قصيدة عنوان الحكم
لأبي الفتح علي بن محمد الحسين البستي
(330 -400 هـ)
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد: هذه قصيدة ناصحةٌ حكيمة، للأديب الشاعر اللبيب أبي الفتح علي بن محمد بن الحسين البُستي، وهي من خير ما ينتفع به الطلبة، والناشئة، وخير ما يُحفّظه الآباء للأبناء، لوضوح معانيها، وجزالة ألفاظها، وحُسن أبياتها، وكثرة الأمثال والحكمة فيها.
وهي مع وجازتها تُجسد الحكمة والأخلاق بأسلوب أدبي متين وسهل الفهم. تتألف من أبيات حكمية مختصرة، يمكن للناشئة والطلبة أن ينتفعوا بها في بناء الأخلاق والقيم. وهي تقدم نصائح عملية وحكمًا عميقة تدعو إلى التسامح، القناعة، الواقعية، والحلم في الحياة. وهي نموذج يُحتذى به في تعليم الناشئة قيم الأخلاق، الصداقة، والتعامل مع الحياة بمرونة وحكمة.
ترجمة أبي الفتح البَسْتِي لعبد الفتاح أبو غدة
هو أبو الفتح علي بن محمد بن الحسين البْستي "الشاعر الناثر" والأديب الأريب والمحدّث الفاضل، والفقيه الشافعي، وَلِدَ في مدينة بست من بلاد أفغانستان الآن في حدود سنة 330 هـ، سمِعٌ الحديثٌ الشريف من محدّئي بلاده، فسمع من أصحاب الحافظ الكبير المعمّر علي بن عبد العزيز البغوي ثم المكي شيخ الحرم وأقرانه، وأكثّر من سماع الحديث من الإمام الحافظ أبي حاتم بن جبان البُستي وكان صديقاً لبلديّه الإمام المحدّث الفقيه الأديب أبي سليمان الخَطَابي البُستِي صاحب معالم السنن وغيره من الكتب النفيسة الممتازة.
ورَوَى عنه الحديث الإمام الحاكم أبو عبد الله النيسابوري صاحبٌ «المستدرك على الصحيحين»، وأبو عثمان الصابوني، والحسين بن علي البردعي وغيرهم. قال الحاكم: «ورد نيسابور غير مرة، فأفاد حتى أقرّ له الجماعةٌ بالفضل. وهو أَوْحَدُ عصره في بابه». يعني في الأدب والشعر وحسن البيان والكتابة، إلى جانب أنه محدّث فقيه.
وقال السمعاني في «الأنساب»: «وهو أَوْحَدُ عصرهٍ في الفضل والعلم والشعر والكتابة»، ولقد كان أبو الفتح رحمه الله تعالى شاعرٌ عصره. وكاتبٌ دهره، وأديبَ زمانه، في النظم والنثر كما شهد له بذلك معاصروه.
وله شعر رائق تكث فيه الحِكُم والمعاني البديعة، كما تَشيع فيه الصّنْعة البلاغية العذبة، وله ديوان شعر مطبوع، وله مدائح كثيرة في الإمام الشافعي رضي الله عنه، وله «شرح مختصر الجُويْنِي» في فقه السادة الشافعية. ذكره له صاحبٌ «كشف الظنون».
وله نثر رائع بديع يُكيْرٌ فيه التجنيسٌ والتبديع، فمن أقواله الحكيمة التي جَرَتَ مُجرى الأمثال: من أصلّح فاسدّه أرغم حاسدّه. من أطاع غضبّه أضاع أدبّه. عاداتُ السادات سادات العادات. من سعادة جَدّك وقوفك عند حَدّك. الفهُمُ شُعاع العَقْل. حَدُ العفاف الرضا بالكفاف. المنيّة تَضحك من الأمنيّة. الدّعة رائدة الضّعّة. من حَسّنَتْ أطرافه حَسنَتْ أوصافه. أحصن الجُنّة لزومٌ السنة. العَقّل جِهْبدُ النَقْل. الإنصاف أحسَنٌ الأوصاف. إذا بقي ما قاتك فلا تأسّ على ما فاتك.
وقد ترجم له صاحبّه الإمامُ الأديب المؤرخ أبو منصور الثعالبي في كتابه «يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر» في اثنتين وثلاثين صفحة. فأطنب وأسهب في مدحه والثناء عليه، وأورد من نثره العالي وشعره البديع في مختلف الأغراض الشيء الكثير.
وله بيتان من أفضل ما قيل في رَسّْم خِطَةٍ خدمة الملوك والأمراء والحكام، وقد صاحَبّهم وعاملّهم، وهما قولّه رحمه الله تعالى:
إذا خدمت الملوك فَالْبَسُ ... من التوقي أعظم ملبسِ
وأدخل عليهم وأنت أعمى ... وأخْرُجٌ إذا ما خرجتٌ أخرّس
وقد كان هو من كتّاب الدولة السّامانية في خراسان، وارتفعت مكانه عند الأمير سُبُكيكين. وِحَدّم ابنّه يمينَ الدولة: محمود بن سُبكيكين، ثم أخرجه هذا إلى ما وراء النهر، فمات غريباً في بلدة أَوْرْجَنْد ببخارى سنة 40٠ أو بعدها بسنة أو سنتين، رحمه الله تعالى.
وقصيدته هذه تُسمّى: (عُنوانَ الجكم)، كما ذكره التاج السبكي في ترجمته في «طبقات الشافعية الكبرى»، وقال العلامة أحمد بن علي المَنِيني الدمشقي المتوفى سنة 1172 هـ في كتابه: «الفتح الوَهْبِي على تاريخ أبي نصر العُتبِي» عند ذكر العتبيّ لصاحبه أبي الفتح البستي في «تاريخه»: «وأكثّرٌ أشعار أبي الفتح البستي مقطعات. وأبياتها أبيات القصائد. وفرائد القلائد، وأطولٌ قصائده وأشهرها قافيها النونية في الأمثال، يُستهيم في حفظها وروايتها أهلُ الأدب. ويُعنَى بها الناس؛ حتى الصبيانٌ في المكتب. ومطلعها: زيادة المرءِ في دنياه نقصان ... انتهى.
وقد شرحها غيرٌ واحد من العلماء. وممن شرحها ذو النون بن أحمد السُرْمَاري البخاري ثم العَيّنتابي، المتوفى سنة 677 هـ، وِتُرجِمَتُ إلى الفارسية، ذكر ذلك صاحبٌ كشف الظنون فيه، والحقٌّ أنها قصيدة تَفيض بالنصح والهداية والتبصير، مع العذوبة والفصاحة والجزالة، وحُسِنٍ الصّنعَة البلاغية الرشيقة؛ فهي كما قال ناظمُها رحمه الله تعالى في أوائلها:
وأزع سَمْعك أمثالاً تُفصَلْها ... كما يُقَصَلُ ياقُوت ومَرْجَانُ
وهي أنطقٌ دليل على رفعة أدبه، وبلاغة بيانه، وكيّاسة فكره، وصلاح نفسه، وقد ضمّنها النصائح الغالية، والمواعظ البليغة الواعية، فهي لآلئ منثورة، وجواهر منظومة. وكلٌ بي بيت منها حكمةٌ مستقلة بنفسه، يُغني عن قراءة رسالة أو كتاب؛ فهي من خير الشعر الحِكَميٌ وأبلغِه.
قال الإمام الأديب أبو بكر الصُولي في كتابه «المصون» ص4: «وخيرٌ الشعر ما قام بنفسه، وكَمّل معناه في بيتِه، وقامت أجزاءٌ قِسمتِه بأنفيها، واستُغني ببعضها لو سّكت عن بعض، مِثلّ قول. النابغة:
فلستَ بِمُسْتَبْقٍ أخاً لا تَلْمَّهُ ... على شَعَثِ أي الرّجال المُهدْبُ؟
فهذا أجَلُ كلام وأحسَنه، ألا تَرى أنَّ قوله: (فلستٌ بمستبق أخاً لا تَلّمُه). كلام قائم بنفسه. فإن زدتَ فيه: (على شَعَثْ) كان أيضاً مستغنياً، ولو قلت: (أي الرجال المهذِّبُ؟) وهو آخِرٌ البيت، مبتدءاً به كمئلٍ أردتّه، كنت قد أَتيتَ بأحسنٍ ما قيل فيه انتهى.
ومن أجل أنَّ هذه القصيدة تضمنت النصائحٌ السامية، وجاءت على هذا المنوال، ألحقتها بكتاب (رسالة المسترشدين) للإمام المحاسبي في طبعتها الخامسة مع كثرة ما حواه الكتاب من النصائح والمواعظ والإرشاد القويم، وذلك لأن للشعر تأثيراً على المشاعر لا يُشاركه فيه النثر وإن سَمَا وَجَزل، فالشعرُ بِجَرْسِه وَوَزْنِه وجزالته وبلاغته، يفعل في النفس ما لا يفعله النثر.
وكل هذا متحقق في هذه القصيدة: (عنوان الحكم)، ولقد صَدَق أبو الفتح رحمه الله تعالى، إذ سماها أمثالاً، فقال في آخرها:
خُذْها سوائرَ أمثالٍ مُهذَّبةً ... فيها لمن يبتغي التبيان تبيان
والنَّص المثبتُ فيما يأتي استقيته من (شرح القصيدة النونية) للأستاذ حسين عوني العربكري، أحد العلماء الأدباء الأتراك، المدرسين في جامع السلطان بايزيد في إسطنبول رحمه الله تعالى. وقد فرغ من الشرح تأليفاً في أواسط شعبان المعظم من سنة ١٣١١ هـ، وطبع في إسطنبول سنة ١٣١٢ هـ، في ۱۲۷ صفحة من الحجم اللطيف،وجاء في بعض الأبيات روايات متعددة، أشار إلى بعضها الشارح حيناً، ووقفت عليها حيناً آخر في مصادر ترجمة أبي الفتح البستي أو مصادر قصيدته، فانتخبت من تلك الروايات أفضلها بحسب نظري الضعيف وأثبته، دون الإشارة إلى الروايات الأخرى، أو إلى المصادر المستفاد منها، خشية الإثقال بكثرة التعليقات، والانتقال بالقصيدة من حال الاتعاظ بها والاسترشادِ، إلى حال التحقيق العلمي للنصوص والتمحيص فيها والموازنة بينها، وعلقت على بعض الأبيات منها كلمات يسيرة، لإيضاح معناها، وبيان مغزاها، وتركت ما كان من أبياتها واضح المعنى والمبنى دون تعليق.
ولقد استمد أبو الفتح حكمته وشعره التعليمي، الذي شمل معظم نواحي الحياة والمجتمع والكون من مصادر عديدة، أهمها:
۱ - تجاربه وآراؤه الخاصة في الحياة، ولقد كانت نفسه غنيةً بذلك لأنه تقلب بين سَرَّاءِ العيش وضَرَّائه، وذاق شُهَدَهُ وصَابَهُ، واتصل بالناس اتصالاً وثيقاً عميقاً، على اختلاف طبقاتهم وتنوع مذاهبهم ومشاربهم .
٢ - ثقافته الواسعة التي كانت تشمل الثقافة العربية الإسلامية، ثم الثقافة الفارسية بحكم بيئته وموطنه، ثم الثقافة اليونانية التي تعلمها المسلمون في وقت مبكر وبَرَعُوا فيها، وأخيراً الثقافة الهندية التي عرفها المسلمون عن كتب وكان الفضل في ذلك يرجع إلى أمير غزنة ناصر الدين سبكتكين، ثم إلى ابنه السلطان محمود من بعده وغزواتهما الموفقة فيها.
هذان المصدران اللذان أمدًا أبا الفتح بحكمته، لم يكونا بالطبع منفصلين في شعره، بل كان كل منهما يُمِدُّ الآخر ويقويه، بحيث تلازما ولم يطع أحدهما على الآخر، فثقافته كانت تقرر تجاربه وتؤكدها، كما أن تجاربه كانت تُبرز هذه الثقافة وتجعلها نابضة بالحياة.
ويمكننا أن نُورِدُ هنا بعض الأمثلة على حكمة أبي الفتح ونظراته في مختلف مناحي الحياة، وما استخدمه لتوضيحها وتقريرها من ألوان ثقافاته المختلفة، فمن ذلك قوله:
خذ العفو كما وأمر بعُرْفٍ ... أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام ... فمُستَحْسَنٌ من ذوي الجاه لين
فالبيت الأول مقتبس من قوله تعالى: (خُذِ العَفْوَ وَأَمُرْ بِالعُرْفِ وأعرض عن الجاهلين)، والثاني من قوله جل شأنه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ من الله لنت لهم).
وقوله:
لا تَيْأَسَنَّ لِعُسْرَةٍ فوراءَهَا ... يُسْرانِ وَعْداً ليس فيه خِلافُ
كم عُسْرَةٍ قَلقَ الفتى لنزولها... لله في إعسارها ألطاف
البيت الأول مقتبس من قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ العُسْرِ يسراً)، والبيت الثاني من قوله تعالى: (عَسَى أَن تَكْرَهُوا شيئاً وهو خير لكم).
ومن اقتباساته من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قوله:
بين من يُعطي ومن يَأْ ... خُذُ في التقدير عَرْضُ
وعلى الأخذ أن يَشكُرَ... إِنَّ الشكر فَرْضُ
فيد المعطي: سَماءُ ... وَيَدُ الآخذ: أرض
فهو تصوير لقوله صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السُّفْلَى)، وقوله وهو مأخوذ من الحكمة العربية الإسلامية:
نصيبك من سَفِيهِ أو فَقِيه ... فإن سالمت فالفقهاء حُسْنُ
ففي هذا وذا حصنٌ وحُسْنُ ... وإن حاربت فالسفهاء حِصْنُ
مأخوذ مما يُروى عن عبد الله بن عمر، من أنه كان إذا سافر، سافر معه بسفيه، فقيل له في ذلك، فقال: إذا قابلنا سفيه قوم رَدَّ عنا سفاهته، فإنا لا ندري بم تقابل به السفهاء.
ومن اقتباساته من الحكمة الفارسية قوله :
إذا وليتَ فَاعْمُرُ ما تَلِيهِ ... بِعَدْلِكَ فالإمارة بالعِمَارَة
وأفْضَلُ مُستشار كلَّ وقت ... زمانك فاقتبس منه الإشارة
مأخوذ من وصية أَردَشِير بن بابك إلى الملوك من بعده :"لا مُلْكَ إلا بالرجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا بالعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل".
ومن أخذه من الفلسفة اليونانية، التي تعتبر العقل هو المقياس الصحيح للعلم قوله :
إذا نقل الراوون قولاً ولم يكن ... فأولى بذي التمييز والحزم عَرْضُه
له من ذوي الإتقان والذهن مأخذ ... على العَقْلِ إِنَّ العَقْلَ للذهنِ جِهْبِذُ
ومن استعماله لبعض الحكم الهندية قوله :
إذا خدمت الملوك فالبس ... من التوقي أعزُّ مَلْبَس
وادخل إذا ما دخلت أعمى ... واخرج إذا ما خرجت أخرس
فهو مأخوذ من الحكمة الهندية التي تقول: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم.
وقوله :
قيل للكُرْكِي إِذْ قا ... م على الرجل الوحيدة
لم لا تَعْتَمِدُ الرِّجْليـ ... ن في الأرض الوطيدة
قال: إشفاقاً على النا ... بت فيها أَنْ أُبِيدَه
ونحن نحس في هذه الأبيات بنفس الروح التي تسري في قصص كليلة ودمنة، وحكايتها على ألسنة الطيور والحيوانات.
لقد اقتصرنا على ذكر بعض الأمثلة لاستمداد أبي الفتح من الثقافات المختلفة في شعره، لأن الأمر يطول بنا لو حصرنا كل ما ورد في شعره، واستقصينا الأساس الذي أخذ منه، لكن بصفة عامة يمكننا أن نقول: إن أبا الفتح فضلاً عما استخدمه من ألوان ثقافته الإسلامية الواسعة؛ فقد استمد من معارف الهند في النجوم والأخلاق، وما عرف من الفرس من كتب الأخلاق والسياسة والنجوم.
وظل أبو الفتح قريباً من سطح هذه الثقافات، يأخذ منها ما كان متفقاً مع العقل والتجارب الإنسانية الصحيحة، التي كسبها الإنسان في مسيرته الطويلة نحو التقدم، فيُودِعُها شِعرَه، رغبة في تثقيف عقول الناشئة، واستفادتهم من هذه التجارب الغالية في حياتهم.
وتحقيقاً لهذه الغاية لم يكتف أبو الفتح بما نظمه من مقطعاته في الحكمة، بل آثَرَ آخِرَ الأمر أن ينظم جُلَّ ما قاله في هذا الغرض، في قصيدة طويلة تُعدُّ أطول ما نظم أبو الفتح من شعر، فهي في ستين بيتاً، ضم فيها كل ما فرقه في (ديوانه) من حكمة، مُبسطاً لها ملخصاً إياها؛ كي يسهل حفظها وفهم ما فيها من معاني الحكمة والفضيلة.
وقد أراد الله لهذه القصيدة أن تذيع وتنتشر، وأن يختارها المعلمون في مختلف بقاع العالم الإسلامي، ليحفظها الطلبة، لما لَمَسُوا فيها من قُرب الفكرة وحسن التوجيه. وكان أن طار معها ذكر أبي الفتح، فلا يكاد يُذكر حتى تُذكر قصيدته النونية، التي يحسن أن نتحدث عنها بشيء من التفصيل فيما يلي:
القصيدة النونية:
نظم أبو الفتح تلك القصيدة من بحر البسيط الكامل في تفاعيله، وأودع فيها كثيراً مما تفرق من قوله في الحكمة في ديوانه، مبسطاً لها ملخصاً إياها، كي يسهل حفظها وفهم ما فيها من مبادئ الأخلاق والفضيلة.
ولقد قدم لقصيدته بمقدمة عامة في أربعة أبيات، ذكر فيها بعض الحقائق الهامة في حياة الإنسان، والتي تظهرُ له بالتأمل وعند التحقيق فيها، وليس بالنظرة العابرة التي تغتر بالظواهر، فيقول:
زيادة المرء في دنياه نقصانُ ... وكَسْبُه غَيْرَ مَحْض الخير خُسْرانُ
وكل وجدانِ حَظِّ لا ثبات له .... فإن معناه في التحقيق فقدان
ثم ينتقل إلى تأكيد هذا المعنى بأمثلة حسية، مستعملا الاستفهام الإنكاري للتسليم بصحتها، فيقول:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً ... بالله هل لخراب العمر عُمران؟
ويا حريصاً على الأموال يجمعها ... أُنْسِيتَ أَنَّ سُرور المال أحزان؟
أي إنك تستطيع تعمير ما خَرِبَ من دارك بمقدرتك، فهل تستطيع مثل ذلك فيما حرب من العُمر؟ وأنت أيها الحريص على المال تجمعه من كل وجه، هل نَسِيتَ أنَّ السرور الذي يأتي من وراء ذلك، هو في حقيقته حُزن، لما ينتاب صاحبه من هم بالمحافظة عليه، وخشيته الدائمة عليه من الضياع، ثم من محاسبة عليه في الآخرة من إنفاقه في وجهه وغير ذلك .
كل هذا صحيح لا جدال فيه، وإذا تقرر ذلك عندك، فاسمع مني هذه النصائح الخالصة:
زع الفؤاد عن الدنيا وزُخْرُفِها ... فَصَفْرُها كَدَرُ والوصلُ هِجْرانُ
وارع سَمْعَك أمثالاً أفصلها ... كما يُفصَّلُ ياقوت ومَرْجانُ
ثم يبدأ أبو الفتح بعد ذلك بإيراد هذه الأمثال أو الفضائل النفسانية، التي تُسبّب السعادة الحقيقية لا الظاهرية للإنسان، وبدأ بالإحسان، فيَذكُرُ أنَّ فيه العِزَّ كلَّ العز لفاعله، لأنه يتمكن به من استعباد القلوب وامتلاكها، وهو الوسيلة المؤكدة للوصول إلى ذلك، ثم يذكر بعد ذلك العفو عن المسيء، وهو أيضاً نوع من الإحسان والتفضل، ثم مَدَّ يَدَ المعونة لكل من يضع ثقته في شخصك، فهي شيمة الحر من الرجال:
أحسن إلى الناس تستعيد قُلوبَهُمُ ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
وإن أساء مسيء فليكن لك في ... عُروض زَلَّتِهِ صَفَح وغُفران
وكن على الدهر معواناً لذي أمل ... يرجو نَدَاكَ فَإِنَّ الحُرَّ مِعوان
ثم ينتقل أبو الفتح بعد ذلك إلى تقوى الله والاستمساك بحبله المتين، وتوجيه الطلب إليه وحده، فهو القادر على إجابة الطلب والنصرة، وكلُّ من عداه في عجز وخذلان، ويُعالج هذا في ثلاثة أبيات.
ويعود أبو الفتح مرة ثانية إلى الإحسان، ويبدو أن هذه القضية كانت تشغله لما يراه من كثرة المحتاجين إليه، وقصور القادرين عن عمله في عصره، لهذا نراه يحض على ذلك مبيناً شتى جوانب الخير والفائدة فيه:
من كان للخير مناعاً فليس له ... على الحقيقة إخوان وأخدان
من جاد بالمال مال الناس قاطبة ... إليه والمال للإنسان فَتَّانُ
ثم يوالي أبو الفتح سَرْدَ حِكَمِه ومواعظه، ذاكراً الحكمة وما يستفيده المرء لو عمل بها، فيتحدَّث عن مُسالمة الناس وجدواها لسلامة الإنسان:
من سالم الناسَ يَسْلَم من غوائلهم ... وعاش وهو قرير العين جَزْلانُ
وذاكراً العقل وما في مصاحبته من هزيمة للحرص:
من كان للعقل سلطان عليه غدًا ... وما على نفسه للحرص سُلطان
ثم ذاكراً ما في طبيعة الناس عموماً والإخوان خصوصاً، من بغي وعدوان وخيانة، ثم يُحذِّرُ من فعل الشر وعاقبته الوخيمة، ومصاحبة الأشرار، وما في ذلك من خطورة تُعادل الخطورة التي يتعرض لها من يَضَعُ صِلا لا شفاء من سُمِّهِ بين ملابسه، ويُعالج ذلك في خمسة أبيات.
وبعد هذا التحذير يعود أبو الفتح إلى عَدَدٍ آخر من الفضائل، آمراً بها حاثاً عليها، ويكون الرفق من أهم هذه الفضائل، فهو يأمر به ويُحذِّرُ من نقيضه:
ورافق الرفق في كل الأمور فلم... يَنْدَم رَفِيقٌ ولم يَذْمُمُهُ إِنسانُ
ولا يَغُرَّنَّكَ حَقٌّ جَرَّه خَرَق ... فالخُرْقُ هَدْمٌ ورِفقُ المرء بنيان
ثم يعود مرةً أخرى إلى الإحسان بعد أن تحدث عنه مرتين من قبل، لكنه في هذه المرة لا يأمر به فحسب، بل يأمر بتعجيله قبل فوات القدرة عليه:
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة ... فلن يدوم على الإحسان إمكان
ثم يواصل الحديث بعد هذه النصائح التي تتعلق بالروابط بين الإنسان ومجتمعه، فيذكر بعض النصائح الخاصة بالإنسان في ذات نفسه. فيتكلم عن صيانة الوجه عن التبذل، فالأحرار لا يتبدلون، وعن عدم التكاسل في الخير، وعن التحلي بالتقى والعلم، فبدونهما لا تكون للإنسان فائدة على الحقيقة:
صُنْ حُرَّ وجهك لا تَهْتِكَ غِلائلَهُ ... فَكُلُّ حُرَّ لَحُرِّ الوجهِ صَوَّانُ
دع التكاسل في الخيراتِ تَطلبها ... فليس يسعد بالخيرات كسلان
لا ظل للمرءِ يَعْرَى من تُقَى وَنُهَى ... وإن أظلته أوراق وأغصان
ثم ينتقل أبو الفتح إلى ذكر بعض الحقائق المؤسفة، التي تلاحظ في المجتمع، من أن الناس مع ذي الجاه والسلطان يعينونه ويُبجِّلونه، فإذا انقضى سلطانه انفضوا عنه ونبذوه، كذلك فإنَّ المال يجعل العَبِي عند الناس بليغاً، وعَدَمَهُ يجْعَلُ أفصح الفصحاء عبياً لا يُبين:
والناس أعوان من واللَّهُ ... دَوْلَتُهُ وَهُمْ عليه إذا عادته أعوان
سَحْبَانُ من غير مال باقِلُ حَصِرٌ ... وباقل في ثراء المال سَحْبانُ
وهي لا شك مقاييس خاطئة، تدعو إلى العجب والغرابة.
ثم ينتقل أبو الفتح إلى التحذير من بعض ما يعلمه الإنسان، مما ينطوي على الخطورة في العواقب فيقول:
لا تُودِعِ السِّرَّ وَشَاءَ بِه مَذِلًا ... فما رَعَى غَنَماً فِي الدَّوِّ سِرْحَانُ
لا تحسب الناس طبعاً واحداً ... فلهم غرائز لستَ تُحصِيهِنَّ ألوان
ما كل ماءٍ كَصَدَّاءٍ لِوارِدِهِ ... نعم ولا كُلُّ نَبْتٍ فَهُوَ سَعْدانُ
لا تَخْدِشَنَّ بَمَطْلِ وَجْهَ عَارِفَةٍ ... فَالبِرُّ يَخْدِشُهُ مَطْلُ وَلَيَّانُ
إلى قوله:
فلا تكن عَجِلاً في الأمرِ تَطْلُبُه .... فليس يُحْمَدُ قَبلَ النَّضْحِ بُحْرَانُ
ويتأمل أبو الفتح في ما يحتاج إليه الإنسان على الحقيقة في هذه الحياة، فيقول:
كفى من العيش ما قد سَدَّ من عَوَزٍ ... ففيه لِلحُرِّ قُنْيَانٌ وغُنْيَانُ
حَسْبُ الفتى عَقْلُه خِلَّا يُعاشِرُه ... إذا تحاماه إخوان وأخْدَانُ
ثم يوجه تحذيراً شديداً إلى الظالم، ويُخوفه عاقبة ظلمه، فيقول:
يا ظالماً فَرِحاً بالعزُّ سَاعَدَهُ ... ما استَمْرَأَ الظلم لو أنصفت آكِلُهُ
إن كنتَ فِي سِنَةٍ فَالدَّهْرُ يَقْظَانُ وهل يلَذُّ مَذاقَ المَرْءِ خُطْبَانُ
ثم يتحدث عن التحلي بالتقوى والعقل، ثم عن فوائد العلم ومساوي الجهل. ثم يُزجي النصيحة بعد ذلك إلى الشباب والشيوخ، أما الشباب فنصيحته لهم هي ألا ينتشوا بكأس الشباب وما تُتيحه لهم من متعة، فالنشوة تحجب عنهم إدراك الحقيقة، وهي أن هذه الفترة لن تدوم كما يُخيَّل إليهم، وأنَّ المَنِيَّةَ كم اختطفت من الشباب الأقوياء قبل الشيوخ الكبار الضعفاء:
يا رافلاً في الشباب الرَّحْبِ مُنْتَشِياً ... من كأسه هل أصابَ الرُّشْدَ نَشْوَانُ
لا تغتررْ بِشَبَابِ رَائِقِ نَضِرٍ ... فكم تَقدَّمَ قَبْلَ الشَّيبِ شُبَّانُ
أما نصيحته إلى الشيوخ فهي أن يتنبهوا ويكونوا نُصَحاء لأنفسهم، ولو فعلوا لا متنعوا عن كثير من الوجوه التي لا تليق بأمثالهم، والتي لو وَجَدْنا عُذْراً للشباب في ارتكابها، لما وجدنا للشيوخ مثله مهما حاولنا:
ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك ... لم يكن لمثلك في الإسراف إمعان
هَبِ الشَّبِيبَةَ تُبْدِي عُذْرَ صَاحِبِها ... ما عُذْرُ أَشْيَب يستهويه شيطان؟!
ويختم أبو الفتح قصيدته بالتحدث عن الله، وواسع عفوه وكريم مغفرته لكل الذنوب، ما دام المرء عامر القلب بالإيمان والإخلاص:
كل الذنوب فإِنَّ اللهَ يَغْفِرُها ... إِنْ شَيَّع المرء إخلاص وإيمان
وكل كسر فإنَّ الله يَجْبُرُهُ ... وما لكسر قناة الدين جبران
ثم يحث على حفظ قصيدته والحرص عليها، فهي أمثال سائرة مهذبة بالتجربة، فيها تبيان لكثير من وجوه الخير في الدين والدنيا، ولا يضرها أن لم يَقُلْها شاعرٌ فَحْل كحسان شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالعبرة بالقول نفسه وما فيه من حكمة رائقة أو معنى بديع، ولا عبرة بعد ذلك بقائله:
خُذها سوائر أمثال مهذبةً فيها لمن يبتغي التبيان تبيان ما ضَرَّ حَسَّانَها - والطبع قائلها - أن لم يَقُلْها قريعُ الشَّعْرِ حَسَّانُ ومن دراسة هذه القصيدة تبدو للمرء بعض الملاحظات، أهمها: أن أبا الفتح عاد إلى ارتداء ثوب المعلم بطريقة قوية ومباشرة، فقد فرغ لهذه القصيدة بكل جهده وبلاغته وأطال فيها، وكأنه في حَلْقَةِ دَرْس بين طلبة يوجههم ويثقفهم، كما كان يفعل في الماضي إذ كان في شبابه معلماً.
لكنه في هذه المرة عاد مُعلِّماً مُحمَّلاً بالكثير من التجارب، التي اكتسبها من حياته السياسية والاجتماعية، واحتكاكه بالكثير من النماذج البشرية، مما أكسبه نظرةً واعيةً وبصراً بمختلف شئون الحياة.
كذلك فلم يكن تلاميذه هذه المرة مجموعةً خاصةً تتلقى درساً في فرع خاص من فروع المعرفة، بل اتسعت حتى شَمِلَتْ كُلَّ فَرْدٍ من أفراد الإنسانية له عقل ووعي، يُريد بهما معرفة الطريق السليمة التي توصل إلى الخير والسعادة.
ولقد حشد أبو الفتح لرسم هذه الطريق مجموعةً كبيرةً من الفضائل التي يجب أن يتحلى بها الإنسان، ويتصف بها لبلوغ غايته في السعادة
فتحدث عن الصفاتِ الخُلُقِيَّة ومنها: الإحسان، وتعجيله، والعفو عن المسيء، والرفق في كل الأمور، وبشاشة الوجه، والتودد إلى الناس، واللطف.
والاستمساك وعن الصفات الدينية ومنها: اتباع طريق الله، بحبله، والقناعة، والزهد في متاع الدنيا، والتمسك بأوامر الدين، والابتعاد عن الظلم.
وعن الصفاتِ العِلْمِيَّة ومنها: التمسك بالعقل، وعَدَمُ اتباع الهوى، والحرص على التعلم، وفصاحة اللسان، إلى غير ذلك.
ولقد استعمل أبو الفتح لصياغة هذه المعاني أسلوباً سهلاً مبسطاً، ليس فيه شيء من الألفاظ الغريبة أو المعقدة، واختار لقصيدته بَحْرَ البسيط، وهو بحر زاخر جياس يتسع للفكرة، وينهض بما يُحمله الشاعر من عناصر القُوَّةِ والتأثير.
كما وشّح معانيه بصور كثيرة من البيان والبديع، ومن أمثلة تشبيهاته واستعاراته الموفقة قوله:
من يَزْرَعِ الشَّرَّ يَحْصُدْ فِي عَوَاقِبِهِ ... وفي ندامة ولِحَصْدِ الزَّرْعِ إِيَّانُ
من استنام إلى الأشرار نام ... قميصه منهم صلَّ وتُعبَانُ
وقوله:
أحسن إذا كان إمكانٌ ومَقدِرَةٌ ... فلن يَدُومَ على الإحسان
إمكان والرُّوضُ يَزْدَانُ بالأنوار فاعِمَةٌ ... والحُر بالعدل والإحسانِ يَزْدَانُ
أما استعماله للبديع فقد كَثُرَ، حتى لا يكاد يخلو بيت من بعض أنواعه، ومن أمثلة ذلك قوله:
زيادة المَرْءِ في دُنياهُ نُقصانُ ... وَرِبْحُهُ غَيْرَ مَحْضَ الخيرِ خُسْرانُ
فبين زيادة ونقصان وربح وخُسران طباق
وقوله:
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً ... بالله هَلْ لَخَرَابِ العُمْرِ عُمْرَانُ ؟!
فيه أيضاً طباق بين العمارة والخَرَابِ، وفيه تجنيس تام في العمر والعمران، وفيه إدراج أيضاً لأنه أدرج الشكاية عن الزمان في أثناء كلامه، حيث جعل مُرورَ الدهر مُخرِّباً لما عمره الناس، وفيه تجاهلُ العارف حيث تجاهل وجود العامر لخراب العمر.
وقوله:
وأرْعِ سَمْعَكَ أمثالاً أُفَصِّلُها ... كما يُفَصِّلُ ياقوت ومَرْجانُ
فيه مراعاة النظير بين المصراعين
وقوله:
سحبان من غير مالٍ: باقلٌ حَصِرٌ ... وباقل في ثراء المال سَحْبَانُ
فيه التصدير أو رَدُّ الصَّدْرِ على العجز.
وهكذا إلى آخر هذه الصور البديعية، التي لا يكاد يخلو منها بيت. على أن قصيدة أبي الفتح وإن اتَّسَمَتْ بوَحْدَةِ الموضوع، إلا أنها تفتقر إلى التلاحم بين أفكارها، حيث كان أبو الفتح يُعالج فكرةً كالإحسان مثلاً، ثم نراه يتركها قبل أن يستكمل القول فيها، ويتحدث عن فكرة أخرى كالعفو، ثم يرجع إلى الإحسان وهكذا، كما يبدو للقارئ لأول وهلة.
ولهذا فإنه يمكن القول بأن القصيدة تُشبه أجزاء مرصوصةً بعضها بجانب بعض، بحيث يُمكن التصرف في أبياتها بالتقديم والتأخير، دون أن تتأثر المعاني بشيء. وعلى ما يبدو؛ فلقد كان أبو الفتح يُرِيدُ للبيت أن يكون وَحْدَةً مستقلةً بمعناها، ولهذا كان يذكر النصيحة وفائدتها في البيت نفسه كقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قُلوبَهُمُ ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
وكُن على الدهرِ مِعواناً لذي أمَل .... يَرْجُو نَدَاكَ فَإِنَّ الحُرَّ مِعوان
واشدد يديك بحبل الله معتصماً ... فإنه الرُّكْنُ إن خانتك أركان
وقليلا ما عالج الفكرة في بيتين أو ثلاثة، ولعله كان يقصد أن يكون كل بيت مثلاً سائراً، يُحفظ بسهولة ويتمثل به في مناسبته.
لقد انتشرت قصيدة أبي الفتح وذاعت في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ويرجع ذلك في رأينا إلى أن المعلمين والمهتمين بتربية النشء، وجدوا فيها الدعوة إلى الفضائل الحميدة بلا إسراف في الحجج العقلية أو الفلسفية، ولا تَطرُّف في الدعوة إلى عقيدة معينة أو مذهب ومسلك خاص في الحياة، فهي ليست كمُزْدَوِجَةِ أبي العَتَاهِيَةِ في الأمثال، وهي التي دَعَتْ إلى الزُّهْدِ وحَنَّتْ عليه، وهي أيضاً ليست كقصيدة صالح بن عبد القدوس في الحكمة، والتي مطلعها:
المَرْءُ يَجْمَعُ والزمانُ يُفَرِّقُ ... وَيَظَلُّ يَرْقَعُ والخُطُوبُ تُمزِّقُ
والتي امتلأت بالنظرات الفلسفية، والتأمل العميق لمختلف نواحي الكون والحياة.
وإلى جانب ذلك فقد كان الاحتفال صاحبها بها وتأنقه في نسجها، وتخيره لألفاظها وأساليبها، وحرصه على وشيها، بمختلف صور البيان والبديع: أَنْ وَجَد المعلمون فيها من هذه الناحية أيضاً، ما يمكن أن يُفيد تلامذتهم في دراستها.
1-ولهذا فإننا نرى صُوراً كثيرةً من العناية بها، فقد شَرحها عدد كبير من الشراح، منهم: أبو منصور الثعالبي في كتابه (نثرُ النَّظم وحَلُّ العقد)، وهو شَرح مبسط صغير، يُعنى بإيراد البيت وذكر معناه في سطر واحد.
2-وشرحها محمود بن عثمان النجاتي، المتوفى سنة ٧١٣ هـ.
3-وعبد الله بن محمد بن أحمد النقره كار، المتوفى سنة ٧٧٦ هـ، وشرحه لها شرح واسع، عُنِي فيه بذكر المعنى، وإعراب الأبيات، وإبراز بعض النكت البلاغية.
4-وشرحها عبد الرحمن العُمري الميلاني، المتوفى سنة ٧٠٨هـ.
5- وشرح بعض أبياتها عبد القادر بن العَيْدَرُوس، المتوفى سنة ١٠٣٨هـ.
6- كما طُبِعَتْ مع شرح بعض ألفاظها في كثير من الكتب، فهي تَرِدُ في كتاب (حياة الحيوان الكبرى) للدميري، الكبرى لابن السبكي وطبقات الشافعية.
7-كما ترد في كثير من مجاميع الأدب والكتب التعليمية، ككتاب (التعليقات الشريفية لجملة من القصائد الحِكَمِيَّة) لمحمود الشريف، المطبوع في القاهرة سنة ۱۳۱۰ هـ، وفي «بلوغ الأرب» للسجاعي، المطبوع سنة ١٣٢٤ هـ، وفي «مجاني الأدب» للويس شيخو اليسوعي، الجزء الرابع صفحة ٩٥، وفي «تنزيه الألباب في حدائق الآداب» المطبوع في الموصل سنة ١٨٦٢م، وفي شرح «الهداية للمستفيدين والدراية للمستفيضين»، المطبوع في الإسكندرية. كما تُوجَدُ نُسَخ مخطوطة لها في معظم مكتبات العالم.
ومن الجدير بالذكر أن الأمير شكيب أرسلان في «الحلل السُّنْدُسِيَّة»، يَذْكُرُ أنَّ هذه القصيدة من نظم أبي البقاء صالح بن شريف الرندي الأندلسي، وهذا خطأ منه أو سهو، فالواقع أنها قصيدة مغايرة تماماً لهذه، وإن كانت على نَفْسِ الوَزْنِ والرَّوِيِّ، فقصيدة أبي الفتح في الحكمة، ومطلعها كما نعرف:
زيادة المرء في دنياه نُقصانُ ... وَرِبْحُهُ غَيْرَ مَحْضِ الخيرِ خُسْرانُ
وقصيدة أبي البقاء الرُّنْدِي في رِئَاءِ دُوَل الأندلس، التي وقعت في أيدي النصارى، ومَطْلَعُها:
لكلِّ شيءٍ إذا ما تَمَّ نُقْصانُ ... فلا يُغَرَّ بِطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهَدتَها دُولٌ ... من سَرَّهُ زَمَنْ ساءَتْهُ أَزمان
وهذه الدار لا تُبقي على أَحَدٍ ... ولا يَدُومُ على حالٍ لَهَا شَانُ
وواضح أن هذه غير تلك، وإن كان الرُّنْدِيُّ قد تأثر ولا بقصيدة أبي الفتح ونَسَجَ على منوالها، فهو قد اختار هذه القصيدة الذائعة في مختلف بقاع العالم الإسلامي، بصورتها من الوزن والقافية، وحملها صَيْحَاتِهِ إلى العالم الإسلامي، لكي يُدْرِكُوا إخوانهم الذين يُنَكِّلُ بهم النصارى، ويستبيحون حُرُماتِهم كلما سقطت في أيديهم مدينة من مدنهم.
وتأثير قصيدة أبي الفتح واضح كل الوضوح في تلك القصيدة الأندلسية، فمَطْلَعُها مأخوذ من مطلع أبي الفتح، وفيه بعض الفاظه.
وقول أبي البقاء:
هي الأمور كما شاهَدتَها دُولٌ ... من سَرَّهُ زَمَنْ ساءَتْهُ أزمان
مأخوذ بنصه من بيت أبي الفتح:
لا تَحْسَبَنَّ سُروراً دائماً أبداً ... من سَرَّه زَمَنْ ساءَتْهُ أزمان
وقوله:
يا غافلاً ولَهُ في الدهرِ مَوْعِظَةٌ ... إن كنت في سِنَةٍ فَالدَّهْرُ يَقْظَانُ
مأخوذٌ بِنَصْهِ من بيت أبي الفتح:
يا نائماً فَرِحاً بالعِزُّ سَاعَدَه ... إن كنتَ فِي سِنَةٍ فَالدَّهْرُ يَقْظَانُ
وقوله:
يا رُبَّ أَمْ وَطِفْلٍ حِيْلَ بَيْنَهُمَا ... كما تَفَرَّقُ أرواح وأَبْدَانُ
وطفلة مِثْلِ حُسْنِ الشمس إِذْ طَلَعَتْ ... كأنما هي يَاقوتُ ومَرْجَانُ
البيت الأخير فيه ألفاظ أبي الفتح في قوله:
وأَرْعِ سَمْعَكَ أمثالاً أُفَصِّلُها ... كما يُفصل ياقوت ومَرْجَانُ
وهكذا استَغَلَّ الرُّنْدِيُّ إطار هذه القصيدة، وكثيراً من أبياتها المشهورة، لكي يَصِلَ صَوْتُه إلى أرجاء العالم الإسلامي، من خلال ألفاظ رُدَّدَتْ وحُفِظَتْ في جميع بقاعِهِ ومختلف مستوياته. انتهى.