أرشيف المدونة الإلكترونية

الاثنين، 14 نوفمبر 2022

حقيقة التوحيد الدكتور يوسف القرضاوي

حقيقة التوحيد

الدكتور يوسف القرضاوي

بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة


تمهيد/ لا شك أن علم التوحيد يعد المقدمة الأولى للعلوم التي يجب على المكلف تعلمها، فهو أشرف العلوم وأفضلها، وأرفعها مكانة وأجلها، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، ولا أشرف من توحيد الله تعالى، ومعرفة ما يجب له من الأسماء الحسنى والصفات العُلا، وإدراك حقوقه تعالى على عباده، والالتزام بذلك علماً وعملاً، فإن العبد كلما كان بهذا أعرف وله أتبع، كان إلى ربه أقرب، وبهذا تنال النجاة والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

أما العبادة؛ فهي كلمة تتضمن معنيين امتزج أحدهما بالآخر، فصارا شيئاً واحداً، وهما نهاية الخضوع مع نهاية الحب، فالخضوع الكامل الممتزج بالحب الكامل هو معنى العبادة، فأما حب بلا خضوع، أو خضوع بلا حب، فلا يُحقق معنى العبادة، وكذلك بعض الخضوع مع بعض الحب لا يحقق العبادة، بل لا بد من كل الخضوع مع كل الحب.

ثم إن القول بوحدة الرب الأعلى - فضلاً عن دلالة الوحدة الكونية عليه - هو الذي يتفق مع منطق العقل البشري السوي. فالعقل ينشد الوصول إلى الوحدة من وراء الكثرة. ويتطلب أن يسير من الأسباب المتعددة إلى سبب واحد، هو سبب الأسباب أو علة العلل. وهذا ما جعل بعض الفلاسفة يطلقون على خالى الكون «العلة الأولى».

وفي هذا الكتاب يُسلط القرضاوي الضوء على مفهوم التوحيد، وأنواعه، وأقسامه، وشروطه، ومظاهره، وآثاره على الفرد والمجتمع، وفي المقابل تحدث عن الشرك وأقسامه، ومظاهره، وآثاره على الفرد والمجتمع.

من الشرك الأكبر الخفى الدعاء والاستعانة بالموتى.  

ومن الشرك الأكبر نوع خفي ، يخفى على كثير من الناس ومنه دعاء الموتى والمقبورين من أصحاب الأضرحة والمقامات، والاستعانة بهم وطلب قضاء الحوائج منهم، وطلب شفاء المرضى، وتفريج الكربات، وإغاثة الملهوف، والنصر على العدو، مما لا يقدر عليه إلا الله، واعتقاداتهم أنهم يضرون وينفعون. وهذا أصل شرك العالم، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى .  

• وسبب خفاء هذا الشرك أمران:  

١ - أن الناس لا يسمون هذا الدعاء والاستعانة والاستغاثة بأصحاب القبور عبادة، ويظنون أن العبادة إنما تنحصر في الركوع والسجود والصلاة والصيام ونحوها. والحقيقة أن روح العادة كما ذكرنا - هو الدعاء، كما جاء فى الحديث : «الدعاء هو العبادة».

٢-انهم يقولون: نحن لا نعتقد أن هؤلاء الأموات الذين ندعوهم ونستغيث بهم آلهة أو أرباب لنا، بل نعتقد أنهم مخلوقون مثلنا، ولكنهم وسائط بيننا وبين الله، وشفعاء لنا عنده.  

وهذا من جهلهم بالله جل جلاله، وقد حسبوه مثل الملوك الجبارين والحكام المستبدين، لا يستطاع الوصول إليهم إلا بوسطاء وشفعاء. وهر نفس الوهم الذي سقط فيه المشركون قديماً. قالوا عن آلهتهم وأصنامهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى}، وقال: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله}.

ولم يعتقدوا يوما أن آلهتهم وأصنامهم تخلق أو ترزق أو تحيي أو تميت، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ }، وقال جل شأنه: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ }.

ومع هذا الاعتقاد في الله تعالى، أنه خالق السموات والأرض، وأنه الرزاق المدبر المحيي المميت، والاعتقاد في الأصنام أنها مجرد وسائط وشفعاء لهم عند الله؛ هذا كله رماهم القرآن بالشرك، وسماهم المشركين، وأمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويقولوا: «لا إله إلا الله»، فمن قالها فقد عصم دمه وماله إلا بحق الإسلام.

إن الله تعالى غني عن الوسائط والشفعاء، وهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، كما قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} (البقرة:١٨٦). {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: ٦٠). وبابه تعالى مفتوح لكل من أراد الدخول، ليس عليه حاجب ولا بواب.

تعظيم القبور

ومما حذر منه الإسلام أشد التحذير: تعظيم القبور، وبخاصة قبور الأنبياء والصالحين، ولذلك نهى عن جملة أشياء تفضي إلى تعظيم القبور منها: 

١ -اتخاذها مساجد:

روى مسلم في  «صحيحه» أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال قبل أن يموت بخمسٍ: «ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم من ذلك».  

وعن عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم -أي في حالة الاحتضار ـ طفق يطرح خميصةً له على وجهه. فإذا اغتمَّ كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». يحذر ما صنعوا (متفق عليه). 

٢ - الصلاة إليها:

ففي الحديث: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها». (رواه مسلم). أي لا تجعلوا القبور في اتجاه القبلة.

٣- إضاءتها وإيقاد السرج عليها:

في الحديث: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج». (رواه أحمد والترمذي وغيرهما).

٤- البناء عليها وتجصيصها:

روى مسلم عن جابر، رضي الله عنه، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه بناء».

٥- الكتابة عليها:

لحديث جابر رضي الله عنه: «أنه نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها». (رواه أبو داود والترمذي). 

٦-إعلاؤها وترفيعها:

وفي حديث علي رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم -بعثه وأمره ألا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه» (رواه مسلم).

و في سن أبي داود -«نهيه عليه الصلاة والسلام أن يزاد عليها غير ترابها من الأحجار والآجُرّ ونحوها»، ولهذا  كان السلف يكرهون الآجر على قبورهم.

٧-اتخاذها عيداً:

روى أبو داود، عن أبي هريرة مرفوعاً: «لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فـإن صلاتكم تبغلني حيثُ كنتم». 

وروى أبو يعلى بسنده عن علي بن الحسين، أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها يده ويدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم».  

ومعنى اتخاذ القبر عيداً: قصده للاجتماع فيه، والقعود عنده، ونحو ذلك.

وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل قبر على وجه الأرض، فـإذا نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهى، كاثناً من كان.

ويكفي أن يصلى ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، فتصله صلاته وسلامه حيثما كان.  

• الحكمة في هذا التحذير:  

والحكمة في نهي الإسلام عن تعظيم القبور أنه ذريعة إلى الشرك الأصغر والأكبر كما رأينا في قوم نوح، وكما هو مشاهد إلى اليوم. 

فالغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً معبودة ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل تبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». (رواه مالك).  

ومما يأسف له كل مسلم غيور على دينه أن ما حذر منه الرسول قد وقع فيه كثير من أهل الإسلام؛ فقد اتخذوا قبور بعض الصالحين أعياداً، وشيدوها وزخرفوها، وبنوا عليها المساجد والقباب، وأوقدوا عليها السرج والقناديل، ووقفوا لذلك الوقوف، ونذروا لها النذرور، وطافوا بها كالكعبة، واستلموها كالحجر الأسود، وأوسعوا جدرانها لثماً وتقبيلاً، ومنهم من يسجد لها، ويعفر الخدود على ترأبها، ويقف خاشعاً مستكيناً، يستغيثُ بأصحابها، يسأله مشافهةً - قضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وشفاء المرضى، والنصر على الأعداء، وبعضهم يقدم طلباته مكتوبة في رقاع إلى صاحب القبر، وهذا من الشرك الصريح، ولا حول ولا قوة إلا بالله.  

• الألفاظ الموهمة للشرك:  

ومما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم: الألفاظ التي فيها إيهام للشرك وإساءة للأدب مع الله، وذلك حماية منه لحمى التوحيد.  

(أ) من ذلك قول القائل: ما شاء الله وشاء فلان، أو باسم الله واسم الأمير، أو اسم الشعب، وقد مر بنا إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له ذلك، روى حذيفة عنه صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان». (رواه ابو داود بسند صحيح).  

(ب) ومن ذلك قولهم: لولا الله وفلان، أو اعتمدت على الله وعليك، وما شابه هذه الألفاظ، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {فلا تجعلوا لله أنداداً} الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل، على صفاة سوداء، وفي ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الرجل وفلان .. هذا كله به شرك. (رواه ابن أبي حاتم).  

(ج) ومن ذلك التسمي بأسماء الله تعالى، أو بما لا ينبغي إلا لله.  

روى أبو داود عن أبي شريح، أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو الحكم وإليه الحكم». ثم كنى ولده، شريح أكبر أولاده.  

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله». قال سفيان بن عيينة مثل: شاهنشاه عند العجم؛ لأن معناها ملك الملوك، وفي رواية: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبث». وأخنع اسم، أي: أوضع اسم وأذله.  

(د ) ومن ذلك أن يسمى الإنسان باسم معبد لغير الله، كعبد الكعبة أو عبد النبي، أو عبد الحسين، أو عبد المسيح، ونحو ذلك، فقد نقل ابن حزم الإجماع على تحريم التسمية بذلك، باستثناء عد المطلب.  

(هـ) ومن ذلك: سب الدهر عند نزول الشدائد والنكبات بالناس، فإن سب الدهر حينئذٍ كان نوعاً من شكوى الله تعالى أو السخط عيه؛ فإنه هو الذي يدبر الأمر، ويقلب الليل والنهار، وهو الفاعل لكل ما في الكون من أحداث.  

ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار.  

• آثار التوحيد في الحياة

إن التوحيد الخالص من شوائب الشرك إذا تحقق في حياة فرد أو قامت عليه حياة أمة آتى أينع الثمرات، وحقق أنفع الآثار في الحياة، ومن ثمرات التوحيد وآثاره:

(أ) تحرير الإنسان:  

فالشرك بكل صوره ومظاهره ليس إلا امتهاناً للإنسان، وإذلالاً له، حيث يلزمه الخضوع للمخلوقات، والعبودية لأشياء أو لأناس لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً. أما التوحيد فهو في الواقع تحرير للإنسان لعقله من الخرافات والأوهام، وتحرير لضميره من الخضوع والذل والاستسلام، ومن كل عبودية إلا لربه الذي خلقه فسواه، وتحريرٌ لحياته من تسلط الفراعنة والأرباب و المتألهين على عباد الله.

ولهذا قاوم زعماء الشرك وطغاة الجاهلية دعوات الأنبياء عامة، ودعوة الرسول خاصة؛ لأنهم كانوا يعلمون أن معنى «لا إله إلا الله»: إعلان عام لتحرير النبش، وإسقاط لكل برة من عروش تأهلهم الكاذب، وإعلاء لجباه المؤمنين الجبابرة، فلا تطأطئ إلا ساجدة لله رب العالمين.  

(ب) تكوين الشخصية المتزنة:  

والتوحيد يعين على تكوين الشخصية المتزنة التي تميزت في الحياة وجهتها، وتوحدت غايتها، وتحدد طريقها، فليس لها إلا إله واحد تتجه إليه في الخلوة والجلوة، وتدعوه في السراء والضراء ، وتعمل على ما يرضيه في الصغيرة والكبيرة.  

بخلاف المشرك الذي تقسمت قلبه الآلهة، وتوزعت حياته المعبودات، فحينا يتجه إلى الله، وأحياناً إلى الأصنام، وحينها إلى هذا الصنم، وحيناً إلى ذاك.  

ومن هنا قال يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يوسف: ٣٩)، وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٢٩).

مثل المؤمن بعبدٍ له سيد واحد عرف ما يرضيه وما يسخطه، فوقف عند ما يرضيه واستراح إليه، ومثل المشرك بعبد له أكثر من سيد، هذا يوجهه إلى الشرق، وذاك إلى الغرب،  وهذا يأخذه إلى اليمين، وآخر إلى اليسار، فهم شركاء متشاكسون، وهو بينهم مشتت موزع لا ثبات له ولا قرار.  

(ج) التوحيد مصدر لأمن النفس:  

والتوحيد يملأ نفس صاحبه أمناً وطمأنينة، فلا تستبد به المخاوف التي تتسلط على أهل الشرك، فقد سد منافـذ الخوف التي يفتحها الناس على أنفسهم: الخوف على الرزق، والخوف على الأجل، والخوف على النفس، والخوف على الأهل والأولاد، والخوف من الإنس، والخوف من الجن، والخوف من الموت، والخوف مما بعد الموت. . أما المؤمن الموحد فلا يخاف شيئاً ولا أحداً إلا الله، ولهذا تراه آمنا إذا خاف الناس، مطمئناً إذا قلق الناس، هادئاً إذا اضطرب الناس، وفي هذا يذكر القرآن حوار إبراهيم مع قومه المشركين حين خوفوه بأصنامهم وآلهتهم الزائفة، فرد عليهم متعجبا ومعجبا بقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: ٨١). 

ثم بين الفريقين فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨٢). وهذا الأمن ينبع من داخل النفس لا من حراسة الشرطة . . وهذا أمن الدنيا. وأما أمن الآخرة فهو أعظم وأبقى؛ لأنهم أخلصوا لله ولم يخلطوا توحيدهم بشرك.

روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: لما سألت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: وليس كما تقولون. أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان: ١٣).  

فمعنى {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}: أنهم أخلصوا دينهم لله، فلم يشوبوا توحيدهم بشرك.  

(د ) التوحيد مصدر لقوة النفس:  

والتوحيد يمنح صاحبه قوة نفسية هائلة؛ لما نفسه من الرجاء في الله، والثقة به، والتوكل عليه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والاستغناء عن خلقه.  

راسخ كالجبل، لا تزحزحه الحوادث، ولا تزعزعه الكرار كلما ألمت به نازلة، أو حلت بساحته شدة، رفض اللجوء إلى الخلق، واتجه بقلبه إلى الخالق، إياه يسأل، ومنه يستمد، وعليه يعتمد، لا يرجو غيره في كشف الضر، وجلب الخير، ولا يمد يده إلى أحد إلا إلى الله ضارعاً داعياً منيباً إليه.  

شعاره قول النبي صلى الله عليه وسلم -لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، استعن بالله». وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنعام: ١٧)، ألا ترى إلى هود عليه السلام حين خوفه قومه بكيد الأصنام له، قال: { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (هود: ٥٤). {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود: ٥٦) منطق قريب،  يعبر عن نفس واثقة، وعزيمة صلبة، وإيمان لا يهن ولا يستكين، وروح لا تعرف الضعف ولا الخوف؛ لأنها تستمد قوتها من التوكل على الله {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: ٤٩). 

(هـ) التوحيد أساس الإخاء والمساواة: 

وإذا كان التوحيد يعد أساسا لحرية الإنسان وإشعاره بعزته وكرامته، فهو أساس أيضاً لإثبات الأخوة الإنسانية والمساواة البشرية؛ لأن الأخوة والمساواة لا تتحققان في حياة الناس إذا كان بعضهم أرباباً لبعض. فأما إذا كانوا كلهم عباد الله، فهذا هو أصل المساواة والإخاء بين الناس، ولهذا كانت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض ورؤساء الدول تختم بهذه الآية الكريمة: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: ٦٤).

وكان من أدعية النبي عقب الصلوات هذا الدعاء الرائع العظيم: «اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك. اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة»، وهذه الشهادات الثلاث المذكورة من النبي صلى الله عليه وسلم يرتبط بعضها ببعض.  

فإعلان الأخوة الإنسانية العامة - أن العباد كلهم إخوة- مبني على الشهادتين الأوليين: تفرد الله تعالى بالألوهية، فلا شريك له ولا أرباب معه، ولا يستحق الخضوع والعبادة وعبودية محمد صلى الله عليه وسلم لله، وتبليغه عنه، ينفي عنه كل شبهة أو رائحة للألوهية، فليس إلهاً، ولا ابن إله، ولا ثلث إله، كما زعم النصارى في المسيح.  

وإذا تقررت هاتان الحقيقتان: ألوهية الله وحده، وعبودية الناس جميعاً له، وعلى رأسهم محمد رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم -ترتب على ذلك تقرير الحقيقة الثالثة، وهي: أن عباد الله إخوة متساوون، فلا تمييز عنصري، ولا تفرقة بين الألوان، ولا تفاضل بالأنساب: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣).

•  مفاسد الشرك وأضراره  

للشرك مفاسد وآفات كثيرة في حياة الفرد، والمجتمع، ومنها:  

١- الشرك مهانة للإنسانية: 

إنه إهانة لكرامة الإنسان وانحطاط بقدره ومنزلته، فقد استخلفه الله في الأرض وكرّمه، وعلّمه الأسماء كلها، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، وجعل له السيادة على كل ما في هذا الكون، ولكنه جهل قدر نفسه، وجعل بعض عناصر هذا الكون إلهاً معبوداً يخضع له ويسجد، وهو سيد الخليقة المكرم، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (فصلت: ٣٧).

وأي إهانة للإنسان أكبر من أن يرى -إلى يومنا هذا مئات الملايين من البشر يعبدون البقرة التي سخرها الله للإنسان؛ لتخدمه وهي صحيحة، ويأكلها وهي ذبيحة، فإذا هي معبود مقدس؟! ولهذا صور القرآن الكريم كيف ينحط الشرك بأهله؛ فقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: ٣١).

٢ - الشرك وكر للخرافات:

الشرك وكر للخرافات والأباطيل؛ لأن الذى يعتقد بوجود مؤثر غير الله في الكون، من الكواكب أو الجن أو الأشباح أو الأرواح أو غير ذلك. فإن عقله مستعد لقبول كل خرافة وتصديق كل دجال. وبهذا تروج في المجتمع المشرك بمساعدة الكهنة والعرافين والسحرة والمنجمين، وأشباه هؤلاء ممن يدعون معرفة الغيب، والاتصال بالقوى الخفية في الوجود.  

كما يشيع في مثل هذا المجتمع إهمال الأسباب والسنن الكونية، والاتكال على التمائم والرقى الشركية والسحر والتولة ونحوها.  

٣-الشرك ظلم عظيم:  

الشرك ظلم عظيم؛ ظلم للحقيقة، وظلم للنفس، وظلم للغير.

فظلم للحقيقة؛ لأن أعظم الحقائق أن لا إله إلا اله، ولا رب غيره، ولا حكم سواه، ولكن المشرك اتخذ غير الله إلهاً، وبغىر غير الله رباً، وابتغى غيره حكماً.  

وظلم للنفس؛ لأن المشرك جعل نفه عبدا لمخلوق مثله أو دونه، وقد خلقه الله حراً.  

وظلم للغير؛ لأن من أشرك بالله غيره، فقد ظلمه، وأعطاه من الحق ما ليس له.  

٤ - الشرك مصدر للمخاوف:  

والشرك مصدر للمخاوف والأوهام، كما أن التوحيد مصدر للأمن والطمأنينة. فإن الذي يتقبل عقله الخرافات ويصدق الأباطيل والترهات، يصبح خائفاً من جهات شتى:  

من الآلهة وسدنة الآلهة، ومن الأوهام التي ينشرها هؤلاء السدنة، والكهنة، وأتباعهم، ويروجونها بين الناس. لهذا ينتشر في جو الشرك التطير والتشاؤم والرعب من غير سبب ظاهر، كما قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} (آل عمران: ١٥١).

٥- الشرك معطل لإيجابية الإنسان:

والشرك معوق للعمل النافع، معطل لإيجابية الإنسان واعتماده على نفسه ـ بعد الله - ذلك لأنه يعلم أصحابه الاتكال على الشفعاء والوسطاء، فهم يرتكبون الموبقات، ويقترفون الآثام، معتمدين على أن آلهتهم ستشفع لهم عند الله.  

وهذا ما كان يعتقده مشركو العرب في ألهتهم وأصنامهم{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨).

ومثل هؤلاء النصارى الذين يعملون ما شاء لهم الهوى من المنكرات معتقدين أن ربهم - المسيح - قد كفر عنهم الخطايا حين صلب -بزعمهم - وفدى البشر.  

٦- آثار الشرك في الآخرة  

تلك هي آثار الشرك فى الدنيا، أما فى الآخرة فيكفي أنه الذنب الذي لا يقبل المغفرة بحال، كما قال تعالى: {نَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (النساء: ٤٨).

وليس للمشرك مصير إلا النار، أما الجنة فحرام عليه أن يدخلها، قال تعالي: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة: ٧٢).

وقال صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله يشرك به شيئا دخل النار».  

وفي الختام: نستعيذك اللهم مما استعاذ منه عبدك ورسولك محمد: «اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه». 

فهرس الكتاب:

الإيمان بالله أصل العقائد كلها (٢- ٢٥)

دلالة الفطرة على وحدانية الله. -دلالة العقل -دلالة النقل

التوحيد جوهر الإيمان بالله -التوحيد المأمور به:

أولاً: توحيد الربوبية -ثانياً: توحيد الألوهية

معنى العبادة -صور العبادة وأنواعها -أهمية توحيد الألوهية

لا إله إلا الله عنوان التوحدي (٢٦ -٤٠)

التوحيد شعار الإسلام -حق الله على العباد

رسالة المسلم في الحياة -بماذا يتحقق التوحيد.

أولاً: إخلاص العبودية لله. -ثانياً: الكفر بالطواغيت -ثالثاً: اتقاء الكفر والحذر منه.

الشرك (٤١ -٦٦)

أنواع الشرك: الأكبر جلي وخفي -من الشرك الأكبر الخفي: الدعاء والاستغاثة بالموتى.

من الشرك الأكبر: اتخاذ غير الله مشرعاً.

ألوان من الشرك الأصغر:

١-الحلف بغير الله. ٢-لبس الحلقة والخيط. ٣-تعليق التمائم. ٤-الرقى. ٥-السحر.

٦-التنجيم من السحر. ٧-التولة سحر وشرك. ٨-الكهانة والعرافة. 

٩-النذر لغير الله. ١٠-الذبح لغير الله. ١١- الطيرة شرك.

الإسلام يسد المنافذ إلى الشرك (٦٧ -٧٩):

الغلو في تعظيم النبيّ صلى الله عليه وسلم -الغلو في الصالحين

تعظيم القبور -اتخاذها مساجد -الصلاة إليها -إضاءتها وإيقاد السرج عليها.

البناء عليها -وتجصيصها -والكتابة عليها.

الحكمة من هذا التحذير -التبرك بالأحجار والأشجار ونحوها -الألفاظ الموهمة للشرك.

آثار التوحيد في الحياة (٨٠ -٨٧):

أ-تحرير الإنسان. ب-تكوين الشخصية المتزنة. ج-التوحيد مصدر لأمن النفس.

د-التوحيد مصدر لقوة النفس. ه-التوحيد أساس المؤاخاة الإنسانية.

مفاسد الشرك وأضراره (٨٨ -٩٢):

أ-الشرك مهانة للإنسانية. ب-الشرك وكر للخرافات. ج-الشرك ظلم عظيم

د-الشرك مصدر للمخاوف. ه- الشرك معطل للإيجابية. و-آثار الشرك في الآخرة.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق