رسالة بعنوان
الجواب على استدلال القبوريين بحديث:
(يا عباد الله احبسوا)
تأليف
أ.د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي
الأستاذ بقسم العقيدة
بجامعة المدينة المنورة
اعتنى به: أ. محمد ناهض عبد السلام حنُّونة
****
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب عن استدلال القبوريين بحديث: (يا عباد الله احبسوا)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن من الشُّبه التي يلهج بها القبوريون المستغيثون بغير الله:
ما يروى في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا انفلتت دابةُ أحدكم بأرض فلاة فليناد:يا عباد الله احبسوا، يا عباد الله احبسوا، فإن لله حاضرا في الأرض سيحبسه). [أخرجه أبو يعلى في مسنده (5269)، والطبراني في معجمه الكبير (10518)].
ونحوه ما جاء في حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أضل أحدكم شيئاً، أو أراد أحدكم عوناً وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عبادا لا نراهم). [أخرجه الطبراني (290)].
ونحوه ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر؛ فإذا أصاب أحدكم عَرْجَة بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله) [أخرجه البزار (4922)].
حيث زعموا أن هذه الأحاديث تدل على جواز دعاء الملائكة والجن، بل والموتى!
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
أولا: أن هذه الأحاديث ضعيفة، لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال، ولم يصح منها عنه حرف واحد، وكلُّ حديثٍ منها مسلسلٌ بعلل عدة، ورغبة في الاختصار أُحيل في بيانها إلى سلسلة الأحاديث الضعيفة (2/ 112-108).
وقد روي الحديث الأخير موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما [أخرجه ابن أبي شيبة (29721)].
ولا يثبت أيضا، ففي إسناده أسامة بن زيد الليثي، وهو ممن يخطئ في روايته، وفي أحاديثه مناكير، وكثيرٌ من الحفاظ على تضعيفه [انظر: تهذيب التهذيب (1/ 209)])،
ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب [98]: (صدوق يهم)؛ فمثله لا يُقبل تفرده بهذا عن ابن عباس؛ فمدار الحديث -مرفوعاً وموقوفاً- عليه.
ثانياً: لو قيل -تنزلاً- بصحة هذه الأحاديث؛ فإنها لا تدل على ما ادعوا، وتوضيح ذلك:
أن الأصل في هذا الباب أن الدعاء عبادة، لا شك في هذا ولا ريب، والأدلة على هذا، وعلى وجوب أن يكون الدعاء لله وحده -كثيرة، ومنها: قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18).
ومنها: حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة»، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60). أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم بسند صحيح.
ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» أخرجه أحمد والترمذي بسند صحيح.
فالواجب استصحاب هذا الأصل، ومتى ما دل دليل على استثناء شيء منه: فالواجب الجمع بين الأدلة، لا ضرب بعضها ببعض، وقد دل الدليل على جواز دعاء الحي الحاضر القادر، كما في قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فاستغاثهُ الَِّذي ِمن ِشيعتِِه على الَِّذي ِمن عدِوهِ} (القصص: 15) ونحوه من الأدلة؛ فهو إذن استثناء من هذا الأصل له حكمه، وبذا تجتمع الأدلة وتأتلف.
وهذه الأحاديث الواردة في هذا الموضوع -إن ُسلم بصحتها- لا تخرج عن هذا الاستثناء؛ فإن النداء فيها نداء لحيٍّ حاضرٍ قادرٍ على الإغاثة، كما سيتضح فيما يأتِ.
ثالثاً: التأمل في هذه الأحاديث تظهر به أمور:
1- أن فيها نداءً لمعين، وهم طائفة من الملائكة أو الجن أو غيرهم من جنود الله سبحانه وتعالى.
2-أنه نداء لحاضر يسمع؛ فهذا هو المعقول من الأمر بالنداء، وهو ما ورد في الحديث: (فإن لله حاضراً في الأرض). ومفهوم الحديث: أن من ليس حاضرا: لا ينادى!
3- أنه نداءٌ لمن هيأه الله للإجابة، ووكله بها، وأقدره عليها؛ ففي الحديث: (فإن لله حاضراً في الأرض سيحبسه).
4-أن العبد هنا مأمور بهذا النداء: (فليناد: يا عباد الله ...)، فهو لا ينادي اجتهادا من تلقاء نفسه؛ فوجود هؤلاء العِباد، وسماعهم، وإجابتهم: شيء غيبي لا سبيل إلى علمه به، وإنما علِمه من الحديث، فاستجاب للأمر الوارد فيه.
فهو إذن دعاءٌ مخصوص، اجتمعت فيه كل هذه الأمور -وهي معتبرة مؤثِرة في الحكم، لا حشو- فمتى اجتمعت جاز الدعاء، وإلا لم يجز.
وعليه فأيُّ دعاءٍ لملك -سوى هؤلاء- أو لجني أو ميت ُيُتاج فيه إلى ثبوت هذه الأمور حتى يقال بجوازه؛ وأنى لأحد إثبات هذا؟!
فمن أجاز دعاء الملائكة عموماً، أو الأنبياء أو الاولياء من الميتين أو الغائبين أخذا بما جاء في هذه الأحاديث وقياساً على ما تضمنته - فقد أبعد النجعة؛ وكان كالذي يقيس ِحل الخمر على حل الماء بجامع أن كليهما شرابٌ سائل! وتغافل عن الأوصاف المعتبرة المؤثرة في ُحكمي هذا وهذا.
وهكذا الذي يبني جواز الاستغاثة بميت على استغاثة الناس بالأنبياء يوم القيامة، أو استغاثة الإسرائيلي بموسى عليه السلام.
والخلاصة أن ما جاء في هذه الروايات -على فرض صحته- لا يعدو أن يكون دعاء لحيٍّ حاضر قادر، وهذا لا أحد يخالف في جوازه.
أما الدعاء الشركي فهو: دعاء الميت مطلقاً، أو الحي الغائب مطلقاً، أو الحي الحاضر فيما لا يقدر عليه الأحياء، فالدعاء في هذه الصور شرك أكبر، لأنه صرفُ خالصِ حق الله -وهو العبادة- لغير الله، والدعاء عبادة كما مضى.
وعليه فدعاءُ نبيٍّ أو ولي ميت: دعاءٌ لغير حي، لا يقدر، ولا يسمع، وِمثله دعاءُ الأشجار والأحجار والأصنام.
ودعاء الملائكة والجن -سوى ما جاء في هذه الأحاديث، على فرض صحتها- باق على الأصل؛ فهو دعاء لغائبين؛ فالملائكة والجن عالـم غيبي، ولا علم لنا بسماعهم ولا بقدرتهم على الإجابة، ثم إن الملائكة -عليهم السلام- لا يفعلون إلا ما أُمروا به من ربهم فحسب {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 27)، وليسوا هم خدماً للبشر؛ يأمرونهم فيفعلون! وحاشاهم، بل هم عباد مكرمون.
قال أبو العباس ابن تيمية: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين) [مجموع الفتاوى [1 /124].
وقال رحمه الله: (لا يوجد قط عن نبي أنه أمر بدعاء الملائكة والاستشفاع بهم، ولا بدعاء الموتى من الأنبياء والصالحين والاستشفاع بهم، فضلاً عن دعاء تماثيلهم والاستشفاع بها، فإن هذا من أصول الشرك الذي نبهت عليه الرسل) [الجواب الصحيح: 5/ 74].
وقال رحمه الله: (دعاء الملائكة ومسألتهم: إشراك بالله) [بيان تلبيس الجهمية 4/ 524].
وقال رحمه الله: (قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 56، 57).
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي كما أنتم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي؛ فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا ويستغفرون) [مجموع الفتاوى: 1/ 330 ].
وقال رحمه الله: (وكل من جعله الله إماماً؛ فإنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن دعاء ما سواه، لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة، ينهون عن دعاء الملائكة والأنبياء فضلاً عمن سواهم، وبهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب، وهذا هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه) [الإخنائية 165].
رابعاً: هذه الأحاديث دليل على القبوريين -المستدلين بها على جواز دعاء الملائكة والجن والأموات- وليست دليلا لهم؛ فورودها -على تسليم صحتها- بنداء مخصوص، لمنادى مخصوص، في حال مخصوصة: برهانٌ على أن هذا الباب ليس مُشرعاً لكل من أراد أن يزيد وينقص؛ إنما هي حال خصَّها الدليل، فليس لأحدٍ أن يتجاوزها، ولم تأت الأحاديث بمناداة للملائكة والجن والأموات عموما، في كل حال -كما هو حال القبوريين-.
ولو كانت شريعة الإسلام وملة التوحيد هي ما عليه القبوريون -أهل الشرك وُدعاته- لجاءت بالحث على دعاء غير الله مطلقاً؛ كالاستغاثة بسيد ولد آدم وأرفعهم مقاماً -صلى الله عليه وسلم-بعد موته، وبجبريل وغيره من الملائكة، وبسادة الأولياء: أبي بكر وعمر وإخوانهما -رضي الله عنهم-؛ في البر والبحر، والقرى والفيافي، وفي حال العسر واليسر، وبطلب تفريج الكروب وتيسير الأمور صغيرها وكبيرها - وليس بإباحة نداء ملائكة مخصوصين حاضرين في حالة نادرة -وهي انفلات دابة في فلاة-، لا تقع لأكثر الناس!
هذا على سبيل التسليم الجدلي، وإلا فالحق أن تلك الأحاديث معلولة، الشريعة لم تأت بهذا والحمد لله، إنما جاءت -من أولها إلى آخرها- بتعليق القلوب والجوارح برب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وتعبيدها لرب الناس، ملِك الناس، إله الناس، سبحانه وبحمده.
خامساً: مما يدل على أن نداء هؤلاء الملائكة -على فرض صحة تلك الأحاديث- شيءٌ خاص لا يصح تجاوزه إلى غيره أو القياس عليه: مجيء التعليل في الحديث عقيب الأمر بالنداء: (فإن لله حاضراً في الأرض سيحبسه،) أو: (فإن لله عباداً لا نراهم)، فمجيء هذا التعليل دليلٌ على خصوصية هذه الصورة؛ والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
وهذا الوجه يؤكد أن هذه الروايات دليلٌ على أولئك، لا لهم؛ فمن أين لهم مثل هذا التعليل في استغاثاتهم الشركية؟!
سادساً: مجيء هذا التعليل فيه -أيضا- فائدة، وهي أنه مشعر بأن هذا النداء خلاف الأصل؛ إذ لو كان الأصل في نداء الملائكة الإباحة، وأنه كنداء الأحياء الحاضرين من البشر لما احتيج إليه، وهذا ظاهر.
وهذا الوجه يؤكد -أيضا- أن هذه الروايات دليل على أولئك، لا لهم.
ويبقى -بعد ما سبق- التنبيه على استدلال بعض الناس بما جاء عن بعض العلماء من العمل بالأحاديث السابقة.
والنظر ههنا له وجهان:
الأول: قد عُلم أن ما روي في هذا الباب لم يثبت منه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا يجوز العمل به؛ فالمقام مقام غيبي توقيفي، لا عقلي اجتهادي.
ولا عصمة لأولئك العلماء على جلالة قدرهم، ولا حجة في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويترك.
الثاني: التماس العذر لأولئك العلماء فيما ذهبوا إليه؛ فظاهر حالهم ظنهم ثبوت تلك الروايات، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، وأهل السنة أهل عدل ورحمة؛ فأولئك وإن أخطأوا إلا أن لهم شبهةً وعذراً؛ فلا يُتابعون، ولا يُسقطون.
وفق الله المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، والسلامة من الأهواء وأهلها.
وصلى الله وسلم على نبينا مَمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه:
أ.د. صالح بن عبد العزيز بن عثمان سندي
10 - شوال - 1441 هجرية
لتحميل هذه المادة انقر على الرابط
لزيارة موقع الشيخ:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق