أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 14 نوفمبر 2022

حقيقة التوحيد الدكتور يوسف القرضاوي

حقيقة التوحيد

الدكتور يوسف القرضاوي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا شك أن علم التوحيد يعد المقدمة الأولى للعلوم التي يجب على المكلف تعلمها، فهو أشرف العلوم وأفضلها، وأرفعها مكانة وأجلها، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، ولا أشرف من توحيد الله تعالى، ومعرفة ما يجب له من الأسماء الحسنى والصفات العُلا، وإدراك حقوقه تعالى على عباده، والالتزام بذلك علماً وعملاً، فإن العبد كلما كان بهذا أعرف وله أتبع، كان إلى ربه أقرب، وبهذا تنال النجاة والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

أما العبادة؛ فهي كلمة تتضمن معنيين امتزج أحدهما بالآخر، فصارا شيئاً واحداً، وهما نهاية الخضوع مع نهاية الحب، فالخضوع الكامل الممتزج بالحب الكامل هو معنى العبادة، فأما حب بلا خضوع، أو خضوع بلا حب، فلا يُحقق معنى العبادة، وكذلك بعض الخضوع مع بعض الحب لا يحقق العبادة، بل لا بد من كل الخضوع مع كل الحب.

ثم إن القول بوحدة الرب الأعلى - فضلاً عن دلالة الوحدة الكونية عليه - هو الذي يتفق مع منطق العقل البشري السوي. فالعقل ينشد الوصول إلى الوحدة من وراء الكثرة. ويتطلب أن يسير من الأسباب المتعددة إلى سبب واحد، هو سبب الأسباب أو علة العلل. وهذا ما جعل بعض الفلاسفة يطلقون على خالى الكون «العلة الأولى».

وفي هذا الكتاب يُسلط القرضاوي الضوء على مفهوم التوحيد، وأنواعه، وأقسامه، وشروطه، ومظاهره، وآثاره على الفرد والمجتمع، وفي المقابل تحدث عن الشرك وأقسامه، ومظاهره، وآثاره على الفرد والمجتمع.

من الشرك الأكبر الخفى الدعاء والاستعانة بالموتى.  

ومن الشرك الأكبر نوع خفي ، يخفى على كثير من الناس ومنه دعاء الموتى والمقبورين من أصحاب الأضرحة والمقامات، والاستعانة بهم وطلب قضاء الحوائج منهم، وطلب شفاء المرضى، وتفريج الكربات، وإغاثة الملهوف، والنصر على العدو، مما لا يقدر عليه إلا الله، واعتقاداتهم أنهم يضرون وينفعون. وهذا أصل شرك العالم، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى .  

• وسبب خفاء هذا الشرك أمران:  

١ - أن الناس لا يسمون هذا الدعاء والاستعانة والاستغاثة بأصحاب القبور عبادة، ويظنون أن العبادة إنما تنحصر في الركوع والسجود والصلاة والصيام ونحوها. والحقيقة أن روح العادة كما ذكرنا - هو الدعاء، كما جاء فى الحديث : «الدعاء هو العبادة».

٢-انهم يقولون: نحن لا نعتقد أن هؤلاء الأموات الذين ندعوهم ونستغيث بهم آلهة أو أرباب لنا، بل نعتقد أنهم مخلوقون مثلنا، ولكنهم وسائط بيننا وبين الله، وشفعاء لنا عنده.  

وهذا من جهلهم بالله جل جلاله، وقد حسبوه مثل الملوك الجبارين والحكام المستبدين، لا يستطاع الوصول إليهم إلا بوسطاء وشفعاء. وهر نفس الوهم الذي سقط فيه المشركون قديماً. قالوا عن آلهتهم وأصنامهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى}، وقال: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله}.

ولم يعتقدوا يوما أن آلهتهم وأصنامهم تخلق أو ترزق أو تحيي أو تميت، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ }، وقال جل شأنه: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ }.

ومع هذا الاعتقاد في الله تعالى، أنه خالق السموات والأرض، وأنه الرزاق المدبر المحيي المميت، والاعتقاد في الأصنام أنها مجرد وسائط وشفعاء لهم عند الله؛ هذا كله رماهم القرآن بالشرك، وسماهم المشركين، وأمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويقولوا: «لا إله إلا الله»، فمن قالها فقد عصم دمه وماله إلا بحق الإسلام.

إن الله تعالى غني عن الوسائط والشفعاء، وهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، كما قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} (البقرة:١٨٦). {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: ٦٠). وبابه تعالى مفتوح لكل من أراد الدخول، ليس عليه حاجب ولا بواب.

تعظيم القبور

ومما حذر منه الإسلام أشد التحذير: تعظيم القبور، وبخاصة قبور الأنبياء والصالحين، ولذلك نهى عن جملة أشياء تفضي إلى تعظيم القبور منها: 

١ -اتخاذها مساجد:

روى مسلم في  «صحيحه» أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال قبل أن يموت بخمسٍ: «ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم من ذلك».  

وعن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم -أي في حالة الاحتضار ـ طفق يطرح خميصةً له على وجهه. فإذا اغتمَّ كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». يحذر ما صنعوا (متفق عليه). 

٢ - الصلاة إليها:

ففي الحديث: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها». (رواه مسلم). أي لا تجعلوا القبور في اتجاه القبلة.

٣- إضاءتها وإيقاد السرج عليها:

في الحديث: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج». (رواه أحمد والترمذي وغيرهما).

٤- البناء عليها وتجصيصها:

روى مسلم عن جابر، رضي الله عنه، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه بناء».

٥- الكتابة عليها:

لحديث جابر رضي الله عنه: «أنه نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها». (رواه أبو داود والترمذي). 

٦-إعلاؤها وترفيعها:

وفي حديث علي رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم -بعثه وأمره ألا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه» (رواه مسلم).

و في سن أبي داود -«نهيه عليه الصلاة والسلام أن يزاد عليها غير ترابها من الأحجار والآجُرّ ونحوها»، ولهذا  كان السلف يكرهون الآجر على قبورهم.

٧-اتخاذها عيداً:

روى أبو داود، عن أبي هريرة مرفوعاً: «لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فـإن صلاتكم تبغلني حيثُ كنتم». 

وروى أبو يعلى بسنده عن علي بن الحسين، أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها يده ويدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم».  

ومعنى اتخاذ القبر عيداً: قصده للاجتماع فيه، والقعود عنده، ونحو ذلك.

وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل قبر على وجه الأرض، فـإذا نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهى، كاثناً من كان.

ويكفي أن يصلى ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، فتصله صلاته وسلامه حيثما كان.  

• الحكمة في هذا التحذير:  

والحكمة في نهي الإسلام عن تعظيم القبور أنه ذريعة إلى الشرك الأصغر والأكبر كما رأينا في قوم نوح، وكما هو مشاهد إلى اليوم. 

فالغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً معبودة ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل تبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». (رواه مالك).  

ومما يأسف له كل مسلم غيور على دينه أن ما حذر منه الرسول قد وقع فيه كثير من أهل الإسلام؛ فقد اتخذوا قبور بعض الصالحين أعياداً، وشيدوها وزخرفوها، وبنوا عليها المساجد والقباب، وأوقدوا عليها السرج والقناديل، ووقفوا لذلك الوقوف، ونذروا لها النذرور، وطافوا بها كالكعبة، واستلموها كالحجر الأسود، وأوسعوا جدرانها لثماً وتقبيلاً، ومنهم من يسجد لها، ويعفر الخدود على ترأبها، ويقف خاشعاً مستكيناً، يستغيثُ بأصحابها، يسأله مشافهةً - قضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وشفاء المرضى، والنصر على الأعداء، وبعضهم يقدم طلباته مكتوبة في رقاع إلى صاحب القبر، وهذا من الشرك الصريح، ولا حول ولا قوة إلا بالله.  

• الألفاظ الموهمة للشرك:  

ومما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم: الألفاظ التي فيها إيهام للشرك وإساءة للأدب مع الله، وذلك حماية منه لحمى التوحيد.  

(أ) من ذلك قول القائل: ما شاء الله وشاء فلان، أو باسم الله واسم الأمير، أو اسم الشعب، وقد مر بنا إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له ذلك، روى حذيفة عنه صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان». (رواه ابو داود بسند صحيح).  

(ب) ومن ذلك قولهم: لولا الله وفلان، أو اعتمدت على الله وعليك، وما شابه هذه الألفاظ، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً} الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل، على صفاة سوداء، وفي ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الرجل وفلان .. هذا كله به شرك. (رواه ابن أبي حاتم).  

(ج) ومن ذلك التسمي بأسماء الله تعالى، أو بما لا ينبغي إلا لله.  

روى أبو داود عن أبي شريح، أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو الحكم وإليه الحكم». ثم كنى ولده، شريح أكبر أولاده.  

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله». قال سفيان بن عيينة مثل: شاهنشاه عند العجم؛ لأن معناها ملك الملوك، وفي رواية: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبث». وأخنع اسم، أي: أوضع اسم وأذله.  

(د ) ومن ذلك أن يسمى الإنسان باسم معبد لغير الله، كعبد الكعبة أو عبد النبي، أو عبد الحسين، أو عبد المسيح، ونحو ذلك، فقد نقل ابن حزم الإجماع على تحريم التسمية بذلك، باستثناء عد المطلب.  

(هـ) ومن ذلك: سب الدهر عند نزول الشدائد والنكبات بالناس، فإن سب الدهر حينئذٍ كان نوعاً من شكوى الله تعالى أو السخط عيه؛ فإنه هو الذي يدبر الأمر، ويقلب الليل والنهار، وهو الفاعل لكل ما في الكون من أحداث.  

ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار.  

• آثار التوحيد في الحياة

إن التوحيد الخالص من شوائب الشرك إذا تحقق في حياة فرد أو قامت عليه حياة أمة آتى أينع الثمرات، وحقق أنفع الآثار في الحياة، ومن ثمرات التوحيد وآثاره:

(أ) تحرير الإنسان:  

فالشرك بكل صوره ومظاهره ليس إلا امتهاناً للإنسان، وإذلالاً له، حيث يلزمه الخضوع للمخلوقات، والعبودية لأشياء أو لأناس لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً. أما التوحيد فهو في الواقع تحرير للإنسان لعقله من الخرافات والأوهام، وتحرير لضميره من الخضوع والذل والاستسلام، ومن كل عبودية إلا لربه الذي خلقه فسواه، وتحريرٌ لحياته من تسلط الفراعنة والأرباب و المتألهين على عباد الله.

ولهذا قاوم زعماء الشرك وطغاة الجاهلية دعوات الأنبياء عامة، ودعوة الرسول خاصة؛ لأنهم كانوا يعلمون أن معنى «لا إله إلا الله»: إعلان عام لتحرير النبش، وإسقاط لكل برة من عروش تأهلهم الكاذب، وإعلاء لجباه المؤمنين الجبابرة، فلا تطأطئ إلا ساجدة لله رب العالمين.  

(ب) تكوين الشخصية المتزنة:  

والتوحيد يعين على تكوين الشخصية المتزنة التي تميزت في الحياة وجهتها، وتوحدت غايتها، وتحدد طريقها، فليس لها إلا إله واحد تتجه إليه في الخلوة والجلوة، وتدعوه في السراء والضراء ، وتعمل على ما يرضيه في الصغيرة والكبيرة.  

بخلاف المشرك الذي تقسمت قلبه الآلهة، وتوزعت حياته المعبودات، فحينا يتجه إلى الله، وأحياناً إلى الأصنام، وحينها إلى هذا الصنم، وحيناً إلى ذاك.  

ومن هنا قال يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يوسف: ٣٩)، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٢٩).

مثل المؤمن بعبدٍ له سيد واحد عرف ما يرضيه وما يسخطه، فوقف عند ما يرضيه واستراح إليه، ومثل المشرك بعبد له أكثر من سيد، هذا يوجهه إلى الشرق، وذاك إلى الغرب،  وهذا يأخذه إلى اليمين، وآخر إلى اليسار، فهم شركاء متشاكسون، وهو بينهم مشتت موزع لا ثبات له ولا قرار.  

(ج) التوحيد مصدر لأمن النفس:  

والتوحيد يملأ نفس صاحبه أمناً وطمأنينة، فلا تستبد به المخاوف التي تتسلط على أهل الشرك، فقد سد منافـذ الخوف التي يفتحها الناس على أنفسهم: الخوف على الرزق، والخوف على الأجل، والخوف على النفس، والخوف على الأهل والأولاد، والخوف من الإنس، والخوف من الجن، والخوف من الموت، والخوف مما بعد الموت. . أما المؤمن الموحد فلا يخاف شيئاً ولا أحداً إلا الله، ولهذا تراه آمنا إذا خاف الناس، مطمئناً إذا قلق الناس، هادئاً إذا اضطرب الناس، وفي هذا يذكر القرآن حوار إبراهيم مع قومه المشركين حين خوفوه بأصنامهم وآلهتهم الزائفة، فرد عليهم متعجبا ومعجبا بقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: ٨١). 

ثم بين الفريقين فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨٢). وهذا الأمن ينبع من داخل النفس لا من حراسة الشرطة . . وهذا أمن الدنيا. وأما أمن الآخرة فهو أعظم وأبقى؛ لأنهم أخلصوا لله ولم يخلطوا توحيدهم بشرك.

روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: لما سألت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: وليس كما تقولون. أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣).  

فمعنى {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}: أنهم أخلصوا دينهم لله، فلم يشوبوا توحيدهم بشرك.  

(د ) التوحيد مصدر لقوة النفس:  

والتوحيد يمنح صاحبه قوة نفسية هائلة؛ لما نفسه من الرجاء في الله، والثقة به، والتوكل عليه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والاستغناء عن خلقه.  

راسخ كالجبل، لا تزحزحه الحوادث، ولا تزعزعه الكرار كلما ألمت به نازلة، أو حلت بساحته شدة، رفض اللجوء إلى الخلق، واتجه بقلبه إلى الخالق، إياه يسأل، ومنه يستمد، وعليه يعتمد، لا يرجو غيره في كشف الضر، وجلب الخير، ولا يمد يده إلى أحد إلا إلى الله ضارعاً داعياً منيباً إليه.  

شعاره قول النبي صلى الله عليه وسلم -لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، استعن بالله». وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنعام: ١٧)، ألا ترى إلى هود عليه السلام حين خوفه قومه بكيد الأصنام له، قال: { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: ٥٤). {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود: ٥٦) منطق قريب،  يعبر عن نفس واثقة، وعزيمة صلبة، وإيمان لا يهن ولا يستكين، وروح لا تعرف الضعف ولا الخوف؛ لأنها تستمد قوتها من التوكل على الله {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: ٤٩). 

(هـ) التوحيد أساس الإخاء والمساواة: 

وإذا كان التوحيد يعد أساسا لحرية الإنسان وإشعاره بعزته وكرامته، فهو أساس أيضاً لإثبات الأخوة الإنسانية والمساواة البشرية؛ لأن الأخوة والمساواة لا تتحققان في حياة الناس إذا كان بعضهم أرباباً لبعض. فأما إذا كانوا كلهم عباد الله، فهذا هو أصل المساواة والإخاء بين الناس، ولهذا كانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض ورؤساء الدول تختم بهذه الآية الكريمة: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: ٦٤).

وكان من أدعية النبي عقب الصلوات هذا الدعاء الرائع العظيم: «اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة»، وهذه الشهادات الثلاث المذكورة من النبي صلى الله عليه وسلم يرتبط بعضها ببعض.  

فإعلان الأخوة الإنسانية العامة - أن العباد كلهم إخوة- مبني على الشهادتين الأوليين: تفرد الله تعالى بالألوهية، فلا شريك له ولا أرباب معه، ولا يستحق الخضوع والعبادة وعبودية محمد صلى الله عليه وسلم لله، وتبليغه عنه، ينفي عنه كل شبهة أو رائحة للألوهية، فليس إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثلث إله، كما زعم النصارى في المسيح.  

وإذا تقررت هاتان الحقيقتان: ألوهية الله وحده، وعبودية الناس جميعاً له، وعلى رأسهم محمد رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم -ترتب على ذلك تقرير الحقيقة الثالثة، وهي: أن عباد الله إخوة متساوون، فلا تمييز عنصري، ولا تفرقة بين الألوان، ولا تفاضل بالأنساب: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣).

•  مفاسد الشرك وأضراره  

للشرك مفاسد وآفات كثيرة في حياة الفرد، والمجتمع، ومنها:  

١- الشرك مهانة للإنسانية: 

إنه إهانة لكرامة الإنسان وانحطاط بقدره ومنزلته، فقد استخلفه الله في الأرض وكرّمه، وعلّمه الأسماء كلها، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، وجعل له السيادة على كل ما في هذا الكون، ولكنه جهل قدر نفسه، وجعل بعض عناصر هذا الكون إلهاً معبوداً يخضع له ويسجد، وهو سيد الخليقة المكرم، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (فصلت: ٣٧).

وأي إهانة للإنسان أكبر من أن يرى -إلى يومنا هذا مئات الملايين من البشر يعبدون البقرة التي سخرها الله للإنسان؛ لتخدمه وهي صحيحة، ويأكلها وهي ذبيحة، فإذا هي معبود مقدس؟! ولهذا صور القرآن الكريم كيف ينحط الشرك بأهله؛ فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: ٣١).

٢ - الشرك وكر للخرافات:

الشرك وكر للخرافات والأباطيل؛ لأن الذى يعتقد بوجود مؤثر غير الله في الكون، من الكواكب أو الجن أو الأشباح أو الأرواح أو غير ذلك. فإن عقله مستعد لقبول كل خرافة وتصديق كل دجال. وبهذا تروج في المجتمع المشرك بمساعدة الكهنة والعرافين والسحرة والمنجمين، وأشباه هؤلاء ممن يدعون معرفة الغيب، والاتصال بالقوى الخفية في الوجود.  

كما يشيع في مثل هذا المجتمع إهمال الأسباب والسنن الكونية، والاتكال على التمائم والرقى الشركية والسحر والتولة ونحوها.  

٣-الشرك ظلم عظيم:  

الشرك ظلم عظيم؛ ظلم للحقيقة، وظلم للنفس، وظلم للغير.

فظلم للحقيقة؛ لأن أعظم الحقائق أن لا إله إلا اله، ولا رب غيره، ولا حكم سواه، ولكن المشرك اتخذ غير الله إلهاً، وبغىر غير الله رباً، وابتغى غيره حكماً.  

وظلم للنفس؛ لأن المشرك جعل نفه عبدا لمخلوق مثله أو دونه، وقد خلقه الله حراً.  

وظلم للغير؛ لأن من أشرك بالله غيره، فقد ظلمه، وأعطاه من الحق ما ليس له.  

٤ - الشرك مصدر للمخاوف:  

والشرك مصدر للمخاوف والأوهام، كما أن التوحيد مصدر للأمن والطمأنينة. فإن الذي يتقبل عقله الخرافات ويصدق الأباطيل والترهات، يصبح خائفاً من جهات شتى:  

من الآلهة وسدنة الآلهة، ومن الأوهام التي ينشرها هؤلاء السدنة، والكهنة، وأتباعهم، ويروجونها بين الناس. لهذا ينتشر في جو الشرك التطير والتشاؤم والرعب من غير سبب ظاهر، كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} (آل عمران: ١٥١).

٥- الشرك معطل لإيجابية الإنسان:

والشرك معوق للعمل النافع، معطل لإيجابية الإنسان واعتماده على نفسه ـ بعد الله - ذلك لأنه يعلم أصحابه الاتكال على الشفعاء والوسطاء، فهم يرتكبون الموبقات، ويقترفون الآثام، معتمدين على أن آلهتهم ستشفع لهم عند الله.  

وهذا ما كان يعتقده مشركو العرب في ألهتهم وأصنامهم{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨).

ومثل هؤلاء النصارى الذين يعملون ما شاء لهم الهوى من المنكرات معتقدين أن ربهم - المسيح - قد كفر عنهم الخطايا حين صلب -بزعمهم - وفدى البشر.  

٦- آثار الشرك في الآخرة  

تلك هي آثار الشرك فى الدنيا، أما فى الآخرة فيكفي أنه الذنب الذي لا يقبل المغفرة بحال، كما قال تعالى: {نَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: ٤٨).

وليس للمشرك مصير إلا النار، أما الجنة فحرام عليه أن يدخلها، قال تعالي: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة: ٧٢).

وقال صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله يشرك به شيئا دخل النار».  

وفي الختام: نستعيذك اللهم مما استعاذ منه عبدك ورسولك محمد: «اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه». 

فهرس الكتاب:

الإيمان بالله أصل العقائد كلها (٢- ٢٥)

دلالة الفطرة على وحدانية الله. -دلالة العقل -دلالة النقل

التوحيد جوهر الإيمان بالله -التوحيد المأمور به:

أولاً: توحيد الربوبية -ثانياً: توحيد الألوهية

معنى العبادة -صور العبادة وأنواعها -أهمية توحيد الألوهية

لا إله إلا الله عنوان التوحدي (٢٦ -٤٠)

التوحيد شعار الإسلام -حق الله على العباد

رسالة المسلم في الحياة -بماذا يتحقق التوحيد.

أولاً: إخلاص العبودية لله. -ثانياً: الكفر بالطواغيت -ثالثاً: اتقاء الكفر والحذر منه.

الشرك (٤١ -٦٦)

أنواع الشرك: الأكبر جلي وخفي -من الشرك الأكبر الخفي: الدعاء والاستغاثة بالموتى.

من الشرك الأكبر: اتخاذ غير الله مشرعاً.

ألوان من الشرك الأصغر:

١-الحلف بغير الله. ٢-لبس الحلقة والخيط. ٣-تعليق التمائم. ٤-الرقى. ٥-السحر.

٦-التنجيم من السحر. ٧-التولة سحر وشرك. ٨-الكهانة والعرافة. 

٩-النذر لغير الله. ١٠-الذبح لغير الله. ١١- الطيرة شرك.

الإسلام يسد المنافذ إلى الشرك (٦٧ -٧٩):

الغلو في تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم -الغلو في الصالحين

تعظيم القبور -اتخاذها مساجد -الصلاة إليها -إضاءتها وإيقاد السرج عليها.

البناء عليها -وتجصيصها -والكتابة عليها.

الحكمة من هذا التحذير -التبرك بالأحجار والأشجار ونحوها -الألفاظ الموهمة للشرك.

آثار التوحيد في الحياة (٨٠ -٨٧):

أ-تحرير الإنسان. ب-تكوين الشخصية المتزنة. ج-التوحيد مصدر لأمن النفس.

د-التوحيد مصدر لقوة النفس. ه-التوحيد أساس المؤاخاة الإنسانية.

مفاسد الشرك وأضراره (٨٨ -٩٢):

أ-الشرك مهانة للإنسانية. ب-الشرك وكر للخرافات. ج-الشرك ظلم عظيم

د-الشرك مصدر للمخاوف. ه- الشرك معطل للإيجابية. و-آثار الشرك في الآخرة.




الخميس، 10 نوفمبر 2022

ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده الدكتور يوسف القرضاوي

ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده

الدكتور يوسف القرضاوي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ كان مما نزل في "المدينة المُنوَّرة" بعد الهجرة: {كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران: ١١٠). وقد أعلنت الآية الكريمة عن ميلاد ونشأة المجتمع المنشود ومبادئ المدينة الفاضلة، التي يبحث عنها البشر، والتي تحقق لهم السعادة والرفاهية، والعيش بأمن وسلام.

وإذا كانت الفلسفة يمكن أن تبقى الفكرة حبيسة الكتب والعقول بعيداً عن التطبيق العملي والواقعي، فان الدين قد نزل من أجل أن يخلق واقعاً جديداً في عالم الاجتماع الإنساني، ولذا فإنه لم يرضَ لنفسه أن يبقى سجين الأفكار وحبيس العقول، ومن هنا كانت ضرورة الهجرة من مكة إلى "يثرب".

وبما أنّ الهجرة قد أوجدت الواقع الذي يجب أن يتحرك فيه الدين، فقد جاء الإعلان المجلجل عن ميلاد المدينة الفاضلة، التي يحلم بها الإنسان منذ فجره الأول، وكانت هذه التسمية "المدينة المنوَّرة" تحمل الرغبة والأمل والتوقّع، وهذا أمرٌ يتضح تماماً في دلالة تغيير اسم (يثرب) لتصبح (المدينة المنورة).

وليس غريباً بعد ذلك أن نجد المسلمين، عبر العصور والى يومنا هذا، يتوقون بشدّة إلى المجتمع المدني الأول، وأن نجدهم يحكمون على كل المجتمعات الإسلامية، التي جاءت بعد المرحلة الراشدة، بالانحراف النسبي.

ولا يزال الحنين الشديد إلى تلك الحقبة يشدُّ الجميع، ولا يزال الناس يتخذون من تلك المرحلة مقياساً، وحكماً على غيرها من المراحل، وهو موضوع هذا الكتاب الذي كتبه الإمام القرضاوي رحمه الله. وقد جعله في أحد عشر فصلاً ابتدأ فيه بالعقيدة والإيمان، ثم الشعائر والعبادات، ثم الأفكار والمفاهيم، فالأخلاق والفضائل، فالآداب والتقاليد، فالقيم الإنسانية، ثم التشريع والقانون، ثن الاقتصاد والمال، ثم اللهو والفن، وختاماً بالمرأة.

ولنا أن نتساءل بعد ذلك: ألا يدلُّ هذا التوقان والإرادة بوضوح على أنَّ المدينة النبوية الأولى قد ولدت، من أجل أن تكون على مدى العصور مصدر الإلهام، والقدوة والميزان، وسيبقى كل ما سواها دونها، لأنّها أخرجت وخُرّجت لأجل الناس، ولذا ستبقى المدينة هي أمنيَّة الإنسانيَّة جمعاء.

 والخلاصة:

أن الدين لم ينزل ليحقق القناعات الفكرية فقط، بل جاء ليجعل الفكرة عاملة وفاعلة في الواقع البشري.

ولن تكتمل الصّورة إلا عندما يتطابق الواقع المحسوس مع الفكرة، فيكون الانسجام بين النظرية والتطبيق.

ويظهر ذلك جلياً في إجابة عائشة، رضي الله عنها، عندما سُئلت عن خُلق الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقالت: " كان خلقه القرآن". 

وفيما يلي مقدمة الدكتور يوسف القرضاوي

لقد عنى الإسلام بالمجتمع عناية بالفرد، فكـل منهما يتأثر بالآخر ويؤثر فيه. وهل المجتمع إلا مجموعة من الأفراد ربطت بينهم روابط معينة. فكان صلاح الفرد لازمـا لصلاح المجتمع، فالفرد أشبه باللبنة في البنيان، ولا صـلاح للبنيان إذا كانت لبناته ضعيفة.كما لا صلاح للفرد إلا في مجتمع يساعده على النمو السليم، والتكيف الصحيح، والسلوك القويم. 

فـالمجتمع هـو التربة التي تبنت فيها بذرة الفرد. وتنمو وتترعرع فـي مناخها، والانتفاع بسمائها وهوائها وشمسها. ومـا كانـت الهجرة النبوية إلى المدينة، إلا سعياً إلى مجتمع مستقل تتجسد فيه عقائد الإسلام وقيمه وشعائره وشرائعه. وقد لمسنا فـي عصرنا محنة الفرد المسلم في المجتمعات التي لا تلتزم بالإسلام منهاجاً لحياتها، ناهيك بالمجتمعات التـي تعـادي شريعته، وتطارد دعوته. 

وكيف يعيش هذا الفرد في توتر وقلق وحيرة، نتيجة لما يحس به من تناقض صارخ بين مـا يؤمن به من أوامر دينه و نواهيه، من جهة، و مـا يعايشـه ويضغط عليه من أفكار المجتمع ومشاعره وتقاليده وأنظمتـه وقوانينه، التي يراها مخالفة لتوجيهـات عقيدتـه، وأحكام شريعته، ومواريث ثقافته، من جهة أخرى. الإنسان - كمـا قال القدماء - مدني بطبعه ، وكما قال المحدثون : حيـوان اجتماعي . أي أنه لا يستطيع أن يعيش وحده ، بل لا بد أن يتعاون مع غيره، حتى تستقيم حياته ، وتتحقـق مطالبـه، ويستمر نوعه . وقد قال الشاعر العربي : 

الناس للناس مـن بدو وحاضرة .. بعض لـبعض - وان لـم يشـعروا - خـدموالإسلام لا يصور الإنسان وحده ، إنما يصوره في مجمع ، ولهذا توجهت التكاليف إليه بصيغة الجماعة: (يا أيها الـذين آمنوا) ولم يجئ في القرآن (يا أيها المؤمن) وذلك أن تكاليف الإسلام محتاج إلى التكاتف والتضامن فـي حملهـا والقيـام بأعبائها. يستوي في ذلك العبادات والمعاملات.

فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة وجدنا أنها لا يمكن أن تقام كما يريد الإسلام، إلا بمسجد يتعاون المجتمع على بنائه، ومؤذن يعلن الناس بمواقيت الصلاة، وإمام يؤمهم، وخطيـب يخطبهم، ومعلم يعلمهم، وهذا كله لا يقوم به الفـرد، وإنمـا ينظمه المجتمع.

وقد جعل القرآن أول أعمال الدولة المسلمة إذا مكّن لها في الأرض: أن تقيم الصلاة، كما قال تعـالى: {الـذين إن مكنّاهم في لأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة... الآية}، ومثل ذلك يقال في فريضة الصوم، وضرورة ترتيـب أمور الحياة في رمضان ترتيبا يعين على الصـيام والقيـام والسحور وغيرها. 

ومن باب أولى: الزكاة، فالأصل فيها أنها تنظيم اجتماعي تشرف عليه الدولـة، بواسـطة (العـاملين عليها) الذين نص عليهم القرآن. وكذلك كل شعائر الإسلام وأركانه. 

أما الأخلاق والمعاملات فلا يتصور أن تقوم - كما ينشدها الإسلام - إلا في ظلال مجتمع ملتزم بالإسلام، يتعبد الله بإقامة حياته على أساس الإسلام.

وقد عم الإسلام المسلم أن يقول إذا نـاجى ربـه فـي صلاته (إياك نعبد وإياك نستعين) فهو يتكلم بلسان الجماعة، وإن كان وحده، وكذلك إذا دعا ربه دعـا بصـيغة الجمـع: (اهدنا الصراط المستقيم) فالجماعة حية في وجدانه، حاضرة على لسانه. 

والمجتمع المسلم مجتمـع متميـز عـن سـائر المجتمعات بمكوناته وخصائصه، فهو مجتمع رباني، إنساني، أخلاقي، متوازن.

والمسلمون مطالبون بإقامة هذا المجتمـع، حتى يمكنوا فيه لدينهم، ويجسدوا فيه شخصيتهم، ويحيوا في ظله حياة إسلامية متكاملة: حياة توجهها العقيدة الإسـلامية، وتزكيها العبادات الإسلامية، وتقودها المفاهيم الإسـلامية، وتحركها الشاعر الإسلامية، وتضبطها الأخلاق الإسـلامية وتجملها الآداب الإسلامية، وتهيمن عليها القـيم الإسـلامية، وتحكمها التشريعات الإسلامية، وتوجه اقتصـادها وفنونهـا وسياستها: التعاليم الإسلامية.

فليس المجتمع المسـلم، كمـا يتصـوره أو يصـوره الكثيرون -هو - فقط - الذي يطبق الشريعة الإسلامية في جانبها القانوني، وخصوصا جانب الحدود والعقوبات، فهـذا تصور وتصوير قاصر، بل ظالم لهذا المجتمع، واختصـار لكل مقوماته المتعددة في مقوم واحد هو التشريع، وفى جانب واحد من التشريع هو التشريع الجزائي، أو الجنائي.

لهذا كان من المهم هنا: هو إلقاء الضوء على المكونات أو اللامح الأساسية لهذا المجتمع الذي ننشده، والذي قامـت حركات وجماعات إسلامية في شتى أنحاء العـالم العربـي والإسلامي تدعو إليه ، ليحل محل المجتمعـات الحاضـرة، التي اختلط فيها الإسلام بالجاهلية، سـواء أكانـت جاهليـة وافدة، مما غزانا به الاستعمار الغربـي بشـقيه: الرأسـمالي والاشتراكي، أم جاهلية موروثة، مـن رواسـب عصـور التخلف، التي ساء فيه ا فهم السلمين لدينهم، كما ساء تطبيقهم له، حكاما ومحكومين. 

وقد صدر لي كتاب منذ سنين، هـو: (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) وهو فـي الحقيقـة جزء من هذا الكتاب.

كما تركت موضوعاً يتعلق بالدولة ونظام الحكم، خشيه من طول الكتاب على القارئ. وربما أصـدره فـي رسـالة مستقلة، أو ألحقه به في طبعه أخرى. 

وعسى أن يكون فـي هذه الفصول ما يساعد على كشف اللثام عـن معـالم هـذا المجتمع الذي ترنو إليه الأبصار، وتشرئب نحوه الأعنـاق، وتتعلق به القلوب.

وعسى أن يزيدنا ذلك إصراراً على السعي إليه، والعمل على تحقيقه في الواقع، كلما استطعنا إلى ذلك سبيلا، في أي وطن - مهما صغرت رقعته من دار الإسلام. فـيعلن ولاءه الكامل للإسلام، عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، ويبنى حياتـه كلها: المادية والمعنوية، وسياسته كلها: الداخلية والخارجيـة على الإسلام.ومن ناحية أخرى نقيس المجتمعـات القائمـة اليوم، والتي تنتسب إلى الإسلام، لأن سكانها مسـلمون، أو لأن دستورها يعلن أن دينها الإسلام، أو أن الشـريعة هـي المصدر الرئيسي، أو المصدر الوحيد للقوانين: نقيسها إلـى هذا المجتمع في صورته المثالية المنشودة، لنعـرف مـدى قربها أو بعدها منه.

فما أكثر الذين يتمسحون بالإسلام، وهـم عنه صادون، أو يتمسكون بشكليات منه، وهم عـن روحـه معرضون، أو يؤمنون ببعض كتابه، وهم بـالبعض الآخـر كافرون، أو يحتفلون بأعياده، وهم لأعدائه موالون، ولدعاته معادون، ولشريعته معارضون! (ربنا عليك توكلنا وإليـك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا، ربنا إنك أنت العزيز الحكيم).

مقـدمة............................... ٤

الفصل الأول العقيدة والإيمان ...... ١٠

-معنى قيام المجتمع على عقيدة الإسلام 

-المجتمع المسلم ومواجهة الردة 

-سر التشديد في عقوبة الردة

-أمور مهمة تجب مراعاتها

-اعتراضات مردودة لبعض المعارضين

-ردة السلطان

-الردة المغلفة

الفصل الثاني الشعائر والعبادات...... ٦٣

-الصلاة

-الزكاة

-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الفصل الثالث الأفكار والمفاهيم...... ٩٢

-نوعان من المفاهيم هما خطر على المجتمع

الفصل الرابع المشاعر والعواطف....١١٣

-مهمة المجتمع مع المشاعر الإسلامية

-ليس بمجتمع مسلم

الفصل الخامس الأخلاق والفضائل...١٣٠

-من تقاليد المجتمع المسلم

-من آثار التقاليد الإسلامية

-مهمة المجتمع المسلم مع الأدب والتقاليد

الفصل السادس الآداب والتقاليد.......١٤٤

-العلم

-العمل

-الحرية

-الشورى

-الشورى في حياة الفرد

-الشورى في حياة الأسرة

-الشورى في حياة المجتمع والدولة

الفصل السابع القيم الإنسانية ........١٥٨

-الإخاء

-المحبة ومراتبها

-درجة الإيثار

-ربط النظرية بالتطبيق

-الوحدة من لوازم الإخاء

-التعاون والتناصر والتراحم

-التكافل المادي والأدبي

-أخوة لكل الفئات لا طبقية

الفصل الثامن التشريع والقانون .....٢٢٥

-ضرورة التشريع الرباني للمجتمع

-ليس التشريع محصوراً في الحدود

-حرص الإسلام على الستر والعفو في قضايا الحدود

-درء الحدود بالشبهات

-لا يبني المجتمع بالتشريع وحده

-من حق المجتمع أن يحكم بشرع ربه

-تحكيم الشريعة يجد أصالتنا وتحررنا

-الشريعة بمعناها الواسع لا مذهب بعينه

-لا بد من اجتهاد معاصر منضبط

-اجتهاد لا فوضى وتجديد لا تبديد

-الإسلام ليس مادة هلامية

-سنة التدرج

-لا يطبق الشريعة حقاً إلا من يؤمن بها

-الشريعة للشعوب كما هي للحكام

الفصل التاسع الاقتصاد والمال........٢٧٥

-اعتبار المال خيراً ونعمة في يد الصالحين

-المال مال الله والإنسان مُستخلف فيه

-الدعوة إلى العمل والكسب الطيب

-تحريم موارد الكسب الخبيث

-إقرار الملكية الفردية وحمايتها

-منع الأفراد من تلك الأشياء الضرورية للمجتمع

-منع المالك من الإضرار بغيره

-تنمية المال بما لا يضر الأخلاق والمصلحة العامة

-تحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة

-الاعتدال في الإنفاق

-إيجاب التكافل الاجتماعي

-تقريب الفوارق بين الطبقات

-الإسلام والأنظمة الاقتصادية المعاصرة

-الإسلام والرأسمالية

-الإسلام والشيوعية

-غاية الاقتصاد الإسلامي ومهمته

الفصل العاشر اللهو والفن................٣٥٤

-غياب الحقيقة بين الغلو والتفريط

-واقعية الإسلام في التعامل مع الإنسا كله

-القرآن ينبه على عنصري المنفعة والجمال في الكون

-المؤمن عميق الإحساس بالجمال في الكون والحياة والإنسان

-إن الله جميل يحب الجمال

-القرآن معجزة جمالية

-التعبير عن الجمال

-فنون القول والأدب

-فن الجمال المسموع (الغناء والموسيقى)

-ما حكم الإسلام في الغناء والموسيقى؟

-الأصل في الأشياء الإباحة

-أدلة المحرمين للغناء ومناقشتها

-أدلة المجيزين للغناء

-أولاً من حيث النصوص

-القائلون بإجازة الغناء

-قيود وشروط لا بد من مراعاتها

-الغناء والطرب في واقع المسلمين

-لمَ شدّد المتأخرون في أمر الغناء؟

-غناء المجون والخلاعة

-غناء الصوفية

-فقه الإمام الغزالي في القضية

-العوارض التي تنقل السماع المباح إلى الحرمة

الفصل الحادي عشر المرأة في المجتمع المسلم.....٤٧٨ 

-التعدد نظام أخلاقي إنساني

-تعدد الغربيين لا أخلاقي ولا إنساني

-إساءة استخدام رخصة التعدد

-دعوة المتغربين لمنع التعدد

-ما يستند إليه دعاة المنع

-الشريعة لا تبيح مفسدة راجحة

-حق ولي الأمر في منع المباحات

-المرأة باعتبارها أنثى

-الاختلاط المشروع

-شبهات أنصار الاختلاط المفتوح

-الرد على أنصار الاختلاط المفتوح

-أثر الاختلاط المطلق في المجتمعات الغربية

-انحلال الأخلاق

-في انتشار الأبناء غير الشرعيين

-كثرة العوانس بين الفتيات والعُزّاب من الشباب

-انتشار الأمراض الفتّاكة

-المرأة باعتبارها عضواً في المجتمع

-أنصار المغالاة في عمل المرأة وشبهاتهم

-الرد على هذه الشبهات

-مضار اشتغال المرأة بعمل الرجال

-متى يجوز للمرأة أن تعمل

-التعدد نظام أخلاقي إنساني

-تعدد الغربيين لا أخلاقي ولا إنساني

-إساءة استخدام رخصة التعدد

-دعوة المتغربين لمنع التعدد

-ما يستند إليه دعاة المنع

-الشريعة لا تبيح ما فيه مفسدة راجحة

-حق ولي الأمر في منع المباحات

-المرأة باعتبارها أنثى 

-الاختلاط المشروع

-شبهات أنصار الاختلاط المفتوح

-أثر الاختلاط المطلق في المجتمعات الغربية

١-انحلال الأخلاق.

٢-في انتشار الأبناء غير الشرعيين

٣-كثرة العوانس بين الفتيات والعزاب من الشباب

٤-كثرة الطلاق وتدمير البيوت لأتفه الأسباب.

٥-انتشار الأمراض الفتّاكة

المرأة باعتبارها عضواً في المجتمع

أنصار المغالاة في عمل المرأة وشبهاتهم

الرد على هذه الشبهات

مضار اشتغال المرأة بعمل الرجال

متى يجوز للمرأة أن تعمل