حكم قراءة الحائض والجنب القرآن
د. سلمان بن نصر الداية
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ هذا البحث الفقهي النفيس، يتناول مسألةً فقهية مهمة، وهي حكم قراءة القرآن للجنب والحائض؟ وقد تضمن هذا البحث مقدمة ذكر فيها شيخنا البحّاثة سلمان الداية فضل القرآن، وحث شباب الصحوة على ملازمة القرآن الكريم، ثم ذكر مطلبين: الأول في حكم قراءة الجنب القرآن، والثاني: في حكم قراءة الحائض والنفساء القرآن، ثم جعل خاتمة ضمنها المذهب الراجح، مع ذكر مـسوغات الترجيح.
وتوصل شيخنا البحّاثة الدكتور سلمان إلى ترجيح مذهب القائلين بكراهة قراءة القرآن للحائض والجنب على سبيل التنزيه، وأن ذلك لا يحرم، استناداً إلى قول سيدنا عمر رضي الله عنه، وقول الإمام الشافعي رحمه الله، وعدد من علماء المذاهب المتبوعة.
ولذلك قال: وبعد عرض أدلة المذاهب، أَجِدني على قناعة بترك الجنب قراءة القرآن، لا على سبيل الحتم، بل على سبيل الكراهة، تمسكاً بظاهر كلام أمير المؤمنين عمر، وكلام محمد بن مسلمة، وبما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه: (وأُحب للجنب والحائض أن يدعا القرآن حتـى يطهرا احتياطاً؛ لما روي فيه، وإن لم يكن أهل الحديث يثبتونه)
وبما قال العلّامة الألباني _ رحمه االله _ وقوله صلى الله عليه وسلم (إني كرهت أن أذكـر الله عز وجل إلا على طهر)،صريح في كراهة قراءة الجنب؛ لأن الحـديث ورد في السلام كما رواه أبو داود، وغيره بسند صحيح؛ فالقرآن أولى من السلام كما هـو ظاهر، والكراهية لا تنافي الجواز كما هو معروف، فالقول بها لهـذا الحـديث الـصحيح واجب، وهو أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى.
وأضاف شيخنا الدكتور سلمان: وتنتفي الكراهة إذا قوي داعي القراءة، كـما لـو خافت الحائض نسيان مـا تحفـظ مـن كتاب الله، أو التحقت بدورات التلاوة والتجويد تعلمـاًُ، أو تعليمـاً، أو انتظمـت بدراسـة شرعية، أو جامعية تُكَلَّفُ معها بِحِفْظِ ما تيسر مـن القـرآن؛ وذلـك أنـه يـشق علـى المؤسسات الراعية لذلك، أن تتكيف مع ظرف كل طالبة تنفس أو تحيض.
ولا يجوز لهما مسُّ المصحف ما لم تكن معلمة أو متعلمـة، وإلا جاز مسها له.
وقد اختلف العلماء في قراءة الجنب والحائض القرآن:
١-فذهبت طائفة إلى عدم الجواز، ولو شيئاً قليلا آية أو دونها، إن كان بقصد القراءة والذكر، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبـي طالب، وجابر بن عبد االله، والحسن، وإبراهيم، والزهري، وقتـادة، وأبـو حنيفـة، وأبـو يوسف، ومحمد، ومالك، والشافعي، وأحمد ، والأوزاعي.
٢-وذهبت طائفة أخرى إلى جواز قراءة القرآن للجنب مطلقاً؛ منهم ابن عباس رضي الله عنه، وعكرمة، وسعيد بن المسيب، وأبو مجلز، والبخاري، والطبري، وداود، وابن المنذر، وابن حزم، وابن تيمية -رحمهم الله تعالى.
واتفقوا على أن نظر الجنب للقرآن، وإجراؤه على قلبه، وتحريك لسانه وهمسه به من غير أن يُسمع نفسه لا يحرم؛ لأنه لا يُسمى قراءة، وكذلك لا يحرم قراءة منسوخ تلاوة، ولا كلام الله تعالى الوارد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
واستدل المانعون بأدلةٍ، منها:
١-عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: () أخرجه أحمد،كانَ رسولُ اللهِ ﷺ يأتي الخلاءَ، فيقضي الحاجةَ ثمَّ يخرجُ فيأكُلُ معَنا الخُبزَ واللَّحمَ ويقرَأُ القرآنَ ولا يحجُبُهُ وربَّما قالَ: لا يحجزُهُ عنِ القرآنِ شيءٌ إلّا الجَنابةَ وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
هذا الحديث صححه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه ابن السكن، وغيرهم.
ودلّ هذا الحديث، على أن الجنابة مانع من قراءة القرآن قليلها، وكثيرها؛ لأن القرآن يطلـق على الآية منه، والآيات.
واعترض المجيزون عليه: بأنه ضعيف، فقد ضعفه البخاري، وأحمد، وتوقف فيه الشافعي، وضعفه شعبة، وابن المنذر، وسبب تضعيفه هو ضعف أحد الرواة، وهو (عبد االله بن سلمة) وهو صدوق تغير حفظه بأخرة، وقد حدَّث بهذا الحديث بعد اختلاطه.
وقال ابن حجر في الفتح: "رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي، وابن حبان، وضعف بعضهم أحد رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة".
قال المجيزون: وعلى فرض الصحة، فلا حجة في الحديث؛ لأنه ليس فيه نهي عن القراءة، وإنمـا هي حكاية فعل له، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما امتنع من ذلك، لأجل الجنابة، وغاية ما يدل عليه الحديث إن صح أن يُحمل على أكمل الأحوال جمعاً بين الأدلة.
٢-عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقرأُ الحائضُ ولا الجنُبُ شيئًا من القرآنِ). أخرجه الترمذي وابن ماجه.
ودل هذا الحديث بنصه على منع الجنب والحائض من قراءة القرآن، وكلمة (شسئاً) نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، لقليل القرآن وكثيره، والنفي يتضمن معنى النهي.
واعترض المجيزون: بأن هذا الحديث ضعيف، وذكروا له عللاً، ذكرها الألباني في (الإرواء).
٣-عن عبيدة قال: (كان عمر رضي الله عنه يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب)، ومثله قال محمد بن مسلمة، ذكره ابن المنذر في (الأوسط)، قال: (كره للجنب أن يقـرأ القـرآن حتـى يغتسل).
وأجاب المجيزون: بأن عمر رضي الله عنه، قال ذلـك تزهيـداً فـي القــراءة حـال الجنابة، وترغيباً في تركها، تعظيماً لكتاب االله تعالى، وأن الكراهة لا تنافي المشروعية.
٤-وعن جابر رضي الله عنه، قال: (لا تقرأ الحائض ولا الجنب ولا النفساء القرآن).
يقول الشيخ سلمان الداية: يحمل النهي على الكراهة لا على التحريم جمعاً بينه وبين ما ثبت عن عمر رضي الله عنه.
٥-وعن عائشة _ رضي االله عنها: (أَن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتكئ في حجرِي وأَنا حـائض، ثُم يقْرأ ا لقرآن) رواه البخاري.
أفاد الحديث عدم جواز القراءة للحائض؛ إذ لو كانـت جائزة، لمـا احتـيج إلـى التنصيص بجواز قراءة الغير في حجرها.
واعترض عليه المجيزون: بما قاله البخاري، حيث استدل بالحديث نَفْسِه على جواز قراءتها القـرآن، ووجه ذلك: أنها لو كانت ممتنعة منها، لامتنع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن القراءة في محـلٍّ حامـلٍ لحيضٍ تشريفاً للقرآن؛ لأن قراءتها لـه في تلك الحالة حالة استقذار، والقرآن منزّهٌ عن ذلك.
٦-عن جابر بن عبداالله، أنه سئِلَ عن المرأة الحائض، والنفساء، هـل تقـرأ شـيئاً مـن القرآن ؟ قال: (لا). رواه ابن المنذر في (الأوسط).
٧-عن إبراهيم، قال: (كان عمر رضي الله عنه، يكره أو ينهى أن يقـرأ الجنـب والحـائض ) أي القرآن. رواه الدارمي في (مسنده).
واعترض عليه المجيزون، بقولهم: أن غاية ما يدل عليه نهي عمر هو الكراهية لا التحريم، والكراهة لا تنافي الإذن والحلَّ؛ بل غاية ما تفيده، أن ترك القراءة أولـى مـن القراءة.
واستدل المجيزون بأدلةٍ، منها:
١-عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم. والذكر في هذا الحديث عند الإطلاق يشمل القرآن وغيره، وقوله (على كل أحيانه) يشمل حال الجنابة وغيرها.
٢-أخرج ابن المنذر في (الأوسط): عن عبيد بن عبيدة، قال : قرأ ابن عباس شيئاً من القرآن وهو جنب، فقيل له في ذلك. فقال: (ما في جوفي أكثر من ذلك). وعن عكرمة عن ابن عباس (أنه كان يقرأ ورده وهو جنب). وعن أبي مجلز قال: دخلت على ابن عباس فقلت لـه: أيقرأ الجنـب القـرآن ؟ قـال: (دخلت علي وقد قرأت سبع القرآن، وأنا جنب). وأخرج ابن حزم في (المحلى): عن نصر الباهلي، قال: (كان ابن عباس يقرأ البقرة وهو جنب).
الشاهد: أن الحيض كالجنابـة، فـإن كلاً منهما حدثٌ لا يرفع إلا بطهارة الغسل، ولا تصح معهما الصلاة إلا بالطهارة.
٣-وروى ابن المنذر في (الأوسط)، قال: كان عكرمة لا يرى بأساً للجنب أن يقرأ القرآن، وقيل لسعيد بن المـسيب: أيقـرأ الجنب القرآن ؟ قال : (نعم، أليس في جوفه)، وعن يونس بن يزيد عن ربيعة، قال: (لا بأس أن يقرأ الجنب القرآن)، وعن حماد، قال: سألت سعيد ابن المسيب عن الجنب، هل يقرأ القرآن ؟ فقال: (وكيف لا يقرأه وهو في جوفه ؟)، وعن حماد بن أبي سليمان، قال: سألت سعيد بن جبير عن الجنب يقرأ، فلم ير به بأسـاً، وقال: (أليس في جوفه القرآن ؟)
٤-وقد أخرج البخاري في باب (تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطـواف بالبيـت) جملة من الأحاديث والآثار منها: ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً، (وكان النبـي صلى الله عليه وسلم يذكر االله في كل أحيانه).
قال الحافظ: ولم يستثن البخاري من جميع مناسك الحج إلا الطواف، فاشترط له الطهارة، وإنما استثناه لكونه صـلاة مخصوصةً، وأعمال الحج مشتملةً على ذكرٍ، وتلبية، ودعاء، ولم تمنع الحائض من شـيء من ذلك، فكذلك الجنب؛ لأن حدثها أغلظ من حدثه.
٥-وحكى ابن المنذر أن محمد بن مسلمة قال : وأما الحائض ومن سواها، فلا يكره لهـا أن تقرأ القرآن؛ لأن أمرها يطول، فلا تدع القرآن، والجنب ليس كحالها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق