داود في سننه (2042)،  وهو إسناد حسن.

(24) وفي الشفا (2/ 88): أحمد بن سعيد الهندي.

(25) أي يقدم صلاة تحية المسجد على الزيارة.

(26) وهذا تلخيصٌ جَيِّدٌ لما نقله سابقاً من كلام مالك وأصحابه.

(27) أي الحكاية المنقطعة المنقولة عن محمد بن حميد الرازي عن مالك، ومحمد بن حميد لم يلق مالكاً. وقد تقدمت الحكاية ونقدها أعلاه.

(28) ضعيف، أخرجه أبو داود في سننه (4726) من طريق: محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده مرفوعاً، وهو ضعيف لأن في إسناده محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن في هذا الإسناد وفيه جبير بن محمد بن جبير، قال الحافظ فيه: مقبول من السادسة تقريب (1/ 126).





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق