شرح حديث ما ذئبان جائعان
رسالة في ذم الحرص على المال والشرف
تأليف الحافظ ابن رجب الحنبلي
بقلم: أ. محمد ناهض عبد السلام حنونة
تمهيد/ لقد قدم الإسلام للعالم منهجاً تربوياً متكاملاً، يصقل شخصية الفرد، ويبرزه كعلامة فارقة ومؤثرة في المجتمع، ويعده إعداداً كاملاً لحياة الدنيا والآخرة، وكان من أبرز المرتكزات التي قام عليها هذا المنهج: الخضوع لله وحده، وإخلاص العبودية له، والأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى االله عليه وسلم.
فكانت التربية الإسلامية هي المنقذ الوحيد لأجيالنا من الذوبان وفقدان الهوية في هذه الأوضاع التي طغى فيها حب المال والشهرة على الأهداف الشريفة والغايات النبيلة، وقد أضحى المنهج الإسلامي اليوم ضرورة حتمية وشرعية للحياة الآمنة والمطمئنة، التي توازن بين الروح والمادة، وبين الغنى والقناعة، وبين الرفعة والتواضع.
وسعت التربية الإسلامية إلى إيجاد حالة متوازنة في النفس الإنسانية من خلال ضبط سلوكيات الفرد ضمن إطار الحاجة والمسؤولية، وذلك في نصوص قرآنية كثيرة، قال تعالى:{وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77).
وفي إطار هذا الحديث، نجد أن الإسلام كثيراً ما ينعى على ابن آدم حرصه على جمع المال وكنزه، وطلب الرياسة والسعي إليها، دون الوفاء بحقوق أيِّ منهما، فتراه يحرص على طلب المال من جميع وجوهه المباحة والمحرمة، ويطلب الشرف والرياسة من كل طريق نظيف ورذيل، ليُخضع الناس لأمره ونهيه، ويتعاظم بذلك ويتكبر على خلق الله، ثم هو يمنع حق المال الواجب، ويقطع الأرحام، ويسيء في معاملة الناس، ويظلم عباد الله.
وأما الشرف الحقيقي، فهو في طلب الآخرة والسعي لها، والبطولة الحقيقية في إيثار الباقي على الفاني، وقد قال صالح بن الإمام أحمد -وذكر عنده رجل؛ فقال: "يا بُنيّ! الفائزً من فاز غداً، ولم يكن لأحدٍ عنده تبعة" (الحلية: 9/ 179).
وقد علم ذلك الحريص بأن رزقه مقسوم، وأجله محتوم، وأن المال والرياسة كليهما لا يدوم. بل إن الحريص على الشرف والمال -في دنياه مُعذَّبٌ مشغول، مغموم محزون، لا يهنأ له عيش، ولا يرقى له بال.. وإن من الشرف في الجاه الزهد فيه، وكان الإمام أحمد يقول: "الزهد ترك حُب الثناء" (المناقب، ص 195).
وقد قيل لبعض الحكماء : فلانا يجمع مالاً! فقال هل جمع أياماً ينفقه فيها؟ قيل: لا. قال: ما جمع شيئاً. فرزق الله لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره..
وهذه رسالة لطيفة بديعة بيّن فيها الحافظ ابن رجب آفات الحرص على المال والشرف، من خلال شرح حديث: (ما ذئبانِ جائعانِ أُرسلا في غنمٍ، بأفسدَ لها من حرصِ المرءِ على المالِ والشرفِ، لدِينه).
وهذا مثلٌ عظيم ضربه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبيان الفساد الذي يُصيب دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، ذلك أنه يُضيع عمره في تحصيل هذين الأمرين، ويغفل عن مراعاة أمور دينه، فكان إفسادهما للدين مثل إفساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم، وقد غاب عنها رعاتهما ليلاً، فهما يأكلان في الغنم، ويفترسان فيها من غير أن يشعر أصحابها.
فمثَّل الطمع في المال والحرص على الشرف: بذئبين يأكلان دين المرء ويفترسانه، وهذا التصوير يحمل في طياته غاية التحذير، ذلك أن حرص المرء على المال والشرف ليس إفسادهما لدينه بأقل من إفساد هذين الذئبين لهذه الغنم، بل إما إن يكون مساوياً وإما أن يكون أزيد.
وقد ذكر المصنف أنواع الحرص على المال، والتي منها: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه المباحة والمحرمة، وفي الحرص على المال جمعٌ لمن لا يحمده، ويقدم به على من لا يعذره..
وهذا الحديث مرويٌّ عن ثمانيةٍ من الصحابة الكرام، وهم: كعب بن مالك الأنصاري، وأبو هريرة، وعاصم بن عدي وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخُدري، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم.
وفي حديث عاصم بن عدي بيان سبب ورود الحديث: (قال عاصم: اشتريت أنا وأخي مائة سهم من سهام خيبر، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال يا عاصم ما ذئبان…).
وفي حديث جابر: (غاب عنها رعاتها بأفسد فيها من التماس الشرف والمال لدين المؤمن)، وفي بعض الروايات: (باتا في حظيرة -وفي لفظٍ: زريبة غنم -يفترسان ويأكلان). وفي حديث ابن عباس (من حُب المال والشرف) بدلاً من (الحرص في الدنيا).
وقد بيَّن المُحقق تخريج هذا الحديث، وطُرقه، واختلاف ألفاظه، مع بيان رجاله، وإسناده، ومدى صحته عند أهل العلم المتقدمين والمعاصرين. وقد صححه من أهل العلم الترمذي، وشعيب الأرناؤوط، والألباني، وغيرهم.
شرح الحديث من التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 395)
(ما ذئبان) ضاريان، (جائعان أرسلا) أطلقا وخليا (في غنم بأفسد لها) أي للغنم بإهلاكها وإتلافها (من حرص المرء) هو المفضل عليه (على المال) متعلق بأحرص (والشرف) طلب العلو والرياسة (لدينه) متعلق بأفسد، وقيل: إنها للبيان كأنه قيل لمن أفسد قال لدينه، أي أن الحرص على الشرف والمال أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئب للغنم فهو زجر عن حب المال والحرص عليه وعلى الشرف وإن ذلك متلف للدين (حم ت) عن كعب بن مالك).
شرح الحديث من التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 349)
(مَا) بِمَعْنى لَيْسَ (ذئبان) اسْمهَا (جائعان ارسلا فِي غنم بأفسد) خبر مَا وَالْبَاء زَائِدَة أَي أَشد افسادا (لَهَا) أَي للغنم، وَاعْتبر فِيهِ الجنسية فأنث وَقَوله (من حرص الْمَرْء) هُوَ الْمفضل عَلَيْهِ (على المَال والشرف) أَي الجاه والمنصب (لدينِهِ) لامه للْبَيَان كَأَنَّهُ قيل لأفسد من أَي شئ قيل لدينِهِ، وَالْمَقْصُود أَن الْحِرْص على المَال الشّرف أَكثر افسادا للدّين من افساد الذئبين للغنم؛ لَان الأشر والبطر يفسدان صَاحبهمَا، اما المَال فُلَانُهُ يَدْعُو الى الْمعاصِي فانه يُمكن مِنْهَا، وَمن الْعِصْمَة أَن لَا تجدو لانه يَدْعُو الى التنعم بالمباحات فينبت على التنعم جسده، وَلَا يُمكنهُ الصَّبْر عَنهُ، وَذَلِكَ لَا يُمكن استدامته الا بالاستعانة بِالنَّاسِ والالتجاء الى الظلمَة وَذَلِكَ يُؤَدِّي الى النِّفَاق وَالْكذب، وَأما الجاه فانه أعظم فتْنَة من المَال فان مَعْنَاهُ الْعُلُوّ والكبرياء والعز وَهِي من الصِّفَات الالهية (حم ت عَن كَعْب بن مَالك) واسناده كَمَا قَالَ الْمُنْذِرِيّ جيد
شرح الحديث من السراج المنير شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير (4/ 201)
(ما) بمعنى ليس (ذئبان) اسمها (جائعان) صفة له (أرسلا في غنم) الجملة صفة ثانية (بأفسد خبر ما والباء زائدة أي أشدّ فساداً (لها) أي للغنم (من حرص المرء) هو المفضل عليه لاسم التفضيل (على المال) متعلق بالحرص (والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه وقوله (لدينه) اللام فيه للبيان كان قيل بأفسد لأي شيء قيل لدينه والقصد أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم (حم ت) عن كعب بن مالك قال العلقمي بجانبه علامة الصحة.