التوسُّل والوسيلة
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
تحقيق الشيخ: إبراهيم رمضان
دار الفكر اللبناني- بيروت، الطبعة الأولى، 1992 م
جمع وإعداد: أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة
تمهيد/ لا شكَّ أن الغلو في الأنبياء والصالحين: بدعائهم والاستغاثة بهم من الشرك المُحرَّم، مع ما فيه من الظُّلم للنفس، والإساءةِ إلى هؤلاء الأنبياء والصالحين الذين لا يرضون أن يجعلهم الغلاة أرباباً تُعبد من دون الله، أو يُطلب منها المدد والولد والمال أو الفرج والغوث والإعانة…
وقد نبت في المتأخرين كثيرٌ من أدعياء العلم وُدعاة الضلال الذين يُخالفون الكتاب والسُّنة، وهدي سلف الأمة، الذين ألهاهم عن التوحيد علوم اليونان، وفلسفة الإغريق، فامتزجوا بعقائد الحلول والاتحاد، والخرافات والأساطير التي ما أنزل الله بها من سُلطان…
فكان لهم من الغلو في الأموات من الصالحين وغير الصالحين نصيب، ونشأت بدعة التعلُّق بالقبور والاستغاثة بأصحابها، والتوسُّل بذوات الأموات، وكل هذا من تلاعب الشياطين ببعض الغواة من بني آدم، الذين حجبتهم الشياطين عن توحيد الخالق، فزين لهم الشرك تحت ظلال القباب وعلى شواهد القبور وعلى أستارها وسُرجها، فأشركوا مع الله غيره في أخصِّ خصائص الربوبيّة من الاستعانة والاستمداد وطلب الرزق والشفاء، وفي ذلك ما ترى وتسمع من إفساد مصالح العباد في المعاش والمعاد…
ولكن لا يزال في هذه الأمَّة من هو قائمٌ بالحقِّ، ثابتٌ عليه، يُقيم حُجَّة الله على عباده -كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خالفهم حتَّى يأتي أمر الله وهم كذلك"...
وقد بدأت بدع القبورية تظهر في الأمة وتنتشر إبَّان القرن الثالث الهجري، فأنكرها علماء ذلك الزَّمان، وحربوها أيَّما محاربة، ثم كثرت المنازعة في المتأخرين من أهل البدع لموافقتهم أهواء السلاطين، إلى أن أتى الله بشيخ الإسلام حقَّاً وصدقاً، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني الحنبليَّ حامل لواء مذهب أهل الحقِّ بالحقِّ… الذي صدح بالحق، ونادى بتوحيد القصد والعبادة لله وحده بالرغبة والرهبة والافتقار والتذلُّل والتوكل والمحبة والاستمداد والاستعانة والاستغاثة..
وقد كان رحمه الله صاحب القلم الذي لا يُشق له غُبار، ولا يُدرك في مضمار، وكان رحمه الله سيفاً مسلولاً على أهل البدع والأهواء، وبلاءً مبرماً على من خالف هذه الشريعة الغراء…
ورأينا في تاريخه المجيد أنه كلما ظهر وظفر على المبتدعة كثر خصماؤه وحاسدوه من المارقة ودعاة الضلال، وهذا طبيعيٌّ جداً؛ فإن الحقَّ صعبٌ على المغلوب في ميدان الاستدلال، وترك مألوف العوائد مما تأباه القلوب..
ومن ثمرة جهاد ذلك الفارس كان هذا المؤلَّف النفيس "التوسُّل وأنواعه" والذي فجَّرته يراع ذلك العلم الأشمّ -بالإضافة إلى الكثير من المؤلفات النافعة - الذي يكاد يُضيء من نور الوحي للأمة طريق الخير والهداية- بعد كتاب الله وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد طُبع هذا الكتاب باسمٍ آخر، وهو "قاعدة جليلة في التوسُّل والوسيلة"، وقد أشرنا لذلك في طبعتي الشيخين الجليلين:
- الشيخ ربيع بن هادي عُمير المدخلي
- والشيخ عبد القادر الأرناؤوط
ونحنُ هنا نختار بعض الفقرات الذي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله في هذا المصنَّف النفيس (مرَّقمةً)، ومن ذلك:
- الأصول التي بُني عليها هذا الدين:
1- وهذا الدين مبنيٌّ على أصلين عظيمين، هما:
- أن نعبد الله وحده لا شريك له.
- وأن نعبده بما شرعه على ألسنة رسله، فلا نعبده بعبادة مبتدعة.
* وكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم -بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم حقيقةً.
- الأصل العام في العبادات التوقيف والاتِّباع:
2- ولا ينبغي لأحدٍ أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة.
* وما عَلِمَهُ قال به، وما لم يعلمه أمسك عليه، ولا يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لم يعلم؛ فإن الله تعالى قد حرم ذلك كله.
* والذي ارتضاه الله لخلقه هو ما أكمل به الدّين من التوحيد والإحسان والعدل.
- الوسيلة والتوسُّل في القرآن الكريم:
3-ولفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} (المائدة: 35)، وقوله: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} (الإسراء: 57).
والوسيلة التي أمرنا الله أن نبتغيها إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه: هي التقرب إلى الله بطاعته، والتوسل إلى الله عز وجل باتباع ما جاء به الرسول، وهذا يدخل فيه كل ما أمرنا الله به ورسوله، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك.
وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها: إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وطاعته، وهذا التوسل به فرض على كل أحد.
وهي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات، ولا يدخل في ذلك: المحرم، ولا المكروه، ولا المباح.
- الوسيلة والتوسُّل في السُّنة النبويَّة الصحيحة:
4-وأما لفظ "الوسيلة" في الأحاديث الصحيحة؛ فله معانٍ صحيحة:
الأول: درجة خاصة بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في الجنة:
وقد رغبنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقاماً محموداً الذي وعده. ويدلُّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد)/صحيح مسلم: 348/، فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
الثاني: التوسُّل بطاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومحبته واتِّباعه وامتثال أمره؛ فهذا فرضُ عينٍ لا يتم الإيمان إلا به.
الثالث: التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته:
والمراد به التوسل بدعائه وشفاعته، كما في توسُّل الرجل ضرير بدعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حتى رد الله عليه بصره بدعائه وشفاعته، وكما كان الصحابة يتوسلون بشفاعته في الاستسقاء وغيره.
الرابع: التوسُّل بدعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم يوم القيامة:
كما يسأله الناس يوم القيامة أن يشفع لهم، فهذا توسُّلٌ من باب قبول الله دعاءه وشفاعته لكرامته عليه. فالناس يتوسلون إلى الله تعالى بشفاعته التي هي دعوته التي ادَّخرها عند الله -أن يُفرِّج عنهم ما هم فيه من الكرب والغم...
الخامس: التوسُّل بالعمل الصالح: مثل سؤال الثلاثة الذين آووا إلى الغار.
- أعظم ما يتوسَّل به المتوسلون هو:
5- الإيمان بالله عز وجل، والإقرار لنبيِّه بالرسالة صلى الله عليه وسلم.
إن أعظم ما توسل به المتوسلون بعد الإيمان بالله عز وجل وبعد إفراده بالطاعة والعبادة، هو الإيمان بنبيِّه صلى الله عليه وسلم، واتِّباعُ سنته وهديه، وهو أعظم الشفعاء قدراً، وأعلاهم جاهاً عند الله سبحانه..
* فلو سأل الله بإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحبته له، وطاعته له، واتباعه؛ لكان قد سأله بسببٍ عظيم يقتضي إجابة الدعاء بل هذا أعظم الأسباب والوسائل.
- ومن التوسُّل المشروع الصلاة والسَّلام عليه صلى الله عليه وسلم:
6- ونصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلي على النبي ونسلم عليه في كل مكان، فهذا مما اتفق عليه المسلمون، فهذه الوسيلة هي التي شرع لنا أن نسألها الله تعالى -كما شرع لنا أن نصلي عليه ونسلم عليه - هي حق له، كما أن الصلاة عليه والسلام حق له صلى الله عليه وسلم.
- اشتباه التوسُّل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم على كثيرٍ من المتأخرين مع كونه محكماً في عضر الصحابة:
7- والتوسل بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم والتوجه به إلى الله لفظٌ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح:
-فمعناه في لغة الصحابة: أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته. ودعاؤه وشفاعته صلى الله عليه وسلم من أعظم الوسائل عند الله عز وجل.
-وأما في لغة كثير من الناس (المتأخرين): فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته.
- من السُّنة التوسُّل بدعاء الصالحين الأحياء:
8- وقد مضت السنة أن الحي يُطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر مايقدر عليه، وأما المخلوق الغائب والميت، فلا يطلب منه شيء.
* وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
بل طلب الدعاء مشروع من كل مؤمن لكل مؤمن، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر لما استأذنه في العمرة:" لاتنسنا يا أخي من دعائك".
*وحتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب من (أويس القرني) أن يستغفر للطالب (وهو عُمر بن الخطاب) وإن كان الطالب أفضل من أويس بكثير.
- الإيمان بالنبيِِّ صلى الله عليه وسلم وطاعته واتِّباعه أعظم عند الله من مجرد شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
9-وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهاً عند الله، وأنه لا جاه لمخلوق عند الله أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته، ولكن الإيمان بالأنبياء وطاعتهم أعظم عند الله من دعائهم وشفاعتهم له، فكل من مات مؤمناً بالله ورسوله، مطيعاً لله ورسوله كان من أهل السعادة قطعاً، ومن مات كافراً بما جاء به الرسول كان من أهل النار قطعاً.
- التوسُّل المشروع في الدنيا يكون بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، ومحبته، وامتثال أمره، وهذا هو أصل الدِّين ولُبِّه:
10-والتوسل بالإيمان بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه، وكذا التوسُّل بدعائه حال حياته مشروعٌ باتفاق المسلمين، بل إن التوسل بالإيمان به واتباعه هو أصلُ الدين، ومن أنكر التوسل به بأحد هذين المعنيين فهو كافرٌ مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً؛ لأن التوسل بالإيمان به وبطاعته هو أصل الدين ومعلومٌ من الدين بالضرورة، ولأن دعاءه وشفاعته في الدُّنيا فلم ينكرها أحدٌ من أهل القبلة.
- إثبات الشفاعة له صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهي يومئذٍ أنواعٌ كثيرة:
11-وأما الشفاعة يوم القيامة: فمذهب أهل السنة والجماعة -وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم -أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم له شفاعات يوم القيامة خاصة وعامة. وأنه يشفع فيمن يأذن الله له أن يشفع فيه من أمته من أهل الكبائر.
ولا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون؛ دون أهل الشرك ولو كان المشرك محباً له، معظماً له، لم تنقذه شفاعته من النار وإنما ينجيه من النار التوحيد والإيمان به.
- أسعدُ الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم هم المتحقِّقون بالتوحيد ظاهراً وباطناً، لا يعبدون غير الله، ولا يستغيثون بسواه سبحانه:
12- و"أسعدُ النَّاس بشفاعته صلى الله عليه وسلم هو من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" /رواه البخاري/. وفي /صحيح مسلم/: "أن شفاعته صلى الله عليه وسلم نائلةٌ من أمته من لا يُشرك بالله شيئاً". وفي لفظٍ في /السنن/ أنها: "لمن مات لا يُشرك بالله شيئاً". وفي /لفظٍ/: "من لقي الله لا يُشرك به شيئاً فهو في شفاعتي".
- مراتب الشرك في دعاء الأموات والاستشفاع بهم:
13- والمراتب في هذا الباب ثلاث:
(إحداها): أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم؛ فيقول: يا سيدي فلان أغثني أو أنا أستجير بك أو أستغيث بك أو انصرني على عدوي.
فهذا (شركٌ مُحرَّم) فلا يجوز لأحدٍ أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين، مثل أن يقول: يا سيدي فلاناً أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك. ونحو ذلك.
* وأعظم من ذلك: أن يقول: اغفر لي وتب عليَّ، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين.
* وأعظم من ذلك: أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة إليه أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام !.
* وأعظم من ذلك: أن يرى السفر إليه من جنس الحج؛ حتى يقول: إن السفر إليه مرات يعدل حجة، وغلاتهم يقولون: الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة. ونحو ذلك، فهذا شرك بهم وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه.
(الثانية): أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها.
فهذا أيضاً لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع (الشركيَّة) التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة، وإن كان السلام على أهل القبور جائزاً، هذا مع أن مخاطبتهم جائزة -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. يغفر الله لنا ولكم، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لاتحرمنا أجرهم، ولاتفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم".
وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام"، لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لا دعاء ولا غيره.
(الثالثة): أي المرتبة الثالثة من مراتب الدعاء البدعي، أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهيِّ عنه. وتقدم أيضاً أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق