قصصٌ باطلةٌ لا تثبت عن الخُلفاء الرَّاشدين
(3) قصَّةُ توسُّل أبي بكر الصِّديق بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله
من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
بتعليقات الشيخ العلامة
ربيع بن هادي عُمير المدخلي
اعتنى به:
أ. محمد ناهض عبد السَّلام حنُّونة
تمهيد/ هذا هو الجزء الثالث من الرَّد على أهل البدع الذين استدلوا ببعض القصص المكذوبة على الأئمة الفقهاء والخلفاء الراشدين في جواز التوسُّل بالذوات، وسؤال المخلوقين، زعماً منهم أنهم يتقربون إلى الله بذلك، عياذاً بالله تعالى من الضلال..
والقصة التي نحن بصدد نقدها: هي دعوى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر الصِّديق أن يتوسَّل إلى الله تعالى بأولي العزم من الرُّسل وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتب التي أُنزلت على هؤلاء الرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم حتى يثبُتَ حفظ القرآن في صدره.
* نصُّ القصة:
ومن ذلك: الحديث الذي يُروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة (1)، عن أبيه عن جده: (أن أبا بكر الصديق أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إني أتعلم القرآن ويتفلت مني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: اللهمَّ إني أسألك بمحمد نبيك وبإبراهيم خليلك، وبموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك، وبتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد، وبكل وحي أوحيته وقضاء قضيته)، وذكر تمام الحديث.
* نقد هذه الحكاية:
الوجه الأول: من جهة السَّند:
وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدري في "جامعه"، ونقله ابن الأثير في "جامع الأصول"، ولم يعزُه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين؛ لكنه قد رواه من صنَّف في عمل "اليوم والليلة" كابن السني (2) وأبي نعيم.
وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء.
وقد رواه الشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال، وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة كذب موضوعة.
ورواه أبو موسى المديني: من حديث زيد بن الحباب، عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، وقال: هذا حديث حسن مع أنه ليس بالمتصل.
وقال أبو موسى: ورواه محرز بن هشام، عن عبد الملك، عن أبيه، عن جده، عن الصديق رضي الله عنه، وعبد الملك ليس بذاك القوي، وكان بالري، وأبوه وجده ثقتان.
قلت (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): عبد الملك بن هارون بن عنترة من المعروفين بالكذب، قال يحيى بن معين: هو كذاب (3) .
وقال السعدي: دجال كذاب (4) .
وقال أبو حاتم بن حبان: يضع الحديث (5) .
وقال النسائي: متروك (5) .
وقال البخاري: منكر الحديث (6) .
وقال أحمد بن حنبل: ضعيف (7) .
وقال ابن عدي: له أحاديث لا يتابعه عليها أحد (8) .
وقال الدارقطني: هو وأبوه ضعيفان (9) .
وقال الحاكم في كتاب المدخل (10): عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني، روى عن أبيه أحاديث موضوعة.
وأخرجه أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الموضوعات (11) .
الوجه الثاني: أنه لا يوجد أحدٌ من أئمة الإسلام من احتجَّ بهذا الحديث:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى (1/ 252):
إن الأحاديث التي تروى في هذا الباب - وهو السؤال بذوات المخلوقين -هي من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة، ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها، ولا اعتمد عليها.
الوجه الثالث: مخالفة عبد الملك بن هارون بن عنترة لغيره من ثقات المفسرين وأهل السِّيَر:
وقد روى عبد الملك - هذا الحديث (12) الآخر، المُناسِب لهذا -الحديث المذكور أعلاه- في استفتاح أهل الكتاب به، وخالف فيه عامة ما نقله المفسرون وأهل السير، وما دل عليه القرآن، وهذا يدل على ما قاله العلماء فيه من أنه متروك؛ إما لتعمده الكذب، وإما لسوء حفظه، وتبين أنه لا حجة لا في هذا ولا في ذاك.
ومن هذا الباب نذكر: ما رواه الطبراني في معجمه الكبير (13)، أن منافقاً كان يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر: قوموا نستغيث برسول الله من هذا المنافق. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله".
قلتُ (محمد) وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أنَّ معناه صحيح، يشهد له كتاب الله عزَّ وجل، وفيه قوله سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} (الأنفال: 9)، فعلَّق الاستغاثة بالله وحده، ولم يقل: تستغثون ربكم ورسوله؛ وهذه تحسم مادة الشرك لدى القبوريين.
__________________
(1) قال ابن حبان: يضع الحديث، وقال الذهبيُّ: اتُّهم بحديث: "من صام يوماً من البيض عدل له عشرة آلاف سنة".
(2) يقول الشيخ ربيع بن هادي: رجعت إلى باب الدعاء لحفظ القرآن (ص 217)، من عمل اليوم والليلة لابن السني فلم أجد في هذا الباب إلا حديثاً واحداً لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ولم أجد حديث أبي بكر رضي الله عنه في الباب المذكور.
(3) التأريخ لابن معين (2 /376) في الترتيب، الترجمة (1688) .
(4) أحوال الرجال (ص 68) ، رقم (77) ، والسعدي: هو الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني، توفي سنة (259) ، انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (2 /549) ، وتهذيب التهذيب (1 /181) .
(5) كتاب المجروحين (2 /133) .
(6) كتاب الضعفاء والمتروكين (ص 166) ، رقم (405).
(7) كتاب الضعفاء (ص 148) ، رقم (218) .
(8) العلل ومعرفة الرجال (1 /384) .
(9) الكامل (5/ 1942) وفيه: "وعبد الملك بن هارون له أحاديث غرائب عن أبيه عن جده عن الصحابة، مما لا يتابعه عليه أحد".
(10) الضعفاء والمتروكين (ص 289) رقم (362) ، وعبارته: "عبد الملك بن هارون بن عنترة الكوفي عن أبيه، وأبوه أيضاً متروك". فكلمة أيضاً تدل على أنه قال فيه: متروك، أو لأن الكتاب موضوع للضعفاء والمتروكين، وانظر: المدخل: (1/ 170) ، رقم (129) .
(11) (3/ 174 - 175) بإسناده إلى مجاهد عن ابن مسعود مرفوعاً.
وقال عقبه: هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتهم به عمر بن الصبح، قال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، فلعله سقط من المطبوع، وأورده السيوطي في اللآلئ (2/ 357) ، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/ 322) ، وعزاه إلى أبي الشيخ في كتاب الثواب. وقال السيوطي وتابعه ابن عراق: "عبد الملك دجال مع ما في السند من الإعضال".
(13) انظر مجمع الزوائد (10/ 159) قال الهيثمي عقبه: "ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث". ورواه أحمد (5 /317) ، ثنا موسى بن داود، ثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، أن رجلاً سمع عبادة بن الصامت يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقام لي. إنما يقام لله تبارك وتعالى". ورواه ابن سعد، في الطبقات (1/387) ، بهذا الأسناد، وبهذا اللفظ. وموسى بن داود، هو الضبي أبو عبد الله الطرطوسي، صدوق فقيه زاهد له أوهام، من صغار التاسعة. فيبدو أنه ممن روى عن ابن لهيعة بعد اختلاطه، وفيه الرجل المجهول الراوي عن عبادة، فالحديث على هذا ضعيف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق