أرشيف المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 9 يونيو 2020

قصصٌ باطلةٌ لا تثبت في السِّيرة النبويَّة
(4) قصَّةُ توسُّل اليهودُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم قبل مَبعثه
من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

بتعليقات الشيخ العلامة
ربيع بن هادي عُمير المدخلي
اعتنى به
أ. محمد ناهض عيد السَّلام حنُّونة


تمهيد/ هذا هو الجزء الرابع من الرَّد على أهل البدع الذين استدلوا ببعض القصص المكذوبة على الأئمة الفقهاء والخلفاء الراشدين وأهل السِّير في جواز التوسُّل بالذوات، وسؤال المخلوقين، زعماً منهم أنهم يتقربون إلى الله بذلك، عياذاً بالله تعالى من الضلال..

والقصة التي نحن بصدد نقدها: هي دعوى أن اليهود كانوا يتوسُّلون بالنبيِّ صلى الله عليه وسلَّم قبل مبعثه؛ فيُنصرون على غطفان وغيرها من قبائل العرب.


* نصُّ القصة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (1/ 299): وأما الحديث الذي يُروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هُزمت يهود؛ فعاذت بهذا الدعاء: 
للهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}  (البقرة: 89).

* نقد هذه الحكاية:
الوجه الأول: من جهة السَّند:
وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه (1)، وقال: أدت الضرورة إلى إخراجه. 
وهذا مما أنكره عليه العلماء، فإن عبد الملك بن هارون من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك بل كذاب. 
وقد تقدم ما ذكره يحيى بن معين وغيره من الأئمة في حقه (2) .
قلت (يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): وهذا الحديث من جملتها (3) .

وكذلك الحديث الآخر الذي يرويه عن أبي بكر الصِّديق كما تقدم.


الوجه الثاني: من جهة المتن:
وأما قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، فكانت اليهود تقول للمشركين: سوف يبعث هذا النبي ونقاتلكم معه فنقتلكم، ولم يكونوا يقسمون على الله بذاته ولا يسألون به، بل يقولون: "اللهم ابعث هذا النبي الأمي لنتبعه ونقتل هؤلاء معه".

وهذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير، وعليه يدل القرآن؛ فإنه قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} (البقرة: 89). والاستفتاح: الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يُبعث فيقاتلونهم معه، فبهذا ينصرون، وليس هو بإقسامهم به وسؤالهم به، إذ لو كان كذلك لكانوا إذا سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يكن الأمر كذلك. بل لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه.
وهذا الاستنصار يكون: بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم بالنبيِّ المبعوث في آخر الزمان، بأن يُعَجِّلَ بعث ذلك النبي إليهم لينتصروا به على المشركين، لا لأنهم أقسموا على الله وسألوا به، ولهذا قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} (البقرة: 89). 

الوجه الثالث: شذوذ من قال إنَّ اليهود توسَّلُوا بذاته صلى الله عليه وسلم:
وما ذكره بعض المفسرين من أنهم (يعني اليهود) كانوا يقسمون به أو يسألون به؛ فهو نقلٌ شاذٌ، مُخالفٌ للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة له
وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في (دلائل النبوة) وفي كتاب (الاستغاثة الكبير). 
وكتب السيرة (4)، ودلائل النبوة (5)، والتفسير (6) مشحونةٌ بذلك.

الوجه الرابع: أن هذه الحكاية مخالفة لتفسيرُ السَّلف للآية:
قال أبو العالية (7) وغيره: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: "اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم"، فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89).
ولو لم ترد الآثار التي تدلُّ على أن هذا معنى الآية، لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المعنى المتنازع فيه -من التوسُّل بالذوات -بلا دليل؛ لأنه لا دلالة فيها عليه، فكيف وقد جاءت الآثار بما يُثبت توسُّلَ اليهود بدعاء الله تعالى أن يبعث فيهم ذلك النبيِّ؟.

الوجه الخامس: أن روايات السِّيرة تؤكد هذا المعنى:
وروى محمد بن إسحاق: عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن رجال من قومه قالوا: مما دعانا إلى الإسلام - مع رحمة الله وهداه - ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لاتزال بيننا وبينهم شرور. فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرَم. كثيراً ما كنا نسمع ذلك منهم. فلما بعث الله محمداً رسولاً من عند الله أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في البقرة: {ولما جاءهم كتابٌ من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} (8) .
ولم يذكر ابن أبي حاتم وغيره ممن جمع كلام مفسري السلف إلا هذا.

الوجه السادس: أن الروايات الثابتة ذكرت أحد أمرين: إخبار اليهود بمبعثه، أو سؤال الله أن يبعثه:
وهذا -يعني التوسُّل بالذوات -لم يُذكر فيه السؤال به عن أحد من السلف، بل ذكروا الإخبار به -يعني بمبعثه صلى الله عليه وسلم-، أو سؤال الله أن يبعثه.

1- فروى ابن أبي حاتم عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: يستظهرون، يقولون: نحن نعين محمداً عليهم، وليسوا كذلك. يكذبون (9) .

2- وروي (10) عن معمر، عن قتادة، في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي فلما جاءهم وعرفوا: كفروا به.

3- وروي (11) بإسناده عن ابن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد قال: أخبرني عكرمة - أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس (12) أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور، وداود أخو بني سلمة (13): يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم؛ فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89).

4-وروي (14) بإسناده عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب؛ يقولون: "اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا، حتى نعذب المشركين ونقتلهم". فلما بَعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة: 89).

الوجه السابع: أن هذه الآية نزلت في اليهود المجاورين للمدينة لا في يهود خيبر:
ومما يبين ذلك:
أن قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 89) إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولاً كبني قينقاع (15)، وقريظة (16)، والنضير (17)، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج، وهم الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، ثم لما نقضوا العهد حاربهم، فحارب أولاً بني قينقاع ثم النضير - وفيهم نزلت سورة الحشر - ثم قريظة عام الخندق.
فكيف يُقال: نزلت في يهود خيبر وغطفان؟ 
فإن هذا من كذَّابٍ جاهلٍ، لم يُحسن كيف يكذب.
ومما يبين ذلك: أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب.
ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوفر دواعي الصادقين على نقله.

الوجه الثامن: أنه لا يُعرف عن اليهود أنهم انتصروا على العرب:
وأما ما تقدم ذكره عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون، فقد بينا أنه شاذ، وليس هو من الآثار المعروفة في هذا الباب، فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب، بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب، فيحالف كل فريق فريقاً، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج.
وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف، بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران: 113) .
فاليهود - من حيث ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا بحبل من الله وحبل من الناس - لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بُعث المسيح عليه السلام فكذبوه.

الخلاصة لما تقدَّم:
ومما ينبغي أن يعلم، أن مثل هذا اللفظ لو كان مما يقتضي السؤال به، والإقسام به على الله تعالى، لم يكن مثل هذا مما يجوز أن يعتمد عليه في الأحكام؛ لأنه أولاً لم يثبت، وليس في الآية مايدل عليه، ولو ثبت لم يلزم أن يكون هذا شرعاً لنا (18).

________________________________
(1) (2/ 263) وقال بعده: "أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير، وهو غريب من حديثه". قال الذهبي في التعليق على هذا النص: قلت: لا ضرورة في ذلك، فعبد الملك متروك هالك.
(2) انقر الرابط هناhttps://mohhanoona.blogspot.com/2020/06/3.html
(3) أي من أكاذيب عبد الملك بن هارون وكان شيعياً.
(4) انظر السيرة لابن هشام (1/ 211 - 214) . والروض الأنف (2 /326 - 329).
(5) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (2 /74 - 76) . ودلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 96 - 97).
(6) انظر الدر المنثور (1 /216 - 218) . وتفسير ابن جرير (1/ 410 - 412).
(7) تفسير ابن جرير (1 /411).
(8) السيرة لابن هشام (1/ 211) . وتفسير ابن جرير (1/ 410) والروض الأنف (2/ 326) .
(9)  التفسير (1 /275) وهذا النص بهذا الإسناد في تفسير ابن جرير (1 /412) . قال حدثت عن المنجاب: قال: حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس به. وفي التوسل في المطبوعة عن أبي رزين. وفي المخطوطة ص 61 عن زريق وكلاهما تصحيف. والصواب أبو روق لأنه من الرواة عن الضحاك ومشهور بالتفسير وهو عطية ابن الحارث الهمداني الكوفي، صدوق، ومن الرواة عنه بشر بن خالد الكوفي، وبشر بن عمارة، انظر تهذيب الكمال (2/939) . وفي سماع الضحاك عن ابن عباس اختلاف بين علماء الحديث. 
(10) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 275 - 276) .
(11) تفسير ابن أبي حاتم (1 /275 - 276) .
(12) السيرة لابن هشام (1 /547) وفيها قال ابن إسحاق كان فيما بلغني عن عكرمة مولى ابن عباس أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو في تفسير ابن جرير بهذا الإسناد (1/ 410 - 411) وفي الإسناد ابن حميد الرازي وفيه كلام واختلاف، وقد تقدم الكلام فيه (ص 133، 134)، ومحمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، قال الحافظ: مدني مجهول لكن يشهد له ويقويه النصوص الكثيرة بهذا المعنى.
(13) كما في السيرة لابن هشام (1/ 547) . وتفسير ابن جرير (1/ 411) .
(14) تفسير ابن أبي حاتم (1/ 275 - 276) .
(15) انظر قصة بني قينقاع في السيرة لابن هشام (3/ 47 - 50) .
(16) انظر غزوة بني قريظة في السيرة لابن هشام (3/ 233 - 256). وتفسير ابن جرير (18/ 149 - 155). وتأريخ اليعقوبي (2/52) .
(17) انظر قصة بني النضير وجلائهم في السيرة لابن هشام (3 /190 - 202) . وصحيح البخاري. 65 - التفسير - تفسير سورة الحشر، حديث (4884، 4885) وتفسير ابن جرير (28 /27 - 49) وتأريخ اليعقوبي (2/ 49) .
(18) كما قال تعالى: {لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} (المائدة: 48)، وقد ثبت وضع ذلك الأثر، ولله الحمد، وكفى الله المؤمنين القتال.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق