هدية الصغراء بتصحيح حديث التوسعة يوم عاشوراء
للشيخ أحمد بن الصديق الغماري
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا الجزء الحديثي النفيس، يُصحح فيه الشيخ أحمد الغماري حديث التوسعة على العيال في يوم عاشوراء، ويردُّ فيه على من قال بوضعه، وبين رحمه الله أن تصحيح هذا الحديث إنما هو باعتبار مجموع طرقه، وأنه روي عن خمسة من الصحابة مرفوعاً، وهم: (جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر)، ومرسلاً من حديث (إبراهيم بن المنتشر عن عمر)، وموقوفاً من حديث (عمر).
١-أما حديث جابر؛ فهو أقوى حديث ورد في هذا الباب، ولا نكارة فيه لفظاً ولا معنى، وقد ورد من طريقين أصحهما طريق أبي الزبير عن جابر كما صرّح بذلك الحُفّاظ، وقد أخرجه ابن عبد البر في (الاستذكار)، وأما الطريق الثاني فقد أخرجه (البيهقي في الشعب) من رواية محمد بن يونس، عن عبد الله بن إبراهيم وكلاهما ضعيفان.
وقد ردَّ الغماري على كلام الحافظ ابن حجر -رحمه الله -في تضعيفه حديث جابر، وقوله إن الغلط وقع فيه من جهة (الفضل بن الحباب =أبو خليفة)، مع وصفه للخبر بالنكارة، وبين الغماري اختلاف قول الحافظ فيه، وميله إلى تحسينه بمجموع طرقه، وذلك من أربعة وجوه -ذكرها -إلى أن قال: ولما كانت العلة في التوسع في النفقة -هي الصيام كما في الفطر بعد رمضان؛ فإنه أمر بالتوسعة في يوم عاشوراء أيضاً.
والمقصود أن حديث التوسعة يوم عاشوراء ليس فيه ما يخالف الأصول حتى يحكم الحافظ بنكارته، بل الأصول شاهدة له كما ترى، فهو مع ثقة رجاله وصحة سنده الذي هو على شرط مسلم، صحيح كما قال الحفاظ ليس فيه ما يعارض الحكم بصحته، وهذا بالنظر إلى حديث جابر وحده، فكيف مع انضمام الطرق الأخرى إليه .
٢-أما حديث أبي سعيد الخدي، فقد روي من طريقين، أخرج إحداهما (إسحاق بن راهويه في مسنده) من طريق أيوب بن سليم بن ميناء، عن رجلٍ، عن أبي سعيد. وقال الحافظ في "أماليه": لولا الرجل المبم لكان إسناده جيد، ولكنه مقوى بما رواه الطبراني في الأوسط -وهو الطريق الثاني من رواية محمد بن إسماعيل الجعفري، عن عبد الله بن سلمة الربعي، وكلاهما ضعيفان، فقد ضعّف الأول "أبو حاتم"، وضعّف الثاني "أبو زرعة"، لكن الغماري لم يقبل طعنهما لأنه غيرُ مُفسّر، بل إنه اتهمهما بالتعسف والمجازفة، ثم اعتد على توثسق ابن حبان لهما.
٣-وأما حديث أبي هريرة؛ فقد أخرجه ابن عدي في (الضعفاء)، و(أبو نعيم في تاريخه)، من طريق محمد بن ذكوان، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله، عن أبي هريرة، وقد ذكر ابن الجوزي سند ابن عدي، ونقل فيه قول العقيلي: سليمان مجهول، والحديث غير محفوظ، وردَّ الغماري قول ابن الجوزي والعقيلي بقول أبي حاتم أن سليمان هذا ليس بالمشهور، وفرق بين كونه مجهولاً وبين كونه غير مشهورٍ، وعليه فالحديث حسن كما قال الحافظ العراقي، وسليمان هذا ق احتجَّ به أبو داود في سننه، ووثقه ابن حبان.
وبيّن الغماري أن حديث أبي هريرة الذي حكم عليه ابن الجوزي بالوضع هو حديث طويل، أخرجه في الموضوعات من طريق أحمد بن سلمان النجاد، عن إبراهيم الحربي، عن سريج بن النعمان، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرجا، عن أبي هريرة، وقال ابن الجوزي: حديث موضوع، ورجاله ثقات قال الغماري: والظاهر أنه أدخل على أحمد النجاد، فإنه حدث من كتب غيره ما لم يكن من أصوله، وكان قد عمي، فلعل بعض بعض الطلبة قرأ عليه ذلك؛ وعليه فهذا الحديث موضوع لنكارته الظاهرة، وهو منكر المتن معلول السند.
٤-وأما حديث ابن مسعود؛ فقد أخرجه (الطبراني في الأوسط)، و(ابن عدي في الكامل)، (والبيهقي في الشعب) و(ابن حبان في الضعفاء)، أربعتهم من طريق هيصم بن شداخ الوراق، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود. وقال البيهقي: تفرد به الهيصم عن الأعمش، وقال الحافظ في "أماليه" اتفقوا على ضعفه، وعلى تفرد الأعمش به.
وأخرج حديث ابن مسعود أيضاً (العقيلي في الضعفاء) عن عبد الوارث بن إبراهيم -شيخ الطبراني -لكنه خالف فيه؛ فقال: عن هيصم بن شداخ، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن علقمة، فأبدل (إبراهيم) (بيحيى بن وثاب)، وقال العقيلي عن الهيصم إنه مجهول. وقد ناقش الغماري العقيلي في تجهيله الهيصم، وبين خطأه في الرواية. ثم قال: وعلى كُلٍّ فإن حديث ابن مسعود من قسم الضعيف المنجبر.
٥-وأما حديث ابن عمر؛ فقد أخرجه (الخطيب البغدادي في الرواة عن مالك)، من رواية هلال بن خالد، عن مالك، عن نافع عن ابن عمر، قال الخطيب: في إسناده غير واحد من المجهولين، ولا يثبت ذلك عن مالك. وقال الذهبي: هذا باطل، وفهم الغماري من كلام الذهبي أنه استبعد رواية مالك لمثل هذا الحديث الغريب؛ لأنه يتجنب رواية الغرائب، لكن الغماري أجاب عن ذلك بأن رواية الغرائب وقع لمالك، ومعنى هذا الحديث أيده عبد الملك بن حبيب في نظمٍ له، وهو أحد كبار أئمة المذهب -ذكره نقلاً عن السيوطي.
٦- وأما مرسل إبراهيم بن المنتشر؛ فذكر أنه رواه جماعة، منهم (الحكيم الترمذي في نوادره)، والبيهقي في (شعبه) من طريق جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر به. و(السمرقندي في التنبيه) من طريق إبراهيم بن يوسف، عن سفيان، عن إبراهيم بن المنتشر به. وقال البيهقي: هذا مرسل صحيح.
٧- وأما الموقوف على عمر بن الخطاب؛ فقد أخرجه (ابن عبد البر) بسند قال: رجاله ثقات، لكنه لم ذكره بحسب الغماري، وقال العراقي: سنده رجاله ثقات، من رواية سعيد بن المسيب عن عمر، واختلفوا في سماعه منه، وصحح جماعةٌ سماعه.
ويختم الغماري رسالته بقوله: فهذه ثلاثة أسانيد صحاح لهذا الخبر، وهي مرفوع مسند (=حديث جابر)، ومرسل (=حديث إبراهيم بن المنتشر)، وموقوف له حكم الرفع (=وهو خبر عمر)، والمجموع يفيد القطع أو يكاد بصحة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويُجيب الغماري على من قال: كيف يوسع الفقير على عياله وهو لا يجد قوت يومه، فقال: قد يكون ذلك مشروطاً بالنفقة مع الجدة واليسار -كما ورد التصريح به في حديث ابن عمر دون النفقة مع القلة والمعسرة.
كما ردَّ على شبهة من ادَّعى أن هذا الحديث ربما رواه ناصبي تشفياً بمقتل الحسين رضي الله عنه يوم عاشوراء، وأجاب بأنه لا يلزم من ذلك وجود ذلك الأمر، لأن الأمر مقتصر على التوسعة على العيال في المأكل والملبس لا إظهار الشماتة بمقتل الحسين.
وأما وجه العمل بالحديث؛ فيرى الغماري أن يقتصر الراغب في العمل بالحديث – على مجرد التوسعة المباحة من الطعام والشراب والملبس فإنه المذكور في الحديث لا غيره، من الاحتفالات والمهرجانات التي يقيمها أهل البدع والمنكرات.
ولم يُخلِ الشيخ أحمد الغماري جزئه هذا من التجنّي والكذب على الشيخ تقي الدين ابن تيمية وابن الجوزي، واتهامهما بالمجازفة، ولم يسلم العقيلي، ومن قبلهم الإمامين أبو زرعة وأبو حاتم الرازيين، الذين رماهم بما هم بريئون منه، وادعائه قصور علمهما وعدم اطلاعهما على طرق هذا الحديث، مع أحاديث الأبدال، وادعائه كذباً وزوراً إنكار الشيخ لفضائل علي رضي الله عنه، وكل ذلك تعصباً لمذهبه في التصوف، وغلواً في التشيع لعليّ رضي الله عنه،
أقوال العلماء في حديث التوسعة على العبال يوم عاشوراء
١-الإمام أحمد (ت ٢٤١ هـ) في مسائل إسحاق (١/١٣٦) في إسناده ضعف.
٢- قال العقيلي (ت ٣٢٢ هـ) في الضعفاء الكبير (٣/٢٥٢): لا يثبت في هذا شيء إلا مرسلًا.
٣- وقال البيهقي (ت ٤٥٨) في شعب الإيمان (٣/١٣٩٠): تفرد به هيصم [وله قوة]
٤-وقال ابن الجوزي (ت ٥٩٧ هـ) في الموضوعات (٢/٥٧٢): موضوع.
٥-وقال ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ) في، منهاج السنة (٨/١٤٩): كذب على النبي ﷺ.
٦- وقال محمد ابن عبد الهادي (ت ٧٤٤ هـ) في رسالة لطيفة (٤٩): ليس له إسناد أو له إسناد ولا يحتج بمثله النقاد من أهل العلم.
٧-وقال ابن رجب (ت ٧٩٥ هـ)، لطائف المعارف (١١٢): روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء وقد روي عن عمر من قوله وفي إسناده مجهول لا يعرف.
٨-وقال القسطلاني (ت ٨٢٣ هـ) في المواهب اللدنية (٣/٤٣٥): [له شواهد] إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة.
٩-وقال ابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ هـ) في الأمالي المطلقة (٢٨): عن أبي سعيد [فيه] عبد الله بن سلمة الربعي ضعفه أبو زرعة و[فيه] محمد الجعفري ضعفه أبو حاتم والحديث له شواهد
١٠ -وقال السخاوي (ت ٩٠٢ هـ) في المقاصد الحسنة (٥٠٤): إسناده جيد عن عمر موقوفًا عليه
١١- وقال السيوطي (ت ٩١١ هـ)، النكت على الموضوعات (١٩٨): أسانيده إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة. وقال في الدرر المنتثرة (١٢٤): صحيح.
١٢- وقال ملا علي قاري (ت ١٠١٤) في الأسرار المرفوعة (٤٥٢): ضعيف. وقال في الأسرار المرفوعة (٣٤٥): قيل لا أصل له أو بأصله موضوع. (قلت): "قيل" تفيد ضعف هذا الرأي.
١٣-وقال محمد بن محمد الغزي (ت ١٠٦١ هـ) في إتقان ما يحسن (٢/٦٣٦) قال ابن الجوزي موضوع وليس كذلك.
١٤- وقال وقال الزرقاني (ت ١١٢٢ هـ) في مختصر المقاصد (١٠٩٢): صحيح.
١٥- محمد جار الله الصعدي (ت ١١٨١ هـ) في النوافح العطرة (٤١٠) ضعيف.
١٦-الألباني (ت ١٤٢٠ هـ) في تخريج مشكاة المصابيح (١٨٦٨): ضعيف من جميع طرقه، وحكم عليه شيخ الإسلام بالوضع فما أبعد
١٧- وقال ابن باز (ت ١٤٢٠ هـ) في التحفة الكريمة (٩٤): روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء..وروي عن عمر من قوله وفي إسناده مجهول لا يعرف. وقال في مجموع فتاويه (٢٦/٢٥١) موضوع.
(قلت محمد حنونة): والظاهر أن هذا الحديث من قسم الضعيف المنجبر، ولا يبعد أن يكون من قسم الحسن.
نصُّ الكتاب
المقدمة
الحمد الله كما ينبغي لجلاله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله، أما بعد: فقد كتب إلى بعض الأفاضل كتاباً قال فيه: وقد بلغني عن بعض الخطباء أنه أبطل حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء، وادعى أنه موضوع مع أن الحافظ المنذرى عزاه إلى البيهقى، وقال: إن له طرقا كثيرة تزيده قوة وعمل به بعض الصحابة، وهو في كتابكم (لب الأخبار المأثورة) وإن كان ليس هو عندى إلا أنى سألت من قرأه؛ فقال: إنكم قلتم فيه لا يصبح حديث في فضل عاشوراء إلا حديث الصيام، وحديث التوسعة على العيال. فالمطلوب بيان ذلك كله جزاكم الله خيرا .انتهى. فأجبته بهذا الجزء الذي بينت فيه صحة الحديث المذكور (وسميته) هدية الصغراء بتصحيح حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء، فقلت وعلى الله الاعتماد.
المؤلف.
فصل
اختلف الحفاظ في هذا الحديث فصححه قوم وحسنه آخرون، وحكم ابن الجوزى بوضعه، وأنكر ابن تيمية وجوده مرفوعاً موصولاً على عادته في المجازفات والتهجم على إنكار ما لم يصل إليه علمه.
والذين صححوه قسمان:
قسم صحح بعض طرقه على انفراده، ومن هؤلاء الحافظ أبو الفضل ابن ناصر السلامي، الذي قال فيه تلميذه ابن الجوزى: كان ثقة حافظاً ضابطاً من أهل السنة لا مغمز فيه، تولى تسميعي، وعنه أخذت علم الحديث، وقال الحافظ أبو سعد السمعاني: كان ابن ناصر ثقة حافظاً ديناً متقنا ثبتاً عارفا بالمتون والأسانيد صحيح القراءة والنقل، توفي سنة خمسين وخمسمائة.
وقسم صححوه بالنظر إلى مجموع طرقه، ورأيهم هو الصحيح المعول عليه؛ لأنه الذي تحكم به قواعد علم الحديث، ويقتضيه النظر في أصول الرد والقبول، فإن الحديث الصحيح قسمان صحيح لذاته، وصحيح لغيره.
والصحيح لذاته هو ما رواه الثقة عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، والثقة هو العدل التام الضبط الذي يحصل الظن القوى عند سماع خبره بصدقه فيه من جهة التلقي ودعوى السماع وعدم وهمه فيه عند الرواية والأداء؛ فإن خفَّ الضبط أو حصل اختلاف من أئمة الجرح والتعديل في عدالة الراوي، فالمتصف بذلك هو المسمى بالصدوق وخبره هو الحسن لذاته، وهو من أقسام الصحيح المقبول في الأحكام وغيرها. هذا إذا انفرد بالخبر ولم تتوجد له متابعات ولا شواهد تقوى الظن بصدقه وارتفاع الوهم عنه فى خبره، فإذا وجدت له متابعات وشواهد مقبولة يحصل معها ذلك الظن المطلوب ارتفع خبره إلى أعلى درجات القبول المسمى بالصحيح، إلا أنه لما لم يحصل ذلك الظن للسامع إلا بانضمام القرائن المذكورة سموه صحيحاً لغيره، لأنه لم يكتسب الظن القوى المطلوب من جهة راويه على انفراده، بل اكتسبه من مجموع الطرق ومن انضمام غيره إليه.
كما أن الحسن قسمان: حسن لذاته، وحسن لغيره فالحسن لذاته سبق تعريفه، والحسن لغيره: هو ما رواه الضعيف الذى لم يتهم بكذب، ولا كان كثير الوهم فاحش الخطأ، إذا تابعه من هو مثله، فإن ظن خطئه في الخبر ودخول الوهم عليه فيه، يرتفع بمتابعة مثله، ويقوى ظن صدق كل واحد منهما، وعدم وهمه لبعد اتفاق اثنين متباينين في خط واحد فيرتقي بمجموعهما إلى درجة الحسن.
فإذا تعددت المتابعة وكثرت الشواهد ازداد ظن الصدق قوة فارتقى الخبر إلى درجة الصحيح، كما هو مقرر في علوم الحديث. بل ومدرك بالوجدان الذى لا يحتاج إلى دليل؛ فإن كان واحد إذا سمع خبراً من ضعيف في نظره غير مطمئن في نفسه إلى قبول خبره؛ لاتصافه بالغفلة وعدم الإتقان أو الإدراك التام لما يخبر به، ثم سمع ذلك الخبر بعينه من آخر غيـره علـى وجـه يـفـيـد أنه شاهده أو سمعه بنفسه، ولم ينقله عن الأول. زال ما كان فى نفسه من احتمال عدم صدق المخبر الأول، وقوى عنده صحة خبره ، وأنه لم يدخل عليه فيه وهم، ولا أدركته فيه غفلة؛ فإذا سمعه في ثالث على الشرط المذكور ازداد به تصديقاً.
وهكذا يزداد عنده الخبر تحققاً والشك ارتفاعاً كلما كثر رواة الخبر، حتى يصل إلى درجة اليقين المقطوع به الذي يساوى إدراكه بالحس من المشاهدة أو السماع، وهو المتواتر.
فصل
إذا علم هذا فالحديث المذكور مشهور عن النبي ﷺ من طرق متعددة بعضها صحيح لذاته، على نظر بعض الحفاظ، وحسن لذاته على نظر بعضهم، ثم بالنظر إلى الطرق الأخرى يقوى القول بصحته في نظر الحاكم بذلك، ويرتفع إلى الصحيح لغيره، على رأى من حكم بحسنه فقط، فهو إذن صحيح حتى على رأى من ضعفه، لأنه إنما حكم بضعفه من بعض الطرق الضعيفة أو الواهية، لا من جميع طرقه التي لم تقع له بحيث لو وقف عليها، ولا سيما الطريق الجيدة، أو نظر إلى مجموعها مع الشواهد لما أمكنه القول بضعفه، وإنكار ثبوته إلا مع تهور وغفلة وعناد وتعصب.
ومن هنا يظهر لك وجه الخلاف الواقع بين الحفاظ في الحكم على هذا الحديث، فإن من صححوه، بعضهم وقع له من طريق جيدة من حديث أبى هريرة، ورأى فى نظره واجتهاده أن تلك الطريق على شرط الصحيح، فقال: إنه حديث صحيح، وبعضهم وقع له من طريق أخرى جيدة أيضا من حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي الزبير عنه فرأى أنها من شرط الصحيح أيضاً، بل عبر عنها بعضهم بأنها على شرط مسلم، فكان الحديث عندهم صحيحا لذاته، ولم يكتف الآخرون بكل واحدة منها على انفرادها حتى نظروا إلى جميعها، فحكموا بصحته لأجل الطريقين معاً، فكان الحديث في نظرهم صحيحاً لغيره، ومن لم تكن تلك الطرق في نظره على شرط الصحيح اكتفى بقوله إنه حسن، بل لم تقع له طريق أبي الزبير عن جابر، التي هي على شرط مسلم بحيث لو وقعت له لما تأخر عن الحكم بصحته أيضاً.
أما من ضعفه كالعقيلي وابن حبان وابن عدى وأمثالهم ممن خرَّجوا بعض طرقه في تراجم بعض الضعفاء، فإنهم لم يحكموا عليه إلا من تلك الطرق الضعيفة، ولم يتعرضوا لغيرها من الطرق التي لم تقع لهم وهى التى على شرط الصحيح أو الحسن.
وأما من حكم بوضعه وهو ابن الجوزى وابن تيمية فابن الجوزى مع كون حكمه غير سديد ولا مقبول فى أكثر الأحاديث، فإنه ما أورد له إلا طريقاً من حديث ابن مسعود، وآخر من حديث أبي هريرة وبقى عليه طرق أخرى من حديث أبي هريرة أيضاً، ومن حديث جابر، ومن حديث أبي سعيد الخدري ومن حديث ابن عمر مع مراسيل وموقوفات لو وقف عليها؛ لأحجم عن الحكم بوضعه. وكم من حديث حكم الحفاظ بوضعه من طريق، وهو في الصحيحين أو أحدهما من طريق أخرى.
وأما ابن تيمية فلا عبرة بقوله مطلقاً، لأنه يجازف ويتكلم عن غير علم ولا اطلاع، ويكفى أنه قال فى هذا الحديث: ما رواه أحد من الأئمة، وأن أعلى ما بلغه أنه من قول ابن المنتشر، یعنی موقوفاً عليه غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه ورد مرفوعاً عن النبي حديث خمسة الصحابة، وورد موقوفا على عمر بن الخطاب رضی قبل ابن المنتشر المذكور، على أنه ورد عنه مرفوعا أيضاً، ثم رواه في الأئمة أصحاب المصنفات المشهورة المتداولة بين أهل الحديث الترمذى الحكيم وأبو حاتم والطبراني والدارقطني وأبو نعيم والبيهقى وابن عبد البر والعقيلي في الضعفاء وكذا ابن حبان وابن عدى وجماعة.
ولهذا لما ذكر الحافظ العراقي في أماليه كلام ابن تيمية أبدى عجبه منه، وذكر أنه جمع طرقه في جزء مفرد إظهاراً لقصور ابن تيمية؛ فإن إنكاره لحديث واعترافه بأنه لا يعرفه إلا عن ابن المنتشر من كلامه مع أن الحديث المذكور له من كثرة الطرق والمخرجين ما استحق أن يفرد بجزء مخصوص دليل واضح على قصوره التام.
ولا عجب من ابن تيمية في مثل هذا، فإن غالب كلامه على الأحاديث والآثار من قبيل هذه المجازفات، والإنكار الصادر منه عن قصور تارة وعن كذب وعناد أخرى، كما جربناه عليه وعلى أمثاله من كل عنيد متعصب، وقد قال في "منهاج سنته" مثل هذا عن حديث الأبدال، وصرح بأنه لم يرد ذكر الأبدال عن النبي -صلى الله عليه وسلم -ولا عن أحد من الصحابة وإنما ورد ذكرهم في أثر ضعيف عن الحسن البصرى، مع أن حديث الأبدال صحيح مخرج في أشهر كتب السنة المعدودة من أصول كتب الإسلام، كمسند أحمد وسنن أبى داود -الذي هو ثالث الكتب الستة -وأصحها بعد الصحيحين، والذي لا يجهل ما فيه صغار طلبة الحديث فضلا عن ابن تيمية، ولكنه يتعمد الكذب في الإنكار لنصرة هواه.
وأدل دليل على ذلك: أنه أورد بعض الأحاديث المرفوعة في الأبدال وأثبتها في كتابه "الصارم المسلول"، ونسى أنه قال في "منهاج سنته" أنه لم يرد في حديث مرفوع أصلاً.
وكذلك ادعى أنه لم يرد حديث صحيح في فضل على عليه السلام إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت منى بمنزلة هرون من موسى)، مع أنه يعلم علم اليقين أن الأحاديث الصحيحة في فضل على عليه السلام، وقد أفردت بالمصنفات الكثيرة الكبيرة والصغيرة، من جماعة الحفاظ المتقدمين والمتأخرين الذين من أقدمهم إمامه أحمد بن حنبل رضى الله عنه القائل كما رواه الحاكم في المستدرك بالسند الصحيح عنه: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله ﷺ من الفضائل ما جاء لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه، وقال غيره: لم يرد لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحيحة ما ورد لعلي عليه السلام، ومن قرأ كتب السنة المتداولة عرف كذب ابن تيمية فيما قال بالضرورة.
والمقصود أنه لا عبرة بكلام ابن تيمية ولا بكلام ابن الجوزى أيضاً، خصوصاً في هذا الباب أعنى الحكم على الأحاديث بالوضع، فلم يبق النظر إلا في كلام من صحح الحديث ومن ضعفه، وبإيراد طرقه والكلام عليها يتضح الصواب، ويظهر أنه في جانب من حكم بالصحة.
فصل
وبيان ذلك أن الحديث ورد من حديث جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن مسعود وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومرسلاً من حديث إبراهيم بن محمد ابن المنتشر، وموقوفا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فحديث جابر بن عبد الله له طريقان:
الطريق الأول: أخرجه ابن عبد البر في الاستذكار قال: أخبرنا أحمد بن قاسم ومحمد بن إبراهيم ومحمد بن حكم، قالوا: حدثنا محمد بن معاوية، حدثنا الفضل بن الحباب، حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي حدثني شعبة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته)، قال جابر جربناه فوجدناه كذلك، وقال أبو الزبير مثله، وقال شعبة مثله.
فهذا السند رجاله رجال الصحيح؛ لأن جميعهم ثقات، فمن هشام بن عبد الملك إلى آخره على شرط مسلم، ولهذا قال الحافظ العراقي: إنه على شرط مسلم، وقال مرة أخرى: إنه أصح طرق هذا الحديث، أما تلميذه الحافظ فأغرب جداً، إذ قال: إنه حديث منكر جداً، ما أدرى من الآفة فيه؟ فإن شيوخ ابن عبد البر الثلاثة موثقون، وشيخهم محمد ابن معاوية هو ابن الأحمر، راوي السنن عن النسائي، وثقه ابن حزم وغيره، فالظاهر أن الغلط فيه من أبى خليفة يعنى الفضل بن الحباب، فلعل ابن الأحمر سمعه منه بعد احتراق كتبه والله أعلم.
وهو كلام مردود على الحافظ، وزعم باطل، كما يتضح ذلك من وجوه.
الأول: أنه دعوى لا مستند له فيها ولا دليل له عليها، وكل ما كان كذلك فهو باطل مردود، فإن الله تعالى يقول: {قُل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} [البقرة: ۱۱۱] فمن لم يأت ببرهان على دعواه، فهو غير صادق فيها، وما كان غير صدق فهو مردود.
وأيضاً لو قبلت الدعاوى بدون دليل، لما ثبت حق، ولا بطل باطل ولا قـامـت حـجـة على مخلوق، ولا امتاز حق من باطل، ولا خطأ من صواب.
فإن قيل: هذا مقبول في كل شيء، إلا في الحديث، فإن أهله الممارسين له تحصل لهم ملكة يميزون بها صحيح الحديث من سقيمه، ولو كان السند صحيحا والرجال عدولاً ثقات مع عجزهم عن إقامة الدليل على ذلك، لأنه يصير لهم من قبيل الوجدانيات، كما هو معروف بين أهل الحديث؟
(قلنا) الجواب عليه من وجوه.
أحدها: أن هذا الحكم ليس له قواعد ينضبط بها، ولا أصول يعتمد عليها، حتى يصح في كل ما يحكم به، ولذلك يخطئ كثير من الحفاظ في حكمهم على الأحاديث بالنكارة والبطلان. فكم حديث حكم بنكارته وبطلانه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وأمثالهم من القدماء. خرجه من بعدهم أهل الصحاح كالبخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود وأمثالهم واتفقت الأمة معهم على صحته، كما يعلم من كتب علل الحديث وتواريخ الرواة وكتب الجرح والتعديل، ومن قرأ علل الحديث لابن أبي حاتم وحده رأى فيه الكثير من ذلك، فهو حكم يصادف الصواب تارة ويخالفه أخرى، ومنه حكم الحافظ على هذا الحديث.
ثانيها: أن ذلك مسلم في حديث تكون النكارة فيه ظاهرة في اللفظ أو المعنى أو فيهما معا، مع ثقة رجاله وصحة إسناده ظاهراً، فإن ذلك يدل على بطلانه وعلى أن أحد رواته الثقات وهم فيه أو أدخل عليه فنسب إليه، وإن لم يروه ولم يسمع به قط، أو أنه غير ثقة في الواقع وأن من وثقه لم يخبر حاله تمام الخبرة ولا تتبع أخباره ومروياته. ومثل ذلك موجود فى بعض طرق هذا الحديث أيضاً.
قال ابن الجوزى حدثنا أبو الفضل محمد بن ناصر، أنبأنا أبو الحسين بن قريش، أنبأنا أبو طالب محمد بن أحمد العشاري، أنبأنا أبو بكر أحـمـد بن سلمان النجاد، حدثنا إبراهيم الحربي، حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى افترض على بني إسرائيل صوم يوم فى السنة وهو يوم عاشوراء، وهو يوم العاشر من المحرم فصوموه ووسعوا على أهليكم فيه، فإنه من وسع على أهله من ماله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، فصوموه فإنه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وهو اليوم الذي رفع الله فيه إدريس مكانا علياً، وهو اليوم الذي نجى الله فيه إبراهيم من النار، وهو اليوم الذي أخرج فيه نوحا من السفينة، وهو اليوم الذى أنزل الله فيه التوراة على موسى، وفـيـه فـدى الله إسماعيل من الذبح، وهو اليوم الذي أخرج الله فيه يوسف من السجن، وهو اليوم الذي رد الله على يعقوب فيه بصره، وهو اليوم الذي كشف فيه البلاء عن أيوب، وهو اليوم الذي أخرج الله يونس من بطن الحوت، وهو اليوم الذي فلق الله فيه البحر لبني إسرائيل، وهو اليوم الذي غفر الله فيه لمحمد ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، وفي هذا اليوم عبر موسى البحر، وفي هذا اليوم أنزل الله التوبة على قوم يونس. فمن صام هذا اليوم كان له كفارة أربعين سنة، وهو أول يوم خلق الله الدنيا يوم عاشوراء، وأول مطر نزل من السماء يوم عاشوراء، فمن صام يوم عاشوراء فكأنما صام الدهر كله، وهو صوم الأنبياء. ومن أحيا ليلة عاشوراء فكانما عبد الله مثل عبادة أهل السموات السبع، ومن صلى أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بالحمد مرة، ومرة قل هو الله أحد غفر الله له ذنوب خمسين عاماً مستقبلة، وبنى له في الملا الأعلى ألف منبر من نور، ومن سقى شربة ماء فكأنما لم يعص الله طرفة عين، ومن أشبع أهل بيت مساكين يوم عاشوراء لم يمرض إلا مرض الموت، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم ترمد عيناه تلك السنة كلها، ومن أمر يده على رأس يتيم فكأنما أمرها على يتامى ولد آدم كلهم، ومن عاد مريضاً يوم عاشوراء فكأنما عاد مرضى ولد آدم كلهم.
قال ابن الجوزى: موضوع ورجاله ثقات، والظاهر أن أحد المتأخرين وضعه وركبه على هذا الإسناد (قلت): بل الظاهر أنه أدخل على أبي بكر النجاد، فقد قال الدارقطني: إنه حدث من كتب غيره بما لم يكن في أصوله. قال الخطيب: وكان قد عمي في الآخر فلعل بعض الطلبة قرأ عليه ذلك أهـ.
فمثل هذا الحديث الباطل لا يرتاب طالب حديث في الحكم بوضعه -ولو كان مروياً من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر؛ لوجود النكارة الظاهرة فى لفظه ومعناه.
أما حديث جابر فلا نكارة فيه أصلاً لا في اللفظ ولا فى المعنى. أما في اللفظ فظاهر، وأما في المعنى؛ فإن أصول السنة شاهدة له كما سأذكره إن شاء الله تعالى.
وكأن الحافظ استنكر منه -قول جابر وأبي الزبير وشعبة: جربناه فوجدناه كذلك، وهذا لا نكارة فيه، وقد روى بالسند الصحيح -عن سفيان بن عيينة أنه قال : جربناه منذ أربعين سنة فلم نر إلا خيرا كما سأذكره.
ثالثها: أن هذا الحكم المستند إلى الانقداح والوجدان كاد يكون مسلماً للحافظ لو أقر عليه ولم يخالفه فيه غيره من الحفاظ. أما مع مخالفة غيره له في ذلك فليس ذوقه في الحديث واستحسانه فيه مقدماً على ذوقهم واستحسانهم، لا سيما وهم أكبر منه وأقدم وأعلى وأجل كالبيهقى وابن ناصر والمنذرى والعراقي، لا سيما وحكمهم مؤيد بالدليل ومستند إلى الحجة والبرهان.
قال الحافظ العراقي: قد ورد هذا الحديث عن أبي هريرة من طرق صحح بعضها الحافظ أبو الفضل ابن ناصر، وبعضها حسن على رأى ابن حبان.
وورد أيضاً من حديث أبي سعيد -عند البيهقي في شعب الإيمان -وابن عمر -عند الدارقطني في الإفراد، وجابر أخرجه من رواية ابن المنكدر عنه. وقال: إسناده ضعيف، ورواه ابن عبد البر في الاستذكار من رواية أبي الزبير عنه وهي على شرط مسلم، قال البيهقي: هذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة فهي إذا ضُمَّ بعضها إلى بعض أحدثت قوة. وهذا مع كونه لم يقع له رواية أبي الزبير عن جابر التي هي أصح طرق الحديث.اهـ.
فصرح الحافظ العراقي بأن هذه الطريق على شرط مسلم، وأنها أصح طرق الحديث، فليس قول تلميذه الحافظ: إنها منكرة جداً بأولى من قوله، لا سيما وهو دعوى مجردة عن الدليل، بخلاف قول شيخه الحافظ العراقي؛ فإنه الموافق لقواعد الحديث وأصول الرد والقبول، بل الحافظ نفسه خالف كلامه هذا في "أماليه" فصرح بما يفيد أن الحديث عنده حسن أو صحيح؛ فإنه أورده من طريق ابن ميناء عن رجل عن أبي سعيد، ثم قال: لولا الرجل المبهم لكان إسنادا جيداً، لكنه يقوى بما أخرجه الطبراني فذكر سنده الآتي في حديث أبي سعيد الخدري.
فحكم على السند الأول بأنه جيد لولا وجود المبهم والجيد في اصطلاحهم مرادف للحسن والصحيح. ثم قواه بالطريق الآخر الذي ليس فيه مبهم مما يصير به حسناً، لأنه أزال ما يخشى من وجود المبهم. وهذا صريح فى أن الحافظ لم يقصد نكارة المتن من أصله، وإنما استنكر منه قول الرواة: جربناه فوجدناه كذلك، وذلك لا نكارة فيه كما بيناه والله أعلم.
الوجه الثاني من وجوه رد كلام الحافظ: أنه مع كونه مجرداً عن الدليل هو مخالف للدليل القاضي بصحته أيضاً، ومتى كان القول مخالفا للدليل مع تجرده هو عن دليل كان في نهاية السقوط والبطلان، أما تجرده عن الدليل فواضح، وأما كونه مخالفا للدليل المقتضى لصحته فالحديث الصحيح هو ما رواه الثقة عن مثله إلى منتهاه مع انتفاء الشذوذ والعلة، وهذه الشروط كلها موجوده في هذا السند فرجاله كلهم ثقاة رجال الصحيح، باعتراف الحافظ الذي كفانا مؤنة الكلام على أولئك الرجال، وكذلك إخبار شيخه الحافظ العراقي أنه على شرط مسلم، ثم هو مع ذلك ليس بشاذ ولا فيه علة ظاهرة كالانقطاع أو خفية كالإرسال وليس في متنه نكارة لا في اللفظ ولا في المعنى، فكيف مع استيفاء شروط الصحيح بكاملها يقول عنه أنه منكر بل سماع هذا يكفي في رده
الوجه الثالث: أن المنكر يطلق عندهم على معانٍ (أحدها) مرادف للشاذ، وهو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه (ثانيها) مخالفة الضعيف لمن هو أرجح منه (ثالثها) تفرد الضعيف بما لم يتابعه عليه أحد، ولم توجد له شواهد (رابعها) غرابة المتن بركاكة لفظه، أو مخالفة معناه للأصول. أو لبعض الأحاديث الصحيحة، ولو كان راوية ثقة.
وكل هذا لا ينطبق على هذا الحديث. أما الأول: فإن أبا خليفة لم يخالف فيه أحداً لا أوثق منه ولا مثله لا في إسناده ولا في متنه. وأما الثاني: فداخل في هذا من باب أولى. وأما الثالث: فإن أبا خليفة ثقة شهير وحافظ كبير وثقه الناس وأثنوا عليه ورووا عنه، وخرج له كثير من الحفاظ في مصنفاتهم المعتبرة التي هى من أصول كتب الإسلام.
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: أبو خليفة الإمام الثقة محدث البصرة الفضل بن الحباب الجمحي البصري كان محدثًا صادقًا مكثراً عن طبقة الوقت، حدث عنه أبو بكر الجعابي والطبراني والإسماعيلي وابن عدى وأبو الشيخ وأبو أحمد الغطريفي وابن السني وعاش مائة سنة غير أشهر، وكان حسن المعرفة صاحب فنون مات سنة خمس وثلاثمائة.
وقال في الميزان: كان مسند عصره بالبصرة ورحل إليه من الأقطار وكان ثقة عالماً ما علمت فيه ليناً إلا ما قال السليماني: إنه من الرافضة؛ فهذا لم يصح عن أبي خليفة.
وهذا غلط من السليماني أو سبق قلم منه فكأنه أراد أن يقول ناصبي؛ فقال: رافضي، إذ وجود الرافضي في البصرة غريب؛ لأن أهل البصرة كلهم نواصب كما هو معروف، بل نص الحافظ على أن أبا خليفة على الخصوص كان ناصبياً، وأيد ذلك بأن أبا على التنوخي حكي في نشوان المحاضرة عن صديق له أنه قرأ على أبي خليفة أشياء من جملتها ديوان عمران المشهور في رثاء عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، وإن المفجع البصري بلغه ذلك فقال :
أبو خليــــــفـــة مطوى على دخن … للهـــاشـــمـــيين في سر وإعلان
لا زلت أعرف ما يخفى وأنكره … حتى اصطفى شعر عمران بن حطان
وذكره ابن حبان في الثقات. وقال مسلمة بن قاسم: كان ثقة مشهوراً كثير الحديث وكان يقول بالوقف وهو الذى نقم عليه.
(قلت) وسواء كان ناصبياً أو واقفياً أو اجتمعا فيه معاً؛ فإن ذلك خلل في العقيدة لا أثر له في الرواية، وإنما يتعرض له أهل الجرح والتعديل لبيان حال الراوى فى العقيدة والنحلة لينزل منزلته ولا يغتر به في ذلك لا لرد حديثه متى ثبتت عدالته كما بينت ذلك بدلائله في (فتح الملك العلى)، وأطلت في إيضاحه بما لا مزيد عليه فارجع إليه فإنه مطبوع، ويكفى أن الصحيحين المتفق على صحتهما قد أخرج فيهما الكثير من أحاديث المبتدعة من كثير من الطوائف كالخوارج والنواصب والقدرية والرافضة والواقفية وغيرهم، والعقل يأبى سماع التضعيف ورد خبر الراوي بنحلته فضلاً عن قبول هذا الرأى والعمل عليه فإن العدالة والضبط شيء، والعقيدة والخطأ فيها شيء آخر.
فإن قيل: كونه ناصبياً يوجب تهمته في خصوص هذا الحديث؛ لأن فيه إغاظة لأهل البيت وتشفياً من الحسين عليه السلام المقتول ظلماً يوم عاشوراء، ولذلك كان بنو أمية بالأندلس يعملون بمقتضى هذا الحديث ويحتفلون بيوم عاشوراء لهذا الغرض الفاسد، كما أخذ ذلك عنهم جوارهم المغاربة، ولا يزال عملهم على ذلك إلى الآن ولذلك لا يوجد مثله في الأقطار التي حكمها الشيعة وأهل السنة كمصر وغيرها.
فالجواب: أنه كان يمكن اتهامه بالحديث والحمل فيه عليه، ولو مع اشتهاره بالثقة، لو تفرد به وكان هو أول من أتى به، ولو من حديث جابر أما مع وجود من تابعه عليه من نفس حديث جابر، كما توبع عليه أيضاً من حديث غيره من الصحابة، ومع كون الحديث مشهوراً مخَّرجاً في مصنفات أهل الحديث الذين كانوا قبله، أو أكبر منه كنوادر الأصول للترمذى الحكيم الذى توفى قبل أبي خليفة على الصحيح، فمحال اتهامه لا سيما وهو عدل ثقة.
فإن قيل: قد قال الحافظ: لعل ابن الأحمر سمعه منه بعد احتراق كتبه فغلط فيه.
فالجواب: أن هذا مجرد ظن لا يغنى من الحق شيئاً، بل هو أكذب الحديث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا فإن احتراق كتبه ما أتى به إلا أبو يعلى الخليلي، ولم يبين مصدره ولا كيفيته، وهل احترق جميع كتبه أم بعضها؟ وهل بلغه خبر ذلك من مصدر صحيح أم لا ؟ فإنه كان متأخراً عنه، ولعله ولد بعد وفاة أبى خليفة بنحو سبعين سنة، فإن بين وفاتيهما مائة وإحدى وأربعين سنة.
وأيضاً فإن احتراق الكتب لا يؤثر في الثقة، لأنه مع ثقته لا يحدث بما لا يتيقنه وإلا كان ضعيفاً كابن لهيعة الذى كثرت المناكير في حديثه بعد احتراق كتبه، ولم يعرف شيء من ذلك في أحاديث أبي خليفة، ولا أمكن لكبار الحفاظ أئمة الجرح والتعديل أن يجدوا له غلطة، بل غاية ما ذكر له الدارقطني وهو إمام أئمة هذا الشأن في عصره حديثًا واحداً أخطأ في سنده لا في متنه، فقال: عن مالك عن الزهري عن عروة، والمحفوظ عن مالك عن صالح بن كيسان عن عروة، أي أبدل صالح بن كيسان بالزهرى وهذا بعد تسليمه لا شيء بالنسبة لكثرة ما روى، بل لم يسلم من مخلوق لا مالك ولا أمثاله من أهل المرتبة العليا فى الضبط والإتقان، ومنهم الدارقطني نفسه، فلو فرضنا أنه وهم في عشرين حديثاً، وقد روى الآلاف، لما دل ذلك على ضعفه ولا ضعف هذا الحديث، فضلا عن نكارته لأنه لم ينفرد به حتى يظن وهمه فيه، بل توبع عليه من حديث جابر نفسه وهو الطريق المذكور بعده.
فصل
الطريق الثاني: قال البيهقي في شعب الإيمان: أنبأنا على بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، حدثنا عبد الله بن أبي بكر ابن أخي محمد بن المنكدر عن محمد بن المنكدر عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: (من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه طول سنته).
فهذا السند وإن كان ضعيفاً، إلا أن أول ضعيف فيه وهو محمد بن يونس الكديمي الحافظ، كان أكبر من أبى خليفة ومات قبله بنحو عشرين سنة، فهو من طبقة شيوخه؛ فيبعد أن يكون سرقة من أبى خليفة وركب له إسناداً آخر، كما يبعد اتهامه به مطلقاً، لاشتهار الحديث ووجوده من طرق أخرى، ولأن الضعيف إذا سرق الحديث وركب له إسنادا فإنما يركب له عن الثقات ليروج حديثه، ويغرب به على الرواة، وشيخ الكديمي في هذا الحديث ضعيف أيضًا، فيكون الكديمي بريئاً من عهدته، ويثبت تحديث الغفاري به، وهو أكبر من أبى خليفة ومن طبقة شيوخه ثم هو مدني وأبو خليفة بصرى، من غير أهل بلد الغفارى والمقصود أن الحديث معروف عن جابر بن عبد الله مروى من حديثه قبل أن يحدث به أبو خليفة.
فإن قيل: إن الحافظ لم يتهم أبا خليفة بوضع الحديث، حتى تبرىء ساحته بوجود الحديث مروياً عن جابر من قبله، وإنما نسب إليه الغلط في إسناده؛ فكأنه يتهمه بأنه سمع الحديث من طريق عبد الله الغفاري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، فوهم في إسناده وحدث به عن أبي الوليد الطيالسي عن أبي الزبير عن جابر.
فالجواب: أنه لو جوز عليه مثل هذا لما كان ثقة ولا حافظاً بل كان ضعيفا ساقطاً، لا تقبل له رواية، مع أنهم اتفقوا على ثقته وحفظه. وإمامته فى الحديث، إذ بون كبير بين السندين بحيث لا يمكن أن يغلط فيه الضعفاء، فضلاً عن الحفاظ الثقات، فكيف يروى الحديث عن عبد الله بن إبراهيم الغفاري المدني الضعيف ؟ ثم يرويه عن هشام بن عبد الملك البصرى الثقة؟ ثم يكون الحديث عند عبد الله الغفاري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن المنكدر، فيجعله هو عن شعبة، عن أبي الزبير، ثم يكون مع هذا حافظا ثقة، هذا ما لا يخطر ببال من له أدنى دراية بالرجال وصناعة الحديث، وكيف كانت عناية الثقات المشاهير كأبي خليفة بالرواية والمحافظة على الأسانيد والمتون؟ للمحافظة على السمعة بين أهل الحديث بذلك، فإن الراوى بأقل من هذا يسقط عندهم، ويقعون في عرضه، ويجرحونه ويحكمون بضعفه ويدرجونه في كتب الضعفاء فتسقط منزلته، ولم تقم له قائمة بعد ذلك، وأعرض عنه المتثبتون من الرواة، فلم يرووا عنه شيئاً، وربما حذروا من الرواية عنه كما هو معروف، وشيء من هذا لم يقع لأبي خليفة، ولا نبزه أحد من الحفاظ بترك ولا نكارة حتى اتهمه الحافظ بذلك في القرن التاسع وكان أولى أن يتهمه به أئمة الجرح والتعديل، مثل ابن حبان والدارقطنى وابن عدى وابن عـبـد الـبـر الذي خرج له هذا الحديث.
ومن عرف جلالة هؤلاء، وعظيـم قـدرهم في هذا الشأن، وشدة حفظهم وكثرة اطلاعهم على روايات الرواة، ولا سيما المشاهير منهم كأبي خليفة استبعد خفاء مثل هذا عنهم، ويكفى أن الدارقطني أحصى عليه من غرائبه مخالفته في قوله (عن مالك عن الزهري)، بدل (مالك عن صالح بن كيسان)، مع أن صالحاً ثقة أيضا، فهو إنما أبدل ثقة بثقة، وذلك لا يضر فكيف يسكتون عن إبدال ضعفاء بثقات؟ بل هذا عندهم من أعظم ما يستدلون به على ضعف الراوي، وأشد ما يجرحونه به.
فصل
الوجه الرابع: أن حديث أبي خليفة ليس فيه ركاكة في اللفظ ولا غرابة في المتن، ولا مخالفة في المعنى للأصول والأحاديث الصحيحة، كما وقع في حديث أبي هريرة السابق الذي مثلنا به، فإن فيه ركاكة في اللفظ ومخالفة في المعنى في مواضع منها قوله: من صام هذا اليوم كان له كفارة أربعين سنة، فإنه مخالف للحديث الصحيح المخرج في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية، وفى رواية الترمذي وابن ماجة صيام يوم عاشوراء (إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).
أما حديث أبي خليفة فلم يرد ما يخالفه، بل له أصول كثيرة تشهد له فإن التوسعة على العيال والأهل من باب النفقة عليهم، وهي من أفضل الصدقات، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسکین ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك). رواه مسلم من حديث أبي هريرة، وروى مسلم أيضاً من حديث ثوبان: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة المعروفة. وقد أخبر الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يخلف على العبد ما أنفقه (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) و( اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً) كما في الصحيح أن ملكاً ينادى بذلك كل يوم.
وهى أيضاً من صلة الرحم، وقد ثبت في الصحيح أن صلة الرحم من أسباب البركة في العمر والبسط في الرزق، وأيضًا هى من رحمة العيال وإدخال السرور عليهم وعلى الأهل معهم، وقد ثبت أن من رحمهم رحمه الله، وأن من سر مؤمن اسره الله في الدنيا والآخرة ومن رحـمـتـه تعالى به وسروره إياه أن يوسع عليه رزقه في سنته إلى غير ذلك مما يطول.
وأما تخصيص ذلك بيوم عاشوراء، فقد جاءت السنة الصحيحة بتخصيص أيام بخصائص لا توجد في غيرها، كالجمعة والعيدين وعرفة وعشر ذي الحجة والأيام البيض ونصف شعبان وليلة القدر وليالي رمضان وغيرها.
بل وفي الصحيح تخصيص صيام عاشوراء بكونه يكفر سنة ماضية، وليس هذا لغيره من الأيام إلا يوم عرفة، ومع زيادة سنة مستقبلة، فكما خص الله تعالى صيامه بتكفير ذنوب سنة كاملة، فكذلك جعل الله جزاء التوسعة فيه على الأهل والعيال بأن يوسع عليه سائر سنته جزاء من جنس عمله، فليس في هذا ما ينكر ولا يستغرب.
وقد أبدى الحكيم الترمذى فى نوادر الأصول لهذا حكمة حسنة، فقال بعد أن أخرج الحديث: والأصل في ذلك أن سفينة نوح عليه السلام استوت على الجودي يوم عاشوراء فقيل له: {اهبط بسلام منَّا وَبَرَكَاتِ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: ٤٨] وهم الموحدون إلى آخر الدهر {وأُمَمَ سَنمَتِعُهُم ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ هود: ٤٨] وهم المشركون، وكانوا كلهم في صلبه، وكان هذا السلام وهذه البركات عليه وعلى الأمم الموحدة التي معه ومن في صلبه.
وإنما قيل له اهبط من السفينة لتبوىء لأهلك وولدك مبوأ ومستقراً لمعاشك بهذا السلام وهذه البركات، فمن أراد أن يأخذ بحظه من تلك البركات، فوافى ذلك اليوم في كل وقت وزمان كان في تلك الهيئة هيأة من بوأ لعياله مرمة معاشهم، ويزيد فى وظائفهم ويهيئ لهم، ليناله حظه من ذلك السلام وتلك البركات، كما أن من أراد أن يأخذ بحظه من ذلك، فليدخل فيما دخل فيه الأمم من الإيمان بالله ويفارق الأمم التي مضت فوعدت المتعة والعذاب، فاستقبل الله تبارك اسمه بالدنيا استقبالاً، بعد أن غرقها وخربها شرقاً وغرباً، فلم يبق فى جميع الدنيا إلا سفينة نوح بمن فيها، فرد عليهم دنياهم يوم عاشوراء وأمروا بالهبوط للتبوئة والتهيؤ للعيال ومعاشهم مع السلام والبركات عليهم وعلى الأمم التي في صلبه من الموحدين، فمن خرج من الموحدين من الأصلاب في كل زمان، فأتى عليه ذلك اليوم فكأنه في يومه في وقته يهبط من السفينة، ويهيئ لعياله معاشاً فيناله سلامة وبركات لذلك، فإنما أوجب البركات له وللأم معه لاتخاذ الوطن والمعاش لعياله وعلى هذا السبيل ماجاء في الكحل أيضاً.
حدثنا نصر بن فضالة، حدثنا محمد بن عمر الواقدي، أسنده إلى يحيى بن أبي كثير قال: من اكتحل يوم عاشوراء بكحل إثمد فيه شيء من مسك، لم تجعه عينه تلك السنة، وعوفي من الرمد فالإكتحال مرمة العين وفى الكحل تقوية البصر، ومدد الروح، لأن بصر الروح متصل ببصر العين، والعين قالبه، فأما مرمة العين فإنه جاءنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: (من خير أكحالكم الإثمد فإنه ينبت الشعر ويجلو البصر).
حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق، ثنا يحيى بن سليم الطائفي، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن رسول الله له به.
فإنبات الشعر مرمة العين؛ لأن الأشفار ستر الناظرين، ولولا الأشفار لم يقو الناظران على النظر، فإنما يعمل ناظر العين من تحت الشفر، فالكحل ينبته وهو مرمته، وأما تقوية البصر فإنه يجليه ويذهب بغشاوته، وما يتحلب من الماقين من فضول الدموع والبلة الطبيعية ينشفه الإثمد، ولم يدعه يتلبث فيصير غشاوة وغيما على حدقتيه.
وأما مدد الروح؛ فإن بصر الروح في الباطن متصل ببصر العين، فإذا ذهبت هذه الغشاوة التي ذكرنا، وصل النفع إلى بصر الروح، ووجد لذهابه راحة وخفة، ففى مرمة المعاش مرمة النفس، فإذا كان ذلك منه فى هذا اليوم نال البركة فعوفى من الضيق ووسع عليه سائر سنته أهـ، كلام الترمذى الحكيم.
واستواء سفينة نوح عليه السلام على الجودي يوم عاشوراء، رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة قال: مر النبي ﷺ بأناس من اليهود قد صاموا عاشوراء فقال: ما هذا من الصوم؟ قالوا: هذا اليوم الذي نجى الله عز وجل موسى عليه السلام وبنى إسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودى، فصام نوح وموسى عليهما السلام شكراً الله عز وجل؛ فقال النبي ﷺ: (أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم، فأمر أصحابه بالصوم).
فصل
وأيضاً يوم عاشوراء مأمور فيه بالصوم، حتى للصبيان والأطفال الرضعاء، ففي الصحيحين من حديث الربيع بنت معوذ؛ قالت: أرسل رسول الله ﷺ غداة عاشوراء، إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام، أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار.
وعند أبي يعلى والطبراني -في الأوسط والكبير -من حديث أمة الله بنت رزينة، عن أمها أن رسول الله ﷺ كان يعظم يوم عاشوراء حتى إن كان ليدعو بصبيانه وصبيان فاطمة المراضع ذلك اليوم، فيتفل فى أفواههم، ويقول لأمهاتهم : لا ترضعوهم إلى الليل، وكان ريقه يجزيهم.
وإذ الجميع مأمور بصيام يوم عاشوراء حتى العيال، فقد يكون الأمر بالتوسعة عليهم فيه ترغيباً لهم في صيامه، إذ كان مراد الله تعالى من جميع خلقه صيام هذا اليوم، حتى الحيوان فقد ورد في آثار كثيرة أن الوحوش والطيور تصومه، وكذا النمل.
وورد في حديث مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -أن الصرد أول من صامه من الطيور، فرغب الحق سبحانه وتعالى عباده بالتوسعة عليهم سائر سنتهم إذا هم وسعوا على عيالهم فيه، ليرغبوهم في صيامه.
ويشهد لهذا أيضاً: ورود الترغيب في التوسع في النفقة وقت الصيام الذي هو شهر رمضان، فروى ابن أبي الدنيا في فضائل رمضان، من مرسل ضمرة وراشد بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (انبسطوا في النفقة في رمضان، فإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله).
فلما كانت العلة في التوسع في النفقة -هي الصيام أمر بالتوسع في يوم عاشوراء أيضاً، والمقصود أن حديث التوسعة يوم عاشوراء ليس فيه ما يخالف الأصول حتى يحكم بنكارته، بل الأصول شاهدة له كما ترى، فهو مع ثقة رجاله وصحة سنده الذي هو على شرط مسلم، صحيح كما قال الحفاظ ليس فيه ما يعارض الحكم بصحته، وهذا بالنظر إلى حديث جابر وحده، فكيف مع انضمام الطرق الأخرى إليه.
فصل
وحديث أبي سعيد الخدرى أخرجه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده، قال: أنبأنا عبد الله بن نافع، حدثني أيوب بن سليم بن ميناء، عن رجل، عن أبي سعيد، عن النبي. قال رسول الله ﷺ: (من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه في سنته كلها).
(وقال) الحكيم الترمذي في نوادر الأصول: في الأصل الثالث عشر ومائتين حدثنا نصر بن فضالة وعبد الكريم بن عبد الله اليشكري، قالا: حدثنا عبد الله بن نافع به مثله.
(ورواه البيهقي في شعب الإيمان) من هذا الوجه أيضاً. (قال) الحافظ في أماليه: لولا الرجل المبهم لكان إسناداً جيداً، لكنه يقوى بما أخرجه الطبراني في الأوسط. (قال) حدثنا هاشم بن مرثد، حدثنا محمد بن إسماعيل الجعفري، ثنا عبد الله بن سلمة الربعي، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سنته كلها).
(قال الحافظ): والجعفرى ضعفه أبو حاتم، وشيخه ضعفه أبو زرعة ورجال الإسناد كلهم مدنيون معروفون (قلت) الجعفرى ذكره ابن حبان في الثقات، فحديثه حسن أو صحيح على رأيه، وشيخه يروى أيضاً عن الزهري، وادعاء أبي زرعة أنه منكر الحديث، مردود. فإنه ممن يتعسف في الرجال، والحكم على الأحاديث بالنكارة بمجرد أمر يتوهمه، ولا يدرك وجه الصواب فيه، حتى حكم ببطلان أحاديث خرجها بعده البخارى ومسلم في صحيحيهما، واتفقت الأمة على صحتها، وكذلك كان صنيع رفيقه أبي حاتم الرازي، فكانا يجرحان الراوي ويحكمان عليه بالترك بناء على استنكارهما لحديث أو أحاديث رواها قد تكون في الواقع غير منكرة.
ولهذا تقرر في علم الحديث أن الجرح الذي لا يفسر، ولا يذكر سببه، لا يقبل ولا يعمل عليه، بل غاية ما يفيد التوقف عن قبول خبر المجروح به حتى يحصل ما يرفع عنه موجب ذلك التوقف، ويتحقق من معرفة سببه فيقبله حينئذ أو يرده.
وموجب رفع التوقف عندنا فى هذا الراوى عدم انفراده بالخبر ومتابعة غيره وهو ابن ميناء على روايته عن صاحب أبي سعيد الخدري الذي يحتمل أن يكون هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، شيخ شيخ عبد الله بن سلمة الربعي فيه، فتكون متابعة تامة من راو صدوق، وله مع ذلك شواهد من رواية صحابة آخرين غير أبي سعيد، فالظن مع هذه المتابعة والشواهد يقوى بصدق عبد الله بن سلمة فيما أتى به فلا ينحط حديثه عن رتبة الحسن، وهو ما يفيده كلام الحافظ كما سبق والله أعلم.
فصل
وحديث أبي هريرة -ورد عنه من طرق صحح بعضها الحافظ أبو الفضل بن ناصر -كما حكاه الحافظ العراقي، إلا أنه لم يذكر ذلك السند الذي صححه حتى نعرفه، ولعله غير السند السابق الذي رواه ابن الجوزي عن أبي الفضل بن ناصر؛ فإن ذلك السند وإن كان صحيحاً ظاهراً إلا أنه منكر المتن معلول السند كما بيناه.
ومن الطرق عن أبي هريرة: ما رواه ابن عدى قال: حدثنا الحسن بن على الأهوازي، ثنا معمر بن سهل حدثنا حجاج بن نصير (ح) وقال أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" حدثنا علی بن محمود بن على بن مالك حدثنا أبو محمد بن إبراهيم بن أحمد بن الفضل حدثنا إبراهيم بن عون ثنا الحجاج بن نصير حدثنا محمد بن ذكوان عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وسع على عياله وأهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته).
وقد أورد ابن الجوزى هذا الطريق في "الموضوعات" من جهة ابن عدى، ونقل عن العقيلي أنه قال: سليمان مجهول والحديث غير محفوظ.
وهذا خطأ من العقيلي وابن الجوزى معاً، فإن سليمان المذكور قال فيه البخاري وأبو حاتم: أدرك المهاجرين والأنصار، زاد أبو حاتم وليس هو بالمشهور فيعتبر بحديثه فلم يعبر عنه بأنه مجهول كما قال العقيلي -وإنما قال: غير مشهور وكونه غير مشهور لا يضر، ثم معنى كلامه أنه ليس له حديث كثير ينظر فيه حتى يعرف منه حاله وإذ ذلك كذلك فمن أين يحكم بضعفه فضلاً عن بطلان حديثه؟
والأصل في حملة العلم العدالة لا سيما من التابعين بل من كبارهم الذين أدركوا المهاجرين والأنصار كهذا، ولهذا ذكره ابن حبان في الثقات والحق معه والأصول تؤيده وترد خلافه، وحينئذ فالحديث حسن كما قال الحافظ العراقي، كيف وقد روى له أيضاً أبو داود في السنن؟ فهو صالح عنده للاحتجاج بخبره، فمن أدرك المهاجرين والأنصار، واحتج به أبو داود في سننه الذي هو أحسن الكتب الستة بعد الصحيحين، ووثقه ابن حبان كيف يقال في حديثه إنه موضوع لو انفرد؟ فكيف وقد توبع ؟ ولهذا لم يلتفت الحافظ إلى حكم ابن الجوزي على كثير من الأحاديث بالوضع، لأنه كان سطحى النظر، غير متعمق في التفكير، ولا عنده من سعة النظر والغوص على المعانى وتحقيق المدرك ما يجعله صائباً في حكمه، موفقاً للحق فيه.
على أن ابن عدى إنما خرجه في ترجمة محمد بن ذكوان، وهو وإن ضعفه بعضهم؛ فقد روى عنه شعبة -وكان لا يروى إلا عن ثقة وهذا يكفيه -فإنه من أعظم فخر وأكبر توثيق كيف وقد وثقه مع ذلك إمام أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين؟
قال أبو داود الطيالسي، عن شعبة: حدثني محمد بن ذكوان وكان كخير الرجال، وقال إسحاق ابن منصور، عن يحيى بن معين: محمد بن ذكوان الذي روى عنه شعبة ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدى هو مع ضعفه يكتب حديثه، وخرج له ابن ماجه في السنن، فهذا السند على شرط الحسن في اصطلاح أكثر الحفاظ، ومن أولهم الترمذى؛ فإن الحسن عنده ما في سنده ضعف قريب محتمل مع وروده من غير وجه كذلك، كما هو وصف هذا الحديث . أعنى حديث أبي هريرة بمفرده لأنه ورد من طرق أخرى عنه أيضاً ، كما سبق .
وأما قول العقيلى: أنه غير محفوظ فمن مجازفاته المعروفة في الأحاديث الصحيحة بل والمخرجة في الصحيحين وهي كثيرة جداً بحيث لا يعتمد على شيء من إطلاقاته، ولا من أحكامه. لأنه لا يصيب إلا في القليل النادر منها، ولذلك لما اعتمد على إطلاقاته ابن بدر الموصلى صاحب (المغنى عن الحفظ والكتاب) وقع فى أخطاء أعدمت النفع بكتابه، بل وكذلك كثير من أحكام ابن الجوزى الخاطئة بالوضع، مرجعها إلى العقيلي وتقليده، ثم إن قول العقيلي في هذا الحديث إنه غير محفوظ، لا معنى له؛ لأن هذه العبارة تفيد أنه شاذ، لأن الشاذ هو الذي يقابل المحفوظ، فإذا لم يكن محفوظاً فهو شاذ. والشاذ ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه، أو ما تفرد به الثقة ولم يتابعه عليه غيره، على بعض الأقوال فى الشاذ، وكل هذا غير موجود فى هذا الحديث كما هو ظاهر.
فصل
وحديث ابن مسعود أخرجه الطبراني، قال: حدثنا عبد الوارث بن إبراهيم، حدثنا على بن أبي طالب البزار، حدثنا هيصم بن شداخ عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، قال: قال رسول الله ﷺ: (من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته).
(وأخرجه) أيضاً ابن عدى فى الكامل والبيهقى فى شعب الإيمان كلاهما من طريق عبد الوارث بن إبراهيم به.
(ورواه) العقيلي في الضعفاء عن عبد الوارث المذكور، لكنه خالف في إسناده فقال: عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن علقمة، فأبدل إبراهيم بيحيى بن وثاب.
(ورواه) ابن حبان في الضعفاء من وجه آخر؛ فوافق الجماعة فإنه قال: حدثنا محمد بن المسيب، ثنا عمار بن رجاء، ثنا على بن أبى طالب البصري ثنا هيصم بن شداخ عن الأعمش عن إبراهيم به.
(ورواه) البيهقي في الشعب من وجه آخر؛ فقال: أنبانا على بن محمد، أنبانا أبو بكر الشافعي، ثنا جعفر بن محمد بن عراك، عن مهاجر البصري، عن الهيصم بن شداخ الوراق به مثله، ثم قال البيهقي: تفرد به الهيصم عن الأعمش أهـ،
والهيصم قال الحافظ فى (أماليه): اتفقوا على ضعفه، وعلی تفرده به یعنی عن الأعمش (قلت) مراده بالإنفاق على ضعفه، عدم وجود من وثقه، وإلا فما تكلم فيه إلا أبو زرعة وابن حبان وقال العقيلي: إنه مجهول وهذا الجرح غير ضائر في هذا الحديث، فإنه ما تفرد بمتنه، ولا أغرب بمعناه والرجل يروى عن الأعمش وشعبة.. وقد روى شعبة هذا الحديث عن أبي الزبير عن جابر كما سبق، وكذلك روى الحديث إبراهيم ابن محمد بن المنتشر وسفيان بن عيينة كما سبق أيضاً بالسند الصحيح، والحديث الذي يكون عند شعبة وابن المنتشر وابن عيينة لا يستغرب أن يكون عند الأعمش أيضاً عن شيوخه، وليس كل ما يرويه الضعيف أو المجهول ضعيفاً، إلا إذا قامت قرينة على ذلك ولا قرينة هنا بل القرينة موجودة على الثبوت لاشتهار الحديث من الطرق الأخرى، ولئن سلم لابن حبان دعواه أن الهيصم يروى الطامات فما هذا من الطامات إلا إن قيل إنه طامة بالنسبة لرواية الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، الذين يظن أن هذا ليس من حديثهم، وعلى كل فحديث ابن مسعود هذا من الضعف المنجبر بوجود شواهده كما قال البيهقي
فصل
وحديث ابن عمر رواه الخطيب في الرواة عن مالك، قال: أنبأنا أبو الوليد الحسن بن محمد بن على الدربندي، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان الحافظ، أنبأنا أبو نصر أحمد بن أبي حامد الباهلي، ثنا محمد بن حنيف بن جعفر بن رزين ثنا أسباط بن اليسع، أنبأنا سهل بن أبي عيسى أبو صالح الفراهاني المروزي، أنبأنا خطاب بن أسلم من أهل أبيورد، حدثنا هلال بن خالد، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان ذا جدة وميسرة فوسع على نفسه وعياله يوم عاشوراء وسع الله عليه إلى رأس سنته المقبلة). قال الخطيب: في إسناده غير واحد من المجهولين ولا يثبت عن مالك أهـ.
وقال الذهبي في ترجمة هلال من الميزان: هذا باطل (قلت) حکمه ببطلانه إنما هو من أجل استغراب كون مالك يروى مثله، لا لدليل آخر، وهو غير مقبول: (أما أولاً) فإن الحديث مروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالسند الجيد الصحيح كما سأذكره، فلا يبعد أن يكون الحديث عند ابنه عبد الله، فيرويه عنه مولاه نافع، ويرويه عن نافع مالك.
(وأما ثانياً) فإنه لا غرابة في رواية مالك لهذا الحديث وأمثاله فمن قرأ رسالة مالك إلى هارون الرشيد، علم أن مالكاً يروى ما هو أغرب من هذا وأغرب بمراحل، بل هذا لا غرابة فيه مطلقاً، وإنما الغرابة في تلك المرويات، والرسالة المذكورة رويناها عن مالك بالأسانيد الصحيحة التي لا مطعن فيها ولا مغمز من رواية الفقهاء من كبار أصحابه.
ولا خصوصية لمالك فى هذا، فإن كل الحفاظ والأئمة الذين ينتقون الأحاديث في مصنفاتهم الكبيرة المعتمدة، لا يسلكون ذلك المسلك في غيرها من مصنفاتهم، فالبخاري الذي التزم أن لا يخرج في صحيحه المصنف في الأحكام إلا الصحيح، يخرج في غيره من مصنفاته غرائب من الأخبار والآثار، وكذلك أحمد الذي التزم أن لا يخرج في مسنده المشهور، إلا ما هو نظيف معتمد، يخرج في مصنفاته الأخرى عجائب لا يظن به أن يتنازل لروايتها كما فعل في كتاب المناقب، وهكذا كل الحفاظ، فاستغراب رواية مالك لهذا الحديث، وتحديثه به قصور عن إدراك هذا المعنى المحقق المقطوع به، ويمكن تأييد رواية مالك لهذا الحديث بذكر عبد الملك بن حبيب -أحد كبار أئمة مذهبه، المتلقى الحديث والفقه عن جماعة من تلامذة مالك، لمعنى هذا الحديث في نظمه الذي نقله الحافظ السيوطى، عن صاحب المغرب وهو قوله:
لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا .. . واذكره لا زلت في الأخيـار مــذكـوراً
قال الرسول صلاة الله تشمله .. . قولاً وجدنا عليه الحق والنورا
من بات في ليل عاشوراء ذا سعة .. . یکن بعيشته في الحول محبورا
فارغب فـديـنك فيما فيه رغبنا .. . خير الورى كلهم حيا ومقبوراً
فهذا تصريح منه بصحة الحديث عنده، وتلك الطبقة كانوا يعتمدون غالباً على ما جاءهم عن مالك والله أعلم.
فصل
ومرسل إبراهيم بن محمد بن المنتشر رواه جماعة، (قال) الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في الأصل الثالث عشر ومائتين: حدثنا عبد الجبار، قال حدثنا سفيان، قال حدثني جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، قال: (بلغني أن من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته)، قال سفيان: جربناه منذ أربعين سنة فلم نر إلا خيراً.
(وقال) السمرقندى فى التنبيه: حدثنا محمد بن الفضل، حدثنا محمد بن جعفر، ثنا إبراهيم بن يوسف ثنا سفيان عن إبراهيم به مثله، قال سفيان: جربناه فوجدناه كذلك.
(وقال) البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد المروزى، ثنا شاذان، أنبأنا جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، قال: كان يقال: (من وسع على عياله يوم عاشوراء لم يزالوا في سعة من رزقهم سائر سنتهم)، وهذا أثر صحيح كالشمس عن إبراهيم المذكور، وقد صرح الـعـقـيـلـي بصحته، وبكونه عن النبي ﷺ فقال: لا يثبت في هذا الباب حديث مسند، وإنما هو حديث من رواية إبراهيم بن المنتشر عن النبي أهـ.
وإبراهيم المذكـور مـن التابعين يروى عن أنس بن مالك وغيره، واتفق على الاحتجاج به الجميع، فهو مرسل صحيح، وقد تقرر أن المرسل إذا اعتضد بمرسل آخر، أو مسند ضعيف، كان حجة مقبولاً عند الجميع، حتى عند من يقول بعدم الاحتجاج بالمرسل، وذلك في الأحكام، فضلاً عن الفضائل، فكيف وقد اعتضد هذا المرسل الصحيح بالمسند الصحيح على شرط مسلم، وبالمسند الصحيح أيضاً أو الحسن، وبمسانيد أخرى ضعيفة، فلم يبق شك مع هذا في ثبوت الحديث عن النبي ويزيد ذلك تأييداً الموقوف الصحيح المذكور بعده، فإنه موقوف له حكم الرفع، لأن هذا لا يقال من قبل الرأى ولا مجال للاجتهاد فيه.
فصل
وأما الموقوف على عمر بن الخطاب رضى الله عنه فأخرجه ابن عبد البر بسند رجاله ثقات -كما قال الحافظ العراقي، قال: لكنه من رواية سعيد بن المسيب عنه، وقد اختلف في سماعه منه. (قلت) قد رأى عمر وسمع منه ولا بد، كما نقل عنه بالإسناد الصحيح، ولكنه كان صغيراً، ومع ذلك فكان أحفظ الناس لقضايا عمر وأحاديثه وكلامه، حتى كان يسمى راوية عمر، وحتى كان عبد الله بن عمر إذا أشكل عليه أمر من قضايا والده سأل عنه سعيد بن المسيب.
ثم مع هذا أيضاً فكان لا يروى إلا عن ثقة، حتى قالوا: مرسلاته عن عمر تدخل في المسند، يعنى المتصل مجازاً فأثره هذا صحيح أيضاً، وهو في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس مما يدخله الرأى والاجتهاد كـمـا قـدمنا، ولأن عمر رضي الله عنه لم يكن يأخذ عن أهل الكتاب بل كان أشد الناس كراهية لذلك، وكان يضرب عليه بالدرة فهذه ثلاثة أسانيد صحاح لهذا الخبر، وهي مرفوع مسند، و مرسل، وموقوف له حكم الرفع، وإسناد حسن ،رابع والمجموع يفيد القطع أو يكاد بصحة الحديث عن رسول الله فهو أقوى من كثير من الأحاديث المخرجة في صحيح البخاري ومسلم جزماً والله أعلم.
فصل
فإن قيل: إن هذا الخطيب الذي زعم أن الحديث موضوع أيد زعمه الباطل بأن التجربة لا تشهد له، فقال بعد أن نقل القول بوضعه عن رجل شيعي مؤرخ لا معرفة له بالحديث -كالخطيب نفسه: إنا نرى كثيراً من الناس يوسع على عياله يوم عاشوراء، فلا يوسع عليه سائر سنته وقد نص المحدثون على أن التجربة من شواهد صدق الحديث بقطع النظر عن الإسناد.
فالجواب: أن الخطيب المذكور، أخطأ في زعمه، ودخل عليه الوهم والخلل من جهله بالحديث وعدم فهمه.
أما أولاً: فإن من يعرفه من الناس الذين له بهم صلة واطلاع على أحوالهم، لا يتجاوزون عدد أصابعه جزماً، فكيف يحكم بحالهم على آلاف الآلاف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والخبر لا ينقض بواحد واثنين بل ولا بعشرة وعشرين في جنـ الملايين.
ثانياً: من قال إن التوسعة المطلوبة التي جعل الشارع جزاءها التوسعة طول السنة هي إطعامهم التمر والزبيب واللوز والجوز وشراء اللعب والملاهي -كما جرت به عادة المغاربة، فقد يكون مراد الشارع التوسعة في الطعام واللباس وغير ذلك، وإذا تخلف الشرط تخلف المشروط .
ثالثاً: من عرفه أن ذلك الذى ضيق عليه في سنته قد وسع على عياله وأهله في يوم عاشوراء منها، فقد يكون تخلف عن ذلك لعذر ومانع منعه لينفذ حكم الله فيه.
(فإن قيل) لعله يخبر بذلك عما حصل له فكأنه وسع على عياله يوم عاشوراء فلم يوسع عليه في سنته (فالجواب) أن العبد قد يحرم الرزق بالذنب يصيبه؛ كما قال النبي ﷺ في الحديث الذى رواه أحمد وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ثوبان، لا سيما العقوق، وقطيعة الرحم والحسد على نعم الله التي أنعم الله بها على عباده، والبغي، والتعدي لأجل شفاء الصدر من داء الحسد، فقد ورد في هذه الكبائر الموبقات: أن من جملة عقوبة المبتلى بها - والعياذ بالله تعالى – التضييق في الرزق، جامع شروح الفقه الشافعي، وعدم البركة فيه.
رابعاً: قد يكون ذلك مشروطاً بالنفقة مع الجدة واليسار -كما ورد التصريح به في حديث ابن عمر دون النفقة مع القلة والمعسرة، فإن كثيراً من الناس يتكلفون ذلك مع قلة ذات يدهم، وربما باعوا بعض لوازمهم الضرورية، وربما استدانوا أو سألوا الناس، وكل ذلك غير مأذون فيه شرعاً، فلا يترتب عليه الجزاء.
خامساً: قد يكون ذلك مشروطاً أيضاً بالنفقة من الحلال، بل ذلك لازم، فإن النفقة من الحلال هي التي يقبلها الله تعالى، ويجازى عليها بالتوسعة طول السنة في الدنيا، والثواب في الآخرة، وقل: من بيده الحلال اليوم.
سادساً: من أطلعه على الغيب؟ وأعلمه بأن رزق ذلك المضيـق عـلـيـه كـان سـيـكـون كذلك، فقد يكون الله تعالى قدر أنه سيضيق عليه أكثر مما هو فيه أضعافاً مضاعفة، بحيث يطوى الليلة والليلتين جائعاً، ولكن لما وسع على عياله يوم عاشوراء، رفع الله عنه ذلك ووسع عليه توسيعاً يناسب حاله، فلم يمض عليه وقت تناول الأكل بدون طعام، وإن كان بسيطاً إلا أنه توسعة في حقه بالنسبة إلى ما كان مقدراً عليه لولا التوسعة على العيال يوم عاشوراء، فإن كثيراً من الناس يعدون أكل الخبز بالزيت أو باللبن الحامض كل يوم توسعة ويرونها نعمة عظيمة، فإذا فقدوها فقدوا السعة ورغد العيش في حال أن غيرهم لو أكل ذلك وصار هو عيشه لعده فقرا مدقعاً، وبلاء عظيماً لا يكاد يتحمله، فإذا جرب أحد هذا الحديث فرآه غير صادق لقصور فهمه وسوء عمله فإن غيره جربه فوجده كذلك، وهذا الإمام سفيان بن عيينة يقول: إنه جربه أربعين سنة فوجده كذلك، وهكذا يقول شعبة، وأبو الزبير، وجابر بن عبد الله رضی الله عنه، فليتهم فهمه وقصور نظره، ولا يتكلم في الأحاديث النبوية بدون علم، وإذا وجد الـسـبـيـل بـهـذا إلى رد الأحاديث الصحيحة فكيف له بقوله تعالى: {وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دعوة الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: ١٨٦] وقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠] وهو وغيره يدعو فلا يستجاب لهم، فهل يطعن في صحة القرآن؟ أم يجيب عن هذا الإشكال بجواب مقبول، فإن وفق له فليكن ذلك جواباً على الحديث أيضاً، والله أعلم.
خاتمة
إذا علم أن الحديث صحيح، فليست التوسعة المذكورة فيه هي ما اعتاده المغاربة من شراء اللعب وإقامة المهرجانات فى الأسواق والزيادة في إظهار السرور، فإن ذلك ليس من التوسعة، ولا هو في الحديث، وإنما ابتدعه بنو أمية لعنهم الله بالأندلس، إغاظة منهم لآل البيت وتشفياً حيث قتل سلفهم يزيد بن معاوية لعنه الله الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء ظلماً، شر قتلة، وفتك به وبكثير من أهله وعياله الكرام الأطهار، وأنزل بهم - لعنه الله - البلاء ما تتفتت لسماعه أكباد أهل الإيمان، وعن أهل الأندلس النواصب أعداء آل البيت أخذ ذلك جوارهم المغاربة، ولا سيما السواحل كأهل طنجة فالاحتفال بذلك اليوم إذاية الله ورسوله وآل بيته الأطهار -رضى الله عنهم -ولعن مبغضهم ومؤذيهم، بل من فعل ذلك بقصد التشفي منهم: منافق كافر بالله ورسوله، لا حظ له في الإيمان، هذا مع ما ينضم إلى ذلك من المنكرات وهتك الحرمات التي قد سبق إلى التأليف فيها والتنبيه عليها جماعة من علماء المغرب، منهم العلامة الأفراني المراكشي المؤرخ، فلا حاجة إلى ذكرها فإنها معلومة بالضرورة، وإنما الغرض التنبيه على أصل الاحتفال، وأنه من وضع النواصب لعنهم الله، فليحذر المؤمن ترويج باطلهم، وتأييد غرضهم الفاسد، ولو عن جهل بمقصدهم الخبيث، وليقتصر - إن رغب في العمل بالحديث – على مجرد التوسعة المباحة من الطعام والشراب والملبس فإنه المذكور في الحديث لا غيره، ولما لم يدرك بعض الأفاضل هذا الفرق استغرب منا التأليف في نصرة هذا الحديث وتأييد القول بصحته مع علمه بحبنا لآل البيت -رضى الله عنهم، وبغضنا للنواصب أعدائهم والفرق ظاهر كما ذكرناه، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بحمد الله كتاب هدية الصغراء