أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 16 يونيو 2020

قاعدة جليلة في التوسُّل والوسيلة
تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية

حقَّقه وخرَّج أحاديثه:
عبد القادر الأرناؤوط

طبع إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الرياض -السعودية، الطبعة الأولى، 1999 م.

وكتبه/ أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة

تمهيد/ هذا الكتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حفظه لنا أبو الحسن علي بن الحسين بن عروة الحنبلي الصالحي (ت 837 هـ)، في كتابه الكبير "الكواكب الدراري في ترتيب مسند أحمد على أبواب البخاري".
وكتابه هذا من الكتب المحفوظة بدار الكتب الظاهرية بدمشق الشام، وقد استُخرج منه عدة كتب من مؤلفات شيخ الإسلام، منها كتابنا هذا، ولو لم يُدرجه في هذا الكتاب لضاع مع ما ضاع من مؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

وكان الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى -وهو من كبار علماء الشام المتوفى سنة (1332 هـ) -قد نسخ هذا الكتاب من "الكواكب الدراري"، وأرسله إلى الشيخ محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ) -صاحب مجلة المنار بمصر فنشره في مصر ثم طُبع بعد ذلك عدَّة مرات بمصر وغيرها.

إن هذا الكتاب الجليل خطَّه يراع الإمام واسع الاطلاع، طويل الباع، شيخ الإسلام حقَّاً وشيخ المسلمين صدقاً أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني الحنبلي، الذي كان من الأئمة المجددين في عصره؛ كالإمام العز بن عبد السلام (ت 660 هـ)، والإمام النووي (ت 676 هـ)، الذين كانت لهم المواقف المشهودة، والأيادي البيضاء المحمودة رحمهم الله تعالى.

وكل من قرأ في كتبه ومصنفاته يُدرك أنه -رحمه الله- إنما كان يدعو إلى عقيدة السلف الصالح، التي تلقاها الصَّحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقاها عن الصحابة التابعون، وهي العقيدة السليمة والطريقة المستقيمة، التي ينبغي لكل مسلمٍ أن يسير على منهاجها، وهي أسلم وأعلم وأحكم بلا شكٍّ ولا ريب، وهي عقيدة الأئمة الأربعة: مالكٌ، والشَّافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد رضوان الله عليهم..

 وكان الإمام ابن تيمية رحمه الله رجلاً عميق الفهم؛ فهو الإمام الفذ في التفسير وعلومه، والحافظ الناقد في الحديث وعلومه، وهو الفقيه المبرز والأصولي المتمكن، والمجتهد المطلق، والعالم بالملل والنحل، والمنطق والفلسفة والتصوف والكلام، والعارف بأباطيلها وزيفها وغشها وخداعها.

عَرَفَ العلوم المسماة بالعقلية أكثر من أهلها المختصين فيها وعرف عيوبها وزيفها وخطرها وما تؤدي إليه من ضلال وهلاك، فوجه ما حباه الله به من طاقات، فزلزل قواعدها، ودك معاقلها.

وعَرَفَ التصوف وما ينطوي عليه من شرور وخرافات وأباطيل، واصطلاحات فاسدة ،ومغالطات تفسد وتدمر الدين والعقل، فثلَّ عروشه ودمر قواعده، وكشف تلك المغالطات بالحجج الواضحة والبراهين الساطعة.

لقد أخرج ابن تيمية رحمه الله -في عصره -العقول المسلمة من المناهج الزائفة، والأقاويل الباطلة، خلال قرون الانحطاط الفكري حيث خرافات التصوف ومنطق اليونان، وزهد الهند، والجمود والتقليد الأعمى للأشخاص -إلى الفكر الإسلاميِّ السامق الذي يُمجِّد الشرع والمنهج، ويتماهى مع طبيعة العقل والقلب والروح.

وخرج -رحمه الله -من معاركه العلمية والجهادية ظافرًا منتصرًا انتصاراً حاسماً؛ فلا ترى لخصومه إلى يومنا هذا إلا معارك فاشلة وحججاً متهاوية وكلاماً فارغاً إلا من المغالطات التي لا تنطلي إلا على الأغبياء.

ومن علامات هزائمهم: أن كثيراً منهم يتظاهرون بمدحه واحترامه، ثم يكيدون لدعوته إلى التوحيد بنقل ما يزعمون أنه يؤيد باطلهم من كلامه بعد بتره وتشويهه..

وكان لشيخ الإسلام الحظُّ الوافر من المحبين والأنصار من العلماء والصالحين، ومن الجند والأمراء، ومن التجار الكبار، وسائر العامة تُحبُّه؛ لأنه كان منتصباً لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه..

ولا شكَّ أن لشيخ الإسلام رحمه الله آراؤه الاجتهادية والتي خالف فيها المذاهب الأربعة المتبوعة، أو خالف المشهور من أقوالهم، ولكنها مسائلٌ معدودة على الأصابع ، وهذا لا يُنقص من قدر هذا الجبل الأشمّ، (كما يُحاول المبتدعة والقبوريون تشويه صورته بها)، ومن اختياراته رحمه الله:
1-القول بقصر الصلاة في كل ما يُسمى سفراً: طويلاً كان أو قصيراً، كا هو مذهب الظاهرية وقول بعض الصحابة.
2-القول بأن من أكل في شهر رمضان معتقداً أنه ليل؛ فبان أنه نهار: لا قضاء عليه، كما هو مذهب عمر بن الخطاب، وإليه ذهب بعض التابعين، وبعض الفقهاء بعدهم.
3- القول بأن تارك الصلاة عمداً لا قضاء عليه؛ ولا يشرع له القضاء، بل عليه أن يُكثر من النوافل رجاء أن يغفر الله له، كما هو مذهب ابن حزم الأندلسي رحمه الله.
4- ومن أقواله المعروفة المشهورة التي جرى بسبب الإفتاء بها محنٌ وقلاقل: قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق المُعلّق على شرط إذا كان لا يقصد بذلك إلا الحض والمنع. وقوله: إن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة، كما كان عليه العمل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما.

  • والتوسُّل في الشرع له معنيان: 
الأول: التقرُّب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة والطاعات، كما قال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 35). ومن التوسُّل إلى الله عز وجل: طلب الدُّعاء من الرجل الصَّالح (الحيّ) الذي يتوسم فيه الخير.

الثاني: المنزلة العالية في الجنَّة، كما في صحيح مسلم في حديث الدُّعاء خلف الأذان، وفيه: "ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له الشفاعة" [ح: 384].

وأما التوسُّل بالأشخاص والذوات؛ فلم يفعله أحدٌ من السَّلف الصالح رضوان الله عليهم بما فيهم الأئمة الأربعة -أصحاب المذاهب المشهورة -. 

فعلى المؤمن أن يتوسَّل إلى الله عز وجل بأسمائه الحسنى ويدعوه بها، قال الله تعالى: {ولِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180)، أي: قولوا: يا الله، يا رحمن، (يا حيُّ يا قيوم برحمتك أستغيث)، وغير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العُلى؛ كقولك: "اللهمَّ إني أسألك بحُبِّك لنبيِّك لمُحمدٍ صلى الله عليه وسلم"، فإن الحب من صفات الله عز وجل، وكذلك الدُّعاء بالأدعية الصحيحة الثابتة.

* وإذا أردنا أن نختصر هذا الكتاب؛ فنقول -وبالله التوفيق-:

1- قد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -ابتداءً: أن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه -وقع عند المتأخرين بسبب تفسيرات حادثة لهذا المصطلح، ولذا يجب أن يعرف الناس المعنى المشروع في عرف الصحابة والتابعين -وما كانوا يفعلونه، ويعطى كل ذي حق حقه، وكذلك يعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. 

2- وبيَّن رحمه الله أن كثيراً من اضطراب الناس -من المتأخرين -في هذا الباب هو بسبب ما وقع فيه من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى أن أكثرهم لا يعرف في هذا الباب ما هو فصل الخطاب، وهذا الاضطراب لا يبقى على مدى الأزمان، وإنما يرتفع الإشكال ببيان وجه الحق والصواب.

3-ثم بين معاني التوسل والوسيلة في لغة القرآن والسنة وكلام الصحابة وأن من أعظم معاني التوسل التقرب إلى الله: بالإيمان بالله، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقيام بكل واجب ومستحب أمر الله به ورسله، وطاعة الرسول في كل ما أمر به ونهى عنه.

4- وبيَّن أن من معاني التوسُّل المشروع، هو: التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته في حياته في الدنيا وبدعائه وشفاعته في الحياة الأخرى وأثبت له أنواعاً من الشفاعة منها الشفاعة العظمى، وأن الصحابة إذا أطلقوا لفظ التوسل إنما يريدون به هذا.

5-وبيَّن رحمه الله: وأن التوسل في عرف كثير من المتأخرين يُراد به الإقسام بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والسؤال به كما يقسمون ويسألون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح، وهذا هو التوسل المحدث المبتدع، والذي ليس له أصل في الكتاب والسنة، ولا في عرف الصحابة ومن اتبعهم بإحسان، وقد بين كل هذه الأنواع بياناً شافياً مفرقاً فيها بين الحق والباطل.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق