بقلم: أ. محمد حنونة
تمهيد/ اقتضت حكمة الملك العلام ظهور قومٍ من الأعلام في غرة كل قرن وزمان، يجددون ما اندرس من معالم الدين، ويُجلُّون ما خفي من علوم الكتاب والسنة، ويقومون بأعباء الحوادث؛ وقد أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، بقوله في الحديث الصحيح: «إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها».
فكأنه لا بُدَّ عند رأس كل مائة سنةٍ منحةٍ عظيمة تُبدد جميع المحن، فتجبر كسر المسلمين، وتلمُّ شعثهم، وتجمعهم على كلمةٍ سواء..
واتفق العلماء: على أن لهؤلاء المجددين شروطاً أعظمها كونهم علماء بالدين ظاهراً وباطناً، ناصرين للسُّنة وأهلها، وقامعين للبدعة وأهلها، يعمُّ علمهم وخيرهم أهل زمانهم، فيُجددون للدين أمره، ويشدون للحقِّ أزر.
واختلفوا في رأس المائة: هل هو أولها أو آخرها ؟ فرجَّح أكثرهم: أنه من تأتي عليه رأس المائة وهو حيٌّ.
واختلفوا: في المُجدد، هل يكون فرداً مطلقاً أو يصدق على الأفراد من كل طائفة من المفسرين والفقهاء والمحدثين ؟ والصحيح أنه يصدق على فرد من كل طائفةٍ لعموم "مَن"، ويجوز أن تجتمع صفات التجديد كلها في شخصٍ واحدٍ، كما كان عمر بن عبد العزيز في المائة الأولى.
واختلفوا: هل يُشترط كون المُجدِّد من آل بيت النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ وقد أطال السُّيوطيُّ البحث في هذه المسألة جداً، والصَّحيح الذي عليه الجمهور من المحققين أنه لا يُشترط ذلك، ورجحه ابن السبكي.
واختلفوا: في التجديد هل يكون عاماً مطلقاً بحيث يعمُّ أهل الأرض، أو فيها نوع عموم ؟ والصواب الثاني؛ لأن الانتفاع به قد يكون محصوراً في قطره أو بلده أو الناحية التي يسكنها، أو الفئة والمذهب الذي ينتسب إليه، وقد يعمُّ نفعه بلاد المسلمين جميعاً.
واختلفوا: في كون لمجدد أفضل أهل زمانه، أم قد يوجد من هو أفضل منه ؟
والصحيح أنه قد يكون في أثناء المائة من هو أفضل من المجدد على رأسها، وإنما اختصَّ رأس المائة بالتجديد لانخرام علماء المائة غالباً، واندراس السنن، وظهور البدع؛ فيحتاج إليهم حينئذٍ؛ فيأتي الله من الخلف بعوضٍ عن السَّلف.
واختلفوا: فيمن هو المجدد على آخر المئين، هل هو عيسى أو المهدي ؟ واختار القرطبي عيسى عليه السلام دون المهدي، ولا شكَّ أن عيسى عليه السلام أفضل من المهدي.
وهذا التعيين للمجددين وترتيبهم هو على سبيل الظنّ والاجتهاد، والظنُّ يُخطئ ويُصيب، ويذكر العلماء في هذا الباب من يُرجحونهم لهذا الوصف من العلماء، والفقهاء، والمحدثين، والمفسرين، وكلٌّ يميل إلى طريقته وفنِّه، وكلهم يستند في ترجيحه إلى قرائن الأحوال الظاهرة لذلك العالم: من الاشتهار بالعلم والديانة، ومدى انتفاع الناس بعلمه، وقد اجتهد بعض المتأخرين في تنزيل هذا الحديث على بعض المتقدمين من العلماء المشهورين والأئمة المصلحين، من باب بيان الفضل لأهل الفضل؛ والله أعلم بمن كان لذلك أهلاً، رحمة الله على الجميع، وحشرنا في زمرة العلماء العاملين..
وقد ذكر الإمام السيوطي في هذا الجزء العلماء الذين يرجحهم أن يكونوا المقصودين من هذا الحديث؛ فيذكر من يرجح من العلماء في كل مائة سنة من رأس المائة الأولى وحتى القرن الثامن الهجري ، فذكر في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وفي المائة الثانية الشافعي واختلف فيمن بعد ذلك؛ وكان السيوطيُّ رحمه الله ألَّف هذا الجزء في العام (899 هـ) كما ذكر ذلك أثناء الكتاب.
قلتُ (محمد): ولا ينطبق وصف التجديد على أهل البدع والأهواء من المتصوفة والرافضة، وإن وصلوا إلى الغاية في الاجتهاد، وبلغوا أقصى مراتب العلوم، وكيف يحيون السُّنن وهم أعداؤها، وكيف يمحون البدع وهم أهلها، وكيف يقمعون الغالين وجل صناعتهم التحريف والتأويل والانتحال، ولو اشتهروا غاية الاشتهار، لأنهم لا يستأهلون وصف المجددية، وإنما هم يُجددون البدع والضلال في الأمة، نسأل الله تعالى أن يُسلِّم الأمةَ منهم ومن مكرهم.
وقال الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس" (ص 49):
"ولعلَّ الله إن فسح في المهلة أن يُسهِّل لي جمع ذلك في جزءٍ مفرد، أُبيِّنُ فيه من يصلح أن يتصف بذلك في رأس المائة الثالثة، وكذا ما بعدها إن شاء الله تعالى".
قال السيوطيُّ في هذا الكتاب (ص 61):
وقد رأيتُ فهرسة تصانيفه أنه جمع مسودة الكتاب المذكور، وسماه "الفوائد الجمَّة في من يُجدد الدين لهذه الأمة"، ولم أقف عليه إلى الآن مع شدة تطلبي له".
على رأس المائة الأولى:
-عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي العمري (ت 101 هـ).
-يحيى بن آدم الكوفي: ثقةٌ، حافظٌ، فاضل (ت 83 هـ).
-محمد بن علي الباقر (ت 100 هـ)
-القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (ت 106 هـ).
- سالم بن عبد الله بن عمر (ت 106 هـ).
-مجاهد بن جبر (ت 101 هـ).
- عكرمة مولى ابن عباس (ت 107 هـ).
- عطاء بن أبي رباح (ت 114 هـ).
- طاووس بن كيسان اليماني (ت 106 هـ).
- مكحول الشامي (ت 112 هـ).
- عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103 هـ).
- الحسن بن أبي الحسن البصري (ت 110 هـ).
- محمد بن سيرين (ت 110 هـ).
- عبد الله بن كثير المكي القارئ (ت 120 هـ).
- محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124 هـ).
- إياس بن معاوية بن قرة المُزني (ت 122 هـ).
على رأس المائة الثانية:
-المأمون عبد الله بن الرشيد العباسي، أمير المؤمنين (ت 218 هـ).
- محمد بن إدريس الشَّافعيّ (204 هـ).
-الحسن بن زياد اللؤلؤي الحنفي (ت 204 هـ).
- أشهب بن عبد العزيز المالكي (ت 204 هـ).
- أحمد بن حنبل (ت 241 هـ).
- علي بن موسى الرضى (ت 203 هـ).
- يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي القارئ (ت 205 هـ).
- يحيى بن معين (ت 233 هـ).
- معروف بن الفيزران الكرخي -أحد الزهاد (ت 200 هـ).
على رأس المائة الثالثة:
- المقتدر بالله جعفر بن أحمد العباسي أمير المؤمنين (ت 320 هـ).
-أبو العباس أحمد بن عمر بن سُريج الشَّافعيّ (ت 306 هـ).
- أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الحنفي (ت 321 هـ).
- أحمد بن شعيب بن علي النَّسائي (ت 303 هـ)، صاحب "السنن".
-أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت 324 هـ)، صاحب "الإبانة".
-وأبو نُعيم عبد الملك بن محمد الاسترآبادي الجرجاني (ت 323 هـ).
- محمد بن جعفر بن جرير الطبري (ت 310 هـ) صاحب "التفسير".
على رأس المائة الرابعة:
- القادر بالله أحمد بن إسحاق بن المقتدر، أمير المؤمنين (ت 422 هـ).
- أبو الطيِّب سهل بن محمد العجلي الصعلوكي الشَّافعي (ت 387 هـ).
- أبو حامد أحمد بن محمد الإسفراييني الشَّافعي (ت 406 هـ).
- أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي الحنفي (ت 403 هـ).
- أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي (ت 413 هـ).
- أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن جعفر الحنبلي (ت 404 هـ).
- أبو بكر محمد بن الطيب بن الباقلاني (ت 403 هـ) على المشهور.
-أبو إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ).
على رأس المائة الخامسة:
-أمير المؤمنين المسترشد بالله: الفضل بن أحمد الإمام أمير المؤمنين (ت 529 هـ).
- أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الشَّافعي (ت 505 هـ)، وقد ادَّعى ذلك لنفسه كما قاله العراقي نقلاً عن كتابه "المنقد من الضلال".
- القاضي فخر الدين محمد بن علي المروزي الحنفي (ت 512 هـ).
- أبو الحسن علي بن عبد الله الزغواني الحنبلي (ت 527 هـ).
-أبو الطَّاهر أحمد بن محمد السِّلفي الشافعي (ت 576 هـ).
على رأس المائة السادسة:
- فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي (ت 606 هـ)
-عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الرافعي (ت 623 هـ)
-عبد الغني المقدسي . ذكره الذهبيُّ في "السِّير".
-محيي الدين النواوي (ت676 هـ). ذكره الجمال الإسنويّ.
على رأس المائة السابعة:
- أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن دقيق العيد (ت 702 هـ).
على رأس المائة الثامنة:
-سراج الدين عمر بن رسلان البُلقيني (805 هـ) .
-محمد بن عبد الدائم، القاضي المعروف بابن بنت المليق (ت 797 هـ).
- شمس الدين محمد بن محمد الجزري (ت 833 هـ).
- عبد الرحيم بن الحسين، زين الدين العراقي (ت 806 هـ).
على رأس المائة التاسعة:
وقال السيوطيُّ في خاتمة كتابه (ص 66 - 67): "إني ترجيتُ من نعم الله وفضله -كما ترجى الغزاليُّ لنفسه -أني المبعوث على رأس المائة التاسعة؛ لانفرادي عيها بالتبحُّرِ في أنواع العلوم ...وتصنيفي في جميع ذلك المصنفات البارعة التي لم أُسبق إلى نظيرها، وعدتها خمسمائة مؤلَّف، وقد اخترعتُ أصول اللغة ودونته، ولم أُسبق إليه، وهو على نمط علم الحديث، وعلم أصول الفقه … وسارت مصنفاتي وعلومي في سائر الأقطار … ولا مشارك لي في جميع ما ذكرته، ولا اجتمع لأحدٍ من الموجودين الآن مجموع العلوم التي اجتمعت لي، ولا وصل الآن إلى رتبة الاجتهاد المطلق غيري فما أعلم…"، وذكر نسبه رحمه الله تعالى.
ويقول رحمه الله عن نفسه (ص 75):
وَهَذِهِ تَاسِعَة الْمِئِين قَدْ … أَتَتْ، وَلَا يُخْلَف مَا الْهَادِي وَعَدَ
وَقَدْ رَجَوْتُ أَنَّنِي الْمُجَدِّدُ ... فِيهَا، فَفَضْلُ اللَّه لَيْسَ يُجْحَد
ومن جميل ما ذكره السيوطي مما حصل من الفتن على رأس كل مائة عام:
-على رأس المائة الأولى: الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد عمَّ ظلمه جميع البلاد، حتى جاء: عمر بن عبد العزيز.
-على رأس المائة الثانية: فتنة المأمون والقول بخلق القرآن، حتى جاء الشافعيُّ وقال بكفر تلك المقالة.
- وعلى رأس المائة الثالثة: كانت فتنة القرامطة.
- وعلى رأس المائة الرابعة: كانت فتنة الحكام بأمر الله العبيدي الذي ادعى الألوهية.
- وعلى رأس المائة الخامسة: استيلاء الفرنجة على كثير من البلاد الشامية وبيت المقدس.
- وعلى رأس المائة السادسة: خروج التتار، واجتياح العالم الإسلامي.
- وعلى رأس المائة السابعة: الغلاء وفناء عظيم بديار مصر والشام، حتى أُفنيت الكلاب والحمير وأكلها الناس.
- وعلى رأس المائة الثامنة: فتنة تيمورلنك، واستيلاء الفرنجة على بلاد الأندلس وغرناطة، وظهور الخوارج ببلاد التكرور أفنوا البلاد والعباد، عموم الجهل في جميع الأقطار، وذهاب العلماء بكثرة موتهم.
ملاحظات على هذا البحث:
1-لم يستوعب الإمام السيوطي المجددين على رأس كل مائة سنة، وإنما ذكر ما اشتهر عند بعض العلماء.
2-ليس ترتيب العلماء لهؤلاء المجددين أو اختيارهم توقيفي؛ وإنما هو محض ظن بقرائن مشروعة من الاشتهار، وعلو الرتبة في العلم، وكثرة التصانيف.
3-حديث المجدد على رأس كل مائة سنة ثابتٌ صحيحٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
4-نلاحظ أن الكتاب حوى بعض الأحاديث الموضوعة، واشتمل على بعض الغلو -كقوله في الغزالي (ص 47): لو كان بعد النبيِّ نبيٌّ لكان الغزالي، وهذا ذميمٌ لا يجوز، قال: ولو كان نبياً فتحصل معجزاته ببعض مصنفاته. ومعلومٌ أن مصنفاته فيها السمين والضعيف.
5-لا مانع من تنزيل العلماء هذا الحديث على كل من نبغ في عصرهم من الفقهاء والمحدثين والأكابر من أهل العلم.
6-هذا الحديث لا ينطبق على المبتدعة من المتصوفة والشيعة والمعتزلة والمتكلمين من أهل زماننا. والله الموفق.