مشاهد القيامة في القرآن
للأديب الأستاذ
سيد قطب
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ إن عقيدة الإيمان باليوم الآخر عميقة في الضمير البشري، حتى إنها لتعد يقظةً مفزعة للنفس، وإنقاذاً للحياة من اليأس والقنوط، فعمر الفرد على هذا الكوكب الأرضي قصير، وأيامه في هذا العالم الفاني معدودة، ورغبة الفرد في الحياة عارمة وكبيرة، وحاجاته على الأرض لا تنقضي، وآماله لا تنحصر، ولكنه يموت.
وقد تناول القرآن الكريم مشاهد القيامة في صورة فنية بحتة، حتى كانت سطور تلك المشاهد تمثل حقيقة الحال، وكان لذلك الأسلوب في العرض دوره في إثارة الوجدان والمشاعر، وتغذية الخيال بالصور التي ستقع، حتى يذهب الفحر كل مذهب تشخيصاً وتصويراً، ذلك أن كل مشهد من هذه المشاهد تتضمن صورةً وحركة.
ومع تعدد هذه المشاهد إلا أنها لم تنشئ نوعاً واحداً من التكرار بكلياته وجزئياته، فهي تمثل صوراً متنوعة، ذات أهوال متعددة، تتجاوز الإنسان ونفسه إلى الطبيعة كلها، فترتجف الأرض والجبال، وتشيب له الولدان، وتتكدر النجوم، وتكور الشمس.
وفي هذا الكتاب يستعرض الكاتب الأديب سيد قطب مائة وخمسين (١٥٠) مشهداً للقيامة، موزعةً على ثمانين (٨٠) سورة من سور القرآن الكريم، ورتبها على ترتيب النزول. ويقصد قطب بالتصوير الفني في القرآن هو جمال العرض، وتنسيق الأداء، وبراعة الإخراج.
ويعرض قطب في مقدمة كتابه تصورات المصريين القدماء لفكرة الموت والدار الآخرة والنعيم والعذاب، من خلال كتابات المصريين القدماء التي ترجمها العلماء، وهي تشير إلى جذور فكرة الإيمان بالحياة الآخرة، وفكرة النعيم والعذاب، وإن كانت تختلف في بعض مرتكزاتها ومحاورها بين الأديان والشعوب وحتى الأجيال، ومن بعدهم الكلدانيون (البابليون) التي تؤمن بانتقال الميت من الحياة المظلمة إلى أخرى مشرقة ليقع الحساب، وبرزت عقيدة الإيمان باليوم الآخرة عند الفرس في ديانة (زاردشت)، وعند الإغريق كذلك.
ثم تعرض قطب لعقائد اليهود والنصارى في اليوم الآخر، وبوجوده، بينما ظلت فكرة البعث غريبة عند مشركي العرب، تُقابل أشد الاستنكار، إلى أن بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن.
وفيما يلي: أهم سمات التصوير القرآني للقيامة واليوم الآخر:
١-أنها مشاهد حيّ، منتزعة من عالم الأحياء؛ فمرة يطول مشهد العرض والحساب حتى لتحسبه يدوم، ومرة يعرضه سريعاً خاطفاً لا تكاد تتملّاه العيون، ومرة يعرضها بصورة مادية يلمسها الحس، ومرة بصورة معنوية يدركها العقل، ومرة يجمع بين هذا وذاك.
٢-أنها مشاهد حاضرة اليوم، كأن العين تراها، والنفس تحسها، حيث تُلقى بألوان شتى، وطرق عرض كثيرة، وسمات شتى للموقف المعروض، فمرة يكون المشهد للحوار والخصام، ومرة للندم والحسرات، ومرة للاعتراف الطويل.
٣-أنها مشاهد متناسقة في صورها بين جزئيات المشهد وكلياته فتتشابه وتتداعى وتتقابل في جوٍّ واحدٍ لا نشوز فيه، ولا مفارقات، فيتسق فيه النعيم المادي بالتكريم المعنوي، ويصحب العذاب الحسي بالتبكيت النفسي، فيلتقي كلاهما في الحس والنفس، ويكون النعيم مضاعفاً كما يكون العذاب.
٤-أنها مشاهد تتجلى فيها جرس الألفاظ، ليدل كل جرس على صورة معناه، ولا شك أن النظم وجرس الألفاظ تكمل جو المشهد، وتتناسب مع أحاسيسه.
٥-أنها مشاهد تضمنت الجدل العنيف الذي يقوم به المشركين وآلهتهم، أو بين المتبوعين وأتباعهم، وفي المقابل يسود السمر اللطيف بين أهل الجنة فيما بينهم.
ونختم بما يلي: جاء في كتاب مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 135): في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: ٤٠). قال الإمام الشافعي: أَلَا يَــا مَــن طَـــالَ عُمُره، وَسَاءَ عمَلُه، وَيَــا مَن ابْيَضَّ شَعْرُه، وَاسْوَدَّ بالآثامِ قَلْــبُه، هلا اعْتَبرتَ بِمَا سَلَف، وَاستقبَلت الحَسَن المُؤتنِف، فَـــنَــــظَــرتَ لِـــــيومِك، وَقـــدَّمـــــتَ لِـــــغـــَدِك، وَقَــــصَّــــرْتَ أمَــــلَـــك، وَأصْــلَــحْــتَ عَـــمَــلَــك، وَصَوَّرتَ بينَ عَينيكَ اقْتِرابَ الأَجَــلَ، فإنك لو فعلت ذلك؛ لمَــا امْتَدَّتْ إِليْكَ يَـــدُ النَّدَامَـــة، وَلا ابْتدَرتْكَ الحَسَراتُ غداً فِي القِيامَة، وَلكنْ ضَـــرَبَ عَليْكَ الهَوىٰ رَواقَ الحِيرَة؛ فَـــتَـــركـــــكْ، وَإذا بَــدت لَكَ يَــــدُ مَوعِظَةٌ لَـــم تَكَد تَراهَا.
وفي قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} (الفرقان: ٢٣). يقول الإمام الشافعي في إحدى خُطبه: ألا يا عبيد الرفعة، وأعوان الظلمة، والذين باعوا أنفسهم بمحبوب من الدنيا الفانية، واشتروا عذاب الآخرة وزهدوا في الدار الباقية، أما رأيتم من كان قبلكم كيف استدرجوا بالإملاء، ورفهوا بتواتر النعماء، ثم أخذوا أخذ عزيز مقتدر؟!، أما رأيتم كيف فضح الله مستورهم، ودمدم عليهم بذنوبهم بواكر الهوان والصغار، فأصبحوا بعد سكنى القصور والنعمة والحبور بين الجنادل والصخور، فسكنوا القبور، وتركوا عرضا للدثور؟!، ومن وراء ذلك وقوف بين يدي الله عز وجل، ومساءلته عن الخطرة، وما هو أخف من الذرة؛ أي حصائد النقم، ومدارج المثلات، ونهبة الخوف والروعات؛ ألا تذكرون قول ربكم: {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}.
***
***
كتب سيد قطب:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق